وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)}.
#
{1 ـ 2} يخبرُ تعالى خبراً يتضمَّن الأمرَ بتعظيم القرآن والاعتناء به؛ أنَّه
{تنْزيلٌ من اللهِ}: المألوه المعبود؛ لما اتَّصف به من صفاتِ الكمال، وانفردَ به من النعم، الذي له العزَّة الكاملة والحكمة التَّامَّة.
#
{3 ـ 5} ثم أيَّد ذلك بما ذكره من الآيات الأفقيَّة والنفسيَّة؛ من خلق السماوات والأرض، وما بثَّ فيهما من الدوابِّ، وما أودعَ فيهما من المنافع، وما أنزل اللهُ من الماءِ الذي يحيي به اللهُ البلاد والعباد؛ فهذه كلُّها آياتٌ بيناتٌ وأدلة واضحاتٌ على صدقِ هذا القرآن العظيم وصحَّة ما اشتمل عليه من الحكم والأحكام، ودالاَّت أيضاً على ما لله تعالى من الكمال، وعلى البعث والنُّشور.
#
{6 ـ 10} ثم قسَّم تعالى الناسَ بالنسبة إلى الانتفاع بآياتِهِ وعدمِهِ إلى قسمين:
قسمٌ يستدلُّون بها، ويتفكَّرون بها، وينتفعون فيرتفعون، وهم المؤمنون باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليوم الآخر إيماناً تامًّا، وصل بهم إلى درجة اليقين، فزكَّى منهم العقول، وازدادتْ به معارفُهم وألبابُهم وعلومُهم.
وقسمٌ يسمعُ آيات اللة سماعاً تقومُ به الحجةُ عليه، ثم يعرِض عنها ويستكبرُ، كأنه ما سمعها؛ لأنها لم تزكِّ قلبه ولا طهَّرته، بل بسبب استكباره عنها؛ ازداد طغيانُهُ، وأنه إذا علم من آيات الله شيئاً؛ اتَّخذها هزواً، فتوعَّده الله تعالى بالويل،
فقال: {ويلٌ لكلِّ أفَّاكٍ أثيم}؛
أي: كذابٍ في مقاله، أثيمٍ في فعاله، وأخبر أن له عذاباً أليماً، وأن
{من ورائهم جهنَّم}: تكفي في عقوبتهم البليغة، وأنه
{لا يُغني عنهم ما كَسَبوا}: من الأموال
{شيئاً ولا ما اتَّخذوا من دون اللهِ أولياءَ}: يستنصرون بهم، فخذلوهم أحوجَ ما كانوا إليهم لو نفعوا.
#
{11} فلمَّا بيَّن آياته القرآنيَّة والعيانيَّة، وأن الناس فيها على قسمين؛ أخبر أن القرآن المشتملَ على هذه المطالب العالية؛ أنَّه هدىً،
فقال: {هذا هدىً}: وهذا وصفٌ عامٌّ لجميع القرآن؛ فإنَّه يهدي إلى معرفة الله تعالى بصفاته المقدَّسة وأفعاله الحميدة، ويهدي إلى معرفة رسله وأوليائهم وأعدائهم وأوصافهم، ويهدي إلى الأعمال الصالحة، ويدعو إليها، ويبيِّن الأعمال السَّيئة وينهى عنها، ويهدي إلى بيان الجزاء على الأعمال، ويبيِّن الجزاء الدُّنيويَّ والأخرويَّ؛ فالمهتدون اهتَدَوا به فأفلحوا وسعدوا.
{والذين كَفَروا بآيات ربِّهم}: الواضحة القاطعة، التي لا يكفرُ بها إلاَّ من اشتدَّ ظلمُه، وتضاعف طغيانه،
{لهم عذابٌ من رجزٍ أليم}.
{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)}
#
{12} يخبر تعالى عن فضله على عباده وإحسانه إليهم بتسخير البحر لسير المراكب والسُّفن بأمره وتيسيره ،
{لتَبْتَغوا من فضله}: بأنواع التجارات والمكاسب،
{ولعلَّكم تشكرون}: الله تعالى؛ فإنكم إذا شكرتُموه؛ زادكم من نعمِهِ وأثابكم على شكركم أجراً جزيلاً.
#
{13} {وسخَّر لكم ما في السمواتِ وما في الأرض جميعاً منه}؛
أي: من فضله وإحسانه، وهذا شامل لأجرام السماواتِ والأرض، ولما أودعَ الله فيهما من الشمس والقمر والكواكب الثَّوابت والسيَّارات وأنواع الحيوانات وأصناف الأشجار والثَّمرات وأجناس المعادن وغير ذلك ممَّا هو معدٌّ لمصالح بني آدم ومصالح ما هو من ضروراتِهِ؛ فهذا يوجب عليهم أن يبذلوا غايةَ جهدِهِم في شكر نعمته، وأن تغلغلَ أفكارهم في تدبُّر آياته وحكمِهِ،
ولهذا قال: {إنَّ في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكَّرون}. وجملة ذلك أنَّ خلقها وتدبيرها وتسخيرها دالٌّ على نفوذ مشيئة الله وكمال قدرتِهِ.
وما فيها من الإحكام والإتقان وبديع الصنعة وحسن الخِلْقة دالٌّ على كمال حكمته وعلمه.
وما فيها من السعة والعظمة والكثرة دالٌّ على سعة ملكه وسلطانه.
وما فيها من التخصيصات والأشياء المتضادَّات دليلٌ على أنه الفعَّال لما يريد.
وما فيها من المنافع والمصالح الدينيَّة والدنيويَّة دليلٌ على سعة رحمته وشمول فضلِهِ وإحسانِهِ وبديع لطفهِ وبرِّه، وكلُّ ذلك دالٌّ على أنّه وحدَه المألوه المعبودُ الذي لا تنبغي العبادة والذُّلُّ والمحبَّة إلا له، وأنَّ رسله صادقون فيما جاؤوا به. فهذه أدلةٌ عقليةٌ واضحةٌ لا تقبل ريباً ولا شكًّا.
{قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)}.
#
{14 ـ 15} يأمر تعالى عبادَه المؤمنين بحسن الخلق والصَّبر على أذيَّة المشركين به الذين
{لا يرجون أيام الله}؛
أي: لا يرجون ثوابَه ولا يخافون وقائعَه في العاصين؛ فإنَّه تعالى سيجزي كلَّ قوم
{بما كانوا يكسبون}: فأنتم يا معشر المؤمنين يجزيكم على إيمانكم وصفحكم وصبركم ثواباً جزيلاً، وهم إن استمرُّوا على تكذيبهم؛ فلا يحلُّ بكم ما حلَّ بهم من العذاب الشديد والخزي،
ولهذا قال: {مَن عَمِلَ صالحاً فلنفسِهِ ومَن أساءَ فعليها ثم إلى ربِّكم تُرْجَعون}.
ثم قال تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)}.
#
{16} أي: ولقد أنعمنا على بني إسرائيل نعماً لم تحصُل لغيرهم من الناس، وآتيناهم
{الكتاب}؛
أي: التوراة والإنجيل والحكم بين الناس والنبوَّة التي امتازوا بها، وصارت النبوَّة في ذرِّيَّة إبراهيم عليه السلام، أكثرهم من بني إسرائيل،
{ورزَقْناهم من الطيِّبات}: من المآكل والمشارب والملابس وإنزال المنِّ والسلوى عليهم،
{وفضَّلناهم على العالمين}؛
أي: على الخلق بهذه النعم. ويخرج من هذا العموم اللفظي هذه الأمة؛ فإنهم خير أمة أخرجت للناس، والسياق يدلُّ على أن المراد غير هذه الأمة؛ فإن الله يقصُّ علينا ما امتنَّ به على بني إسرائيل وميَّزهم على غيرهم.
وأيضاً؛ فإن الفضائل التي فاق بها بنو إسرائيل من الكتاب والحكم والنبوة وغيرها من النعوت قد حصلت كلُّها لهذه الأمة، وزادت عليهم هذه الأمة فضائل كثيرة؛ فهذه الشريعة شريعة بني إسرائيل جزء منها؛ فإنَّ هذا الكتاب مهيمنٌ على سائر الكتب السابقة، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - مصدِّق لجميع المرسلين.
#
{17} {وآتيناهم}؛
أي: آتينا بني إسرائيل
{بيناتٍ}؛
أي: دلالاتٍ تبيِّن الحقَّ من الباطل
{من الأمر}: القدريّ الذي أوصله الله إليهم، وتلك الآيات هي المعجزاتُ التي رأوها على يد موسى عليه السلام؛ فهذه النعم التي أنعم الله بها على بني إسرائيل تقتضي الحالُ أن يقوموا بها على أكمل الوجوه، وأنْ يجتمعوا على الحقِّ الذي بيَّنه الله لهم، ولكن انعكسَ الأمر، فعاملوها بعكس ما يجبُ، وافترقوا فيما أمروا بالاجتماع به،
ولهذا قال: {فما اختلفوا إلاَّ من بعدِ ما جاءهم العلمُ}؛
أي: الموجب لعدم الاختلاف، وإنَّما حملهم على الاختلاف، البغيُ من بعضهم على بعض والظُّلم.
{إنَّ ربَّك يقضي بينهم يوم القيامةِ فيما كانوا فيه يختلفون}: فيميِّز المحقَّ من المبطل، والذي حمله على الاختلاف الهوى أو غيره.
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)}.
#
{18} أي: ثمَّ شرعنا لك شريعةً كاملةً تدعو إلى كلِّ خير، وتنهى عن كل شرٍّ من أمرنا الشرعيِّ،
{فاتَّبِعْها}؛ فإنَّ في اتِّباعها السعادة الأبديَّة والصلاح والفلاح،
{ولا تتَّبِعْ أهواء الذين لا يعلمونَ}؛
أي: الذين تكون أهويتُهم غيرَ تابعةٍ للعلم ولا ماشيةٍ خلفه، وهم كلُّ من خالف شريعةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هواه وإرادتُه؛ فإنَّه من أهواء الذين لا يعلمون.
#
{19} {إنَّهم لن يُغنوا عنك من اللهِ شيئاً}؛
أي: لا ينفعونك عند الله، فيحصِّلوا لك الخير، ويدفعوا عنك الشرَّ إنِ اتَّبعتهم على أهوائهم، ولا تصلُحُ أن توافِقَهم وتوالِيَهم؛ فإنَّك وإياهم متباينون، وبعضهم وليٌّ لبعض.
{والله وليُّ المتَّقين}: يخرجهم من الظلمات إلى النور بسبب تقواهم وعملهم بطاعته.
{هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}
#
{20} أي:
{هذا} القرآن الكريم والذِّكْر الحكيم
{بصائرُ للناس}؛
أي: يحصُلُ به التبصرةُ في جميع الأمور للناس، فيحصُلُ به الانتفاع للمؤمنين،
{و} الهدى والرحمةُ
{لقوم يوقنونَ}: فيهتدون به إلى الصراط المستقيم في أصول الدِّين وفروعه، ويحصُلُ به الخير والسرور والسعادة في الدُّنيا والآخرة، وهي الرحمة، فتزكو به نفوسُهم، وتزدادُ به عقولُهم، ويزيدُ به إيمانُهم ويقينُهم، وتقوم به الحجَّةُ على من أصرَّ وعاند.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)}.
#
{21} أي: أم حسب المسيئون المكثِرون من الذُّنوب المقصِّرون في حقوق ربِّهم،
{أن نجعَلَهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات}: بأن قاموا بحقوق ربِّهم، واجتنبوا مساخِطَه، ولم يزالوا مؤثِرين رضاه على هوى أنفسهم؛
أي: أحسبوا أن يكونوا
{سواءً} في الدُّنيا والآخرة؟ ساء ما ظنُّوا وحسبوا، وساء ما حكموا به؛ فإنَّه حكمٌ يخالف حكمة أحكم الحاكمين وخير العادلين، ويناقِضُ العقول السليمة والفطر المستقيمة، ويضادُّ ما نزلت به الكتب وأخبرت به الرُّسل، بل الحكم الواقع القطعيُّ أنَّ المؤمنين العاملين الصالحات، لهم النَّصر والفلاح والسعادة والثواب في العاجل والآجل؛ كلٌّ على قدر إحسانه، وأنَّ المسيئين لهم الغضبُ والإهانةُ والعذاب والشقاء في الدُّنيا والآخرة.
{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)}
#
{22} أي: خلق الله السماواتِ والأرضَ بالحكمة، ولِيُعْبَدَ وحدَه لا شريك له، ثم يجازي بعد ذلك من أمرهم بعبادته، وأنعم عليهم بالنِّعم الظاهرة والباطنة؛ هل شكروا الله تعالى وقاموا بالمأمور؟ أم كفروا فاستحقُّوا جزاء الكَفور؟
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)}.
#
{23} يقول تعالى:
{أفرأيتَ}: الرجل الضالَّ الذي،
{اتَّخذ إلهه هواهُ}: فما هَوِيَهُ سلكه؛ سواء كان يُرْضي الله أم يسخطه،
{وأضلَّه الله على علم}: من الله
[تعالى] أنَّه لا تَليق به الهداية. ولا يزكو عليها،
{وخَتَمَ على سمعِهِ}: فلا يسمع ما ينفعُه،
{وقلبِهِ}: فلا يعي الخير،
{وجَعَلَ على بصرِهِ غشاوةً}: تمنعُه من نظر الحقِّ.
{فمن يهديه من بعد الله}؛
أي: لا أحد يهديه، وقد سدَّ الله عليه أبوابَ الهداية، وفتح له أبواب الغِواية، وما ظلمه الله، ولكن هو الذي ظلم نفسه، وتسبَّب لمنع رحمة الله عليه.
{أفلا تذكَّرون}: ما ينفعكم فتسلكونه وما يضرُّكم فتجتنبونه؟!
#
{24} {وقالوا}؛
أي: منكرو البعث:
{ما هي إلاَّ حياتُنا الدُّنيا نموت ونحيا وما يُهْلِكُنا إلاَّ الدَّهر}: إن هي إلاَّ عاداتٌ وجريٌ على رسوم الليل والنهار، يموت أناس ويحيا أناس، وما مات؛ فليس براجع إلى الله ولا مجازيه بعمله. وقولهم هذا صادرٌ عن غير علم،
{إنْ هم إلاَّ يظنُّون}: فأنكروا المعاد، وكذبوا الرسل الصادقين من غير دليل دلَّهم ولا برهان، إنْ هي إلاَّ ظنون واستبعاداتٌ خالية عن الحقيقة.
#
{25} ولهذا قال تعالى:
{وإذا تُتلى عليهم آياتُنا بيِّناتٍ ما كان حجَّتَهم إلاَّ أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتُم صادقين}: وهذا جراءة منهم على الله؛ حيث اقترحوا هذا الاقتراح، وزعموا أنَّ صدق رسل الله متوقِّف على الإتيان بآبائهم، وإنَّهم لو جاؤوهم بكلِّ آيةٍ؛ لم يؤمنوا؛ إلاَّ إن اتَّبعتهم الرسل على ما قالوا، وهم كَذَبَةٌ فيما قالوا، وإنما قصدُهم دفع دعوة الرسل، لا بيانُ الحق.
#
{26} قال تعالى:
{قلِ اللهُ يحييكم ثم يميتُكم ثم يجمعُكم إلى يوم القيامةِ لا ريبَ فيه ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون}: وإلاَّ؛ فلو وصل العلم باليوم الآخر إلى قلوبهم؛ لعملوا له أعمالاً وتهيؤوا له.
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)}.
#
{27} يخبر تعالى عن سعة ملكِهِ وانفرادِهِ بالتصرُّف والتدبير في جميع الأوقات، وأنَّه
{يوم تقومُ الساعةُ}؛ ويَجمع الخلائق لموقف القيامة؛ يحصُلُ الخسار على المبطلين، الذين أتوا بالباطل ليدحِضوا به الحقَّ، وكانت أعمالهم باطلةً لأنَّها متعلِّقة بالباطل، فبطلت في يوم القيامة، اليوم الذي تستبين فيه الحقائق واضمحلَّت عنهم، وفاتَهم الثوابُ، وحصلوا على أليم العقاب.
#
{28} ثم وصف تعالى شدَّة يوم القيامةِ وهَوْلَهُ ليحذره العباد ويستعدَّ له العُبَّاد،
فقال: {وترى}: أيُّها الرائي لذلك اليوم،
{كلَّ أمَّةٍ جاثيةً}: على ركبها خوفاً وذعراً وانتظاراً لحكم الملك الرحمن.
{كلُّ أمة تُدعى إلى كتابها}؛
أي: إلى شريعة نبيِّهم الذي جاءهم من عند الله، وهل قاموا بها فيحصُلُ
[لهم] الثواب والنجاة؟ أم ضيعوها فيحصُلُ لهم الخسران؟ فأمَّة موسى يُدعون إلى شريعة موسى، وأمَّة عيسى كذلك، وأمَّة محمد كذلك، وهكذا غيرهم؛ كلُّ أمة تُدعى إلى شرعها الذي كلفت به، هذا أحد الاحتمالات في الآية، وهو معنى صحيحٌ في نفسه، غير مشكوك فيه.
ويحتمل أن المراد بقوله: {كلُّ أمَّة تُدعى إلى كتابها}؛
أي: إلى كتاب أعمالها وما سطر عليها من خير وشرٍّ، وأنَّ كلَّ أحدٍ يُجازى بما عمله بنفسه؛
كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها}.
ويحتمل أن المعنيين كليهما مرادٌ من الآية.
#
{29} ويدل على هذا قولُه:
{هذا كتابُنا ينطِقُ عليكم بالحقِّ}؛
أي: هذا كتابنا الذي أنزلنا عليكم يفصِلُ
[بينكم] بالحقِّ الذي هو العدل،
{إنَّا كنا نَسْتَنسِخُ ما كنتُم تعملون}: فهذا كتابُ الأعمال.
#
{30} ولهذا فصَّل ما يفعل الله بالفريقين،
فقال: {فأمَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}: إيماناً صحيحاً، وصدَّقوا إيمانَهم بالأعمال الصالحة من واجبات ومستحبَّات،
{فيدخِلُهم ربُّهم في رحمتِهِ}: التي محلُّها الجنة، وما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم.
{ذلك هو الفوزُ المبينُ}؛
أي: المفاز والنجاة والربح والفلاح الواضح البيِّن، الذي إذا حصل للعبد؛ حصل له كلُّ خير، واندفع عنه كلُّ شرٍّ.
#
{31} {وأمَّا الذين كفروا}: بالله،
فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً: {أفلم تكن آياتي تُتْلى عليكم}، وقد دلَّتكم على ما فيه صلاحكم ونهتْكم عما فيه ضررُكم، وهي أكبر نعمة وصلت إليكم لو وفِّقتم لها، ولكن استكبرتُم عنها وأعرضتُم وكفرتُم بها، فجنيتُم أكبر جناية، وأجرمتم أشدَّ الجرم؛ فاليوم تجزون ما كنتم تعملون.
#
{32} ويوبَّخون أيضاً بقوله:
{وإذا قيل إنَّ وعدَ الله حقٌّ والساعة لا ريبَ فيها قلتم}: منكرين لذلك:
{ما ندري ما الساعة إن نظنُّ إلاَّ ظنًّا وما نحن بمستيقنينَ}: فهذه حالهم في الدُّنيا، وحال البعث الإنكار له، وردُّوا قولَ مَنْ جاء به.
#
{33} قال تعالى:
{وبدا لهم سيئاتُ ما عملوا}؛
أي: وظهر لهم يوم القيامةِ عقوباتُ أعمالهم،
{وحاق بهم}؛
أي: نزل
{ما كانوا به يستهزِئون}؛
أي: نزل بهم العذابُ الذي كانوا في الدُّنيا يستهزئون بوقوعه وبمن جاء به.
#
{34} {وقيل اليوم ننساكم}؛
أي: نترككم في العذاب
{كما نسيتُم لقاء يومكم هذا}؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل،
{ومأواكم النارُ}؛
أي: هي مقرُّكم ومصيركم.
{وما لكم من ناصرينَ}: ينصرونَكم من عذابِ الله ويدفعون عنكم عقابه.
#
{35} {ذلكم}: الذي حصل لكم من العذاب. بسبب
{أنَّكم اتَّخذتم آياتِ الله هزواً}: مع أنها موجبةٌ للجدِّ والاجتهاد وتلقِّيها بالسرور والاستبشار والفرح،
{وغرَّتْكُم الحياة الدُّنيا}: بزخارفها ولذَّاتها وشهواتها، فاطمأننتُم إليها، وعملتم لها، وتركتم العمل للدار الباقية.
{فاليومَ لا يُخْرَجونَ منها ولا هم يُسْتَعْتَبونَ}؛
أي: ولا يُمْهَلون ولا يردُّون إلى الدُّنيا ليعملوا صالحاً.
#
{36} {فلله الحمدُ}: كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه،
{ربِّ السمواتِ وربِّ الأرض ربِّ العالمين}؛
أي: له الحمد على ربوبيته لسائر الخلق ؛ حيث خلقهم وربَّاهم، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة.
#
{37} {وله الكبرياءُ في السمواتِ والأرض}؛
أي: له الجلال والعظمة والمجدُ؛ فالحمد فيه الثناء على الله بصفات الكمال ومحبَّته تعالى وإكرامه، والكبرياء فيها عظمتُه وجلالُه،
والعبادة مبنيَّة على ركنين: محبة الله والذُّلُّ له، وهما ناشئان عن العلم بمحامد الله وجلاله وكبريائه،
{وهو العزيز}: القاهر لكلِّ شيء.
{الحكيم}: الذي يضعُ الأشياء مواضِعَها؛ فلا يشرع ما يشرعُه إلاَّ لحكمة ومصلحة، ولا يخلُقُ ما يخلُقُه إلاَّ لفائدةٍ ومنفعةٍ.
تم تفسير سورة الجاثية. ولله الحمد والمنة والفضل.
* * *