آية:
تفسير سورة الملك
تفسير سورة الملك
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
آية: 1 - 4 #
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)}.
# {1} {تبارك الذي بيده الملكُ}؛ أي: تعاظم وتعالى وكَثُرَ خيرُه وعمَّ إحسانه، من عظمته أنَّ بيده ملك العالم العلويِّ والسفليِّ، فهو الذي خلقه ويتصرَّف فيه بما شاء من الأحكام القدريَّة والأحكام الدينيَّة التابعة لحكمته. ومن عظمته كمالُ قدرته التي يقدر بها على كلِّ شيءٍ وبها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة؛ كالسماوات والأرض.
# {2} و {خَلَقَ الموتَ والحياةَ}؛ أي: قدَّر لعباده أن يُحْييَهم ثم يُميتهم؛ {لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحسنُ عملاً}؛ أي: أخلصه وأصوبه، وذلك أنَّ الله خلق عباده وأخرجهم لهذه الدار، وأخبرهم أنَّهم سيُنقلون منها، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره؛ فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل؛ أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومن مال مع شهوات النفس ونبذ أمر الله؛ فله شرُّ الجزاء. {وهو العزيز}: الذي له العزَّة كلُّها، التي قهر بها جميع الأشياء وانقادتْ له المخلوقاتُ. {الغفور}: عن المسيئين والمقصِّرين والمذنبين، خصوصاً إذا تابوا وأنابوا؛ فإنَّه يغفر ذنوبهم، ولو بلغتْ عنان السماء، ويستُرُ عيوبهم، ولو كانت ملء الدنيا.
# {3} {الذي خلق سبع سمواتٍ طباقاً}؛ أي: كل واحدةٍ فوق الأخرى، ولسن طبقة واحدة، وخلقها في غاية الحسن والإتقان، {ما ترى في خَلْقِ الرحمن من تفاوتٍ}؛ أي: خلل ونقص، وإذا انتفى النقص من كل وجهٍ؛ صارت حسنةً كاملةً متناسبةً من كلِّ وجه في لونها وهيئتها وارتفاعها وما فيها من الشمس [والقمر] والكواكب النيِّرات الثوابت منهنَّ والسيارات، ولمَّا كان كمالُها معلوماً؛ أمر تعالى بتكرار النظر إليها والتأمُّل في أرجائها؛ قال: {فارجِعِ البصرَ}؛ أي: أعده إليها ناظراً معتبراً، {هل ترى من فُطورٍ}؟ أي: نقص واختلال.
# {4} {ثم ارجِعِ البصرَ كرَّتيِن}: [و] المراد بذلك كثرة التكرار، {ينقلبْ إليك البصر خاسئاً وهو حسيرٌ}؛ أي: عاجزاً عن أن يرى خللاً أو فطوراً، ولو حرص غاية الحرص.
ثم صرَّح بذكر حسنها، فقال:
آية: 5 - 11 #
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)}.
# {5} أي: ولقد جمَّلْنا {السماء الدُّنيا}: التي ترونَها وتليكم، {بمصابيحَ}: وهي النجوم على اختلافها في النور والضياء؛ فإنَّه لولا ما فيها من النُّجوم؛ لكانت سقفاً مظلماً لا حسن فيه ولا جمال، ولكن جعل الله هذه النجوم زينةً للسماء، وجمالاً ونوراً وهدايةً يُهتدى بها في ظلمات البرِّ والبحر، ولا ينافي إخباره أنَّه زيَّن السماء الدُّنيا بمصابيح أن يكون كثيرٌ من النجوم فوق السماوات السبع؛ فإنَّ السماواتِ شفافةٌ، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدُّنيا وإن لم تكن الكواكب فيها، {وجعلناها}؛ أي: المصابيح {رجوماً للشياطين}: الذين يريدون استراقَ خبر السماء، فجعل الله هذه النجوم حراسةً للسماء عن تلقُّف الشياطين أخبار الأرض؛ فهذه الشهب التي تُرمى من النُّجوم أعدها الله في الدُّنيا للشياطين، {وأعتدنا لهم}: في الآخرة {عذابَ السعير}: لأنَّهم تمرَّدوا على الله، وأضلُّوا عباده.
# {6} ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم قد أعدَّ الله لهم عذاب السعير؛ فلهذا قال: {وللذين كفروا بربِّهم عذابُ جهنَّم وبئس المصير}: التي يُهان بها أهلُها غايةَ الهوان.
# {7} {إذا أُلقوا فيها}: على وجه الإهانةِ والذُّلِّ، {سمعوا لها شهيقاً}؛ أي: صوتاً عالياً فظيعاً.
# {8} {تكادُ تَمَيَّزُ من الغيظِ}؛ أي: تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضاً وتتقطَّع من شدة غيظها على الكفار؛ فما ظنُّك ما تفعل بهم إذا حُصِّلُوا فيها؟! ثم ذكر توبيخ الخزنة لأهلها، فقال: {كلَّما أُلقي فيها فوجٌ سألهم خَزَنَتُها ألم يأتِكُم نذيرٌ}؛ أي: حالكم هذه واستحقاقكم النار كأنكم لم تخبَّروا عنها ولم تحذِّرْكم النذرُ منها.
# {9} {قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذَّبنا وقُلْنا ما نَزَّلَ الله من شيءٍ إن أنتُم إلاَّ في ضلالٍ كبيرٍ}: فجمعوا بين تكذيبهم الخاص والتكذيب العامِّ بكلِّ ما أنزل الله، ولم يكفهم ذلك، حتى أعلنوا بضلال الرُّسل المنذرين، وهم الهداة المهتدون، ولم يكتفوا بمجرَّد الضلال، بل جعلوا ضلالهم ضلالاً كبيراً؛ فأيُّ عنادٍ وتكبُّر وظلم يشبه هذا؟!
# {10} {وقالوا}: معترفين بعدم أهليَّتهم للهدى والرشاد: {لو كنَّا نسمعُ أو نعقِلُ ما كنَّا في أصحاب السَّعير}: فنفَوْا عن أنفسهم طرق الهدى، وهي السمع لما أنزل الله وجاءتْ به الرسل، والعقلُ الذي ينفع صاحبَه ويوقفُه على حقائق الأشياء وإيثار الخير والانزجار عن كلِّ ما عاقبته ذميمةٌ، فلا سمعَ لهم ولا عقلَ. وهذا بخلاف أهل اليقين والعرفان وأرباب الصدق والإيمان؛ فإنَّهم أيَّدوا إيمانهم بالأدلَّة السمعيَّة، فسمعوا ما جاء من عند الله وجاء به رسولُ الله علماً ومعرفةً وعملاً، والأدلَّة العقليَّة المعرِّفة للهدى من الضَّلال، والحسن من القبيح، والخير من الشرِّ، وهم في الإيمان بحسب ما منَّ الله عليهم به من الاقتداء بالمعقول والمنقول؛ فسبحان مَن يختصُّ بفضله مَن يشاء، ويمنُّ على مَن يشاء من عباده، ويخذل مَن لا يصلُحُ للخير.
# {11} قال تعالى عن هؤلاء الدَّاخلين للنار المعترفين بظلمهم وعنادهم: {فاعْتَرَفوا بذَنبِهِم فسُحقاً لأصحاب السَّعير}؛ أي: بعداً لهم وخسارةً وشقاءً؛ فما أشقاهم وأرداهم؛ حيث فاتهم ثواب الله، وكانوا ملازمين للسعير التي تستعر في أبدانهم، وتَطَّلِعُ على أفئدتهم.
آية: 12 #
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}.
# {12} لما ذكر حالة الأشقياء الفجَّار؛ ذكر وصف الأبرار السعداء ، فقال: {إنَّ الذين يخشَوْنَ ربَّهم بالغيب}؛ أي: في جميع أحوالهم، حتى في الحالة التي لا يطَّلع عليهم فيها إلاَّ الله؛ فلا يقدِمون على معاصيه، ولا يقصِّرون عمَّا أمرهم به. {لهم مغفرةٌ}: لذنوبهم، وإذا غَفَرَ الله ذنوبَهم؛ وقاهم شرَّها ووقاهم عذاب الجحيم. {ولهم أجرٌ كبيرٌ}: وهو ما أعدَّه الله لهم في الجنة من النعيم المقيم والملك الكبير واللذَّاتِ المتواصلات والقصور والمنازل العاليات والحور الحسان والخدم والولدان، وأعظم من ذلك وأكبر، رضا الرحمن الذي يُحِلُّه على ساكني الجنان.
آية: 13 - 14 #
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)}.
# {13} هذا إخبارٌ من الله بسعة علمه وشمول لطفه، فقال: {وأسِرُّوا قولَكم أو اجْهَروا به}؛ أي: كلّها سواءٌ لديه لا يخفى عليه منها خافيةٌ، فَـ {إنَّه عليمٌ بذات الصُّدور}؛ أي: بما فيها من النيَّات والإرادات؛ فكيف بالأقوال والأفعال التي تُسمع وتُرى؟!
# {14} ثم قال مستدلًّا بدليل عقليٍّ على علمه: {ألا يعلمُ مَنْ خَلَقَ}؛ فمن خَلَقَ الخلقَ وأتقنه وأحسنه؛ كيف لا يعلمه؟! {وهو اللطيفُ الخبيرُ}: الذي لطف علمه وخبره، حتى أدرك السرائر والضمائر والخبايا والخفايا والغيوب، {وهو الذي يعلمُ السِّرَّ وأخفى}، ومن معاني اللطيف أنَّه الذي يَلْطُفُ بعبدِهِ ووليِّه، فيسوق إليه البِرَّ والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصِمُه من الشرِّ من حيث لا يحتسب، ويرقِّيه إلى أعلى المراتب بأسبابٍ لا تكون من العبد على بالٍ، حتى إنَّه يذيقُه المكارِهَ ليوصله بها إلى المحابِّ الجليلة والمطالب النبيلة.
آية: 15 #
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)}.
# {15} أي: هو الذي سخَّر لكم الأرضَ وذَلَّلها؛ لتدرِكوا منها كلَّ ما تعلقت به حاجتُكم من غرسٍ وبناءٍ وحرثٍ وطرقٍ يُتَوَصَّلُ بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة، {فامشوا في مناكِبِها}؛ أي: لطلب الرزق والمكاسب، {وكُلوا من رزقِهِ وإليه النشورُ}؛ أي: بعد أن تنتقلوا من هذه الدار التي جَعَلَها الله امتحاناً وبلغةً يُتَبَلَّغُ بها إلى الدار الآخرة؛ تُبعثون بعد موتكم وتُحشرون إلى الله؛ ليجازِيَكم بأعمالكم الحسنة والسيئة.
آية: 16 - 18 #
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)}.
# {16} هذا تهديدٌ ووعيدٌ لمن استمرَّ في طغيانه وتعدِّيه وعصيانه الموجب للنَّكال وحلول العقوبة، فقال: {أأمنتُم مَن في السَّماء}: وهو الله تعالى العالي على خلقه، {أن يخسِفَ بكم الأرضَ فإذا هي تمورُ}: بكم وتضطربُ حتى تَهْلِكوا وتَتْلَفوا.
# {17 ـ 18} {أم أمنتُم مَن في السماء أن يرسلَ عليكم حاصباً}؛ أي: عذاباً من السماء يحصِبُكم وينتقمُ الله منكم، {فستعلمون كيف نذيرِ}؛ أي: كيف يأتيكم ما أنذرتْكُم به الرسل والكتب؛ فلا تحسَبوا أنَّ أمنكم من الله أن يعاقِبَكم بعقابٍ من الأرض ومن السماء ينفعُكم، فستجدون عاقبة أمرِكم سواءً طال عليكم الأمدُ أو قَصُرَ؛ فإنَّ مَن قبلكم كذَّبوا كما كذَّبتم، فأهلكهم الله تعالى؛ فانظُروا كيف إنكارُ الله عليهم؛ عاجلهم بالعقوبة الدنيويَّة قبل عقوبة الآخرة؛ فاحذَروا أن يصيبَكم ما أصابَهم.
آية: 19 #
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}.
# {19} وهذا عتابٌ وحثٌّ على النظر إلى حالة الطير التي سخَّرها الله وسخَّر لها الجوَّ والهواء؛ تصفُّ فيه أجنحتها للطيران وتقبِضُها للوقوع، فتظلُّ سابحةً في الجوِّ متردِّدة فيه بحسب إرادتها وحاجتها، {ما يمسِكُهُنَّ إلاَّ الرحمنُ}: فإنَّه الذي سخَّر لهنَّ الجوَّ وجعل أجسادها وخلقتها في حالة مستعدةٍ للطيران؛ فمن نظر في حالة الطير واعتبر فيها؛ دلَّتْه على قدرة الباري وعنايته الربانيَّة، وأنَّه الواحدُ الأحدُ الذي لا تنبغي العبادة إلاَّ له. {إنَّه بكلِّ شيءٍ بصيرٌ}: فهو المدبِّر لعباده بما يليق بهم وتقتضيه حكمته.
آية: 20 - 21 #
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)}.
# {20} يقول تعالى للعتاة النافرين عن أمره، المعرضين عن الحقِّ: {أمّن هذا الذي هو جندٌ لكم ينصُرُكم من دونِ الرحمن}؛ أي: ينصُرُكم إذا أرادَ الرحمن بكم سوءاً فيدفعه عنكم؛ أي: من الذي ينصُرُكم على أعدائكم غير الرحمن؛ فإنَّه تعالى هو الناصر المعزُّ المذلُّ، وغيره من الخلق لو اجتمعوا على نصر عبدٍ لم ينفعوه بمثقال ذرَّةٍ على أيِّ عدوٍّ كان؛ فاستمرارُ الكافرين على كفرهم بعد أن عَلِموا أنَّه لا ينصُرُهم أحدٌ من دون الرحمن غرورٌ وسفهٌ.
# {21} {أمّن هذا الذي يرزقُكُم إن أمسَكَ رزقَه}؛ أي: الرزق كلُّه من الله؛ فلو أمسك عنكم الرزق؛ فمن الذي يرسله لكم؟ فإنَّ الخلق لا يقدرون على رزق أنفسِهِم؛ فكيف بغيرهم؟! فالرازق المنعم الذي لا يصيب العبادَ نعمةٌ إلاَّ منه هو الذي يستحقُّ أن يُفْرَدَ بالعبادة، ولكنْ الكافرون {لَجُّوا}؛ أي: استمروا {في عُتُوٍّ}؛ أي: قسوةٍ وعدم لينٍ للحق، {ونُفورٍ}؛ أي: شرودٍ عن الحقِّ.
آية: 22 #
{أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}.
# {22} أي: أيُّ الرجلين أهدى؛ من كان تائهاً في الضَّلال غارقاً في الكفر قد انتكس قلبه فصار الحقُّ عنده باطلاً والباطل حقًّا، ومن كان عالماً بالحقِّ، مؤثراً له، عاملاً به، يمشي على الصراط المستقيم في أقواله وأعماله وجميع أحواله؟! فبمجرَّد النظر إلى حال الرجلين؛ يعلم الفرق بينهما والمهتدي من الضالِّ منهما. والأحوالُ أكبرُ شاهدٍ من الأقوال.
آية: 23 - 26 #
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)}.
# {23} يقول تعالى مبيِّناً أنَّه المعبودُ وحدَه وداعياً عباده إلى شكره وإفراده بالعبادة: {هو الذي أنشأكم}؛ أي: أوجدكم من العدم؛ من غير معاونٍ له ولا مظاهر، ولما أنشأكم؛ كمَّل لكم الوجود بالسمعِ والأبصارِ والأفئدةِ، وهذه الثلاثة هي أفضل أعضاء البدن وأكمل القوى الجسمانيَّة، ولكنَّكم مع هذا الإنعام {قليلاً ما تشكُرون} الله، قليلٌ منكم الشاكر، وقليلٌ منكم الشكر.
# {24} {قل هو الذي ذَرَأكُم في الأرض}؛ أي: بثَّكم في أقطارها، وأسكنَكم في أرجائها، وأمركم ونهاكم، وأسدى عليكم من النِّعم ما به تنتفعون، ثم بعد ذلك يحشُرُكم ليوم القيامةِ، ولكنَّ هذا الوعد بالجزاء ينكِرُه هؤلاء المعاندون.
# {25} {ويقولون}: تكذيباً: {متى هذا الوعدُ إن كنتُم صادقينَ}؟ جعلوا علامة صدقِهِم أنْ يُخْبِروهم بوقت مجيئِهِ، وهذا ظلمٌ وعنادٌ.
# {26} فإنما {العلم عند الله}: لا عند أحدٍ من الخلق، ولا ملازمة بين هذا الخبر وبين الإخبار بوقته؛ فإنَّ الصدق يُعْرَفُ بأدلَّته، وقد أقام الله من الأدلَّة والبراهين على صحَّته ما لا يبقى معه أدنى شكٍّ لمن ألقى السمع وهو شهيدٌ.
آية: 27 - 30 #
{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}.
# {27} يعني أنَّ محلَّ تكذيب الكفار وغرورهم به حين كانوا في الدُّنيا؛ فإذا كان يوم الجزاء، ورأوا العذاب منهم {زُلْفَةً}؛ أي: قريباً؛ ساءهم ذلك وأفظعهم وأقلقهم ، فتغيَّرت لذلك وجوهُهم، ووُبِّخوا على تكذيبهم، وقيل لهم: {هذا الذي كنتُم به تَدَّعونَ}: فاليوم رأيتموه عياناً، وانْجلى لكم الأمر، وتقطَّعت بكم الأسباب، ولم يبقَ إلاَّ مباشرة العذاب.
# {28} ولما كان المكذِّبون للرسول - صلى الله عليه وسلم - الذين يردُّون دعوته ينتظرون هلاكَه ويتربَّصون به ريب المنون؛ أمره الله أن يقولَ لهم: إنَّكم وإن حصلتْ لكم أمنيتُكم و {أهلكني الله ومن معي}: فليس ذلك بنافع لكم شيئاً؛ لأنَّكم كفرتم بآيات الله، واستحققتُم العذاب؛ فمن يجيرُكم {من عذابٍ أليم}: قد تحتَّم وقوعُه بكم؛ فإذاً تعبُكم وحرصُكم على هلاكي غير مفيدٍ ولا مجدٍ لكم شيئاً.
# {29} ومن قولهم: إنَّهم على هدى والرسول على ضلالٍ؛ أعادوا في ذلك وأبدوا، وجادلوا عليه وقاتلوا، فأمر الله نبيَّه أن يُخْبِرَ عن حاله وحال أتباعه ما به يتبيَّن لكلِّ أحدٍ هداهم وتقواهم، وهو أنْ يقولوا: {آمنَّا به وعليه تَوَكَّلْنا}: والإيمانُ يشملُ التصديق الباطن والأعمال الباطنة والظاهرة، ولمَّا كانت الأعمالُ وجودُها وكمالُها متوقفة على التوكُّل؛ خصَّ الله التوكُّل من بين سائر الأعمال، وإلاَّ؛ فهو داخلٌ في الإيمان، ومن جملة لوازمه؛ كما قال تعالى: {وعلى الله فتوكَّلوا إن كُنتُم مؤمنينَ}؛ فإذا كانت هذه حال الرسول وحال مَن اتَّبعه، وهي الحال التي تتعيَّن للفلاح وتتوقَّف عليها السعادة، وحالة أعدائه بضدِّها؛ فلا إيمان لهم ولا توكُّل؛ عُلِمَ بذلك مَن هو على هدىً ومن هو في ضلال مبينٍ.
# {30} ثم أخبر عن انفراده بالنِّعم، خصوصاً الماء الذي جَعَلَ الله منه كلَّ شيءٍ حيٍّ، فقال: {قل أرأيتُم إن أصبحَ ماؤكم غَوْراً}؛ أي: غائراً، {فمن يأتيكم بماءٍ مَعينٍ}: تشربون منه وتسقونَ أنعامكم وأشجارَكم وزُروعكم؟ وهذا استفهامٌ بمعنى النفي؛ أي: لا يقدر أحدٌ على ذلك غير الله تعالى.
تم تفسير سورة الملك والحمد لله.