آية:
تفسير سورة المدثر
تفسير سورة المدثر
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
آية: 1 - 7 #
{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)}.
# {1 ـ 2} تقدَّم أنَّ المزَّمِّل والمدَّثر بمعنى واحد، وأنَّ الله أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد في عبادات الله القاصرة والمتعدِّية، فتقدَّم هناك الأمر له بالعبادات الفاضلة القاصرة، والصبر على أذى قومه، وأمره هنا بالإعلان بالدَّعوة والصَّدْع بالإنذار، فقال: {قمْ}؛ أي: بجدٍّ ونشاطٍ {فأنذِرْ}: الناس بالأقوال والأفعال التي يحصلُ بها المقصودُ وبيانُ حال المنذَر عنه ليكون ذلك أدعى لتركه.
# {3} {وربَّك فكبِّرْ}؛ أي: عظِّمه بالتوحيد، واجعل قصدك في إنذارك وجه الله وأن يعظِّمه العباد، ويقوموا بعبادته.
# {4} {وثيابَكَ فطَهِّرْ}: يُحتمل أنَّ المراد بالثياب أعماله كلها. وبتطهيرها: تخليصها، والنُّصح بها، وإيقاعها على أكمل الوجوه، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات والمنقصات من شركٍ ورياء ونفاق وعُجْبٍ وتكبُّر وغفلةٍ وغير ذلك مما يؤمَرُ العبد باجتنابه في عباداته، ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة؛ فإنَّ ذلك من تمام التطهير للأعمال، خصوصاً في الصلاة، التي قال كثيرٌ من العلماء: إنَّ إزالة النجاسة عنها شرطٌ من شروطها. ويُحتمل أنَّ المراد بثيابه الثياب المعروفة؛ أنَّه مأمورٌ بتطهيرها عن جميع النجاسات في جميع الأوقات، خصوصاً عند الدُّخول في الصلوات.
# {5} وإذا كان مأموراً بطهارة الظَّاهر؛ فإنَّ طهارة الظاهر من تمام طهارة الباطن: {والرُّجْزَ فاهْجُرْ}: يُحتمل أنَّ المراد بالرجز الأصنام والأوثان التي عُبِدَتْ مع الله، فأمره بتركها والبراءة منها ومما نُسِبَ إليها من قول أو عمل، ويُحتمل أنَّ المرادَ بالرُّجز أعمالُ الشرِّ كلُّها وأقوالُه، فيكون أمراً له بترك الذُّنوب صغارها وكبارها ظاهرها وباطنها، فيدخل في هذا الشرك فما دونه.
# {6} {ولا تَمْنُنْ تَسْتَكثِرْ}؛ أي: لا تمنُنْ على الناس بما أسديت إليهم من النعم الدينيَّة والدنيويَّة، فتستكثر بتلك المنَّة، وترى لك الفضل عليهم ، بل أحسِنْ إلى الناس مهما أمكنك، وانْسَ عندهم إحسانَك، واطلُبْ أجرك من الله تعالى ، واجعلْ مَن أحسنتَ إليه وغيره على حدٍّ سواء. وقد قيل: إنَّ معنى هذا ألاَّ تعطي أحداً شيئاً وأنت تريدُ أن يكافِئَك عليه بأكثر منه، فيكون هذا خاصًّا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم .
# {7} {ولربِّكَ فاصْبِرْ}؛ أي: احتسبْ بصبرك واقصدْ به وجهَ الله تعالى. فامتثل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأمر ربِّه، وبادر فيه ، فأنذر الناس وأوضح لهم بالآياتِ البيناتِ جميع المطالب الإلهيَّة، وعظَّم الله تعالى، ودعا الخلق إلى تعظيمه، وطهَّر أعماله الظاهرة والباطنة من كل سوءٍ، وهجر كلَّ ما يُعْبَدُ من دون الله وما يُعْبَدُ معه من الأصنام وأهلها والشرِّ وأهله، وله المنَّة على الناس بعد منَّة الله، من غير أن يطلبَ عليهم بذلك جزاءً ولا شكوراً، وصبر لربِّه أكمل صبر: فصبر على طاعة الله، وعن معاصيه، وصبر على أقداره المؤلمة، حتى فاق أولي العزم من المرسَلين. صلواتُ الله وسلامُه عليه وعليهم أجمعين.
آية: 8 - 10 #
{فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}.
# {8 ـ 10} أي: فإذا نُفِخَ في الصُّور للقيام من القبور، وجُمِعَ الخلائق للبعث والنشور، {فذلك يومئذٍ يومٌ عسيرٌ}: لكثرة أهواله وشدائده، {على الكافرين غيرُ يسيرٍ}؛ لأنَّهم قد أيِسوا من كلِّ خيرٍ وأيقنوا بالهلاك والبَوار. ومفهومُ ذلك أنَّه على المؤمنين يسيرٌ؛ كما قال تعالى: {يقول الكافرون هذا يومٌ عَسِرٌ}.
آية: 11 - 31 #
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)}.
# {11 ـ 30} هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة ، المعاند للحقِّ، المبارز لله ولرسوله بالمحاربة والمشاقَّة، فذمَّه الله ذمًّا لم يذمَّ به غيره، وهذا جزاءُ كلِّ مَنْ عانَد الحقَّ ونابذه؛ أنَّ له الخزيَ في الدُّنيا ولَعذاب الآخرة أخزى، فقال: {ذَرْني ومَن خلقتُ وحيداً}؛ أي: خلقته منفرداً بلا مال ولا أهل ولا غيره، فلم أزل أربِّيه وأعطيه، فجعلت {له مالاً ممدوداً}؛ أي: كثيراً، {و} جعلتُ له {بنينَ}؛ أي: ذكوراً، {شهوداً}؛ أي: حاضرين عنده على الدَّوام، يتمتَّع بهم ويقضي بهم حوائِجَه ويستنصِرُ بهم، {ومهَّدْتُ له تمهيداً}؛ أي: مكَّنته من الدُّنيا وأسبابها حتى انقادَتْ له مطالِبُه وحصل له ما يشتهي ويريدُ. {ثم}: مع هذه النعم والإمدادات {يَطْمَعُ أن أزيدَ}؛ أي: يطمع أن ينال نعيم الآخرة كما نال نعيم الدنيا، {كلاَّ}؛ أي: ليس الأمر كما طمع، بل هو بخلاف مقصوده ومطلوبه، وذلك {إنَّه كان لآياتنا عنيداً}: عرفها ثم أنكرها، ودعتْه إلى الحقِّ فلم يَنْقَدْ لها، ولم يكفِهِ أنَّه أعرض عنها وتولَّى ، بل جعل يحاربُها ويسعى في إبطالها، ولهذا قال عنه: {إنَّه فَكَّر}؛ أي: في نفسه. {وقدَّر}: ما فكَّر فيه؛ ليقولَ قولاً يبطِلُ به القرآن، {فقُتِلَ كيف قدَّر. ثم قُتِلَ كيف قدَّر}؛ لأنَّه قدَّر أمراً ليس في طوره، وتسوَّر على ما لا ينالُه هو ولا أمثاله، {ثم نَظَرَ}: ما يقول، {ثم عَبَسَ وبَسَرَ}: في وجهه وظاهره نفرةً عن الحقِّ وبُغضاً له، {ثم أدبر}؛ أي: تولَّى، {واستكبر}: نتيجة سعيه الفكريِّ والعمليِّ والقوليِّ، {فقال إنْ هذا إلاَّ سحرٌ يُؤْثَرُ. إنْ هذا إلاَّ قولُ البشرِ}؛ أي: ما هذا كلام الله، بل كلام البشر، وليس أيضاً كلام البشر الأخيار، بل كلام الأشرار منهم والفجَّار من كل كاذبٍ سحَّارٍ، فتبًّا له! ما أبعده من الصواب! وأحراه بالخسارة والتَّباب! كيف يدور في الأذهان أو يتصوَّره ضميرُ أيِّ إنسان أن يكون أعلى الكلام وأعظمه كلام الربِّ الكريم الماجد العظيم يشبِهُ كلام المخلوقين الفقراء الناقصين؟! أم كيف يتجرَّأ هذا الكاذب العنيد على وصفه بهذا الوصف لكلام الله تعالى ؛ فما حقُّه إلاَّ العذاب الشديد [والنكال]، ولهذا قال تعالى: {سأُصْليه سَقَرَ. وما أدراك ما سَقَرُ. لا تُبْقي ولا تَذَرُ}؛ أي: لا تبقي من الشدَّة ولا على المعذَّب شيئاً إلا وبَلَغَتْه. {لوَّاحةٌ للبشر}؛ أي: تلوحهم وتُصليهم في عذابها وتقلقهم بشدَّة حرِّها وقَرِّها. {عليها تسعةَ عشرَ}: من الملائكة، خزنة لها، غلاظٌ شدادٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون.
# {31} {وما جعلنا أصحاب النارِ إلاَّ ملائكةً}: وذلك لشدَّتهم وقوَّتهم، {وما جعلنا عِدَّتهم إلاَّ فتنةً للذين كفروا}: يحتمل أنَّ المراد؛ إلاَّ لعذابهم وعقابهم في الآخرة ولزيادة نَكالهم فيها، والعذاب يسمَّى فتنة؛ كما قال تعالى: {يومَ هم على النَّارِ يُفْتَنونَ}. ويُحتمل أنَّ المراد أنَّا ما أخبرناكم بعدَّتهم إلاَّ لنعلم من يصدِّق ممَّن يكذِّب. ويدلُّ على هذا ما ذكره بعده في قوله: {ليستيقِنَ الذين أوتوا الكتاب ويزدادَ الذين آمنوا إيماناً}: فإنَّ أهل الكتاب إذا وافق ما عندَهم وطابَقَه؛ ازدادَ يقينُهم بالحقِّ، والمؤمنون كلَّما أنزل الله آيةً، فآمنوا بها وصدَّقوا؛ ازداد إيمانُهم، {ولا يرتابَ الذين أوتوا الكتابَ والمؤمنون}؛ أي: ليزول عنهم الريبُ والشكُّ، وهذه مقاصدُ جليلةٌ يعتني بها أولو الألباب، وهي السعي في اليقين وزيادة الإيمان في كلِّ وقتٍ وكلِّ مسألةٍ من مسائل الدين، ودفع الشكوك والأوهام التي تَعْرِضُ في مقابلة الحقِّ، فجعل ما أنزله على رسولِهِ محصِّلاً لهذه المقاصد الجليلة، ومميزاً للصادقين من الكاذبين ، ولهذا قال: {وليقولَ الذين في قلوبِهِم مرضٌ}؛ أي: شكٌّ وشبهةٌ ونفاقٌ، {والكافرون ماذا أرادَ الله بهذا مثلاً}: وهذا على وجه الحيرة والشكِّ منهم والكفر بآيات الله، وهذا وذاك من هداية الله لمن يهديه وإضلاله لمن يُضِلُّه، ولهذا قال: {كذلك يُضِلُّ الله مَن يشاءُ ويَهْدي مَن يشاءُ}: فمن هداه الله؛ جعل ما أنزل على رسوله رحمةً في حقِّه وزيادةً في إيمانه ودينه، ومن أضلَّه؛ جعل ما أنزله على رسوله زيادةَ شقاءٍ عليه وحيرةً وظلمةً في حقِّه، والواجب أن يُتَلَقى ما أخبر الله به ورسولُه بالتسليم، فإنه {لا يعلمُ جنودَ ربِّك} من الملائكة وغيرهم {إلاَّ هو}: فإذا كنتُم جاهلين بجنوده، وأخبركم بها العليم الخبير؛ فعليكم أن تصدِّقوا خبره من غير شكٍّ ولا ارتياب، {وما هي إلاَّ ذِكْرى للبشرِ}؛ أي: وما هذه الموعظة والتذكار مقصوداً به العبث واللعب، وإنما المقصود به أن يتذكَّر به البشر ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرُّهم فيتركونه.
آية: 32 - 56 #
{كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}.
# {32 ـ 34} {كلاَّ}: هنا بمعنى حقًّا، أو بمعنى ألا الاستفتاحية، فأقسم تعالى بالقمر، وبالليل وقتَ إدباره، والنهارِ وقتَ إسفاره؛ لاشتمال المذكورات على آيات الله العظيمة الدالَّة على كمال قدرةِ الله وحكمته وسعة سلطانه وعموم رحمته وإحاطة علمه.
# {35 ـ 37} والمقسَمُ عليه قوله: {إنَّها لإحدى الكُبَرِ}؛ أي: إنَّ النار لإحدى العظائم الطامَّة والأمور الهامَّة؛ فإذا أعلمناكم بها وكنتُم على بصيرةٍ من أمرها؛ فمن شاء منكم أن يتقدَّم فيعمل بما يقرِّبُه إلى الله ويُدْنيه من رضاه ويُزْلفه من دار كرامته، أو يتأخَّر عمَّا خُلِقَ له وعمَّا يحبُّه الله ويرضاه، فيعمل بالمعاصي، ويتقرَّب إلى جهنَّم؛ كما قال تعالى: {وقلِ الحقُّ من ربِّكم فَمَن شاء فَلْيُؤمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ ... } الآية.
# {38 ـ 48} {كلُّ نفس بما كسبتْ}: من أفعال الشرِّ وأعمال السوء {رهينةٌ}: بها موثقةٌ بسعيها، قد أُلْزِمَ عنقها وغُلَّ في رقبتها واستوجبت به العذاب، {إلاَّ أصحابَ اليمين}: فإنَّهم لم يرتهنوا، بل أُطلقوا وفرحوا {في جناتٍ يتساءلونَ. عن المجرمينَ}؛ أي: في جناتٍ قد حصل لهم فيها جميع مطلوباتهم وتمَّت لهم الراحةُ والطمأنينة، حتى أقبلوا يتساءلون، فأفضتْ بهم المحادثة أن سألوا عن المجرمين؛ أيُّ حال وصلوا إليها؟ وهل وَجَدوا ما وعَدَهم الله [تعالى]؟ فقال بعضهم لبعضٍ هل أنتم مُطَّلعونَ عليهم، فاطَّلعوا عليهم في وسطِ الجحيم يعذَّبون، فقالوا لهم: {ما سَلَككم في سَقَرَ}؛ أي: أيُّ شيءٍ أدخلكم فيها؟ وبأيِّ ذنبٍ اسْتَحَقيْتُموها؟ فقالوا: {لم نَكُ من المصلِّينَ. ولم نكُ نطعِمُ المسكينَ}: فلا إخلاص للمعبودِ ولا إحسانَ ولا نفع للخلق المحتاجين، {وكنَّا نخوضُ مع الخائضينَ}؛ أي: نخوض بالباطل ونجادل به الحقَّ، {وكنَّا نكذِّبُ بيوم الدِّينِ}: هذه آثار الخوض بالباطل، وهو التَّكذيب بالحقِّ، ومن أحقِّ الحقِّ يوم الدين، الذي هو محلُّ الجزاء على الأعمال وظهور مُلك الله وحُكمه العدل لسائر الخلق، فاستمرَّ عَمَلُنا على هذا المذهب الباطل {حتَّى أتانا اليقين}؛ أي: الموت، فلما ماتوا على الكفر؛ تعذَّرت حينئذٍ عليهم الحِيَلُ، وانسدَّ في وجوههم باب الأمل. {فما تَنفَعُهم شفاعةُ الشَّافعين}؛ لأنَّهم لا يشفعون إلاَّ لِمَنِ ارتضى، وهؤلاء لا يرضى الله أعمالهم.
# {49 ـ 53} فلمَّا بيَّن الله مآل المخالفين وبيَّن ما يفعل بهم؛ عطف على الموجودين بالعتاب واللوم، فقال: {فما لهم عن التَّذْكِرَةِ معرِضينَ}؛ أي: صادَّين غافلين عنها، {كأنَّهم}: في نفرتِهِم الشديدة منها {حمُرٌ مستنفرةٌ}؛ أي: [كأنّهم] حمُرُ وحشٍ نفرتْ؛ فنفَّر بعضُها بعضاً فزاد عَدْوُها، {فرَّتْ من قَسْوَرَةٍ}؛ أي: من صائدٍ ورامٍ يريدها أو من أسدٍ ونحوه، وهذا من أعظم ما يكون من النُّفور عن الحقِّ، ومع هذا النفور والإعراض يدَّعون الدَّعاوي الكبار؛ فيريد {كلُّ} واحد {منهم أن يُؤْتى صُحُفاً منشَّرةً}: نازلة عليه من السماء؛ يزعم أنَّه لا ينقاد للحقِّ؛ إلاَّ بذلك، وقد كذَّبوا؛ فإنَّهم لو جاءتهم كلُّ آيةٍ؛ لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم؛ لأنَّهم جاءتهم الآياتُ البيناتُ، التي تبيِّن الحقَّ وتوضِّحه؛ فلو كان فيهم خيرٌ؛ لآمنوا، ولهذا قال: {كلاَّ}؛ أي: لا نعطيهم ما طلبوا، وهم ما قصدوا بذلك إلاَّ التعجيز، {بل لا يخافونَ الآخرةَ}: فلو كانوا يخافونها؛ لما جرى منهم ما جرى.
# {54 ـ 56} {كلاَّ [إنَّه] تذكرةٌ}: الضمير إمَّا أن يعود على هذه السورة أو على ما اشتملتْ عليه من هذه الموعظة، {فَمَن شاء ذَكَرَهُ}: لأنَّه قد بيَّن له السبيل ووضَح له الدَّليل. {[وما يَذْكُرون] إلاَّ أن يشاءَ اللهُ}: فإنَّ مشيئة اللَّه نافذةٌ عامَّةٌ، لا يخرج عنها حادثٌ قليلٌ ولا كثيرٌ؛ ففيها ردٌّ على القدريَّة، الذين لا يُدْخِلون أفعال العباد تحت مشيئة الله، والجبريَّة، الذين يزعمون أنَّه ليس للعبد مشيئةٌ ولا فعلٌ حقيقةً، وإنَّما هو مجبور على أفعاله، فأثبت تعالى للعباد مشيئةً حقيقةً وفعلاً، وجعل ذلك تابعاً لمشيئته، و {وهو أهلُ التَّقوى وأهل المغفرةِ}؛ أي: هو أهل أن يُتَّقى ويُعبد؛ لأنَّه الإله الذي لا تنبغي العبادة إلاَّ له، وأهلٌ أن يَغْفِرَ لمن اتَّقاه واتَّبع رضاه.
تمت. ولله الحمد والمنة.
* * *