وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)}.
#
{1 ـ 2} يقسم تعالى بالقلم، وهو اسم جنس شامل للأقلام التي تُكْتَبُ بها أنواع العلوم، ويسطرُ بها المنثور والمنظوم ، وذلك أنَّ القلم وما يسطرُ به من أنواع الكلام من آياته العظيمة، التي تستحقُّ أن يُقْسِمَ
[اللَّهُ] بها على براءة نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - مما نسبه إليه أعداؤه من الجنون؛ فنفى عنه ذلك بنعمةِ ربِّه عليه وإحسانه؛ حيث منَّ عليه بالعقل الكامل والرأي الجَزْل والكلام الفَصل، الذي هو أحسن ما جرت به الأقلام وسطره الأنام، وهذا هو السعادة في الدُّنيا.
#
{3} ثم ذكر سعادته في الآخرة،
فقال: {وإنَّ لك لأجرًا غيرَ ممنونٍ}؛
أي: لأجراً عظيماً كما يفيده التنكير، غير مقطوع ، بل هو دائمٌ مستمرٌّ، وذلك لما أسلفه - صلى الله عليه وسلم - من الأعمال الصالحة والأخلاق الكاملة والهداية إلى كلِّ خير.
#
{4} ولهذا قال:
{وإنَّك لَعلى خُلُقٍ عظيم}؛
أي: عليًّا به، مستعلياً بخُلُقك الذي مَنَّ الله عليك به. وحاصل خُلُقِهِ العظيم ما فسَّرته به أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمن سألها عنه،
فقالت: كان خلقه القرآن.
وذلك نحو قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بالعُرْفِ وأعرِضْ عن الجاهلينَ}،
{فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم ... } الآية،
{لقد جاءكم رسولٌ من أنفسِكُم عزيزٌ عليه ما عَنِتُم ... } الآية، وما أشبه ذلك من الآيات الدالاَّت على اتِّصافه - صلى الله عليه وسلم - بمكارم الأخلاق، والآيات الحاثَّات على كلِّ خُلُقٍ جميل ، فكان له منها أكملها وأجلها، وهو في كلِّ خصلة منها في الذَّروة العليا، فكان
[- صلى الله عليه وسلم -] سهلاً ليناً قريباً من الناس، مجيباً لدعوة مَنْ دعاه، قاضياً لحاجة من استقضاه، جابراً لقلب مَنْ سأله لا يحرمه ولا يردُّه خائباً. وإذا أراد أصحابُهُ منه أمراً؛ وافقهم عليه وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذورٌ، وإن عَزَمَ على أمرٍ؛ لم يستبدَّ به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، وكان يقبلُ من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشِرُ جليساً إلاَّ أتمَّ عشرةٍ وأحسنها، فكان لا يعبسُ في وجهه، ولا يُغْلِظُ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بشره، ولا يمسك عليه فَلَتات لسانِهِ، ولا يؤاخذه بما يصدُرُ منه من جفوةٍ، بل يُحْسِنُ إليه غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال - صلى الله عليه وسلم -.
#
{5 ـ 6} فلمَّا أنزله الله في أعلى المنازل
[من جميع الوجوه]، وكان أعداؤه ينسِبون إليه أنَّه مجنونٌ مفتونٌ؛
قال: {فستُبْصِرُ ويُبْصِرونَ. بأيِّكُم المفتونُ}: وقد تبيَّن أنَّه أهدى الناس وأكملهم لنفسه ولغيره، وأنَّ أعداءه أضلُّ الناس وشرُّ الناس للناس ، وأنَّهم هم الذين فتنوا عبادَ الله وأضلُّوهم عن سبيله، وكفى بعلم الله بذلك؛ فإنَّه
[هو] المحاسب المجازي.
#
{7} {إنَّ ربَّك هو أعلمُ بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدينَ}: وهذا فيه تهديدٌ للضَّالِّين، ووعدٌ للمهتدين، وبيانٌ لحكمة الله؛ حيث كان يهدي مَنْ يَصْلُحُ للهداية دون غيره.
{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}.
#
{8} يقول الله تعالى لنبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -:
{فلا تُطِعِ المكذِّبين}: الذين كذَّبوك وعاندوا الحقَّ؛ فإنَّهم ليسوا أهلاً لأن يُطاعوا؛ لأنَّهم لا يأمرون إلاَّ بما يوافق أهواءهم، وهم لا يريدون إلاَّ الباطل؛ فالمطيع لهم مُقْدِمٌ على ما يضرُّه، وهذا عامٌّ في كلِّ مكذِّب وفي كلِّ طاعةٍ ناشئةٍ عن التكذيب، وإن كان السياقُ في شيءٍ خاصٍّ، وهو أنَّ المشركين طلبوا من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم ويسكتوا عنه.
#
{9} ولهذا قال:
{ودُّوا}؛
أي: المشركون،
{لو تُدْهِنُ}؛
أي: توافقهم على بعض ما هم عليه: إمَّا بالقول، أو بالفعل، أو بالسكوت عما يتعيَّن الكلام فيه
{فَيُدْهِنونَ}، ولكن اصدعْ بأمر الله، وأظهرْ دين الإسلام؛ فإنَّ تمام إظهاره نقضُ ما يضادُّه وعيب ما يناقضه.
#
{10} {ولا تطِعْ كلَّ حلاَّفٍ}؛
أي: كثير الحلف؛ فإنَّه لا يكون كذلك إلاَّ وهو كذَّابٌ، ولا يكون كذّاباً إلاَّ وهو
{مَهينٌ}؛
أي: خسيس النفس، ناقصُ الهمة، ليس له رغبةٌ في الخير، بل إرادتُه في شهوات نفسه الخسيسة.
#
{11} {همَّازٍ}؛
أي: كثير العيب للناس والطعن فيهم بالغيبة والاستهزاء وغير ذلك،
{مشاءٍ بنميمٍ}؛
أي: يمشي بين الناس بالنميمة، وهو نقلُ كلام بعضِ الناس لبعض لقصد الإفسادِ بينهم وإيقاع العداوة والبغضاء.
#
{12} {منَّاع للخيرِ}: الذي يلزمه القيام به من النفقات الواجبة والكفارات والزَّكَوات وغير ذلك.
{معتدٍ}: على الخلق؛ يظلِمُهم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
{أثيمٍ}؛
أي: كثير الإثم والذُّنوب المتعلِّقة في حقِّ الله
[تعالى].
#
{13} {عُتُلٍّ بعد ذلك}؛
أي: غليظٍ شرس الخلق، قاسٍ، غير منقادٍ للحقِّ.
{زنيمٍ}؛
أي: دعيٍّ ليس له أصلٌ ولا مادةٌ ينتج منها الخير، بل أخلاقه أقبح الأخلاق، ولا يرجى منه فلاحٌ. له زِنْمَةٌ؛
أي: علامةٌ في الشرِّ يعرف بها.
#
{14} وحاصل هذا أنَّ الله تعالى نهى عن طاعة كلِّ حلافٍ كذابٍ خسيس النفس سيِّئِ الأخلاق، خصوصاً الأخلاق المتضمِّنة للإعجاب بالنفس، والتكبُّر على الحقِّ وعلى الخَلْق، والاحتقار للناس بالغيبة والنَّميمة، والطعن فيهم، وكثرة المعاصي.
#
{15} وهذه الآياتُ وإن كانت نزلتْ في بعض المشركين؛ كالوليد بن المغيرة أو غيره ؛
لقوله عنه: {أن كان ذا مال وبنينَ. إذا تُتْلى عليه آياتُنا قال أساطيرُ الأولينَ}؛
أي: لأجل كثرة ماله وولده طغى واستكبر عن الحقِّ ودَفَعه حين جاءه وجعله من جملة أساطير الأولين التي يمكنُ صدقُها وكذبُها؛ فإنَّها عامةٌ في كلِّ من اتَّصف بهذا الوصف؛ لأنَّ القرآن نزل لهداية الخلق كلِّهم، ويدخل فيه أول الأمة وآخرهم، وربَّما نزل بعض الآياتِ في سببٍ أو
[في] شخصٍ من الأشخاص، لتتَّضح به القاعدةُ العامةُ، ويُعْرَفَ به أمثال الجزئيات الداخلة في القضايا العامَّة.
#
{16} ثم توعَّد تعالى مَنْ جرى منه ما وَصَفَ الله بأن الله سَيَسِمُهُ
{على الخرطوم}: في العذاب، وليعذبه عذاباً ظاهراً يكون عليه سِمَةً وعلامةً في أشقِّ الأشياء عليه وهو وجهه.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}.
#
{17 ـ 18} يقول تعالى: إنَّا بَلَوْنا هؤلاء المكذِّبين بالخير، وأمهلناهم، وأمددناهم بما شئنا من مال وولدٍ وطول عمرٍ ونحو ذلك ممَّا يوافق أهواءهم، لا لكرامتهم علينا، بل ربَّما يكون استدراجاً لهم من حيثُ لا يعلمون، فاغترارهم بذلك نظيرُ اغترار أصحاب الجنَّة الذين هم فيها شركاء، حين أينعت أشجارها، وزهت ثمارها ، وآن وقت صِرامها وجزموا أنَّها في أيديهم وطوع أمرهم، وأنَّه ليس ثَمَّ مانعٌ يمنعهم منها، ولهذا أقسموا وحلفوا من غير استثناءٍ أنَّهم سيصرمونها؛
أي: يجذُّونها مصبحين، ولم يَدْروا أنَّ الله بالمرصادِ، وأنَّ العذاب سيخلفهم عليها ويبادِرُهم إليها.
#
{19 ـ 20} {فطاف عليها طائفٌ من ربِّك}؛
أي: عذابٌ نزل عليها ليلاً،
{وهم نائمونَ}: فأبادها، وأتلفها،
{فأصبحتْ كالصَّريم}؛
أي: كالليل المظلم، وذهبت الأشجار والثمار.
#
{21 ـ 22} هذا وهم لا يشعرون بهذا الواقع الملم، ولهذا تنادوا فيما بينهم لما أصبحوا؛
يقول بعضهم لبعض: {اغْدوا على حرثِكم إن كنتُم صارمين}.
#
{23 ـ 24} {فانطلقوا}: قاصدين لها ،
{وهم يتخافتونَ}: فيما بينهم بمنع حقِّ الله تعالى،
ويقولون: {لا يَدْخُلَنَّها اليومَ عليكم مسكينٌ}؛
أي: بكِّروا قبل انتشار الناس، وتواصوا مع ذلك بمنع الفقراء والمساكين. ومن شدَّة حرصهم وبخلهم أنَّهم يتخافتون بهذا الكلام مخافتةً خوفاً أن يَسْمَعَهم أحدٌ فيخبر الفقراء.
#
{25} {وغَدَوْا}: في هذه الحالة الشنيعة والقسوة وعدم الرحمة
{على حردٍ قادرينَ}؛
أي: على إمساكٍ ومنعٍ لحقِّ الله جازمين بقدرتهم عليها.
#
{26 ـ 27} {فلمَّا رأوْها}: على الوصف الذي ذَكَرَ الله كالصريم،
{قالوا}: من الحيرة والانزعاج،
{إنَّا لضالُّون}؛
أي: تائهون عنها، لعلَّها غيرها، فلما تحقَّقوها ورجعت إليهم عقولهم؛
قالوا: {بل نحن محرومون}: منها، فعرفوا حينئذٍ أنَّه عقوبةٌ.
#
{28} فَـ
{قَالَ أوسطُهم}؛
أي: أعدلُهم وأحسنُهم طريقةً:
{ألم أقل لكم لولا تسبِّحونَ}؛
أي: تنزِّهون الله عما لا يليق به، ومن ذلك ظنُّكم أنَّ قدرتكم مستقلةٌ،
فلولا استثنيتم وقلتُم: إنْ شاء الله، وجعلتم مشيئتكم تابعةً لمشيئتِهِ ؛ لما جرى عليكم ما جرى.
#
{29} فَـ
{قالوا سبحانَ ربِّنا إنَّا كُنَّا ظالمين}؛
أي: استدركوا بعد ذلك، ولكن بعدما وقع العذاب على جنتهم، الذي لا يُرفع، ولكن لعلَّ تسبيحهم هذا وإقرارهم على أنفسهم بالظُّلم ينفعهم في تخفيف الإثم ويكونُ توبةً.
#
{30 ـ 32} ولهذا ندموا ندامةً عظيمةً، وأقبل
{بعضُهم على بعضٍ يتلاومونَ}: فيما أجروه وفعلوه،
{قالوا يا وَيْلَنا إنا كُنَّا طاغينَ}؛
أي: متجاوزين للحدِّ في حقِّ الله وحقِّ عباده،
{عسى ربُّنا أن يُبْدِلَنا خيراً منها إنَّا إلى ربِّنا راغبونَ}: فهم رجوا الله أن يبدِّلهم خيراً منها، ووعدوا أن سيرغبون إلى الله ويلحُّون عليه في الدُّنيا؛ فإنْ كانوا كما قالوا؛ فالظاهر أنَّ الله أبدلهم في الدُّنيا خيراً منها؛ لأنَّ من دعا الله صادقاً ورغب إليه ورجاه؛ أعطاه سؤاله.
#
{33} قال تعالى معظماً ما وقع:
{كذلك العذابُ}؛
أي: الدنيويُّ لمن أتى بأسباب العذاب أن يسلبَه الله الشيء الذي طغى به وبغى وآثَرَ الحياةَ الدُّنيا وأن يزيلَه عنه أحوجَ ما يكون إليه،
{ولَعذابُ الآخرةِ أكبرُ}: من عذاب الدُّنيا،
{لو كانوا يعلمون}: فإنَّ مَنْ عَلِمَ ذلك؛ أوجب له الانزجار عن كلِّ سبب يوجب العقاب ويحرم الثواب.
{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)}.
#
{34 ـ 41} يخبر تعالى بما أعدَّه للمتَّقين للكُفْرِ والمعاصي، من أنواع النعيم والعيش السليم في جوار أكرم الأكرمين، وأنَّ حكمته تعالى لا تقتضي أن يجعل المتَّقين القانتين لربِّهم، المنقادين لأوامره، المتَّبِعين مراضِيَه، كالمجرمين الذين أوضَعوا في معاصيه والكفر بآياتِهِ ومعاندةِ رسلِهِ ومحاربة أوليائِهِ، وأنَّ من ظنَّ أنَّه يسوِّيهم في الثواب؛ فإنَّه قد أساء الحكم، وأنَّ حكمه
[حكمٌ] باطلٌ ورأيه فاسدٌ، وأن المجرمين إذا ادَّعوا ذلك؛ فليس لهم مستندٌ، لا كتابٌ فيه يدرسون ويتلون أنَّهم من أهل الجنة، وأنَّ لهم ما طلبوا وتخيَّروا، وليس لهم عند الله عهدٌ ويمينٌ بالغةٌ إلى يوم القيامةِ أنَّ لهم ما يحكمون، وليس لهم شركاءُ وأعوانٌ على إدراك ما طلبوا؛ فإنْ كان لهم شركاءُ وأعوانٌ؛ فليأتوا بهم إن كانوا صادقين. ومن المعلوم أنَّ جميع ذلك منتفٍ؛ فليس لهم كتابٌ ولا لهم عهدٌ عند الله في النجاة ولا لهم شركاءُ يعينونَهم، فعُلِمَ أنَّ دعواهم باطلةٌ فاسدةٌ.
وقوله: {سَلْهُم أيُّهم بذلك زعيمٌ}؛
أي: أيُّهم الكفيل بهذه الدعوى التي تَبَيَّنَ بطلانها؛ فإنَّه لا يمكن أحداً أن يتصدَّر بها ولا يكون زعيماً فيها.
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)}.
#
{42 ـ 43} أي: إذا كان يوم القيامة، وانكشفَ فيه من القلاقل والزلازل والأهوال ما لا يدخُلُ تحت الوهم، وأتى الباري لفصل القضاءِ بين عباده ومجازاتهم، فكشف عن ساقه الكريمة التي لا يشبِهُها شيءٌ، ورأى الخلائقُ من جلال الله وعظمته ما لا يمكن التعبير عنه؛ فحينئذٍ
{يُدْعَوْنَ إلى السجود}: لله، فيسجد المؤمنون الذين كانوا يسجُدون لله طوعاً واختياراً، ويذهب الفجَّارُ المنافقون ليسجدوا؛ فلا يقدرون على السجود، وتكون ظهورهم كصياصِي البقرِ؛ لا يستطيعون الانحناء، وهذا الجزاء من جنس عملهم؛ فإنَّهم كانوا يُدْعَوْنَ في الدُّنيا إلى السجود لله وتوحيده وعبادته وهم سالمون لا علَّة فيهم؛ فيستكبرون عن ذلك، ويأبَوْن؛ فلا تسأل يومئذٍ عن حالهم وسوء مآلهم؛ فإنَّ الله قد سَخِطَ عليهم، وحقَّت عليهم كلمة العذاب، وتقطَّعت أسبابهم، ولم تنفعهم الندامة والاعتذار يوم القيامة؛ ففي هذا ما يزعِجُ القلوب عن المقام على المعاصي ويوجب التدارك مدة الإمكان.
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}.
#
{44 ـ 45} أي: دعني والمكذِّبين بالقرآن العظيم؛ فإنَّ عليَّ جزاءهم، ولا تستعجل لهم؛ فسنستدرِجُهم
{من حيث لا يعلمونَ}: فنُمِدُّهم بالأموال والأولاد، ونُمِدُّهم في الأرزاق والأعمال؛ ليغتروا ويستمرُّوا على ما يضرُّهم، وهذا من كيد الله لهم. وكيدُ الله لأعدائه متينٌ قويٌّ، يبلغ من ضررهم وعقوبتهم كلَّ مبلغ.
#
{46} {أم تسألهم أجراً فهم من مَغْرَم مُثْقَلون}؛
أي: ليس لنفورهم عنك وعدم تصديقهم لك سببٌ يوجب لهم ذلك ؛ فإنَّك تعلِّمُهم وتدعوهم إلى الله لمحض مصلحتهم من غير أن تطلبهم من أموالهم مغرماً يَثْقُلُ عليهم.
#
{47} {أم عندَهم الغيبُ فهم يكتُبون}: ما كان عندهم من الغيوب، وقد وجدوا
[فيها] أنَّهم على حقٍّ، وأنَّ لهم الثواب عند الله؛ فهذا أمرٌ ما كان، وإنَّما كانت حالهم حال معاندٍ ظالم.
#
{48 ـ 50} فلم يبقَ إلاَّ الصبر لأذاهم والتحمُّل لما يصدُرُ منهم والاستمرار على دعوتهم،
ولهذا قال: {فاصبِرْ لحكم ربِّك}؛
أي: لما حكم به شرعاً وقدراً؛ فالحكم القدريُّ يُصْبَرُ على المؤذي منه ولا يُتَلَقَّى بالسخط والجزع، والحكم الشرعيُّ يقابَلُ بالقَبول والتسليم والانقياد
[التامِّ] لأمرِهِ.
وقوله: {ولا تكن كصاحب الحوتِ}: وهو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام؛
أي: ولا تشابِهه في الحال التي أوصلَتْه وأوجبت له الانحباس في بطن الحوت، وهو عدم صبره على قومِهِ الصبرَ المطلوب منه وذَهابُه مغاضباً لربِّه، حتى ركب
[في] البحر، فاقترع أهل السفينة حين ثقلت بأهلها أيُّهم يلقون؛ لكي تَخِفَّ بهم، فوقعت القرعةُ عليه، فالتقمه الحوتُ وهو مليمٌ.
وقوله: {إذ نادى وهو مكظومٌ}؛
أي: وهو في بطنها قد كظمت عليه،
أو: نادى وهو مغتمٌّ مهتمٌّ،
فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كنت من الظالمين، فاستجاب الله له، وقَذَفَتْه الحوتُ من بطنها بالعراء وهو سقيمٌ، وأنبت الله عليه شجرةً من يقطينٍ،
ولهذا قال هنا: {لولا أن تدارَكَه نعمةٌ من ربِّه لَنُبِذَ بالعراء}؛
أي: لَطُرِحَ في العراء، وهي الأرض الخالية،
{وهو مذمومٌ}: ولكنَّ الله تغمَّده برحمته، فَنُبِذَ وهو ممدوحٌ، وصارت حالُه أحسنَ من حاله الأولى،
ولهذا قال: {فاجتباه ربُّه}؛
أي: اختاره واصطفاه ونقَّاه من كلِّ كدرٍ،
{فجعله من الصالحين}؛
أي: الذين صَلَحَتْ أعمالهم وأقوالهم ونيَّاتهم وأحوالهم.
#
{51 ـ 52} فامتثل نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أمر الله ، فصبر لحكم ربِّه صبراً لا يدركه
[فيه] أحدٌ من العالمين، فجعل الله له العاقبة، والعاقبةُ للمتقين، ولم يبلغ أعداؤه فيه إلاَّ ما يسوؤهم، حتى إنَّهم حرصوا على أن يُزْلِقوه
{بأبصارهم}؛
أي: يصيبوه بأعينهم من حسدهم وحنقهم وغيظهم. هذا منتهى ما قدروا عليه من الأذى الفعليِّ، والله حافظه وناصِرُه. وأمَّا الأذى القوليُّ؛ فيقولون فيه أقوالاً بحسب ما توحي إليهم قلوبهم،
فيقولون تارةً: مجنونٌ! وتارةً: شاعرٌ! وتارة: ساحرٌ! قال تعالى:
{وما هو إلا ذكرٌ للعالمين}؛
أي: وما هذا القرآن العظيم والذِّكر الحكيم إلاَّ ذكرٌ للعالمين، يتذكَّرون به مصالح دينهم ودنياهم. والحمد لله.
* * *