وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)}.
#
{1 ـ 3} {الحاقَّة}: من أسماء يوم القيامة؛ لأنَّها تحقُّ وتنزل بالخلق وتظهر فيها حقائق الأمور ومخبآت الصدور؛
فعظَّم تعالى شأنها وفخَّمه بما كرَّره من قوله: {الحاقَّة. ما الحاقَّة. وما أدراك ما الحاقَّة}؛ فإنَّ لها شأناً عظيماً وهولاً جسيماً.
«ومن عظمتها أن الله أهلك الأمم المكذبة بها بالعذاب العاجل».
#
{4} ثم ذكر نموذجاً من أحوالها الموجودة في الدُّنيا المشاهدة فيها، وهو ما أحلَّه من العقوبات البليغة بالأمم العاتية،
فقال: {كذَّبتْ ثمودُ}: وهم القبيلةُ المشهورةُ سكان الحِجْر الذين أرسل الله إليهم رسوله صالحاً عليه السلام؛ ينهاهم عمَّا هم عليه من الشِّرك ويأمرهم بالتوحيد، فردُّوا دعوته، وكذَّبوه، وكذَّبوا ما أخبر به من يوم القيامةِ، وهي القارعة التي تقرع الخَلْقَ بأهوالها، وكذلك عادٌ الأولى سكان حضرموت حين بَعَثَ الله إليهم رسوله هوداً عليه الصلاة والسلام، يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فكذَّبوه، وأنكروا ما أخبر به من البعث، فأهلك الله الطائفتين بالهلاك العاجل.
#
{5} {فأمَّا ثمودُ فأهْلِكوا بالطَّاغية}: وهي الصيحة العظيمة الفظيعة، التي قطَّعتْ قلوبهم وزهقتْ لها أرواحهم، فأصبحوا موتى لا يُرى إلاَّ مساكِنُهم وجُثَثُهم.
#
{6} {وأمَّا عادٌ فأُهْلِكوا بريح صرصرٍ}؛
أي: قويَّةٍ شديدةِ الهبوب لها صوتٌ أبلغ من صوت الرعد القاصف.
{عاتيةٍ}؛
أي: عتت على خزَّانها على قول كثير من المفسرين، أو عتت على عادٍ، وزادت على الحدِّ كما هو الصحيح.
#
{7} {سخَّرَها عليهم سبعَ ليال وثمانية أيَّام حسوماً}؛
أي: نحساً وشرًّا فظيعاً عليهم فدمَّرتهم وأهلكتهم؛
{فترى القومَ فيها صَرْعى}؛
أي: هَلكى موتى،
{كأنَّهم أعجازُ نخلٍ خاويةٍ}؛
أي: كأنهم جذوعُ النخل التي قد قُطِّعت رؤوسها الخاوية الساقط بعضها على بعض.
#
{8} {فهل ترى لهم من باقيةٍ}؟: وهذا استفهامٌ بمعنى النفي المتقرِّر.
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)}.
#
{9 ـ 10} أي: وكذلك غير هاتين الأمَّتين الطاغيتين عاد وثمود جاء غيرهم من الطُّغاة العتاة؛ كفرعون مصر الذي أرسل الله إليه عبده ورسوله موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وأراهم من الآيات البيِّنات ما تيقَّنوا بها الحقَّ، ولكن جحدوا وكفروا ظلماً وعلوًّا، وجاء من قبله من المكذِّبين
{والمؤتفكات}؛
أي: قرى قوم لوطٍ؛ الجميع جاؤوا
{بالخاطئة}؛
أي: بالفعلة الطاغية، وهو الكفر والتكذيب والظُّلم والمعاندة وما انضمَّ إلى ذلك من أنواع المعاصي والفسوق،
{فعصَوْا رسولَ ربِّهم}: وهذا اسم جنس؛
أي: كلٌّ من هؤلاء كذَّبوا الرسول الذي أرسله الله إليهم ؛ فأخذ اللهُ الجميع
{أخذةً رابيةً}؛
أي: زائدة على الحدِّ والمقدار الذي يحصُلُ به هلاكهم.
#
{11 ـ 12} ومن جملة هؤلاء قومُ نوح؛ أغرقهم الله في اليمِّ حين طغى الماءُ على وجه الأرض وعلا على مواضعها الرفيعة، وامتنَّ الله على الخلق الموجودين بعدَهم أن حملهم
{في الجاريةِ}، وهي السفينة؛ في أصلاب آبائهم وأمهاتهم، الذين نجَّاهم الله؛ فاحمدوا الله واشكروا الذي نجَّاكم حين أهلك الطاغين، واعتبروا بآياتِهِ الدالَّة على توحيده،
ولهذا قال: {لِنَجْعَلَها}؛
أي: الجارية، والمراد جنسها
[لكم] {تذكرةً}: تذكِّركم أول سفينةٍ صُنِعَتْ وما قصَّتها، وكيف نجَّى الله عليها مَنْ آمن به واتَّبع رسوله وأهلك أهل الأرض كلَّهم؛ فإنَّ جنس الشيء مذكِّرٌ بأصله.
وقوله: {وتَعِيها أذنٌ واعيةٌ}؛
أي: يعقلها أولو الألباب، ويعرفون المقصود منها ووجه الآية بها. وهذا بخلاف أهل الإعراض والغفلة وأهل البلادة وعدم الفطنة؛ فإنَّهم ليس لهم انتفاعٌ بآيات الله؛ لعدم وعيهم عن الله وتفكُّرهم بآياته.
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}.
#
{13 ـ 18} لمَّا ذكر تعالى ما فعله بالمكذِّبين لرسله، وكيف جازاهم وعجَّل لهم العقوبة في الدُّنيا، وأنَّ الله نجَّى الرسل وأتباعهم؛ كان هذا مقدِّمةً للجزاء الأخرويِّ وتوفيةَ الأعمال كاملةً يوم القيامةِ، فذكر الأمور الهائلة التي تقع أمام يوم القيامةِ، وأنَّ أوَّل ذلك أنَّه ينفخ إسرافيل
{في الصور} ـ إذا تكاملتِ الأجسادُ نابتةً ـ نفخةً واحدةً؛ فتخرج الأرواح، فتدخلُ كلُّ روح في جسدها؛ فإذا الناس قيامٌ لربِّ العالمين،
{وحُمِلَتِ الأرضُ والجبالُ فدُكَّتا دكةً واحدةً}؛
أي: فتِّتت الجبال، واضمحلَّت وخلطت بالأرض، ونُسِفَتْ عليها ، فكان الجميع قاعاً صفصفاً، لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً. هذا ما يُصنع بالأرض وما عليها، وأمَّا ما يُصنع بالسماء؛ فإنَّها تضطرب وتمور وتشقَّق ويتغيَّر لونُها، وتهي بعد تلك الصلابة والقوة العظيمة، وما ذاك إلا لأمرٍ عظيم أزعجها وكربٍ جسيم هائل أوهاها وأضعفها،
{والمَلَكُ}؛
أي: الملائكة الكرام
{على أرجائِها}؛
أي: على جوانب السماء وأركانها، خاضعين لربِّهم، مستكينين لعظمته،
{ويحمِلُ عرشَ ربِّك فوقَهم يومئذٍ ثمانيةٌ}: أملاكٌ في غاية القوة، إذا أتى للفصل بين العباد والقضاء بينهم بعدله وقسطه وفضله،
ولهذا قال: {يومئذٍ تُعْرَضون}: على الله،
{لا تَخْفى منكم خافيةٌ}: لا من أجسادكم وذواتكم ، ولا من أعمالكم وصفاتكم؛ فإنَّ الله تعالى عالمُ الغيب والشهادة، ويحشُرُ العباد حفاةً عراةً غُرلاً في أرض مستويةٍ يسمِعُهم الدَّاعي ويَنْفُذُهم البصرُ، فحينئذٍ يجازيهم بما عملوا، ولهذا ذَكَرَ كيفيةَ الجزاءِ،
فقال:
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)}.
#
{19 ـ 20} وهؤلاء هم أهل السعادة؛ يُعْطَوْن كُتُبهم التي فيها أعمالهم الصالحة بأيمانهم تمييزاً لهم وتنويهاً بشأنهم ورفعاً لمقدارهم،
ويقول أحدُهم عند ذلك من الفرح والسرور ومحبَّة أن يطَّلع الخلق على ما منَّ الله عليه به من الكرامة: {هاؤمُ اقرؤوا كتابِيَهْ}؛
أي: دونكم كتابي فاقرؤوه؛ فإنَّه يبشِّر بالجنَّات وأنواع الكرامات ومغفرة الذُّنوب وستر العيوب، والذي أوصلني إلى هذه الحال ما منَّ الله به عليَّ من الإيمان بالبعث والحساب والاستعداد له بالممكن من العمل،
ولهذا قال: {إنِّي ظننتُ أنِّي ملاقٍ حسابِيَهْ}؛
أي: أيقنتُ؛ فالظنُّ هنا بمعنى اليقين.
#
{21 ـ 24} {فهو في عيشةٍ راضيةٍ}؛
أي: جامعة لما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين وقد رضوها ولم يختاروا عليها غيرها،
{في جنةٍ عاليةِ}؛
أي: المنازل والقصور عالية المحلِّ،
{قطوفُها دانيةٌ}؛
أي: ثمرها وجناها من أنواع الفواكه قريبةٌ سهلة التناول على أهلها، ينالها أهلُها قياماً وقعوداً ومتَّكئين،
ويقال لهم إكراماً: {كلوا واشربوا}؛
أي: من كلِّ طعام لذيذٍ وشرابٍ شهيٍّ،
{هنيئاً}؛
أي: تامًّا كاملاً من غير مكدِّرٍ ولا منغِّصٍ. وذلك الجزاء حصل لكم
{بما أسلفْتُم في الأيَّام الخالية}: من الأعمال الصالحة ـ وترك الأعمال السيِّئة ـ من صلاةٍ وصيام وصدقةٍ وحجٍّ وإحسانٍ إلى الخلق وذكر لله وإنابةٍ إليه؛ فالأعمال جعلها الله سبباً لدخول الجنة ومادَّةً لنعيمها وأصلاً لسعادتها.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}.
#
{25 ـ 29} هؤلاء هم أهل الشقاء؛ يعطَوْن كتبهم المشتملة على أعمالهم السيِّئة بشمالهم؛ تمييزاً لهم وخزياً وعاراً وفضيحةً،
فيقول أحدُهم من الهمِّ والغمِّ والحزن: {يا ليتني لم أوتَ كتابِيَهْ}؛ لأنَّه يبشر بدخول النار والخسارة الأبديَّة،
{ولم أدرِ ما حسابِيَهْ}؛
أي: ليتني كنت نسياً منسيًّا ولم أُبْعَثْ وأحاسب،
ولهذا قال: {يا ليتَها كانتِ القاضيةَ}؛
أي: يا ليت موتتي هي الموتة التي لا بَعْثَ بعدها.
ثم التفت إلى ماله وسلطانه؛ فإذا هو وبالٌ عليه لم يقدِّم منه لآخرته ولا ينفعه لو افتدى به من العذاب شيئاً ،
فيقول: {ما أغنى عنِّي مالِيَهْ}؛
أي: ما نفعني لا في الدُّنيا ـ لم أقدِّم منه شيئاً ـ ولا في الآخرة؛ قد ذهب وقت نفعه،
{هلك عني سُلطانِيَهْ}؛
أي: ذهب واضمحلَّ، فلم تنفع الجنود ولا الكثرة ولا العَدَدُ ولا العُدَدُ ولا الجاه العريض، بل ذهب ذلك كله أدراج الرياح، وفاتت بسببه المتاجر والأرباح، وحضرت بدله الهموم والغموم والأتراح.
#
{30 ـ 37} فحينئذٍ يؤمَر بعذابه،
فيقال للزَّبانية الغلاظ الشداد: {خُذوه فغُلُّوه}؛
أي: اجعلوا في عنقه غلًّا يخنقه،
{ثم الجَحيم صَلُّوه}؛
أي: قلِّبوه على جمرها ولهبها،
{ثم في سلسلةٍ ذَرْعُها سبعون ذراعاً}: من سلاسل الجحيم في غاية الحرارة،
{فاسْلُكوه}؛
أي: انظموه فيها بأن تدخل في دبره وتخرج من فمه ويعلَّق فيها فلا يزال يعذَّب هذا العذاب الفظيع؛ فبئس العذاب والعقاب، وواحسرة له من التوبيخ والعتاب؛ فإنَّ السبب الذي أوصله إلى هذا المحلِّ
{إنَّه كان لا يؤمن بالله العظيم}: بأن كان كافراً بربِّه معانداً لرسله رادًّا ما جاؤوا به من الحقِّ،
{ولا يحضُّ على طعام المسكين}؛
أي: ليس في قلبه رحمةٌ يرحم بها الفقراء والمساكين؛ فلا يطعمهم من ماله ولا يحضُّ غيره على إطعامهم؛ لعدم الوازع في قلبه،
وذلك لأنَّ مدار السعادة ومادَّتها أمران: الإخلاص لله الذي أصله الإيمان بالله، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه الإحسان، الذي من أعظمها دفع ضرورة المحتاجين بإطعامهم ما يتقوَّتون به، وهؤلاء لا إخلاص ولا إحسان؛ فلذلك استحقُّوا ما استحقُّوا.
{فليس له اليومَ ها هنا}؛
أي: يوم القيامة
{حميمٌ}؛
أي: قريب أو صديق يشفع له لينجو من عذاب الله أو يفوز بثوابه.
{ولا تنفعُ الشفاعة عندَه إلاَّ لمن أذن له}،
{ما للظالمين من حميمٍ ولا شفيع يُطاع}. وليس له
{طعامٌ إلاَّ من غِسْلينَ}: وهو صديدُ أهل النار، الذي هو في غاية الحرارة والمرارة ونتن الريح وقبح الطعم ، لا يأكل هذا الطعامَ الذميم
{إلاَّ الخاطئونَ}، الذين أخطؤوا الصراط المستقيم، وسلكوا كلَّ طريق يوصِلُهم إلى الجحيم ؛ فلذلك استحقُّوا العذاب الأليم.
{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}.
#
{38 ـ 43} أقسم تعالى بما يُبْصِرُ الخلقُ من جميع الأشياء وما لا يبصِرونه، فدخل في ذلك كلُّ الخلق، بل دخل في ذلك نفسُه المقدَّسة، على صدق الرسول بما جاء به من هذا القرآن الكريم، وأنَّ الرسول الكريم بلَّغه عن الله تعالى، ونزَّه اللهُ رسولَه عمَّا رماه به أعداؤه من أنَّه شاعرٌ أو ساحرٌ، وأنَّ الذي حملهم على ذلك عدم إيمانهم وتذكُّرهم؛ فلو آمنوا وتذكَّروا ما ينفعهم ويضرُّهم، ومن ذلك أن ينظروا في حال محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ويرمُقوا أوصافه وأخلاقه ليروا أمراً مثل الشمس يدلُّهم على أنَّه رسول الله حقًّا وأن ما جاء به
{تنزيلٌ من ربِّ العالمين}، لا يَليقُ أن يكون قولاً للبشر، بل هو كلامٌ دالٌّ على عظمة من تكلَّم به وجلالة أوصافه وكمال تربيته للخلق وعلوِّه فوق عباده. وأيضاً؛ فإنَّ هذا ظن منهم بما لا يليق بالله وحكمته.
#
{44 ـ 47} فإنه
{لو تقوَّل}: عليه وافترى
{بعض الأقاويل}: الكاذبة،
{لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتينَ}: وهو عرقٌ متصلٌ بالقلب إذا انقطع هلك منه الإنسان؛ فلو قدِّر أنَّ الرسول ـ حاشا وكلا ـ تقوَّل على الله؛ لعاجَلَه بالعقوبة وأخذَه أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ؛ لأنَّه حكيمٌ قديرٌ على كلِّ شيءٍ ؛ فحكمته تقتضي أن لا يُمْهِلَ الكاذب عليه الذي يزعم أنَّ الله أباح له دماء مَنْ خالفه وأموالهم، وأنَّه هو وأتباعه لهم النجاةُ، ومَنْ خالفَه؛ فله الهلاكُ. فإذا كان الله قد أيَّد رسوله بالمعجزات، وبرهن على صدق ما جاء به بالآيات البيِّنات، ونصره على أعدائه، ومكَّنه من نواصيهم؛ فهو أكبر شهادةٍ منه على رسالته.
وقوله: {فما منكم من أحدٍ عنه حاجزينَ}؛
أي: لو أهلكه؛ ما امتنعَ هو بنفسه ولا قَدَرَ أحدٌ أن يمنعه من عذاب الله.
#
{48} {وإنَّه}؛
أي: القرآن الكريم،
{لتذكرةٌ للمتَّقين}: يتذكَّرون به مصالح دينهم ودنياهم، فيعرفونها ويعملون عليها، يذكِّرهم العقائد الدينيَّة والأخلاق المرضيَّة والأحكام الشرعيَّة، فيكونون من العلماء الربانيِّين، والعباد العارفين، والأئمَّة المهديِّين.
#
{49} {وإنَّا لَنَعْلَمُ أنَّ منكم مكذِّبين}: به، وهذا فيه تهديدٌ ووعيدٌ للمكذِّبين، وأنَّه سيعاقِبُهم على تكذيبهم بالعقوبة البليغة.
#
{50} {وإنَّه لحسرةٌ على الكافرين}: فإنَّهم لما كفروا به ورأوا ما وَعَدَهم به؛ تحسَّروا إذ لم يهتدوا به ولم ينقادوا لأمره، ففاتهم الثواب، وحصلوا على أشدِّ العذاب، وتقطَّعت بهم الأسباب.
#
{51} {وإنَّه لحقُّ اليقين}؛
أي: أعلى مراتب العلم؛ فإنَّ أعلى مراتب العلم اليقين، وهو العلم الثابت الذي لا يتزلزل ولا يزول. واليقين مراتبه ثلاثةٌ،
كلُّ واحدة أعلى مما قبلها: أولُها علم اليقين، وهو العلمُ المستفاد من الخبر. ثم عينُ اليقين، وهو العلم المدرَك بحاسة البصر. ثم حقُّ اليقين، وهو العلم المدرَك بحاسَّة الذوق والمباشرة. وهذا القرآن بهذا الوصف؛ فإنَّ ما فيه من العلوم المؤيَّدة بالبراهين القطعيَّة وما فيه من الحقائق والمعارف الإيمانيَّة يحصُلُ به لمن ذاقه حقُّ اليقين.
#
{52} {فسبِّح باسم ربِّك العظيم}؛
أي: نزِّههُ عما لا يَليق بجلاله، وقدِّسْه بذِكْرِ أوصاف جلاله وجماله وكماله.
تم تفسير سورة الحاقة. والحمد لله رب العالمين.
* * *