وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)}.
#
{2} هذا ثناءٌ منه تعالى على كتابه العزيز وتعظيمٌ له، وفي ضمن ذلك إرشادُ العباد إلى الاهتداء بنوره والإقبال على تدبُّر آياته واستخراج كنوزِهِ.
#
{3} ولمَّا بيَّن إنزال كتابه المتضمِّن للأمر والنهي؛ ذكر خلقه السماواتِ والأرض، فجمع بين الخَلْق والأمر،
{ألا له الخلقُ والأمر}؛
كما قال تعالى: {الله الذي خَلَقَ سبع سماواتٍ ومن الأرض مِثْلَهُنَّ يتنزَّلُ الأمرُ بينَهُنَّ}،
وكما قال تعالى: {ينزِّلُ الملائكة بالرُّوح من أمرِهِ على مَن يشاءُ من عبادِهِ أنْ أنذِروا أنَّه لا إله إلا أنا فاتَّقونِ. خلقَ السمواتِ والأرض بالحقِّ}؛ فالله تعالى هو الذي خَلَقَ المكلَّفين، وخلق مساكِنَهم، وسخَّر لهم ما في السماوات وما في الأرض، ثم أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كُتُبَه، وأمرهم ونهاهم، وأخبرهم أنَّ هذه الدارَ دارُ أعمال وممرٌّ للعمال، لا دار إقامة لا يرحلُ عنها أهلُها، وهم سينتقلون منها إلى دار الإقامة والقرارة وموطن الخلود والدوام، وإنَّما أعمالُهم التي عملوها في هذه الدار سيجدون ثوابها في تلك الدار كاملاً موفَّراً، وأقام تعالى الأدلَّة الدالَّة على تلك الدار، وأذاق العباد نموذجاً من الثواب والعقاب العاجل؛ ليكون أدعى لهم إلى طلب المحبوب والهرب من المرهوب،
ولهذا قال هنا: {ما خَلَقْنا السمواتِ والأرضَ وما بينهما إلاَّ بالحقِّ}؛
أي: لا عبثاً ولا سدىً، بل ليعرف العبادُ عظمة خالقهما، ويستدلُّوا على كماله، ويعلموا أنَّ الذي خلقهما على عظمهما قادرٌ على أن يعيدَ العباد بعد موتِهِم للجزاء، وأنَّ خلقهما وبقاءهما مقدرٌ إلى أجل مسمًّى.
فلما أخبر بذلك، وهو أصدق القائلين، وأقام الدليل، وأنار السبيل؛ أخبر مع ذلك أنَّ طائفةً من الخلق قد أبوا إلا إعراضاً عن الحقِّ وصدوفاً عن دعوة الرسل،
فقال: {والذين كفروا عمَّا أُنذروا معرضون}. وأمَّا الذين آمنوا؛ فلمَّا علموا حقيقة الحال؛ قبلوا وصايا ربِّهم، وتلقَّوْها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالانقياد والتعظيم، ففازوا بكلِّ خير، واندفع عنهم كلُّ شرٍّ.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)}.
#
{4} أي:
{قل}: لهؤلاء الذين أشركوا بالله أوثاناً وأنداداً لا تملك نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، قل لهم مبيناً عجز أوثانهم،
وأنَّها لا تستحقُّ شيئاً من العبادة: {أروني ماذا خَلَقوا من الأرض أمْ لهم شِرْكٌ في السمواتِ}: هل خلقوا من أجرام السماوات والأرض شيئاً؟ هل خلقوا جبالاً؟ هل أجْرَوْا أنهاراً؟ هل نشروا حيواناً؟ هل أنبتوا أشجاراً؟ هل كان منهم معاونةٌ على خلق شيءٍ من ذلك؟ لا شيء من ذلك بإقرارهم على أنفسهم فضلاً عن غيرهم. فهذا دليلٌ عقليٌّ قاطعٌ على أنَّ كلَّ من سوى الله؛ فعبادتُه باطلةٌ.
ثم ذكر انتفاء الدليل النقليِّ،
فقال: {ائتوني بكتابٍ من قبل هذا}: الكتاب، يدعو إلى الشرك،
{أو أثارةٍ من علم}: موروث عن الرسل يأمر بذلك. من المعلوم أنَّهم عاجزون أن يأتوا عن أحدٍ من الرسل بدليل يدلُّ على ذلك، بل نجزم ونتيقَّن أنَّ جميع الرسل دَعَوْا إلى توحيد ربِّهم ونَهَوْا عن الشرك به، وهي أعظم ما يؤثَر عنهم من العلم؛
قال تعالى: {ولقد بَعَثْنا في كلِّ أمةٍ رسولاً أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوتَ}،
وكلُّ رسول قال لقومه: {اعبُدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرُه}، فعُلِمَ أنَّ جدال المشركين في شركهم غير مستندين على برهانٍ ولا دليل، وإنَّما اعتمدوا على ظنونٍ كاذبةٍ وآراءٍ كاسدةٍ وعقولٍ فاسدةٍ، يدلك على فسادها استقراء أحوالهم وتتبُّع علومهم وأعمالهم والنظرُ في حال من أفْنَوْا أعمارهم بعبادته؛ هل أفادهم شيئاً في الدُّنيا أو في الآخرة.
#
{5 ـ 6} ولهذا قال تعالى:
{ومن أضلُّ ممَّن يدعو من دونِ الله من لا يستجيبُ له إلى يوم القيامةِ}؛
أي: مدة مقامه في الدنيا لا ينتفع به مثقال ذرَّة،
{وهم عن دعائهم غافلون}: لا يسمعون منهم دعاءً ولا يجيبون لهم نداءً. هذا حالهم في الدُّنيا، ويوم القيامة يكفرون بشرككم، وإذا حُشِرَ الناس كانوا لهم أعداء يلعن بعضُهم بعضاً، ويتبرأ بعضُهم من بعض وكانوا بعبادتهم كافرين.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)}
#
{7} أي:
{وإذا تُتْلى}: على المكذِّبين
{آياتُنا بيناتٍ}: بحيث تكون على وجهٍ لا يُمترى بها، ولا يشكُّ في وقوعها وحقِّها؛ لم تفِدْهم خيراً، بل قامت عليهم بذلك الحجة، ويقولون من إفكهم وإفترائهم
{للحقِّ لمَّا جاءهم هذا سحرٌ مبينٌ}؛
أي: ظاهرٌ لا شكَّ فيه. وهذا من باب قلب الحقائق، الذي لا يروجُ إلاَّ على ضعفاء العقول، وإلاَّ؛ فبين الحقِّ الذي جاء به الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - وبين السحر من المنافاة والمخالفة أعظم ممَّا بين السماء والأرض، وكيف يقاسُ الحقُّ ـ الذي علا وارتفع ارتفاعاً علا على الأفلاك، وفاق بضوئه ونوره نور الشمس، وقامت الأدلَّة الأفقيَّة والنفسيَّة عليه، وأقرَّت به، وأذعنت أولو البصائر والعقول الرزينة بالباطل الذي هو السحرُ الذي لا يصدُرُ إلاَّ من ضالٍّ ظالمٍ خبيث النفس خبيث العمل؛ فهو مناسبٌ له وموافقٌ لحاله؟! وهل هذا إلاَّ من البهرجة؟!
#
{8} {أم يقولون افتراه}؛
أي: افترى محمدٌ هذا القرآن من عند نفسه؛ فليس من عند الله،
{قل} لهم:
{إن افتريتُهُ}؛ فالله عليَّ قادرٌ وبما تفيضون فيه عالمٌ؛ فكيف لم يعاقبني على افترائي الذي زعمتم؛ فهل
{تملِكون لي من الله شيئاً}: إنْ أرادني الله بضرٍّ أو أرادني برحمةٍ؟
{كفى به شهيداً بيني وبينَكم}: فلو كنت متقولاً عليه؛ لأخذ مني باليمين، ولعاقبني عقاباً يراه كلُّ أحدٍ؛ لأنَّ هذا أعظم أنواع الافتراء لو كنت متقوِّلاً. ثم دعاهم إلى التوبة مع ما صدر منهم من معاندة الحقِّ ومخاصمته،
فقال: {وهو الغفورُ الرحيم}؛
أي: فتوبوا إليه، وأقلعوا عما أنتم فيه يغفر لكم ذنوبكم، ويرحمكم فيوفقكم للخير، ويثيبكم جزيل الأجر.
#
{9} {قلْ ما كنتُ بدعاً من الرُّسل}؛
أي: لست بأول رسول جاءكم حتى تستغربوا رسالتي وتستنكروا دعوتي؛ فقد تقدَّم من الرسل والأنبياء من وافقت دعوتي دعوتهم؛ فلأيِّ شيء تنكرون رسالتي؟!
{وما أدري ما يُفْعَلُ بي ولا بكم}؛
أي: لست إلاَّ بشراً، ليس بيدي من الأمر شيء، والله تعالى
[هو] المتصرِّفُ بي وبكم، الحاكم عليَّ وعليكم، ولست آتي بالشيء من عندي.
{وما أنا إلاَّ نذيرٌ مبينٌ}: فإنْ قبلتُم رسالتي وأجبتُم دعوتي؛ فهو حظُّكم ونصيبُكم في الدُّنيا والآخرة، وإن رددتُم ذلك عليَّ؛ فحسابُكم على الله، وقد أنذرْتكم، ومن أنذر فقد أعذر.
#
{10} {قل أرأيتُم إن كان من عندِ الله وكفرتُم به وشَهِدَ شاهدٌ من بني إسرائيل على مثلِهِ فآمن واستكبرتُم}؛
أي: أخبروني لو كان هذا القرآن من عند الله، وشهد على صحَّته الموفَّقون من أهل الكتاب، الذين عندهم من الحقِّ ما يعرفون أنَّه الحقُّ، فآمنوا به واهتدَوْا، فتطابقتْ أنباء الأنبياء وأتباعهم النبلاء واستكبرتُم أيُّها الجهلاء الأغبياء؛ فهل هذا إلا أعظم الظلم وأشدُّ الكفر؟!
{إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين}: ومن الظُّلم الاستكبار عن الحقِّ بعد التمكُّن منه.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}.
#
{11 ـ 12} أي: قال الكفار بالحقِّ معاندين له ورادِّين لدعوته:
{لو كان خيراً ما سبقونا إليه}؛
أي: ما سَبَقَنا إليه المؤمنون،
أي: لكنّا أول مبادرٍ به وسابق إليه! وهذا من البهرجة في مكان؛ فأيُّ دليل يدلُّ على أنَّ علامة الحقِّ سبق المكذبين به للمؤمنين؟! هل هم أزكى نفوساً؟! أم أكمل عقولاً؟! أم الهدى بأيديهم؟! ولكن هذا الكلام الذي صدر منهم يعزُّون به أنفسهم، بمنزلة من لم يقدرْ على الشيء ثم طَفِقَ يذمُّه،
ولهذا قال: {وإذْ لم يَهْتَدوا به فسيقولونَ هذا إفكٌ قَديمٌ}؛
أي: هذا السبب الذي دعاهم إليه أنهم لما لم يهتدوا بهذا القرآن، وفاتهم أعظمُ المواهب وأجلُّ الرغائب؛ قدحوا فيه بأنَّه كذبٌ، وهو الحقُّ الذي لا شكَّ فيه ولا امتراء يعتريه،
{الذي} قد وافق الكتب السماويَّة، خصوصاً أكملها وأفضلها بعد القرآن، وهي التوراة التي أنزلها الله على
{موسى إماماً ورحمة}؛
أي: يقتدي بها بنو إسرائيل ويهتدون بها، ويحصُلُ لهم خير الدنيا والآخرة.
{وهذا}: القرآن
{كتابٌ مصدقٌ}: للكتب السابقة، شهد بصدِقها وصدَّقها بموافقته لها، وجَعَلَه الله
{لساناً عربيًّا}: ليسهل تناوله ويتيسر تذكُّره؛
{لينذر الذين ظلموا}: أنفسهم بالكفر والفسوق والعصيان إن استمرُّوا على ظلمهم بالعذاب الوبيل، ويبشر المحسنين في عبادة الخالق وفي نفع المخلوقين بالثواب الجزيل في الدُّنيا والآخرة، ويذكِّر الأعمال التي ينذر عنها والأعمال التي يبشر بها.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)}.
#
{13} أي: إنَّ الذين أقرُّوا بربِّهم، وشهدوا له بالوحدانيَّة، والتزموا طاعته، وداموا على ذلك، و
{استقاموا} مدَّة حياتهم؛
{فلا خوفٌ عليهم}: من كل شرٍّ أمامهم،
{ولا هم يحزنونَ}: على ما خلَّفوا وراءهم.
#
{14} {أولئك أصحابُ الجنَّة}؛
أي: أهلها الملازمون لها، الذين لا يبغون عنها حِوَلاً ولا يريدونَ بها بدلاً،
{خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملونَ}: من الإيمان بالله، المقتضي للأعمال الصالحة، التي استقاموا عليها.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)}.
#
{15} هذا من لطفه تعالى بعباده وشكره للوالدين أن وصَّى الأولاد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم بالقول اللطيف والكلام الليِّن وبَذْل المال والنفقة وغير ذلك من وجوه الإحسان، ثم نبَّه على ذكر السبب الموجب لذلك، فذكر ما تحمَّلته الأمُّ من ولدها، وما قاستْه من المكاره وقت حَمْلِها، ثم مشقَّة ولادتها المشقَّة الكبيرة، ثم مشقَّة الرضاع وخدمة الحضانة، وليست المذكوراتُ مدة يسيرة ساعة أو ساعتين، وإنما ذلك مدة طويلة قدرها
{ثلاثون شهراً}: للحمل تسعة أشهر ونحوها، والباقي للرضاع، هذا الغالب.
ويستدلُّ بهذه الآية مع قوله: {والوالداتُ يرضِعْن أولادهنَّ حولينِ كاملينِ}: أنَّ أقلَّ مدَّة الحمل ستة أشهر؛ لأنَّ مدَّة الرضاع وهي سنتان إذا سقطت منها السنتان؛ بقي ستة أشهر مدة للحمل،
{حتى إذا بلغ أشُدَّه}؛
أي: نهاية قوَّته وشبابه وكمال عقله،
{وبَلَغَ أربعين سنةً قال ربِّ أوْزِعْني}؛
أي: ألهمني ووفقني،
{أنْ أشكر نعمتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ}؛
أي: نعم الدين ونعم الدنيا، وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ومقابلة منَّته بالاعتراف والعجز عن الشكر والاجتهاد في الثناء بها على الله، والنعم على الوالدين نعم على أولادهم وذُرِّيَّتهم لأنَّهم لا بدَّ أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها، خصوصاً نعم الدين؛ فإنَّ صلاح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم،
{وأنْ أعمل صالحاً ترضاه}: بأنْ يكونَ جامعاً لما يصلِحُه سالماً مما يفسِدُه؛ فهذا العمل الذي يرضاه الله ويقبله ويثيبُ عليه،
{وأصلحْ لي في ذُرِّيَّتي}: لما دعا لنفسه بالصلاح؛ دعا لذرِّيَّته أن يصلح الله أحوالهم، وذكر أنَّ صلاحهم يعود نفعه على والديهم؛
لقوله: {وأصلِحْ لي}.
{إني تبتُ إليك}: من الذَّنوب والمعاصي ورجعت إلى طاعتك،
{وإنِّي من المسلمين}.
#
{16} {أولئك}: الذين ذكرت أوصافهم
{الذين نتقبَّلُ عنهم أحسنَ ما عملوا}: وهو الطاعاتُ؛ لأنَّهم يعملون أيضاً غيرها،
{ونتجاوزُ عن سيِّئاتِهم في}: جملة
{أصحاب الجنة}: فحصل لهم الخيرُ والمحبوبُ، وزال عنهم الشرُّ والمكروه.
{وعدَ الصِّدْقِ الذي كانوا يوعدونَ}؛
أي: هذا الوعدُ الذي وعَدْناهم هو وعدٌ صادقٌ من أصدق القائلين الذي لا يُخلف الميعادَ.
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)}.
#
{17} لما ذكر تعالى حالَ الصالح البارِّ لوالديه؛ ذكر حالة العاقِّ، وأنَّها شرُّ الحالات،
فقال: {والذي قال لوالديه}: إذ دعياه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وخوَّفاه الجزاء، وهذا أعظم إحسان يصدُرُ من الوالدين لولدهما أن يَدْعُواه إلى ما فيه سعادتُه الأبديَّة وفلاحه السرمديُّ، فقابلهما بأقبح مقابلة،
فقال: {أفٍّ لكُما}؛
أي: تبًّا لكما، ولما جئتما به.
ثم ذكر وجه استبعادِه وإنكاره لذلك،
فقال: {أتعدانِني أنْ أُخْرَجَ}: من قبري إلى يوم القيامة
{وقد خلتِ القرونُ من قبلي}: على التكذيب، وسلفوا على الكفر، وهم الأئمَّة المقتدى بهم لكلِّ كفورٍ وجهول ومعاندٍ.
{وهما}؛
أي: والداه
{يستغيثان الله}: عليه ويقولان له:
{ويلكَ آمِنْ}؛
أي: يبذلان غاية جهدهما ويسعيان في هدايته أشدَّ السعي، حتى إنَّهما من حرصهما عليه إنهما يستغيثان الله له استغاثةَ الغريق، ويسألانه سؤال الشريق، ويعذلان ولدهما، ويتوجَّعان له، ويبيِّنان له الحقَّ،
فيقولان: {إنَّ وعد الله حقٌّ}، ثم يقيمان عليه من الأدلَّة ما أمكنهما، وولدُهما لا يزداد إلا عتوًّا ونفوراً واستكباراً عن الحقِّ وقدحاً فيه،
{فيقول ما هذا إلاَّ أساطير الأولينَ}؛
أي: إلا منقولٌ من كتب المتقدِّمين، ليس من عند الله، ولا أوحاه الله إلى رسوله، وكل أحدٍ يعلم أنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - أميٌّ لا يكتب ولا يقرأ، ولا يتعلَّم من أحد؛ فمن أين يتعلَّمه، وأنَّى للخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً؟!
#
{18} {أولئك الذين}: بهذه الحالة الذَّميمة
{حقَّ عليهم القولُ}؛
أي: حقَّت عليهم كلمة العذاب
{في} جملة
{أمم قد خَلَتْ من قبلهم من الجنِّ والإنس}: على الكفر والتكذيب، فسيدخل هؤلاء في غمارهم، ويغرقون في تيَّارهم.
{إنَّهم كانوا خاسرينَ}: والخسران فواتُ رأس مال الإنسان، وإذا فقد رأسَ مالِهِ؛ فالأرباح من باب أولى وأحرى؛ فهم قد فاتهم الإيمان، ولم يحصِّلوا شيئاً من النعيم، ولا سلموا من عذاب الجحيم.
#
{19} {ولكلٍّ}: من أهل الخير وأهل الشرِّ
{درجاتٌ مما عملوا}؛
أي: كلٌّ على حسب مرتبته من الخير والشرِّ، ومنازلهم في الدار الآخرة على قدر أعمالهم،
ولهذا قال: {ولِيُوَفِّيهم أعمالَهم وهم لا يُظْلَمونَ}: بأن لا يزاد في سيِّئاتهم ولا ينقصَ من حسناتِهِم.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}.
#
{20} يذكر تعالى حال الكفار عند عرضهم على النار حين يُوَبَّخون ويُقَرَّعون،
فيقال لهم: {أذهبتم طيباتِكُم في حياتكم الدُّنيا}؛ حيث اطمأننتم إلى الدُّنيا، واغتررتم بلذَّاتها، ورضيتم بشهواتها، وألهتكم طيِّباتُها عن السعي لآخرتكم، وتمتَّعتم تمتُّع الأنعام السارحة؛ فهي حظُّكم من آخرتكم.
{فاليوم تُجْزَوْنَ عذاب الهون}؛
أي: العذاب الشديد الذي يهينكم، ويفضحكم
[بما كنتُم تقولون على الله غير الحقِّ] ؛
أي: تنسبون الطريق الضالَّة التي أنتم عليها إلى الله وإلى حكمِهِ وأنتم كَذَبة في ذلك،
{وبما كنتُم تفسُقونَ}؛
أي: تتكبَّرون عن طاعته، فجمعوا بين قول الباطل والعمل بالباطل والكذب على الله بنسبته إلى رضاه والقدح في الحقِّ والاستكبار عنه، فعوقبوا أشدَّ العقوبة.
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)}.
#
{21} أي:
{واذكر}: بالثناء الجميل
{أخا عادٍ}: وهو هودٌ عليه السلام، حيث كان من الرسل الكرام، الذين فضَّلهم الله تعالى بالدَّعوة إلى دينه وإرشاد الخلق إليه،
{إذْ أنذر قومَه}: وهم عادٌ
{بالأحقافِ}؛
أي: في منازلهم المعروفة بالأحقاف، وهي الرمال الكثيرة في أرض اليمن،
{وقد خَلَتِ النُّذُر من بين يديه ومن خلفِهِ}: فلم يكن بدعاً منهم ولا مخالفاً لهم،
قائلاً لهم: {أن لا تعبُدوا إلاَّ الله إنِّي أخافُ عليكم عذابَ يوم عظيم}: فأمرهم بعبادة الله الجامعة لكلِّ قول سديدٍ وعمل حميدٍ، ونهاهم عن الشِّرْكِ والتَّنديد، وخوفهم إنْ لم يطيعوه العذابَ الشَّديد، فلم تُفِدْ فيهم تلك الدعوة.
#
{22} فَـ
{قَالوا أجئتنا لِتأفِكَنا عن آلهتنا}؛
أي: ليس لك من القصد ولا معك من الحقِّ إلاَّ أنك حِدتنا على آلهتنا، فأردتَ أن تصرِفَنا عنها،
{فأتِنا بما تَعِدُنا إن كنتَ من الصادقين}: وهذا غاية الجهل والعناد.
#
{23} {قال إنَّما العلمُ عند اللهِ}: فهو الذي بيده أزمَّةُ الأمور ومقاليدُها، وهو الذي يأتيكم بالعذاب إن شاء،
{وأبَلِّغُكُم ما أرسلتُ به}؛
أي: ليس عليَّ إلاَّ البلاغُ المبين،
{ولكني أراكم قوماً تجهلونَ}: فلذلك صدر منكم ما صدر من هذه الجرأة الشديدة.
#
{24 ـ 25} فأرسل اللهُ عليهم العذاب العظيم، وهو الريحُ التي دمَّرتهم وأهلكتهم،
ولهذا قال: {فلما رأوْه}؛
أي: العذاب،
{عارضاً مستقبلَ أودِيَتِهِم}؛
أي: معترضاً كالسَّحاب، قد أقبل على أوديتهم التي تسيلُ فتسقي نوابتهم ويشربون من آبارها وغدرانها،
{قالوا}: مستبشرين:
{هذا عارضٌ ممطِرنُا}؛
أي: هذا السحاب سيمطرنا.
قال تعالى: {بل هو ما استعجَلْتُم به}؛
أي: هذا الذي جنيتُم به على أنفسِكم حيث قلتُم:
{فأتِنا بما تَعِدُنا إن كنتَ من الصادقين}.
{ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ. تدمِّرُ كلَّ شيءٍ}: تمرُّ عليه من شدَّتها ونحسها، فسلَّطها الله
{عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام حسوماً، فترى القوم فيها صَرْعى كأنَّهم أعجازُ نخل خاويةٍ}،
{بأمر ربِّها}؛
أي: بإذنه ومشيئته،
{فأصبحوا لا يرى إلاَّ مساكِنُهُم}: قد تلفتْ مواشيهم وأموالُهم وأنفسهم.
{كذلك نجزي القوم المجرمين}: بسبب جرمِهِم وظُلمهم.
#
{26} هذا مع أنَّ الله قد أدرَّ عليهم النِّعم العظيمة فلم يشكُروه ولا ذكَروه،
ولهذا قال: {ولقد مكَّنَّاهم فيما إن مَكَّنَّاكم فيه}؛
أي: مكنَّاهم في الأرض يتناولون طيباتها، ويتمتَّعون بشهواتها، وعمَّرناهم عمراً يتذكَّر فيه من تذكَّر ويتَّعظ فيه المهتدي؛
أي: ولقد مكَّنَّا عاداً كما مكَّنَّاكم يا هؤلاء المخاطبون؛
أي: فلا تحسبوا أنَّ ما مَكَّنَّاكم فيه مختصٌّ بكم، وأنَّه سيدفع عنكم من عذاب الله شيئاً، بل غيرُكم أعظمُ منكم تمكيناً، فلم تُغْنِ عنهم أموالُهم ولا أولادُهم ولا جنودُهم من الله شيئاً،
{وجَعَلْنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً}؛
أي: لا قصور في أسماعهم ولا أبصارهم ولا أذهانهم حتى يقال: إنَّهم تركوا الحقَّ جهلاً منهم وعدم تمكُّن من العلم به ولا خلل في عقولهم، ولكنَّ التوفيقَ بيدِ الله،
{فما أغنى عنهم سمعُهم ولا أبصارُهم ولا أفئدتُهم من شيءٍ}: لا قليل ولا كثير، وذلك بسبب أنهم يجحدون آيات الله الدَّالَّة على توحيدِهِ وإفرادِهِ بالعبادة،
{وحاق بهم ما كانوا به يستهزِئون}؛
أي: نزل بهم العذاب الذي يكذِّبون بوقوعه، ويستهزِئون بالرسل الذين حذَّروهم منه.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)}
#
{27 ـ 28} يحذِّر تعالى مشركي العرب وغيرهم بإهلاك الأمم المكذِّبين الذين هم حول ديارهم، بل كثيرٌ منهم في جزيرة العرب؛ كعادٍ وثمودَ ونحوهم، وأنَّ الله تعالى صَرَّفَ لهم
{الآياتِ}؛
أي: نوَّعها من كل وجه،
{لعلهم يرجِعونَ}: عمَّا هم عليه من الكفر والتكذيب، فلمَّا لم يؤمنوا؛ أخذهم اللهُ أخذَ عزيزٍ مقتدرٍ، ولم تنفعْهم آلهتُهم التي يَدْعون من دون الله من شيءٍ،
ولهذا قال هنا: {فلولا نَصَرَهُم الذين اتَّخذوا من دون الله قُرباناً آلهةً}؛
أي: يتقرَّبون إليهم ويتألَّهونهم لرجاء نفعهم.
{بل ضلُّوا عنهم}: فلم يُجيبوهم ولا دَفَعوا عنهم،
{وذلك إفْكُهُمْ وما كانوا يفترونَ}: من الكذب الذي يُمَنُّون به أنفسَهم؛ حيث يزعُمون أنَّهم على الحقِّ، وأنَّ أعمالهم ستنفعُهم، فضلَّت وبطلت.
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)}.
#
{29} كان الله تعالى قد أرسل رسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلق إنسهم وجنهم، وكان لا بدَّ من إبلاغ الجميع لدعوة النبوَّة والرسالة؛ فالإنس يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتُهم وإنذارُهم، وأمَّا الجنُّ؛ فصَرَفَهم الله إليه بقدرته وأرسل إليه
{نفراً من الجنِّ يستمعونَ القرآن فلمَّا حَضَروه قالوا أنصِتوا}؛
أي: وصَّى بعضُهم بعضاً بذلك،
{فلما قُضِيَ}: وقد وَعَوْه وأثَّر ذلك فيهم،
{ولَّوْا إلى قومِهِم منذِرين}: نصحاً منهم لهم، وإقامة لحجَّة الله عليهم، وقيَّضهم الله معونةً لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في نشر دعوتِهِ في الجنِّ.
#
{30} {قالوا يا قومَنا إنَّا سَمِعْنا كتاباً أنزِلَ من بعدِ موسى}: لأنَّ كتاب موسى أصلٌ للإنجيل وعمدةٌ لبني إسرائيل في أحكام الشرع، وإنَّما الإنجيل متمِّم ومكمِّل ومغيِّر لبعض الأحكام،
{مصدِّقاً لما بين يديه يَهْدي}: هذا الكتاب الذي سَمِعْناه،
{إلى الحقِّ}: وهو الصوابُ في كلِّ مطلوبٍ وخبرٍ،
{وإلى طريقٍ مستقيمٍ}: موصل إلى الله وإلى جنَّته من العلم بالله وبأحكامه الدينيَّة وأحكام الجزاء.
#
{31} فلمَّا مَدَحوا القرآن وبيَّنوا محلَّه ومرتبته؛ دَعَوْهم إلى الإيمان به،
فقالوا: {يا قومَنا أجيبوا داعيَ اللهِ}؛
أي: الذي لا يدعو إلاَّ إلى ربِّه، لا يدعوكم إلى غرض من أغراضِهِ ولا هوى، وإنَّما يدعوكم إلى ربِّكم لِيُثيبَكم، ويزيلَ عنكم كلَّ شرٍّ ومكروه،
ولهذا قالوا: {يغفرْ لكم من ذُنوبِكُم ويُجِرْكُم من عذابٍ أليم}: وإذا أجارهم من العذاب الأليم؛ فما ثمَّ بعد ذلك إلاَّ النعيم؛ فهذا جزاءُ من أجاب داعي الله.
#
{32} {ومَن لا يُجِبْ داعيَ الله فليس بمعجزٍ في الأرضِ}: فإنَّ الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ، فلا يفوته هاربٌ ولا يغالِبُه مغالبٌ،
{وليس له من دونِهِ أولياءُ أولئك في ضلالٍ مبينٍ}، وأيُّ ضلال أبلغُ من ضلال مَنْ نادَتْه الرسل، ووصلتْ إليه النُّذُر بالآيات البيِّنات والحجج المتواتراتِ فأعرض واستكبر؟!
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)}.
#
{33} هذا استدلالٌ منه تعالى على الإعادة بعد الموت بما هو أبلغُ منها، وهو
{أنَّه الذي خلقَ السماواتِ والأرضَ} على عظمهما وسعتهما وإتقان خلقهما من دون أن يَكْتَرِثَ بذلك، ولم يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ؛ فكيف تعجِزُه إعادتُكم بعد موتكم وهو
{على كل شيءٍ قديرٌ}؟!
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)}
#
{34} يخبر تعالى عن حال الكفار الفظيعة عند عرضِهِم على النار التي كانوا يكذِّبون بها،
وأنَّهم يوبَّخون ويُقال لهم: {أليس هذا بالحقِّ}؛ فقد حضرتُموه وشاهدتُموه عياناً،
{قالوا بلى وربِّنا}: فاعترفوا بذنوبهم وتبين كذبهم،
{قال فَذُوقُوا العَذابَ بما كنتُم تكفُرون}؛
أي: عذاباً لازماً دائماً كما كان كفرُكم صفةً لازمةً.
#
{35} ثم أمر تعالى رسوله أن يصبِرَ على أذيَّة المكذِّبين المعادين له، وأن لا يزال داعياً لهم إلى الله، وأن يقتديَ بصبرِ أولي العزم من المرسَلين سادات الخَلْق أولي العزائم والهِمَم العالية، الذين عَظُم صَبْرُهم وتمَّ يقينُهم؛ فهم أحقُّ الخلق بالأسوة بهم والقفو لآثارهم والاهتداء بمنارِهِم، فامتثل - صلى الله عليه وسلم - لأمر ربِّه، فصبر صبراً لم يصبِرْه نبيٌّ قبله، حتى رماه المعادون له عن قوسٍ واحدةٍ، وقاموا جميعاً بصدِّه عن الدَّعوة إلى الله، وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة، وهو - صلى الله عليه وسلم - لم يزل صادعاً بأمر الله، مقيماً على جهاد أعداء الله، صابراً على ما ينالُه من الأذى، حتى مكَّن الله له في الأرض، وأظهر دينَه على سائر الأديان وأمَّته على الأمم، فصلى الله عليه وسلم تسليماً.
وقوله: {ولا تستعجل لهم}؛
أي: لهؤلاء المكذِّبين المستعجلين للعذاب؛ فإنَّ هذا من جهلهم وحمقهم؛ فلا يستخفنَّكَ بجهلهم ولا يَحْمِلْك ما ترى من استعجالهم على أنْ تدعُوَ الله عليهم بذلك؛ فإنَّ كلَّ ما هو آتٍ قريبٌ، و
{كأنَّهم} حين
{يَرَوْنَ ما يوعدونَ لم يَلْبَثوا} في الدُّنيا
{إلاَّ ساعةً من نهارٍ}؛ فلا يحزُنْك تمتُّعهم القليل وهم صائرون إلى العذاب الوبيل،
{بلاغٌ}؛
أي: هذه الدنيا متاعها وشهواتها ولذَّاتها بلغةٌ منغصةٌ ودفعُ وقتٍ حاضر قليل، أو هذا القرآن العظيم ـ الذي بيَّنَّا لكم فيه البيانَ التامَّ ـ بلاغٌ لكم وزادٌ إلى الدار الآخرة، ونِعْم الزادُ والبلغةُ، زادٌ يوصل إلى دار النعيم، ويعصِمُ من العذابِ الأليم؛ فهو أفضل زاد يتزوَّده الخلائقُ، وأجلُّ نعمة أنعم الله بها عليهم،
{فهل يُهْلَكُ}: بالعقوبات
{إلاَّ القومُ الفاسقون}؛
أي: الذين لا خير فيهم، وقد خرجوا عن طاعة ربِّهم، ولم يَقْبَلوا الحقَّ الذي جاءتهم به الرسل، وأعذر الله لهم وأنذرهم، فبعد ذلك إذ يستمرُّون على تكذيبهم وكفرهم، نسأل الله العصمة.
آخر تفسير سورة الأحقاف. والحمد لله رب العالمين.
* * *