آية:
تفسير سورة القيامة
تفسير سورة القيامة
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
آية: 1 - 6 #
{لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)}.
# {1} ليست {لا} ها هنا نافية ولا زائدة، وإنَّما أتي بها للاستفتاح والاهتمام بما بعدها، ولكثرة الإتيان بها مع اليمين لا يستغرب الاستفتاح بها، وإن لم تكن في الأصل موضوعة للاستفتاح؛ فالمقسم به في هذا الموضع هو المقسَم عليه، وهو البعث بعد الموت، وقيام الناس من قبورهم، ثم وقوفهم ينتظرون ما يَحْكُمُ به الربُّ عليهم.
# {2} {ولا أقسم بالنَّفس اللَّوَّامةِ}: وهي جميع النفوس الخيِّرة والفاجرة، سميِّت لوَّامةً لكثرة تلوُّنها وتردُّدها وعدم ثبوتها على حالةٍ من أحوالها، ولأنَّها عند الموت تلوم صاحبها على ما فعلت ، بل نفسُ المؤمن تلومُ صاحبها في الدُّنيا على ما حصل منه من تفريطٍ أو تقصيرٍ في حقٍّ من الحقوق أو غفلةٍ، فجمع بين الإقسام بالجزاء وعلى الجزاء وبين مستحقِّ الجزاء.
# {3 ـ 4} ثم أخبر مع هذا أنَّ بعض المعاندين يكذِّبون بيوم القيامة، فقال: {أيحسبُ الإنسانُ أن لن نَجْمَعَ عظامَه}: بعد الموت؛ كما قال [في الآية الأخرى]: {قال مَن يُحيي العظامَ وهي رميمٌ}، فاستبعد من جهله وعدوانه قدرةَ الله على خلق عظامه التي هي عمادُ البدن، فردَّ عليه بقوله: {بلى قادرينَ على أن نُسَوِّيَ بَنانَه}؛ أي: أطراف أصابعه وعظامه، وذلك مستلزمٌ لخلق جميع أجزاء البدن؛ لأنَّها إذا وُجِدت الأنامل والبنان؛ فقد تمَّتْ خلقة الجسد.
# {5 ـ 6} وليس إنكارُه لقدرة الله تعالى قصوراً بالدَّليل الدَّالِّ على ذلك، وإنَّما وقع ذلك منه لأنَّ إرادته وقصده التكذيبُ بما أمامه من البعث. والفجور: الكذب مع التعمُّد.
ثم ذكر أحوال القيامة فقال:
آية: 7 - 15 #
{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)}.
# {7 ـ 10} أي: {فإذا} كانت القيامة؛ برقت الأبصار من الهول العظيم وشخصت فلا تطرف؛ كما قال تعالى: {إنَّما يؤخِّرُهم ليومٍ تَشْخَصُ فيه الأبصارُ. مهطِعين مُقْنِعي رؤوسهم لا يرتدُّ إليهم طرفُهم وأفئِدَتُهم هواءٌ}، {وخسف القمر}؛ أي: ذهب نورُه وسُلطانه، {وجُمِعَ الشمسُ والقمرُ}: وهما لم يجتمعا منذ خلقهما الله تعالى، فيجمع الله بينهما يوم القيامةِ، ويُخسف القمر، وتكوَّر الشمس، ثم يقذفان في النار؛ ليرى العباد أنَّهما عبدان مسخَّران، وليرى مَنْ عَبَدَهما أنَّهم كانوا كاذبين، {يقول الإنسانُ}: حين يرى تلك القلاقل المزعجات: {أين المفرُّ}؛ أي: أين الخلاص والفكاك ممَّا طرقنا وألمَّ بنا ؟
# {11 ـ 13} {كلاَّ لا وَزَرَ}؛ أي: لا ملجأ لأحدٍ دون الله، {إلى ربِّكَ يومئذٍ المستقرُّ}: لسائر العباد، فليس في إمكان أحدٍ أن يستترَ أو يهرب عن ذلك الموضع، بل لا بدَّ من إيقافه؛ ليجزى بعمله، ولهذا قال: {يُنَبَّأ الإنسانُ يومئذٍ بما قَدَّمَ وأخَّرَ}؛ أي: بجميع عمله الحسن والسيئ، في أول وقته وآخره، وينبَّأ بخبرٍ لا ينكِرُه.
# {14 ـ 15} {بل الإنسانُ على نفسِهِ بصيرةٌ}؛ أي: شاهدٌ ومحاسبٌ، {ولو ألقى معاذيرَةُ}: فإنَّها معاذيرُ لا تُقبل، بل يقرَّر بعمله ، فَيُقِرُّ به؛ كما قال تعالى: {اقرأ كتابَكَ كفى بنفسِكَ اليوم عليك حَسيباً}: فالعبدُ وإن أنكر أو اعتذر عمَّا عمله؛ فإنكارُه واعتذارُه لا يفيدانه شيئاً؛ لأنَّه يشهد عليه سمعُه وبصره وجميعُ جوارحه بما كان يعمل، ولأنَّ استعتابه قد ذهب وقتُه وزال نفعُه، {فيومئذٍ لا ينفعُ الذين ظلموا معذِرَتُهم ولا هم يُسْتَعْتَبونَ}.
آية: 16 - 19 #
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}.
# {16 ـ 19} كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه جبريلُ بالوحي وشرع في تلاوته [عليه]؛ بادَرَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الحرص قبل أن يفرغ، وتلاه مع تلاوة جبريل إيَّاه ، فنهاه الله عن ذلك، وقال: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه}: وقال هنا: {لا تُحرِّكَ به لسَانَكَ لِتَعْجَلَ به}. ثم ضمن له تعالى أنَّه لا بدَّ أن يحفظَه ويقرأه ويجمعه الله في صدره، فقال: {إنَّ علينا جمعَه وقرآنَه}؛ فالحرص الذي في خاطرك إنَّما الداعي له حذر الفوات والنسيان؛ فإذا ضَمِنَه الله لك؛ فلا موجب لذلك، {فإذا قَرَأناه فاتَّبِعْ قرآنه}؛ أي: إذا أكمل جبريلُ ما يوحى إليك ؛ فحينئذٍ اتَّبع ما قرأه فاقرأه ، {ثمَّ إنَّ علينا بيانه}؛ أي: بيان معانيه. فوعده بحفظ لفظه وحفظ معانيه، وهذا أعلى ما يكون، فامتثل - صلى الله عليه وسلم - لأدب ربِّه، فكان إذا تلا عليه جبريلُ القرآن بعد هذا؛ أنصتَ له؛ فإذا فرغ؛ قرأه. وفي هذه الآية أدبٌ لأخذ العلم: أن لا يبادر المتعلِّم للعلم قبل أن يفرغ المعلِّم من المسألة التي شرع فيها؛ فإذا فرغ منها؛ سأله عمَّا أشكل عليه. وكذلك إذا كان في أول الكلام ما يوجب الردَّ أو الاستحسان أن لا يبادِرَ بردِّه أو قَبوله قبل الفراغ من ذلك الكلام؛ ليتبيَّن ما فيه من حقٍّ أو باطل، وليفهمه فهماً يتمكَّن فيه من الكلام فيه على وجه الصواب. وفيها أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كما بيَّن للأمَّة ألفاظ الوحي؛ فإنَّه قد بيَّن لهم معانيه.
آية: 20 - 25 #
{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}
# {20 ـ 21} أي: هذا الذي أوجب لكم الغفلة والإعراض عن وعظ الله وتذكيره أنَّكم {تحبُّونَ العاجلةَ}، وتسعون فيما يحصِّلها وفي لذَّاتها وشهواتها، وتؤثرونها على الآخرة، فتذرون العمل لها؛ لأنَّ الدُّنيا نعيمها ولذاتها عاجلة، والإنسان مولعٌ بحبِّ العاجل، والآخرة متأخِّر ما فيها من النعيم المقيم؛ فلذلك غفلتم عنها وتركتُموها كأنَّكم لم تُخلقوا لها وكأنَّ هذه الدار هي دار القرار التي تُبْذَلُ فيها نفائس الأعمار ويُسعى لها آناء الليل والنهار، وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة، وحصل من الخسار ما حصل؛ فلو آثرتُم الآخرة على الدُّنيا ونظرتم العواقب نظر البصير العاقل؛ لأنجحتم وربحتم ربحاً لا خسار معه، وفزتم فوزاً لا شقاء يصحبه.
# {22 ـ 23} ثم ذكر ما يدعو إلى إيثار الآخرة ببيان حال أهلها وتفاوتهم فيها، فقال في جزاء المؤثرين للآخرة على الدُّنيا: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ}؛ أي: حسنة بهيَّة لها رونقٌ ونورٌ مما هم فيه من نعيم القلوب وبهجة النفوس ولذَّة الأرواح، {إلى ربِّها ناظرةٌ}؛ أي: ينظرون إلى ربِّهم على حسب مراتبهم؛ منهم مَنْ ينظره كلَّ يوم بكرةً وعشيًّا، ومنهم من ينظره كلَّ جمعة مرةً واحدةً، فيتمتَّعون بالنَّظر إلى وجهه الكريم وجماله الباهر الذي ليس كمثله شيءٌ؛ فإذا رأوه؛ نسوا ما هم فيه من النعيم، وحصل لهم من اللَّذَّة والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، ونضرت وجوهُهم، فازدادوا جمالاً إلى جمالهم، فنسأل الله الكريم أن يجعَلنَا معهم.
# {24 ـ 25} وقال في المؤثرين العاجلة على الآجلة، [و] {وجوهٌ يومئذٍ باسرةٌ}؛ أي: معبسةٌ كدرةٌ خاشعةٌ ذليلةٌ، {تظنُّ أن يُفْعَلَ بها فاقرةٌ}؛ أي: عقوبةٌ شديدةٌ وعذابٌ أليمٌ؛ فلذلك تغيَّرت وجوههم وعبست.
آية: 26 - 40 #
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}
# {26 ـ 30} يَعِظُ تعالى عبادَه بذكر المحتضر حال السياق ، وأنَّه إذا بلغت روحه {التراقي}: وهي العظام المكتنفة لثُغْرَةِ النَّحر؛ فحينئذٍ يشتدُّ الكربُ، ويطلب كلَّ وسيلةٍ وسببٍ يظنُّ أن يحصل به الشفاء والراحة، ولهذا قال: {وقيلَ مَنْ راقٍ}؛ أي: من يرقيه، من الرُّقية؛ لأنَّهم انقطعت آمالهم من الأسباب العاديَّة، فتعلَّقوا بالأسباب الإلهيَّة ، ولكنَّ القضاء والقدر إذا حتم وجاء؛ فلا مردَّ له، {وظنَّ أنَّه الفراقُ}: للدنيا، {والتفَّتِ السَّاقُ بالسَّاق}؛ أي: اجتمعت الشدائد والتفَّت، وعظُم الأمر، وصعُب الكرب، وأريد أن تخرجَ الرُّوح من البدن الذي ألفته ولم تزل معه، فتساق إلى الله تعالى ليجازيها بأعمالها ويقرِّرها بفعالها؛ فهذا الزجر الذي ذكره الله يسوقُ القلوب إلى ما فيه نجاتُها ويزجُرُها عمَّا فيه هلاكها.
# {31 ـ 33} ولكنَّ المعاند الذي لا تنفع فيه الآياتُ لا يزال مستمرًّا على غيِّه وكفره وعناده، {فلا صدَّقَ}؛ أي لا آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه، {ولا صلَّى. ولكن كذَّبَ}: بالحقِّ في مقابلة التصديق، {وتولَّى}: عن الأمر والنَّهي، هذا وهو مطمئنٌّ قلبهُ غير خائفٍ من ربِّه، بل {ذهب إلى أهله يَتَمَطَّى}؛ أي: ليس على بَالِه شيءٌ.
# {34 ـ 35} ثم توعَّده بقوله: {أولى لك فأولى. ثم أولى لك فأولى}: وهذه كلماتُ وعيدٍ؛ كرَّرها لتكرير وعيدِهِ.
# {36 ـ 40} ثم ذكَّر الإنسان بخَلْقِهِ الأوَّل، فقال: {أيحسبُ الإنسانُ أن يُتْرَكَ سُدىً}؛ أي: مهملاً لا يؤمر ولا ينهى ولا يُثاب ولا يعاقب؟ هذا حسبانٌ باطلٌ وظنٌّ بالله غير ما يليق بحكمته. {ألم يكُ نطفةً مِن مَنِيٍّ يُمْنى. ثمَّ كان}: بعد المنيِّ {علقةً}؛ أي: دماً، {فَخَلَقَ}: الله منها الحيوان، وسواه؛ أي: أتقنه وأحكمه، {فجعل منه الزوجين الذَّكر والأنثى. أليس ذلك}؛ أي: الذي خلق الإنسان وطوَّره إلى هذه الأطوار المختلفة {بقادرٍ على أن يُحْيِيَ الموتى؟}: بلى إنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
تم تفسير سورة القيامة. والحمد لله ربِّ العالمين. وصلى الله على محمدٍ وسلَّم.
* * *