وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)}.
#
{1 ـ 4} يقول تعالى مبيِّناً لجهل المعاندين واستعجالهم لعذاب الله استهزاءً وتعنُّتاً وتعجيزاً:
{سأل سائلٌ} أي: دعا داعٍ واستفتح مستفتح،
{بعذابٍ واقعٍ للكافرينَ}: لاستحقاقهم له بكفرِهم وعنادِهم.
{ليس له دافع من الله}؛
أي: ليس لهذا العذاب الذي استعجلَ به مَنِ استعجلَ من متمرِّدي المشركين أحدٌ يدفعه قبل نزوله أو يرفعه بعد نزوله، وهذا حين دعا النَّضْر بن الحارث القرشيُّ أو غيره من المكذِّبين ،
فقال: {اللهمَّ إنْ كان هذا هو الحقَّ من عندِكَ فأمطِرْ علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم ... } [إلى آخر الآيات]؛ فالعذابُ لا بدَّ أن يقع عليهم من الله؛ فإمَّا أن يُعَجَّلَ لهم في الدُّنيا، وإمَّا أن يُدَّخَرَ لهم في الآخرة؛ فلو عرفوا الله وعرفوا عظمته وسعة سلطانه وكمال أسمائِهِ وصفاتِهِ؛ لما استعجلوا، ولاستسلموا وتأدَّبوا، ولهذا ذكر تعالى من عظمته ما يضادُّ أقوالهم القبيحة،
فقال: {ذي المعارج. تَعْرُجُ الملائكةُ والرُّوح إليه}؛
أي: ذي العلوِّ والجلال والعظمة والتَّدبير لسائر الخلق، الذي تَعْرُجُ إليه الملائكة بما جعلها على تدبيره، وتَعْرُجُ إليه الرُّوح، وهذا اسم جنس يشمل الأرواح كلَّها؛ بَرَّها وفاجِرَها، وهذا عند الوفاة، فأمَّا الأبرار؛ فتعرج أرواحُهم إلى الله، فيؤذن لهم من سماءٍ إلى سماءٍ، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها اللهُ عزَّ وجلَّ، فتحيي ربَّها وتسلِّم عليه وتحظى بقربه، وتبتهج بالدنوِّ منه، ويحصُلُ لها منه الثناء والإكرام والبرُّ والإعظام، وأمَّا أرواحُ الفجَّار؛ فتعرج، فإذا وصلت إلى السماء؛ استأذنتْ، فلا يؤذَنُ لها، وأعيدت إلى الأرض.
ثم ذكر المسافةَ التي تَعْرُجُ فيها الملائكةُ والرُّوح إلى الله، وأنَّها تعرج في يوم بما يَسِّر لها من الأسباب وأعانها عليه من اللَّطافة والخفَّة وسرعة السير، مع أنَّ تلك المسافة على السير المعتاد مقدار خمسين ألف سنةٍ، من ابتداء العروج إلى وصولها ما حُدَّ لها، وما تنتهي إليه من الملأ الأعلى؛ فهذا المُلْك العظيم والعالم الكبير علويُّه وسفليُّه جميعه قد تولَّى خلقه وتدبيره العليُّ الأعلى، فعلم أحوالهم الظاهرة والباطنة،
[وَعَلِمَ] مستقرَّهم ومستودَعَهم، وأوصلهم من رحمته وبرِّه وإحسانه ما عمَّهم وشَمَلَهم، وأجرى عليهم حكمه القدريَّ وحكمه الشرعيَّ وحكمه الجزائيَّ؛ فبؤساً لأقوام جهلوا عظمته ولم يقدروه حقَّ قدره، فاستعجلوا بالعذاب على وجه التعجيز والامتحان. وسبحان الحليم الذي أمهلهم وما أهملهم، وآذَوْه فصبر عليهم وعافاهم ورَزَقَهم!
هذا أحدُ الاحتمالات في تفسير هذه الآية الكريمة، فيكون هذا العروجُ والصعودُ في الدنيا؛ لأنَّ السِّياق الأول يدلُّ عليه. ويُحتمل أنَّ هذا في يوم القيامةِ، وأنَّ الله
[تبارك و] تعالى يظهِرُ لعباده في يوم القيامةِ من عظمته وجلاله وكبريائه، ما هو أكبر دليل على معرفتِهِ مما يشاهدونه من عروج الأملاك والأرواح، صاعدةً ونازلةً بالتدابير الإلهيّة والشؤون الربَّانيَّة في ذلك اليوم الذي مقداره خمسين ألف سنة من طوله وشدَّته، لكنَّ الله تعالى يخفِّفه على المؤمن.
#
{5 ـ 7} وقوله:
{فاصْبِرْ صبراً جميلاً}؛
أي: اصبر على دعوتك لقومك صبراً جميلاً، لا تَضَجُّرَ فيه ولا ملل، بل استمرَّ على أمر الله، وادعُ عباده إلى توحيده، ولا يمنعْك عنهم ما ترى من عدم انقيادهم وعدم رغبتهم؛ فإنَّ في الصَّبر على ذلك خيراً كثيراً.
{إنَّهم يرونَه بعيداً ونراه قريباً}: الضمير يعود إلى البعث الذي فيه عذابُ السائلين بالعذاب؛
أي: إنَّ حالهم حال المنكر له، والذي غلبت عليه الشِّقْوة والسكرة، حتى تباعد جميع ما أمامه من البعث والنشور، والله يراه قريباً؛ لأنَّه رفيقٌ حليمٌ لا يَعْجَلُ، ويعلم أنَّه لا بدَّ أن يكون، و
[كلُّ] ما هو آتٍ فهو قريبٌ.
ثم ذكر أهوال ذلك اليوم وما [يكون] فيه، فقال:
{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}.
#
{8 ـ 9} أي:
{يوم} القيامة تقع فيه هذه الأمور العظيمة
{تكونُ السماءُ كالمُهْل}: وهو الرصاص المذاب من تشقُّقها وبلوغ الهول منها كلَّ مبلغ،
{وتكونُ الجبالُ كالعِهْن}: وهو الصوف المنفوش، ثم تكون بعد ذلك هباءً منثوراً فتضمحلُّ.
#
{10 ـ 14} فإذا كان هذا الانزعاج والقلق لهذه الأجرام الكبيرة الشديدة؛ فما ظنُّك بالعبد الضعيف الذي قد أثقل ظهره بالذنوب والأوزار؟! أليس حقيقياً أن ينخلِعَ قلبُه و
[ينزعجَ] لبُّه ويذهلَ عن كلِّ أحدٍ؟
! ولهذا قال: {ولا يسألُ حميمٌ حميماً يُبَصِّرونَهم}؛
أي: يشاهدُ الحميمُ ـ وهو القريب ـ حميمَه؛ فلا يبقى في قلبه متَّسع لسؤاله عن حاله ولا فيما يتعلَّق بعشرتهم ومودَّتهم ولا يهمُّه إلاَّ نفسُه.
{يودُّ المجرِمُ}: الذي حقَّ عليه العذاب
{لو يفتدي من عذاب يومِئِذٍ ببنيهِ. وصاحبتِهِ}؛
أي: زوجته،
{وأخيه. وفصيلته}؛
أي: قرابته،
{التي تُؤْويه}؛
أي: التي جرت عادتها في الدنيا أن تتناصَرَ ويعينَ بعضها بعضاً؛ ففي
[يوم] القيامةِ لا ينفع أحدٌ أحداً، ولا يشفع أحدٌ إلاَّ بإذن الله، بل لو يفتدي المجرمُ المستحقُّ للعذاب بجميع ما في الأرض ثم ينجيه ذلك؛ لم ينفعه.
#
{15 ـ 18} {كلاَّ}؛
أي: لا حيلة ولا مناص لهم، قد حقَّت عليهم كلمةُ ربِّك ، وذهب نفعُ الأقارب والأصدقاء،
{إنَّها لظى. نزاعةً للشَّوى}؛
أي: النار التي تتلظَّى تنزِعُ من شدَّتها للأعضاء الظاهرة والباطنة ،
{تَدْعو}: إلى نفسها
{مَنْ أدْبَرَ وتَوَلَّى. وجَمَعَ فأوْعى}؛
أي: أدبر عن اتِّباع الحقِّ، وأعرض عنه؛ فلا غرض له فيه ، وجمع الأموال بعضها فوق بعض، وأوعاها فلم ينفِقْ منها ما ينفعه ويدفع عنه النار؛ فالنار تدعو هؤلاء إلى نفسها ، وتستعدُّ للالتهاب بهم.
{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}.
#
{19 ـ 21} وهذا الوصف للإنسان من حيث هو؛ ووَصَفَ طبيعتَه
[الأصليةَ] أنَّه هلوعٌ،
وفسَّر الهَلوعَ بقوله: {إذا مسَّه الشَّرُّ جزوعاً}: فيجزع إن أصابه فقرٌ أو مرضٌ أو ذهابُ محبوبٍ له من مال أو أهل أو ولدٍ، ولا يستعمل في ذلك الصبر والرِّضا بما قضى الله،
{وإذا مسَّه الخير منوعاً}: فلا يُنْفِقُ مما آتاه الله، ولا يشكر الله على نعمه وبرِّه فيجزع في الضَّراء ويمنع في السَّراء.
#
{22 ـ 23} {إلاَّ المصلِّين}: الموصوفين بتلك الأوصاف؛ فإنَّهم إذا مسَّهم الخير؛ شكروا الله وأنفقوا مما خوَّلهم
[الله]، وإذا مسَّهم الشرُّ؛ صبروا واحتسبوا.
وقوله في وصفهم: {الذين هم على صلاتهم دائمونَ}؛
أي: مداومون عليها في أوقاتها بشروطها ومكمِّلاتها، وليسوا كمن لا يفعلها، أو يفعلها وقتاً دون وقتٍ، أو يفعلها على وجهٍ ناقص.
#
{24 ـ 25} {والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ}: من زكاة وصدقة،
{للسائل}: الذي يتعرَّض للسؤال،
{والمحروم}: وهو المسكين الذي لا يسألُ الناس فيعطوه ولا يفطنُ له فيتصدَّق عليه.
#
{26} {والذين يصدِّقون بيوم الدين}؛
أي: يؤمنون بما أخبر به وأخبرت به الرسلُ من الجزاء والبعث، ويتيقَّنون ذلك، فيستعدُّون للآخرة، ويَسْعَوْن لها سعيها. والتصديق بيوم الدين يلزم منه التصديق بالرسل وبما جاؤوا به من الكتب.
#
{27 ـ 28} {والذين هم من عذاب ربِّهم مشفِقون}؛
أي: خائفون وجِلون، فيتركون لذلك كلَّ ما يقرِّبهم من عذاب الله.
{إنَّ عذاب ربِّهم غيرُ مأمونٍ}؛
أي: هو العذاب الذي يُخشى ويُحذر.
#
{29 ـ 31} {والذين هم لفروجهم حافظون}: فلا يطؤون بها وطئاً محرماً من زنا أو لواطٍ أو وطءٍ في دُبُرٍ أو حيضٍ ونحو ذلك، ويحفظونها أيضاً من النظر إليها ومسِّها ممَّن لا يجوز له ذلك، ويتركون أيضاً وسائل المحرَّمات الداعية لفعل الفاحشة،
{إلا على أزواجهم أو ما ملكتْ أيمانُهم}؛
أي: سُرِّيَّاتهم،
{فإنَّهم غير ملومين}: في وطئهنَّ في المحلِّ الذي هو محلُّ الحرثِ.
{فمنِ ابتغى وراء ذلك}؛
أي: غير الزوجة وملك اليمين،
{فأولئك هم العادون}؛
أي: المتجاوزون ما أحل الله إلى ما حرم الله. ودلَّت هذه الآية على تحريم نكاح المتعة؛ لكونها غير زوجةٍ مقصودةٍ ولا ملك يمينٍ.
#
{32} {والذين هم لأماناتهم وعهدِهِم راعونَ}؛
أي: مراعون لها حافظون مجتهدون على أدائها والوفاء بها، وهذا شاملٌ لجميع الأمانات التي بين العبد وبين ربِّه؛ كالتكاليف السِّرِّيَّة التي لا يطَّلع عليها إلاَّ اللهُ، والأمانات التي بيْن العبد وبيْن الخلق في الأموال والأسرار، وكذلك العهد شاملٌ للعهد الذي عاهد عليه الله، والعهد الذي عاهد الخلق عليه ؛ فإنَّ العهد يُسأل عنه العبد؛ هل قام به ووفَّاه أم رفضه وخانه فلم يقم به.
#
{33} {والذين هم بشهادتهم قائمونَ}؛
أي: لا يشهدون إلاَّ بما يعلمونه من غير زيادةٍ ولا نقصٍ ولا كتمانٍ، ولا يحابي فيها قريباً ولا صديقاً ونحوه، ويكون القصد بإقامتها وجه الله؛
قال تعالى: {وأقيموا الشهادةَ لله}،
{يا أيُّها الذين آمنوا كونوا قوَّامينَ بالقِسطِ شهداءَ لله ولو على أنفسِكُم أوِ الوالِدَيْن والأقربين}.
#
{34} {والذين هم على صلاتهم يحافظون}: بالمداومة عليها على أكمل الوجوه.
#
{35} {أولئك}؛
أي: الموصفون بتلك الصفات،
{في جناتٍ مُكْرَمون}؛
أي: قد أوصل الله لهم من الكرامة والنعيم المقيم، ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وهم فيها خالدون.
وحاصل هذا أنَّ الله وصف أهل السعادة والخير بهذه الأوصاف الكاملة والأخلاق المرضيَّة الفاضلة من العبادات البدنيَّة؛ كالصلاة والمداومة عليها، والأعمال القلبيَّة؛ كخشية الله الداعية لكلِّ خير، والعبادات الماليَّة، والعقائد النافعة، والأخلاق الفاضلة؛ ومعاملة الله ومعاملة خلقِهِ أحسن معاملةٍ؛ من إنصافهم وحفظ حقوقهم وأماناتهم والعفَّة التامَّة بحفظ الفروج عمَّا يكرهه الله تعالى.
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)}.
#
{36 ـ 39} يقول تعالى مبيناً اغترار الكافرين:
{فمال الذين كَفَروا قِبَلَكَ مُهْطِعينَ}؛
أي: مسرعين،
{عن اليمين وعن الشمال عِزينَ}؛
أي: قطعاً متفرِّقة وجماعاتٍ متنوِّعة ، كلٌّ منهم بما لديه فرحٌ.
{أيطمعُ كلُّ امرئٍ منهم أن يُدْخَلَ جنَّةَ نعيم}؛ أيُّ سببٍ أطمعهم وهم لم يقدِّموا سوى الكفر والجحود لربِّ العالمين؟
! ولهذا قال: {كلاَّ}: أي: ليس الأمر بأمانيهم ولا إدراك ما يشتهون بقوَّتهم،
{إنَّا خلَقْناهم ممَّا يعلمونَ}؛
أي: من ماء دافقٍ يخرج من بين الصُّلب والترائب؛ فهم ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}.
#
{40 ـ 41} هذا إقسامٌ منه تعالى بالمشارق والمغارب للشمس والقمر والكواكب؛ لما فيها من الآيات الباهرات على البعث وقدرته على تبديل أمثالهم وهم بأعيانهم؛
كما قال تعالى: {وننشِئُكم فيما لا تعلمونَ}.
{وما نحنُ بمسبوقينَ}؛
أي: ما أحدٌ يسبقنا ويفوتنا ويعجِزُنا إذا أردنا أن نعيدَه.
#
{42} فإذا تقرَّر البعث والجزاء، واستمرُّوا على تكذيبهم وعدم انقيادهم لآيات الله؛
{فذَرْهم يخوضوا ويلعبوا}؛
أي: يخوضوا بالأقوال الباطلة والعقائد الفاسدة، ويلعبوا بدينهم، ويأكلوا ويشربوا ويتمتَّعوا،
{حتَّى يلاقوا يومَهُمُ الذي يوعدونَ}: فإنَّ الله قد أعدَّ لهم فيه من النَّكال والوبال ما هو عاقبةُ خوضهم ولعبهم.
#
{43 ـ 44} ثم ذكر حال الخلق حين يلاقون اليوم الذي يوعدون،
فقال: {يوم يَخْرُجونَ من الأجداثِ}؛
أي: القبور
{سراعاً}: مجيبين لدعوة الداعي مهطِعين إليها،
{كأنَّهم إلى نُصُبٍ يوفِضونَ}؛
أي: كأنَّهم إلى علم يَؤُمُّون ويقصدون؛ فلا يتمكَّنون من الاستعصاء على الدَّاعي ولا الالتواء عن نداء المنادي ، بل يأتون أذلاَّء مقهورين للقيام بين يدي ربِّ العالمين،
{خاشعةً أبصارُهم ترهَقُهم ذِلَّةٌ}: وذلك أنَّ الذِّلَّة والقلق قد ملك قلوبهم، واستولى على أفئدتهم، فخشعتْ منهم الأبصار، وسكنتِ
[منهم] الحركاتُ، وانقطعت الأصوات. فهذه الحال والمآل هو يومهم
{الذي كانوا يوعدون}: ولا بدَّ من الوفاء بوعد الله.
تمت. والحمد لله.