آية:
تفسير سورة البقرة
تفسير سورة البقرة
وهي مدنية
آية: 1 - 5 #
{الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}.
تقدم الكلام على البسملة.
# {1} وأما الحروف المقطَّعة في أوائل السورة ؛ فالأسلم فيها السكوت عن التعرُّض لمعناها من غير مستند شرعي، مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثاً، بل لحكمة لا نعلمها.
# {2} وقوله: {ذلك الكتاب}؛ أي: هذا الكتاب العظيم، الذي هو الكتاب على الحقيقة، المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين من العلم العظيم والحقِّ المبين؛ {لا ريب فيه} فلا ريب فيه ولا شكَّ بوجه من الوجوه، ونفي الرَّيب عنه يستلزم ضده إذ ضد الريب والشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب. وهذه قاعدة مفيدة أن النفي المقصود به المدح لا بد أن يكون متضمناً لضده وهو الكمال؛ لأن النفي عدم، والعدم المحض لا مدح فيه، فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين؛ قال: {هدىً للمتقين}، والهدى ما تحصل به الهداية من الضلالة والشُّبَه، وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة. وقال: {هدى} وحذف المعمولَ، فلم يقل: هدى للمصلحة الفلانية ولا للشيء الفلاني؛ لإرادة العموم وأنه هدى لجميع مصالح الدارين، فهو مرشدٌ للعباد في المسائل الأصولية والفروعية، ومبين للحق من الباطل والصحيح من الضعيف، ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم في دنياهم وأخراهم. وقال في موضع آخر: {هدى للناس} فعمَّم، وفي هذا الموضع وغيره: {هدى للمتقين} لأنه في نفسه هدى لجميع الناس ، فالأشقياء لم يرفعوا به رأساً ولم يقبلوا هدى الله، فقامت عليهم به الحجة، ولم ينتفعوا به لشقائهم. وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر لحصول الهداية وهو التقوى التي حقيقتها: اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه بامتثال أوامره، واجتناب النواهي، فاهتدوا به، وانتفعوا غاية الانتفاع، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية والآيات الكونية. ولأن الهداية نوعان: هداية البيان، وهداية التوفيق، فالمتقون حصلت لهم الهدايتان وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق، وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها ليست هداية حقيقية تامة.
ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة لتضمن التقوى لذلك فقال:
# {3} {الذين يؤمنون بالغيب} حقيقة الإيمان هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح، وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحسِّ، فإنه لا يتميز بها المسلم من الكافر، إنما الشأنُ في الإيمان بالغيب الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله. فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر؛ لأنه تصديق مجرد لله ورسله، فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، أو أخبر به رسوله سواء شاهده أو لم يشاهده، وسواء فهمه وعقله، أو لم يهتدِ إليه عقله وفهمه، بخلاف الزنادقة المكذبين بالأمور الغيبية لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتدِ إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه؛ ففسدت عقولهم، ومرجت أحلامهم؛ وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله. ويدخل في الإيمان بالغيب الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية والمستقبلة وأحوال الآخرة وحقائق أوصاف الله وكيفيتها وما أخبرت به الرسل من ذلك، فيؤمنون بصفات الله ووجودها، ويتيقنونها وإن لم يفهموا كيفيتها. ثم قال: {ويقيمون الصلاة} لم يقل: يفعلون الصلاة؛ أو يأتون بالصلاة لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها الظاهرة، فإقامة الصلاة، إقامتها ظاهراً، بإتمام أركانها وواجباتها وشروطها، وإقامتها باطناً ، بإقامة روحها وهو حضور القلب فيها وتدبر ما يقول ويفعله منها، فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} وهي التي يترتب عليها الثواب، فلا ثواب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها. ثم قال: {ومما رزقناهم ينفقون} يدخل فيه النفقات الواجبة؛ كالزكاة، والنفقة على الزوجات والأقارب والمماليك ونحو ذلك، والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير، ولم يذكر المنفَق عليه لكثرة أسبابه وتنوع أهله، ولأن النفقة من حيث هي قربة إلى الله، وأتى «بِمِن» الدالة على التبعيض؛ لينبههم أنه لم يرد منهم إلا جزءاً يسيراً من أموالهم غير ضار لهم، ولا مثقل بل ينتفعون هم بإنفاقه، وينتفع به إخوانهم، وفي قوله: {رزقناهم} إشارة إلى أن هذه الأموال التي بين أيديكم ليست حاصلة بقوتكم وملككم، وإنما هي رزق الله الذي خوّلكم وأنعم به عليكم، فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم، وواسوا إخوانكم المعدمين. وكثيراً ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن؛ لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده؛ فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه فلا إخلاص ولا إحسان.
# {4} ثم قال: {والذين يؤمنون بما أنزل إليك} وهو: القرآن والسنة، قال تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة} فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه، فيؤمنون ببعضه، ولا يؤمنون ببعضه، إما بجحده، أو تأويله على غير مراد الله ورسوله، كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم بما حاصله عدم التصديق بمعناها وإن صدقوا بلفظها، فلم يؤمنوا بها إيماناً حقيقيًّا. وقوله: {وما أنزل من قبلك} يشمل الإيمان بجميع الكتب السابقة، ويتضمن الإيمانُ بالكتب الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه خصوصاً التوراة والإنجيل والزبور، وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بالكتب السماوية كلها وبجميع الرسل فلا يفرقون بين أحد منهم. ثم قال: {وبالآخرة هم يوقنون} والآخرة: اسم لما يكون بعد الموت، وخصه بالذكر بعد العموم؛ لأن الإيمان باليوم الآخر أحد أركان الإيمان؛ ولأنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل، واليقين هو: العلم التام، الذي ليس فيه أدنى شك، الموجب للعمل.
# {5} {أولئك}؛ أي: الموصوفون بتلك الصفات الحميدة {على هدى من ربهم}؛ أي: على هدى عظيم؛ لأن التنكير للتعظيم، وأيُّ هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال المستقيمة؟! وهل الهداية في الحقيقة إلا هدايتهم وما سواها مما خالفها فهي ضلالة؟! وأتى بعلى في هذا الموضع الدالة على الاستعلاء، وفي الضلالة يأتي بفي كما في قوله: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}؛ لأن صاحب الهدى مستعلٍ بالهدى مرتفع به، وصاحب الضلال منغمس فيه محتقر. ثم قال: {وأولئك هم المفلحون} والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، حصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم، وما عدا تلك السبيل فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك؛ فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقًّا ذكر صفات الكفار المظهرين لكفرهم المعاندين للرسول فقال:
آية: 6 - 7 #
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}.
# {6} يخبر تعالى {إن الذين كفروا}، أي: اتصفوا بالكفر وانصبغوا به، وصار وصفاً لهم لازماً لا يردعهم عنه رادع، ولا ينجع فيهم وعظ أنهم مستمرون على كفرهم، فسواء عليهم {أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}. وحقيقة الكفر هو الجحود لما جاء به الرسول أو جحد بعضه، فهؤلاء الكفار لا تفيدهم الدعوة إلا إقامة الحجة عليهم، وكأن في هذا قطعاً لطمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إيمانهم وأنك لا تأس عليهم، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان، فقال:
# {7} {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم}؛ أي: طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان ولا ينفذ فيها؛ فلا يعون ما ينفعهم ولا يسمعون ما يفيدهم {وعلى أبصارهم غشاوة}؛ أي: غشاءً وغطاءً وأكنَّة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم، وهذه طرق العلم والخير قد سدت عليهم، فلا مطمع فيهم ولا خير يرجى عندهم، وإنما منعوا ذلك وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق، كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة} وهذا عقاب عاجل، ثم ذكر العقاب الآجل فقال: {ولهم عذابٌ عظيم} وهو عذاب النار، وسخط الجبار المستمر الدائم.
ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر:
آية: 8 - 10 #
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}.
# {8 ـ 9} واعلم أن النفاق هو إظهار الخير وإبطان الشر، ويدخل في هذا التعريف النفاق الاعتقادي والنفاق العملي؛ فالنفاق العملي؛ كالذي ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان»؛ وفي رواية «وإذا خاصم فجر». وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام؛ فهو الذي وصف الله به المنافقين في هذه السورة وغيرها، ولم يكن النفاق موجوداً قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ولا بعد الهجرة، حتى كانت وقعة بدر وأظهر الله المؤمنين وأعزهم؛ فذل من في المدينة ممن لم يسلم، فأظهر الإسلامَ بعضُهم خوفاً ومخادعة؛ ولتحقن دماؤهم وتسلم أموالهم، فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم منهم، وفي الحقيقة ليسوا منهم. فمن لطف الله بالمؤمنين أن جَلا أحوالهم، ووصفهم بأوصاف يتميزون بها لئلا يغتر بهم المؤمنون، ولينقمعوا أيضاً عن كثير من فجورهم، قال تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم}؛ فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يقُولُ آمنَّا باللَّهِ وبِاليومِ الآخِرِ وَمَا هُم بمؤمنين}؛ فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فأكذبهم الله بقوله: {وما هُم بمؤمنين}؛ لأن الإيمان الحقيقي ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين، والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئاً، ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع، فهؤلاء المنافقون سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك؛ فعاد خداعهم على أنفسهم، وهذا من العجائب ؛ لأن المخادع إما أن ينتج خداعه ويحصل له مقصوده أو يسلم لا له ولا عليه، وهؤلاء عاد خداعهم على أنفسهم ، فكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ لأن الله لا يتضرر بخداعهم شيئاً، وعباده المؤمنين لا يضرهم كيدهم شيئاً، فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان؛ فسلمت بذلك أموالهم، وحقنت دماؤهم، وصار كيدهم في نحورهم، وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا، والحزن المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة، ثم في الآخرة لهم العذاب الأليم الموجع المفجع بسبب كذبهم وكفرهم وفجورهم، والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم لا يشعرون بذلك.
# {10} وقوله: {في قلوبهم مرض}؛ المراد بالمرض هنا: مرض الشك، والشبهات، والنفاق، وذلك أن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة، ومرض الشهوات المُرْدِيَة. فالكفر والنفاق والشكوك والبِدَع كلها من مرض الشبهات، والزِنا ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها من مرض الشهوات؛ كما قال تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض}؛ وهو شهوة الزنا، والمعافى من عوفي من هذين المرضين، فحصل له اليقين والإيمان والصبر عن كل معصية، فرفل في أثواب العافية. وفي قوله عن المنافقين: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً}؛ بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي، على العاصين وأنه بسبب ذنوبهم السابقة؛ يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها، كما قال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}، وقال تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}، وقال تعالى: {وأما الذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجساً إلى رجسهم} فعقوبة المعصية المعصية بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها؛ قال تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى}.
آية: 11 - 12 #
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}.
# {11} أي: إذا نُهِيَ هؤلاء المنافقون عن الإفساد في الأرض، وهو العمل بالكفر والمعاصي، ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالاتهم للكافرين: {قالوا إنما نحن مصلحون}؛ فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض وإظهار أنه ليس بإفساد، بل هو إصلاح قلباً للحقائق، وجمعاً بين فعل الباطل واعتقاده حقًّا، وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها ، فهذا أقرب للسلامة وأرجى لرجوعه، ولما كان في قولهم: {إنما نحن مصلحون}؛ حصر للإصلاح في جانبهم ـ وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح ـ قلب الله عليهم دعواهم بقوله:
# {12} {ألا إنهم هم المفسدون} فإنه لا أعظم إفساداً ممن كفر بآيات الله، وصد عن سبيل الله، وخادع الله وأولياءه، ووالى المحاربين لله ورسوله، وزعم مع هذا أن هذا إصلاح، فهل بعد هذا الفساد فساد؟! ولكن لا يعلمون علماً ينفعهم وإن كانوا قد علموا بذلك علماً تقوم به عليهم حجة الله، وإنما كان العمل [بالمعاصي] في الأرض إفساداً؛ لأنه سبب لفساد ما على وجه الأرض من الحبوب والثمار والأشجار والنبات لما يحصل فيها من الآفات التي سببها المعاصي، ولأن الإصلاح في الأرض أن تُعمَر بطاعة الله والإيمان به، لهذا خلق الله الخلق وأسكنهم [في] الأرض وأدرَّ عليهم الأرزاق؛ ليستعينوا بها على طاعته وعبادته، فإذا عُمِل فيها بضده كان سعياً فيها بالفساد وإخراباً لها عمَّا خُلِقت له.
آية: 13 #
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}.
# {13} أي: إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس، أي: كإيمان الصحابة رضي الله عنهم وهو: الإيمان بالقلب واللسان، قالوا بزعمهم الباطل: أنؤمن كما آمن السفهاء؟ يعنون ـ قبحهم الله ـ الصحابة رضي الله عنهم؛ لزعمهم أن سفههم أوجب لهم الإيمان، وترك الأوطان، ومعاداة الكفار، والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك، فنسبوهم إلى السَفَه، وفي ضمن ذلك أنهم هم العقلاء أرباب الحجى والنُهى؛ فرد الله ذلك عليهم وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة؛ لأن حقيقة السفه جهل الإنسان بمصالح نفسه، وسعيه فيما يضرها، وهذه الصفة منطبقة عليهم، [وصادقة عليهم] كما أن العقل والحجى معرفة الإنسان بمصالح نفسه والسعي فيما ينفعه وفي دفع ما يضره، وهذه الصفة منطبقة على الصحابة والمؤمنين؛ فالعبرة بالأوصاف والبرهان، لا بالدعاوي المجردة والأقوال الفارغة.
آية: 14 - 15 #
{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)}.
# {14} هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وذلك أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين أظهروا أنهم على طريقتهم، وأنهم معهم، فإذا خلوا إلى شياطينهم ـ أي كبرائهم ورؤسائهم بالشر ـ قالوا: إنا معكم في الحقيقة وإنما نحن مستهزئون بالمؤمنين بإظهارنا لهم أننا على طريقتهم، فهذه حالهم الباطنة والظاهرة، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
# {15} قال تعالى: {الله يستهزئُ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون}؛ وهذا جزاء لهم على استهزائهم بعباده، فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء، والأحوال الخبيثة حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين لَمَّا لم يسلطْ الله المؤمنين عليهم، ومن استهزائه بهم يوم القيامة: أنه يعطيهم مع المؤمنين نوراً ظاهراً، فإذا مشى المؤمنون بنورهم طفئ نور المنافقين وبقُوا في الظلمة بعد النور متحيرين، فما أعظم اليأس بعد الطمع {ينادونهم ألم نكن معكم، قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم ... } الآية. قوله: {ويمدهم}؛ أي: يزيدهم {في طغيانهم}؛ أي: فجورهم وكفرهم {يعمهون}؛ أي: حائرون مترددون، وهذا من استهزائه تعالى بهم.
ثم قال تعالى كاشفاً عن حقيقة أحوالهم:
آية: 16 #
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
# {16} أولئك؛ أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات {الذين اشتروا الضلالة بالهدى}؛ أي: رغبوا في الضلالة رغبة المشتري في السلعة ، التي ـ من رغبته فيها ـ يبذل فيها الأموال النفيسة، وهذا من أحسن الأمثلة، فإنه جعل الضلالة التي هي غاية الشر كالسلعة، وجعل الهدى الذي هو غاية الصلاح بمنزلة الثمن، فبذلوا الهدى رغبة عنه في الضلالة رغبة فيها، فهذه تجارتهم؛ فبئس التجارة، وهذه صفقتهم؛ فبئست الصفقة. وإذا كان من يبذل ديناراً في مقابلة درهم خاسراً فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها درهماً، فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضلالة، واختار الشقاء على السعادة، ورغب في سافل الأمور وترك عاليها ، فما ربحت تجارته بل خسر فيها أعظم خسارة، أولئك الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. وقوله: {وما كانوا مهتدين}؛ تحقيق لضلالهم وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء، فهذه أوصافهم القبيحة، ثم ذكر مثلهم [الكاشف لها غاية الكشف]، فقال:
آية: 17 - 20 #
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}.
# {17} أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد ناراً أي: كان في ظلمة عظيمة، وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره، ولم تكن عنده معدة بل هي خارجة عنه، فلما أضاءت النار ما حوله، ونظر المحل الذي هو فيه وما فيه من المخاوف، وأمنها وانتفع بتلك النار، وقرت بها عينه، وظن أنه قادر عليها، فبينما هو كذلك، إذ ذهب الله بنوره؛ فزال عنه النور وذهب معه السرور، وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة؛ فذهب ما فيها من الإشراق وبقي ما فيها من الإحراق، فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، والظلمة الحاصلة بعد النور، فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين ولم تكن صفة لهم، فاستضاؤوا بها مؤقتاً وانتفعوا؛ فحقنت بذلك دماؤهم، وسلمت أموالهم، وحصل لهم نوع من الأمن في الدنيا، فبينما هم كذلك إذ هجم عليهم الموت؛ فسلبهم الانتفاع بذلك النور، وحصل لهم كل هم وغم وعذاب، وحصل لهم ظلمة القبر، وظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة المعاصي على اختلاف أنواعها، وبعد ذلك ظلمة النار وبئس القرار؛ فلهذا قال تعالى عنهم:
# {18} {صمٌّ}؛ أي: عن سماع الخير {بكمٌ}، أي: عن النطق به {عميٌ} عن رؤية الحق {فهم لا يرجعون}؛ لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه؛ فلا يرجعون إليه، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال؛ فإنه لا يعقل، وهو أقرب رجوعاً منهم.
# {19} ثم قال تعالى: {أو كصيب من السماء}؛ أي: كصاحب صيب وهو: المطر الذي يصوب؛ أي: ينزل بكثرة {فيه ظلمات}؛ ظلمة الليل، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، وفيه {رعد}؛ وهو: الصوت الذي يسمع من السحاب وفيه {برق}؛ وهو الضوء اللامع المشاهد من السحاب.
# {20} {كلما أضاء لهم}؛ البرق في تلك الظلمات {مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا}؛ أي: وقفوا، فهكذا حالة المنافقين إذا سمعوا القرآن، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده؛ جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأعرضوا عن أمره ونهيه، ووعده ووعيده؛ فيروعهم وعيده، وتزعجهم وعوده، فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت، فهذا ربما حصلت له السلامة ، وأما المنافقون فأنى لهم السلامة وهو تعالى محيط بهم قدرة وعلماً فلا يفوتونه ولا يعجزونه، بل يحفظ عليهم أعمالهم ويجازيهم عليها أتم الجزاء. ولما كانوا مبتلين بالصمم والبكم والعمى المعنوي ومسدودة عليهم طُرُقُ الإيمان قال تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم}؛ أي الحسية، ففيه تخويف لهم وتحذير من العقوبة الدنيوية؛ ليحذروا فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم {إن الله على كل شيء قدير}؛ فلا يعجزه شيء، ومن قدرته أنه إذا شاء شيئاً فعله من غير ممانع ولا معارض. وفي هذه الآية وما أشبهها ردٌّ على القدرية القائلين بأن أفعالَهم غير داخلة في قدرة الله تعالى؛ لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله: {إن الله على كل شيء قدير}.
آية: 21 - 22 #
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}.
# {21} هذا أمر عام لجميع الناس بأمر عام وهو العبادة الجامعة لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وتصديق خبره، فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}؛ ثم استدل على وجوب عبادته وحده بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم، فخلقكم بعد العدم، وخلق الذين من قبلكم.
# {22} وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة، فجعل لكم الأرض فراشاً تستقرون عليها، وتنتفعون بالأبنية والزراعة والحراثة والسلوك من محل إلى محل، وغير ذلك من وجوه الانتفاع بها، وجعل السماء بناء لمسكنكم وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم كالشمس والقمر والنجوم {وأنزل من السماء ماء}؛ والسماء هو: كل ما علا فوقك فهو سماء، ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء ههنا السحاب، فأنزل منه تعالى ماء {فأخرج به من الثمرات}؛ كالحبوب والثمار من نخيل وفواكه وزروع وغيرها {رزقاً لكم}؛ به ترتزقون وتتقوتون وتعيشون وتفكهون ، {فلا تجعلوا لله أنداداً}؛ أي: أشباهاً ونظراء من المخلوقين؛ فتعبدونهم كما تعبدون الله، وتحبونهم كما تحبونه ، وهم مِثْلكم مخلوقون مرزوقون مُدبَّرون، لا يملكون مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء ، ولا ينفعونكم ولا يضرون {وأنتم تعلمون}؛ أن الله ليس له شريك، ولا نظير لا في الخلق والرزق والتدبير، ولا في الألوهية والكمال ، فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب وأسفه السفه. وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته وبطلان عبادة ما سواه، وهو ذكر توحيد الربوبية المتضمن انفراده بالخلق والرزق والتدبير، فإذا كان كل أحد مقرًّا بأنه ليس له شريك بذلك فكذلك؛ فليكن الإقرار بأن الله ليس له شريك في عبادته ، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري تعالى وبطلان الشرك. وقوله: {لعلكم تتقون}؛ يحتمل أن المعنى أنكم إذا عبدتم الله وحده اتقيتم بذلك سخطه وعذابه؛ لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك، ويحتمل أن يكون المعنى أنكم إذا عبدتم الله صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى، وكلا المعنيين صحيح، وهما متلازمان، فمن أتى بالعبادة كاملة؛ كان من المتقين، ومن كان من المتقين؛ حصلت له النجاة من عذاب الله، وسخطه.
آية: 23 - 24 #
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}.
# {23} وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحة ما جاء به فقال: وإن كنتم ـ يا معشر المعاندين للرسول الرادين دعوته الزاعمين كذبه ـ في شك، واشتباه مما نزلنا على عبدنا، هل هو حق أو غيره؟ فههنا أمر نَصَفٌ فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو: أنه بشر مثلكم ليس من جنس آخر ، وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله، وقلتم أنتم إنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون؛ فأتوا بسورة من مثله، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم، فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصاً وأنتم أهل الفصاحة والخطابة والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله؛ فهو كما زعمتم، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز [ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكنّ هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم]؛ فهذا آية كبيرة ودليل واضح جلي على صدقه وصدق ما جاء به؛ فيتعين عليكم اتباعه، واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة والشدة، أن كان وقودها الناس والحجارة، ليست كنار الدنيا التي إنما تُتَّقَد بالحطب، وهذه النار الموصوفة مُعَدة ومُهَيأة للكافرين بالله ورسله؛ فاحذروا الكفر برسوله بعدما تبين لكم أنه رسول الله.
# {24} وهذه الآية ونحوها يسمونها: آية التحدي، وهو: تعجيز الخلق عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو يعارضوه بوجه، قال تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً}؛ وكيف يقدر المخلوق من تراب أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب، أم كيف يقدر الفقير الناقص من جميع الوجوه أن يأتي بكلام ككلام الكامل، الذي له الكمال المطلق، والغنى الواسع من جميع الوجوه ؟ هذا ليس في الإمكان ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة بأنواع الكلام ، إذا وزن هذا القرآن [العظيم] بغيره من كلام البلغاء، ظهر له الفرق العظيم. وفي قوله: {وإن كنتم في ريب}؛ إلى آخره، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة هو الشاك الحائر، الذي لم يعرف الحق من الضلالة، فهذا الذي إذا بين له الحق حري باتباعه إن كان صادقاً في طلب الحق، وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه، فهذا لا يمكن رجوعه؛ لأنه ترك الحق بعد ما تبين له، لم يتركه عن جهل فلا حيلة فيه، وكذلك الشاكُّ الذي ليس بصادق في طلب الحق بل هو معرض غير مجتهد بطلبه؛ فهذا في الغالب لا يوفق. وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم دليل على أن أعظم أوصافه - صلى الله عليه وسلم - قيامه بالعبودية التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين، كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء فقال: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً}؛ وفي مقام الإنزال فقال: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً}. وفي قوله: {أعدت للكافرين}؛ ونحوها من الآيات دليل لمذهب أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان، خلافاً للمعتزلة. وفيها أيضاً: أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار لأنه قال: {أعدت للكافرين}؛ فلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها لم تكن معدة للكافرين وحدهم، خلافاً للخوارج والمعتزلة وفيها: دلالة على أن العذاب مُستَحَق بأسبابه وهو الكفر وأنواع المعاصي على اختلافها.
آية: 25 #
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}.
# {25} لمَّا ذكر جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أهل الأعمال الصالحات كما هي طريقته تعالى في كتابه يجمع بين الترغيب والترهيب؛ ليكون العبد راغباً راهباً خائفاً راجياً فقال: {وبشّر}؛ أي: أيها الرسول ، ومن قام مقامك {الذين آمنوا}؛ بقلوبهم {وعملوا الصالحات}؛ بجوارحهم؛ فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، ووُصِفت أعمال الخير بالصالحات؛ لأن بها تصلح أحوال العبد، وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال؛ فيكون بذلك من الصالحين الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته فبشرهم {أن لهم جنات}؛ أي: بساتين جامعة للأشجار العجيبة والثمار الأنيقة والظل المديد والأغصان والأفنان، وبذلك صارت جنة يجتن بها داخلها وينعم فيها ساكنها {تجري من تحتها الأنهار}؛ أي: أنهار الماء واللبن والعسل والخمر يفجرونها كيف شاؤوا، ويصرفونها أين أرادوا، وتُسقَى منها تلك الأشجار؛ فتنبت أصناف الثمار {كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل}؛ أي: هذا من جنسه وعلى وصفه، كلها متشابهة في الحسن واللذة ليس فيها ثمرة خاسَّةٌ، وليس لهم وقت خالٍ من اللَّذة؛ فهم دائماً متلذذون بأُكُلِها، وقوله: {وأتوا به متشابهاً}؛ قيل: متشابهاً في الاسم مختلفاً في الطعم ، وقيل: متشابهاً في اللون مختلف في الاسم، وقيل: يشبه بعضه بعضاً في الحسن واللذة والفكاهة، ولعل هذا أحسن. ثم لما ذكر مسكنهم، وأقواتهم من الطعام والشراب، وفواكههم ذكر أزواجهم؛ فوصفهنَّ بأكمل وصف وأوجزه وأوضحه؛ فقال: {ولهُم فيها أزواجٌ مُطهرةٌ}؛ فلم يقل مطهرةٌ من العيب الفلاني؛ ليشمل جميع أنواع التطهير، فهنَّ مطهرات الأخلاق، مطهرات الخلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، فأخلاقهن أنهن عُرُبٌ متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن وحسن التبعل والأدب القولي والفعلي، ومطهرٌ خَلْقُهن من الحيض والنفاس والمني والبول والغائط والمخاط والبصاق والرائحة الكريهة، ومُطَهرات الخَلْق أيضاً بكمال الجمال؛ فليس فيهن عيب ولا دمامة خَلْق، بل هن خيرات حسان، مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن، وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح. ففي هذه الآية الكريمة ذكر المبشِّر والمُبشَّر والمُبَشَّر به والسبب الموصل لهذه البشارة؛ فالمبشر هو: الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن قام مقامه من أمته، والمبشَّر هم: المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشر به هي: الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك، هو: الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة إلا بهما، وهذا أعظم بشارة حاصلة على يد أفضل الخلق بأفضل الأسباب، وفيه استحباب بشارة المؤمنين وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها وثمراتها؛ فإنها بذلك تخف وتسهل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم. نسأل الله من فضله.
آية: 26 - 27 #
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
# {26} يقول تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما}؛ أيْ: أيُّ مثل كان {بعوضة فما فوقها}؛ لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق، والله لا يستحيي من الحق، وكأنّ في هذا جواباً لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله في ذلك؛ فليس في ذلك محل اعتراض، بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم، فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر، ولهذا قال: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم}؛ فيفهمونها ويتفكرون فيها، فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها، لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثاً بل لحكمة بالغة ونعمة سابغة، {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً}؛ فيعترضون ويتحيرون فيزدادون كفراً إلى كفرهم كما ازداد المؤمنون إيماناً على إيمانهم؛ ولهذا قال: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً}؛ فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية، قال تعالى: {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون}؛ فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة وضلالة وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة ورحمة وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال. ثم ذكر حكمته وعدله في إضلاله من يضل ؛ فقال: {وما يضل به إلا الفاسقين}؛ أي: الخارجين عن طاعة الله المعاندين لرسل الله الذين صار الفسق وصفهم؛ فلا يبغون به بدلاً، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم؛ لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضى فضله وحكمته هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة. والفسق نوعان: نوع مخرج من الدين وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ... }؛ الآية.
ثم وصف الفاسقين فقال:
# {27} {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}؛ وهذا يعم العهد الذي بينهم وبين ربهم ، والذي بينهم وبين الخلق ، الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق، بل ينقضونها، ويتركون أوامره، ويرتكبون نواهيه، وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق {ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل}؛ وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب وسائر الخلق بالقيام بحقوقهم التي أمر الله أن نصلها، فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام؛ وأما الفاسقون فقطعوها ونبذوها وراء ظهورهم معتاضين عنها بالفسق والقطيعة والعمل بالمعاصي وهو الإفساد في الأرض، {فأولئك}؛ أي: من هذه صفته {هم الخاسرون}؛ في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم؛ لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم ليس لهم نوع من الربح، لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان، فمن لا إيمان له؛ لا عمل له، وهذا الخسار هو: خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفراً وقد يكون معصية وقد يكون تفريطاً في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خسر}؛ فهذا عام لكل مخلوق إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وحقيقته فوات الخير الذي كان العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه.
ثم قال تعالى:
آية: 28 #
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}.
# {28} هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار؛ أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله الذي خلقكم من العدم، وأنعم عليكم بأصناف النعم، ثم يميتكم عند استكمال آجالكم، ويجازيكم في القبور، ثم يحييكم بعد البعث والنشور، ثم إليه ترجعون فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه وتدبيره وبره وتحت أوامره الدينية، وبعد ذلك تحت دينه الجزائي أَفَيَليق بكم أن تكفروا به؟ وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه كبير ؟ بل الذي يليق بكم أن تتقوه وتشكروه، وتؤمنوا به ، وتخافوا عذابه، وترجوا ثوابه.
آية: 29 - 0 #
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}.
# {29} أي: خلق لكم برًّا بكم ورحمة جميع ما على الأرض للانتفاع والاستمتاع والاعتبار. وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة؛ لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث فإن تحريمها أيضاً يؤخذ من فحوى الآية، وبيان المقصود منها، وأنه خلقها لنفعنا، فما فيه ضرر؛ فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته منعنا من الخبائث تنزيهاً لنا؛ وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}. «استوى»: ترد في القرآن على ثلاثة معانٍ: فتارة لا تُعدَّى بالحرف فيكون معناها: الكمال والتمام، كما في قوله عن موسى: {ولما بلغ أشده واستوى}؛ وتارة تكون بمعنى علا وارتفع، وذلك إذا عديت «بعلى» كقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} ؛ {لتستووا على ظهوره}؛ وتارة تكون بمعنى قصد كما إذا عُدِيت «بإلى» كما في هذه الآية، أي: لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات فسواهن سبع سماوات فخلقها وأحكمها وأتقنها وهو بكل شيء عليم، فيعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ويعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم السر وأخفى. وكثيراً ما يقرن بين خلقه وإثبات علمه كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}؛ لأن خلقه للمخلوقات أدل دليل على علمه وحكمته وقدرته.
آية: 30 - 34 #
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}.
# {30} هذا شروع في ابتداء خلق آدم عليه السلام أبي البشر وفضلهِ، وأن الله تعالى حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك، وأن الله مستخلفه في الأرض، فقالت الملائكة عليهم السلام: أتجعل فيها من يفسد فيها بالمعاصي ويسفك الدماء، وهذا تخصيص بعد تعميم؛ لبيان شدة مفسدة القتل، وهذا بحسب ظنهم أن الخليفةَ المَجْعُول في الأرض سيحْدُثُ منه ذلك، فنزهوا الباري عن ذلك وعظموه، وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خالٍ من المفسدة فقالوا: {ونحن نسبح بحمدك}؛ أي: ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك {ونقدس لك}؛ يحتمل أن معناها ونقدسك؛ فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص، ويحتمل أن يكون: ونقدس لك أنفسنا؛ أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة؛ كمحبة الله، وخشيته، وتعظيمه، ونطهرها من الأخلاق الرذيلة {قال}؛ الله للملائكة: {إني أعلم}؛ من هذا الخليفة {ما لا تعلمون}؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم، وأنا عالم بالظواهر والسرائر، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر، فلو لم يكن في ذلك، إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ولتظهر آياته للخلق ، ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة كالجهاد وغيره، وليظهر ما كمن في غرائز المكلفين من الخير والشر بالامتحان، وليتبين عدوه من وليه وحزبه من حربه، وليظهر ما كَمُن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه واتصف به، فهذه حكم عظيمة يكفي بعضها في ذلك.
ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض، أراد الله تعالى أن يبين لهم من فضل آدم ما يعرفون به فضله، وكمال حكمة الله وعلمه.
# {31} فَعَلَّمَ {آدم الأسماء كلَّها}؛ أي: أسماء الأشياء ومن هو مسمى بها، فعلمه الاسم والمُسمَّى؛ أي: الألفاظ والمعاني حتى المصغر من الأسماء والمكبر؛ كالقصعة والقُصيْعَة {ثم عرضهم}؛ أي: عرض المسمَّيَات {على الملائكة}؛ امتحاناً لهم هل يعرفونها أم لا {فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين}؛ في قولكم وظنكم أنكم أفضل من هذا الخليفة.
# {32} {قالوا سبحانك}؛ أي ننزهك من الاعتراض منَّا عليك، ومخالفة أمرك {لا علم لنا}؛ بوجه من الوجوه، {إلا ما علمتنا}؛ إياه فضلاً منك وجوداً {إنك أنت العليم الحكيم}؛ العليم الذي أحاط علماً بكل شيء، فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، الحكيم: من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئاً إلا لحكمة، ولا أمر بشيء إلا لحكمة، والحكمة وضع الشيء في موضعه اللائق به. فأقروا واعترفوا بعلم الله وحكمته وقصورهم عن معرفة أدنى شيء، واعترافهم بفضل الله عليهم وتعليمه إياهم ما لا يعلمون.
# {33} فحينئذ قال الله: {يا آدم أنبئهم بأسمائهم}؛ أي: أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة؛ فعجزوا عنها {فلما أنبأهم بأسمائهم}؛ تبين للملائكة فضل آدم عليهم، وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة {قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض} وهو ما غاب عنا فلم نشاهده، فإذا كان عالماً بالغيب، فالشهادة من باب أولى {وأعلم ما تبدون}؛ أي: تظهرون {وما كنتم تكتمون}.
# {34} ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم إكراماً له وتعظيماً وعبودية لله تعالى؛ فامتثلوا أمر الله، وبادروا كلهم بالسجود، {إلا إبليس أبى} امتنع عن السجود، واستكبر عن أمر الله، وعلى آدم قال: {أأسجد لمن خلقت طيناً} وهذا الإباء منه، والاستكبار نتيجة الكفر الذي هو منطوٍ عليه، فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره. وفي هذه الآيات من العِبَر والآيات إثبات الكلام لله تعالى، وأنه لم يزل متكلماً يقول ما شاء، ويتكلم بما شاء وأنه عليم حكيم، وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات، والمأمورات؛ فالواجب عليه التسليم واتهامُ عقله والإقرار لله بالحكمة؛ وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة وإحسانه بهم بتعليمهم ما جهلوا، وتنبيههم على ما لم يعلموه. وفيه فضيلة العلم من وجوه: منها: أن الله تعرف لملائكته بعلمه وحكمته. ومنها: أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم، وأنه أفضل صفة تكون في العبد. ومنها: أن الله أمرهم بالسجود لآدم إكراماً له لمَّا بانَ فضل علمه. ومنها: أن الامتحان للغير إذا عجزوا عما امتحنوا به ثم عرفه صاحب الفضيلة فهو أكمل مما عرفه ابتداء. ومنها: الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن وبيان فضل آدم وأفضال الله عليه وعداوة إبليس له، إلى غير ذلك من العبر.
آية: 35 - 36 #
{وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}.
# {35} لما خلق الله آدم وفضَّله، أتمَّ نعمته عليه بأن خلق منه زوجة؛ ليسكن إليها ويستأنس بها، وأمرهما بسكنى الجنة والأكل منها رغداً؛ أي: واسعاً هنيئاً {حيث شئتما}؛ أي: من أصناف الثمار والفواكه، وقال الله له: {إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}، {ولا تقربا هذه الشجرة}؛ نوع من أنواع شجر الجنة الله أعلم بها، وإنما نهاهما عنها امتحاناً وابتلاء أو لحكمة غير معلومة لنا، {فتكونا من الظالمين}؛ دل على أن النهي للتحريم؛ لأنه رتب الظلم عليه ؛ فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نُهيا عنه حتى أزلهما أي حملهما على الزلل بتزيينه {وقاسمهما}؛ بالله {إني لكما لمن الناصحين}.
# {36} فاغترا به وأطاعاه؛ فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم، والرغد، وأُهْبِطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة {بعضكم لبعض عدو}؛ أي: آدم وذريته أعداء لإبليس وذريته. ومن المعلوم أن العدو يَجِدُّ ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق وحرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى: {إنّ الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً} ثم ذكر منتهى الإهباط فقال: {ولكم في الأرض مستقر}؛ أي: مسكن وقرار {ومتاعٌ إلى حين}؛ انقضاء آجالكم ثم تنتقلون منها للدار التي خُلقتم لها وخلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة مؤقتة عارضة ليست مسكناً حقيقياً، وإنما هي معبر يُتزوَّد منها لتلك الدار، ولا تُعمَّر للاستقرار.
آية: 37 #
[{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}].
# {37} {فتلقّى آدم}؛ أي: تلقف وتلقن وألهمه الله {من ربه كلمات}؛ وهي قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا ... }؛ الآية؛ فاعترف بذنبه، وسأل الله مغفرته {فتاب}؛ الله، {عليه}؛ ورحمه {إنه هو التواب}؛ لمن تاب إليه وأناب. وتوبته نوعان: توفيقه أولاً. ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانياً. {الرحيم}؛ بعباده، ومن رحمته بهم أن وفقهم للتوبة وعفا عنهم وصفح.
آية: 38 - 39 #
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}.
# {38} كرر الإهباط؛ ليرتب عليه ما ذكر، وهو قوله: {فإما يأتينكم مني هدى}؛ أي: أيُّ وقت وزمان جاءكم مني يا معشرَ الثقلين هدى؛ أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني، ويدنيكم من رضائي فمن تبع هداي منكم، بأن آمن برسلي، وكتبي واهتدى بهم، وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب والامتثال للأمر والاجتناب للنهي، {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}؛ وفي الآية الأخرى، {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}. فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: نفي الخوف والحزن والفرق بينهما: أن المكروه إن كان قد مضى أحدث الحزن وإن كان منتظراً أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع الهدى وإذا انتفيا حصل ضدهما وهو الأمن التام.
# {39} وكذلك: نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه، وإذا انتفيا ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى وانتفى عنه كل مكروه من الخوف والحزن والضلال والشقاء؛ فحصل له المرغوب واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه فكفر به وكذب بآياته؛ فأولئك أصحاب النار، أي: الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه، والغريم لغريمه {هم فيها خالدون} لا يخرجون منها ولا يفتر عنهم العذاب ولا هم ينصرون. وفي هذه الآيات، وما أشبهها انقسام الخلق من الجن والإنس إلى أهل السعادة، وأهل الشقاوة، وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك، وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب، كما أنهم مثلهم في الأمر والنهي.
ثم شرع تعالى يُذَكِّر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال:
آية: 40 - 43 #
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}.
# {40} {يا بني إسرائيل}؛ المراد بإسرائيل: يعقوب عليه السلام، والخطاب مع فِرَق بني إسرائيل، الذين بالمدينة وما حولها ويدخل فيهم من أتى بعدهم، فأمرهم بأمر عام فقال: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}؛ وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها، والمراد بذكرها بالقلب اعترافاً، وباللسان ثناءً، وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه {وأوفوا بعهدي}؛ وهو ما عهده إليهم من الإيمان به، وبرسله، وإقامة شرعه {أوف بعهدكم}؛ وهو المجازاة على ذلك، والمراد بذلك ما ذكره الله في قوله: {ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي}؛ إلى قوله: {فقد ضل سواء السبيل}؛ ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده، وهو الرهبة منه تعالى، وخشيته وحده، فإن من خشيه أوجبت له خشيته امتثال أمره، واجتناب نهيه، ثم أمرهم بالأمر الخاص الذي لا يتم إيمانهم ولا يصح إلا به فقال:
# {41} {وآمنوا بما أنزلت}؛ وهو: القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأمرهم بالإيمان به واتباعه، ويستلزم ذلك، الإيمان بمن أنزل عليه، وذكر الداعي لإيمانهم، فقال: {مصدقاً لما معكم}؛ أي: موافقاً له لا مخالفاً ولا مناقضاً، فإذا كان موافقاً لما معكم من الكتب غير مخالف لها فلا مانع لكم من الإيمان به؛ لأنه جاء بما جاءت به المرسلون، فأنتم أولى من آمن به وصدق به؛ لكونكم أهل الكتب والعلم. وأيضاً فإن في قوله: {مصدقاً لما معكم}؛ إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به عاد ذلك عليكم بتكذيب ما معكم؛ لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم. وأيضاً فإن في الكتب التي بأيديكم صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن، والبشارة به، فإن لم تؤمنوا به؛ كذبتم ببعض ما أنزل إليكم، ومن كذب ببعض ما أنزل إليه؛ فقد كذب بجميعه، كما أن من كفر برسولٍ؛ فقد كذب الرسل جميعهم، فلما أمرهم بالإيمان به نهاهم، وحذرهم عن ضده وهو الكفر به فقال: {ولا تكونوا أول كافر به}؛ أي: بالرسول والقرآن، وفي قوله: {أول كافر به}؛ أبلغ من قوله ولا تكفروا به؛ لأنهم إذا كانوا أول كافر به كان فيه مبادرتهم إلى الكفر [به] عكس ما ينبغي منهم، وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم. ثم ذكر المانع لهم من الإيمان وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية فقال: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً}؛ وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل التي يتوهمون انقطاعها إن آمنوا بالله ورسوله، فاشتروها بآيات الله واستحبوها وآثروها {وإياي}؛ أي: لا غيري، {فاتقون}؛ فإنكم إذا اتقيتم الله وحده أوجبت لكم تقواه تقديم الإيمان بآياته على الثمن القليل، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل؛ فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم، ثم قال:
# {42} {ولا تلبسوا}؛ أي: تخلطوا {الحق بالباطل وتكتموا الحق}؛ فنهاهم عن شيئين، عن خلط الحق بالباطل وكتمان الحق؛ لأن المقصود من أهل الكتب والعلم تمييز الحق [من الباطل] وإظهار الحق، ليهتدي بذلك المهتدون، ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته؛ ليميز الحق من الباطل، ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمن عمل بهذا من أهل العلم؛ فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم، ومن لَبَّس الحق بالباطل فلم يميز هذا من هذا مع علمه بذلك، وكتم الحق الذي يعلمه وأُمِرَ بإظهاره؛ فهو من دعاة جهنم؛ لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم، فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين.
# {43} ثم قال: {وأقيموا الصلاة}؛ أي: ظاهراً وباطناً {وآتوا الزكاة}؛ مستحقيها، {واركعوا مع الراكعين}؛ أي: صلوا مع المصلين، فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله، فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة، وبين الإخلاص للمعبود والإحسان إلى عبيده، وبين العبادات القلبية والبدنية والمالية، وقوله: {واركعوا مع الراكعين}؛ أي: صلوا مع المصلين، ففيه، الأمر بالجماعة للصلاة، ووجوبها، وفيه، أن الركوع ركن من أركان الصلاة، لأنه عبر عن الصلاة بالركوع، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها.
آية: 44 #
[{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}].
# {44} {أتأمرون الناس بالبر}؛ أي: بالإيمان والخير، {وتنسون أنفسكم}؛ أي: تتركونها عن أمرها بذلك والحال، {وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}؛ وسُمِّي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله أو نهاه عن الشر فلم يتركه دل على عدم عقله وجهله، خصوصاً إذا كان عالماً بذلك، قد قامت عليه الحجة، وهذه الآية وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}؛ وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أُمِر به أنه يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبَيْنِ، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبَيْنِ، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير، وأيضاً فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قولَه فعلُه، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.
آية: 45 - 48 #
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}.
# {45} أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها، والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور، ومن يتصبر يصبره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان، وتنهى عن الفحشاء والمنكر يستعان بها على كل أمر من الأمور، {وإنها}؛ أي: الصلاة، {لكبيرة}؛ أي: شاقة {إلا على الخاشعين}؛ فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع وخشيةَ الله ورجاءَ ما عنده يوجب له فعلها منشرحاً صدره لترقبه للثواب وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك، فإنه لا داعي له يدعوه إليها، وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه. والخشوع: هو خضوع القلب وطمأنينته وسكونه لله تعالى وانكساره بين يديه ذلًّا وافتقاراً وإيماناً به وبلقائه، ولهذا قال:
# {46} {الذين يظنون}؛ أي يستيقنون {أنهم ملاقو ربهم}؛ فيجازيهم بأعمالهم، {وأنهم إليه راجعون}؛ فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات ونفس عنهم الكربات وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيمُ المقيمُ في الغرفاتِ العالياتِ، وأما من لم يؤمن بلقاء ربه كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه.
# {47} ثم: كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته وعظاً لهم وتحذيراً وحثًّا.
# {48} وخوفهم بيوم القيامة الذي: {لا تجزي}؛ فيه أي لا تغني {نفس}؛ ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين، {عن نفس}؛ ولو كانت من العشيرة الأقربين، {شيئاً}؛ لا كبيراً ولا صغيراً وإنما ينفع الإنسانَ عملُه الذي قدمه {ولا يقبل منها}؛ أي: النفس، {شفاعة}؛ لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له، ولا يرضى من العمل إلا ما أُريد به وجهه وكان على السبيل والسنة، {ولا يؤخذ منها عدل}؛ أي فداء ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من عذاب الله ولا يقبل منهم ذلك، {ولا هم ينصرون}؛ أي: يدفع عنهم المكروه، فنفى الانتفاعَ من الخلق بوجه من الوجوه، فقوله: {لا تَجْزِي نفس عن نفس شيئاً} هذا في تحصيل المنافع، {ولا هم ينصرون} هذا في دفع المضار، فهذا النفي للأمر المستقبل به النافع، {ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل} هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض، كالعدل أو بغيره كالشفاعة؛ فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع، وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع ويدفع المضار فيعبده وحده لا شريك له، ويستعينه على عبادته.
آية: 49 - 57 #
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}.
# {49 ـ 54} هذا: شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال: {وإذ نجيناكم من آل فرعون}؛ أي: من فرعون وملئه وجنوده وكانوا قبل ذلك، {يسومونكم}؛ أي: يولونهم ويستعملونهم {سوء العذاب}؛ أي: أشده بأن كانوا، {يذبحون أبناءكم}؛ خشية نموكم، {ويستحيون نساءكم}؛ أي: فلا يقتلونهن فأنتم بين قتيل ومُذلَّل بالأعمال الشاقة مستحيَى على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة، فَمَنَّ الله عليهم بالنجاة التامة، وإغراق عدوهم، وهم ينظرون لتَقَرَّ أعينهم {وفي ذلكم}؛ أي: الإنجاء {بلاء}؛ أي: إحسان {من ربكم عظيم}؛ فهذا مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره. ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة؛ لينزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة، ثم إنهم لم يصبروا قبل استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده؛ أي ذهابه {وأنتم ظالمون}؛ عالمون بظلمكم، قد قامت عليكم الحجة، فهو أعظم جرماً، وأكبر إثماً. ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضاً؛ فعفا الله عنكم بسبب ذلك {لعلكم تشكرون}؛ الله.
# {55} {وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}؛ وهذا غاية الجرأة على الله وعلى رسوله، {فأخذتكم الصاعقة}؛ إما الموت أو الغشية العظيمة {وأنتم تنظرون}؛ وقوع ذلك كل ينظر إلى صاحبه.
# {56} {ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون}؛ ثم ذكر نعمته عليهم في التِيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق فقال:
# {57} {وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ}؛ وهو: اسم جامع لكل رزق [حسن] يحصل بلا تعب، ومنه الزنجبيل والكمأة، والخبز، وغير ذلك، {والسلوى}؛ طائر صغير يقال له: السماني طيب اللحم؛ فكان ينزل عليهم من المنِّ والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم {كلوا من طيبات ما رزقناكم}؛ أي: رزقاً لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين، فلم يشكروا هذه النعمة ، واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب {وما ظلمونا}؛ يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا، لأن الله لا تضره معصية العاصين كما لا تنفعه طاعات الطائعين {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}؛ فيعود ضرره عليهم.
آية: 58 - 59 #
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}.
# {58} وهذا أيضاً من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه، فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزًّا ووطناً ومسكناً، ويحصل لهم فيها الرزقُ الرغدُ، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل، وهو دخول الباب سجداً، أي: خاضعين ذليلين، وبالقول وهو أن يقولوا: {حطة}؛ أي: أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته، {نغفر لكم خطاياكم}؛ بسؤالكم المغفرة {وسنزيد المحسنين}؛ بأعمالهم أي: جزاء عاجلاً وآجلاً.
# {59} {فبدل الذين ظلموا}؛ منهم، ولم يقل فبدلوا؛ لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا {قولاً غير الذي قيل لهم}؛ فقالوا: بدل حطة، حبة في حنطة، استهانة بأمر الله، واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى، ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم، ولما كان هذا الطغيان أكبر سببٍ لوقوع عقوبة الله بهم قال: {فأنزلنا على الذين ظلموا}؛ منهم {رجزاً}؛ أي: عذاباً {من السماء}؛ بسبب فسقهم وبغيهم.
آية: 60 #
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}.
# {60} {استسقى}؛ أي: طلب لهم ماء يشربون منه {فقلنا اضرب بعصاك الحجر}؛ إما حجر مخصوص معلوم عنده، وإما اسم جنس؛ {فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً}؛ وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة، {قد علم كل أناس}؛ منهم {مشربهم}؛ أي: محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين، فلا يزاحم بعضهم بعضاً بل يشربونه متهنئين لا متكدرين، ولهذا قال: {كلوا واشربوا من رزق الله}؛ أي: الذي آتاكم من غير سعي ولا تعب {ولا تعثوا في الأرض}؛ أي: تخربوا على وجه الإفساد.
آية: 61 #
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}.
# {61} أي: واذكروا {إذ قلتم} لموسى على وجه التملل لنعم الله، والاحتقار لها {لن نصبر على طعام واحد}؛ أي: جنس من الطعام وإن كان كما تقدم أنواعاً لكنها لا تتغير {فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها}؛ أي: نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه {وقثائها}؛ وهو الخيار {وفومها}؛ أي: ثومها والعدس والبصل معروف، قال لهم موسى: {أتستبدلون الذي هو أدنى}؛ وهو الأطعمة المذكورة {بالذي هو خير}؛ وهو المن والسلوى، فهذا غير لائق بكم، فإن هذه الأطعمة التي طلبتم، أي مِصْرٍ هبطتموه وجدتموها، وأما طعامكم الذي منَّ الله به عليكم فهو خير الأطعمة وأشرفها فكيف تطلبون به بدلاً؟ ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم، واحتقارهم لأوامر الله ونعمه جازاهم من جنس عملهم فقال: {وضربت عليهم الذلة}؛ التي تُشاهدَ على ظاهر أبدانهم {والمسكنة}؛ بقلوبهم فلم تكن أنفسهم عزيزة، ولا لهم همم عالية بل أنفسهم أنفس مهينة، وهممهم أردأ الهمم {وباؤوا بغضب من الله}؛ أي: لم تكن غنيمتهم التي رجعوا بها، وفازوا إلا أن رجعوا بسخطه عليهم؛ فبئس الغنيمة غنيمتهم، وبئس الحالة حالتهم {ذلك}؛ الذي استحقوا به غضبه {بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله}؛ الدالات على الحق الموضحة لهم، فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم وبما كانوا {يقتلون النبيين بغير الحق}؛ وقوله: {بغير الحق} زيادة شناعة، وإلا فمن المعلوم أن قتل النبيين لا يكون بحق، لكن لئلا يظن جهلهم وعدم علمهم {ذلك بما عصوا}؛ بأن ارتكبوا معاصي الله {وكانوا يعتدون}؛ على عباد الله؛ فإن المعاصي يجر بعضها بعضاً، فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير، ثم ينشأ عنه الذنب الكبير، ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك، فنسأل الله العافية من كل بلاء. واعلم أن الخطاب في هذه الآيات لأمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين وقت نزول القرآن، وهذه الأفعال المذكورة خوطبوا بها وهي فعل أسلافهم، ونسبت لهم لفوائد عديدة. منها: أنهم كانوا يتمدحون، ويزكون أنفسهم، ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به؛ فبين الله من أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم ما يبين به لكل واحد منهم أنهم ليسوا من أهل الصبر، ومكارم الأخلاق، ومعالي الأعمال، فإذا كانت هذه حالة سلفهم ـ مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم ـ فكيف الظن بالمخاطبين! ومنها: أن نعمة الله على المتقدمين منهم نعمة واصلة إلى المتأخرين، والنعمة على الآباء نعمة على الأبناء، فخوطبوا بها، لأنها نعم تشملهم وتعمهم. ومنها: أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم مما يدل على أن الأمة المجتمعة على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها، حتى كأنَّ متقدمهم ومتأخرهم في وقت واحد، وكأن الحادثَ من بعضهم حادثٌ من الجميع؛ لأن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع، وما يعمله من الشر يعود بضرر الجميع. ومنها: أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها، والراضي بالمعصية شريك للعاصي، إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها إلا الله.
ثم قال تعالى حاكماً بين الفرق الكتابية:
آية: 62 #
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}.
# {62} وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة، لأن الصابئين الصحيح: أنهم من جملة فرق النصارى، فأخبر الله أن المؤمنين من هذه الأمة واليهود والنصارى والصابئين من آمن بالله [منهم] واليوم الآخر وصدقوا رسلهم، فإن لهم الأجر العظيم، والأمن، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من كفر منهم بالله ورسله واليوم الآخر، فهو بضد هذه الحال؛ فعليه الخوف والحزن. والصحيح: أن هذا الحكم بين هذه الطوائف من حيث هم لا بالنسبة إلى الإيمان بمحمد، فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد، وإن هذا مضمون أحوالهم، وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس ـ عند سياق الآيات ـ بعض الأوهام، فلا بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم؛ لأنه تنزيل من يعلم الأشياء قبل وجودها، ومن رحمته وسعت كل شيء، وذلك ـ والله أعلم ـ أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم وذكر معاصيَهم وقبائحهم ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لا يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضاً ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم، ذكر تعالى حكماً عامًّا يشمل الطوائف كلها؛ ليتضح الحق ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين.
ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم:
آية: 63 - 64 #
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}
# {63} أي: واذكروا، {إذ أخذنا ميثاقكم}؛ وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم برفع الطور فوقهم وقيل لهم، {خذوا ما آتيناكم}؛ من التوراة {بقوة}؛ أي بجد واجتهاد، وصبر على أوامر الله {واذكروا ما فيه}؛ أي: ما في كتابكم بأن تتلوه وتتعلموه {لعلكم تتقون}؛ عذاب الله وسخطه، أو لتكونوا من أهل التقوى.
# {64} فبعد هذا التأكيد البليغ {توليتم}؛ وأعرضتم وكان ذلك موجباً لأن يحل بكم أعظم العقوبات ولكن {لولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين}.
آية: 65 - 66 #
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}.
# {65} أي: ولقد تقرر عندكم حالةُ، {الذين اعتدوا منكم في السبت}؛ وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت ... } الآيات؛ فأوجب لهم هذا الذنب العظيم أن غضب الله عليهم، وجعلهم {قردة خاسئين}؛ حقيرين ذليلين، وجعل الله هذه العقوبة:
# {66} {نكالاً لما بين يديها}؛ أي: لمن حضرها من الأمم، وبلغه خبرها ممن هو في وقتهم {وما خلفها}؛ أي: من بعدها فتقوم على العباد حجة الله، وليرتدعوا عن معاصيه، ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين، وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات.
آية: 67 - 74 #
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}.
# {67} أي: واذكروا ما جرى لكم مع موسى حين قتلتم قتيلاً؛ فادّارَأْتم فيه، أي: تدافعتم واختلفتم في قاتله حتى تفاقم الأمر بينكم، وكاد ـ لولا تبيين الله لكم ـ يحدث بينكم شر كبير، فقال لكم موسى في تبيين القاتل: اذبحوا بقرة، وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره وعدم الاعتراض عليه، ولكنهم أبوا إلا الاعتراض فقالوا: {أتتخذنا هزواً}؛ فقال نبي الله: {أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين}؛ فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه وهو الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل استهزاءه بمن هو آدمي مثله. وإن كان قد فضل عليه فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه والرحمة لعباده: فلما قال لهم موسى ذلك علموا أن ذلك صدق، فقالوا:
# {68} {ادع لنا ربك يبين لنا ما هي}؛ أي ما سنُّها {قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض}؛ أي: كبيرة، {ولا بكر}؛ أي: صغيرة، {عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون}؛ واتركوا التشديد والتعنت.
# {69} {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها}؛ أي: شديد، {تسر الناظرين}؛ من حسنها.
# {70} {قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا}؛ فلم نهتد إلى ما تريد، {وإنا إن شاء الله لمهتدون}.
# {71} {قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول}؛ أي: مذللة بالعمل {تثير الأرض}؛ بالحراثة {ولا تسقي الحرث}؛ أي: ليست بسانية، {مسلمة}؛ من العيوب أو من العمل {لا شية فيها}؛ أي: لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم، {قالوا الآن جئت بالحق}؛ أي: بالبيان الواضح، وهذا من جهلهم، وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة، فلو أنهم اعترضوا أيَّ بقرة لحصل المقصود، ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة؛ فشدد الله عليهم، ولو لم يقولوا إن شاء الله لم يهتدوا أيضاً إليها، {فذبحوها}؛ أي: البقرة التي وصفت بتلك الصفات، {وما كادوا يفعلون}؛ بسبب التعنت الذي جرى منهم.
# {72 ـ 73} فلما ذبحوها قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها، أي: بعضو منها إما بعضو معين أو أي عضو منها فليس في تعيينه فائدة؛ فضربوه ببعضها؛ فأحياه الله، وأخرج ما كانوا يكتمون؛ فأخبر بقاتله، وكان في إحيائه ـ وهم يشاهدون ـ ما يدل على إحياء الله الموتى، لعلكم تعقلون؛ فتنزجرون عن ما يضركم.
# {74} {ثم قست قلوبكم}؛ أي: اشتدت وغلظت فلم تؤثر فيها الموعظة {من بعد ذلك}؛ أي: من بعد ما أنعم الله عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم لأن ما شاهدتم مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها {كالحجارة} التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد؛ والرصاص إذا أذيب في النار ذاب بخلاف الأحجار، وقوله: {أو أشد قسوة}؛ أي: أنها لا تقصر عن قساوة الأحجار، وليست «أو» بمعنى بل. ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم فقال: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله}، فبهذه الأمور فَضَلَتْ قلوبَكم. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: {وما الله بغافل عمَّا تعملون}، بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها، وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه. واعلم أن كثيراً من المفسرين رحمهم الله قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل، ونزَّلوا عليها الآيات القرآنية، وجعلوها تفسيراً لكتاب الله، محتجين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة ولا منزلة على كتاب الله، فإنه لا يجوز جعلها تفسيراً لكتاب الله قطعاً إذا لم تصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن مرتبتها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم» ، فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكاً فيها، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة التي يغلب على الظن كذبها، أو كذب أكثرها معاني لكتاب الله مقطوعاً بها، ولا يستريب بهذا أحد، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل، والله الموفق.
آية: 75 - 78 #
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}.
# {75} هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب؛ أي فلا تطمعوا في إيمانهم، وأخلاقهم لا تقتضي الطمع فيهم؛ فإنهم كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وعلموه، فيضعون له معانيَ ما أرادها الله؛ ليوهموا الناس أنها من عند الله، وما هي من عند الله، فإذا كانت حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله، فكيف يرجى منهم إيمان لكم؟! فهذا من أبعد الأشياء.
# {76} ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب، فقال: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا}، فأظهروا لهم الإيمان قولاً بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، {وإذا خلا بعضهم إلى بعض}؛ فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم قال بعضهم لبعض: {أتحدثونهم بما فتح الله عليكم}؛ أي: أتظهرون لهم الإيمان وتخبرونهم أنكم مثلهم؟ فيكون ذلك حجة لهم عليكم، يقولون إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق وما هم عليه باطل، فيحتجون عليكم بذلك عند ربكم {أفلا تعقلون}؛ أي: أفلا يكون لكم عقل فتتركون ما هو حجة عليكم؟
# {77} هذا يقوله بعضهم لبعض: {أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون}، فهم وإن أسروا ما يعتقدونه فيما بينهم، وزعموا أنهم بإسرارهم لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين؛ فإن هذا غلط منهم وجهل كبير؛ فإن الله يعلم سرهم وعلنهم؛ فيظهر لعباده ما هم عليه.
# {78} {ومنهم}؛ أي: من أهل الكتاب {أميون}؛ أي: عوام، وليسوا من أهل العلم {لا يعلمون الكتاب إلا أماني}؛ أي: ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط، وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم، وهؤلاء إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم. فذكر في هذه الآيات علماءهم وعوامهم ومنافقيهم ومن لم ينافق منهم، فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال، والعوام مقلدون لهم، لا بصيرة عندهم؛ فلا مطمع لكم في الطائفتين.
آية: 79 #
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}.
# {79} توعد تعالى المحرفين للكتاب الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون {هذا من عند الله}، وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق، وإنما فعلوا ذلك مع علمهم، {ليشتروا به ثمناً قليلاً}، والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل، فجعلوا باطلهم شَرَكاً يصطادون به ما في أيدي الناس. فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم، ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق بل بأبطل الباطل، [وذلك] أعظم ممن يأخذها غصباً وسرقة ونحوهما، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين، فقال: {فويل لهم مما كتبت أيديهم}؛ أي من التحريف والباطل {وويل لهم مما يكسبون}؛ من الأموال، والويل شدة العذاب والحسرة، وفي ضمنها الوعيد الشديد. قال شيخ الإسلام لما ذكر هذه الآيات من قوله: أفتطمعون إلى يكسبون: «فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة على ما أصَّلَه من البدع الباطلة، وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومتناول لمن كتب كتاباً بيده مخالفاً لكتاب الله لينال به دنيا وقال: إنه من عند الله، مثل أن يقول: هذا هو الشرع والدين، وهذا معنى الكتاب والسنة، وهذا [معقول] السلف والأئمة، وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده على الأعيان أو الكفاية، ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة، لئلا يَحْتَجَّ به مخالفه في الحق الذي يقوله، وهذه الأمور كثيرة جداً في أهل الأهواء جملة، كالرافضة [والجهمية ونحوهم من أهل الأهواء والكلام، وفي أهل الأهواء] وتفصيلاً مثل كثير من المنتسبين إلى الفقهاء ... » انتهى.
آية: 80 - 82 #
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}.
# {80} ذكر أفعالهم القبيحة، ثم ذكر ـ مع هذا ـ أنهم يزكون أنفسهم، ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، وأنهم لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة؛ أي قليلة تعد بالأصابع، فجمعوا بين الإساءة والأمن، ولما كان هذا مجرد دعوى رد تعالى عليهم؛ فقال: {قل}؛ لهم يا أيها الرسول، {أتخذتم عند الله عهداً}؛ أي: بالإيمان به وبرسله وبطاعته، فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا يتبدل {أم تقولون على الله مالا تعلمون}؛ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقفة على أحد هذين الأمرين اللذين لا ثالث لهما. إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهداً؛ فتكون دعواهم صحيحة. وإما أن يكونوا متقولين عليه؛ فتكون كاذبة فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم، وقد عُلِم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهداً لتكذيبهم كثيراً من الأنبياء حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم، ولنكولهم عن طاعة الله ونقضهم المواثيق، فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون قائلون عليه ما لا يعلمون، والقول عليه بلا علم من أعظم المحرمات وأشنع القبيحات.
ثم ذكر تعالى حكماً عامًّا لكل أحد، يدخل فيه بنو إسرائيل وغيرهم، وهو الحكم الذي لا حكم غيره، لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين فقال: {بلى}؛ أي: ليس الأمر كما ذكرتم، فإنه قول لا حقيقة له، ولكن:
# {81} {من كسب سيئة}؛ وهو نكرة في سياق الشرط؛ فيعم الشرك فما دونه، والمراد به الشرك، هنا بدليل قوله: {وأحاطت به خطيئته}؛ أي: أحاطت بعاملها فلم تدع له منفذاً، وهذا لا يكون إلا الشرك، فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته، {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}؛ وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية، وهي حجة عليهم كما ترى، فإنها ظاهرة في الشرك، وهكذا كل مُبْطِل يحتَجُّ بآية أو حديث صحيح على قوله الباطل؛ فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه.
# {82} {والذين آمنوا}؛ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر {وعملوا الصالحات}؛ ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين: أن تكون خالصة لوجه الله، متبعاً بها سنة رسوله. فحاصل هاتين الآيتين أن أهل النجاة والفوز أهل الإيمان والعمل الصالح، والهالكون أهل النار المشركون بالله الكافرون به.
آية: 83 #
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}.
# {83} فهذه الشرائع من أصول الدين التي أمر الله بها في كل شريعة لاشتمالها على المصالح العامة في كل زمان ومكان؛ فلا يدخلها نسخ، كأصل الدين، ولهذا أمرنا الله بها في قوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً}؛ إلى آخر الآية. فقوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل}؛ هذا من قسوتهم أن كل أمر أمروا به استعصوا، فلا يقبلونه إلا بالأيمان الغليظة والعهود الموَثَّقة {لا تعبدون إلا الله}؛ هذا أمر بعبادة الله وحده ونهي عن الشرك به، وهذا أصل الدين فلا تقبل الأعمال كلها إن لم يكن هذا أساسها، فهذا حق الله تعالى على عباده، ثم قال: {وبالوالدين إحساناً}؛ أي أحسنوا بالوالدين إحساناً، وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم، وفيه النهي عن الإساءة إلى الوالدين أو عدم الإحسان والإساءة؛ لأن الواجب الإحسان، والأمر بالشيء نهي عن ضده، وللإحسان ضدان: الإساءة وهي أعظم جرماً، وترك الإحسان بدون إساءة وهذا محرم لكن لا يجب أن يلحق بالأول. وكذا يقال في صلة الأقارب واليتامى والمساكين، وتفاصيل الإحسان لا تنحصر بالعد بل تكون بالحد كما تقدم. ثم أمر بالإحسان إلى الناس عموماً فقال: {وقولوا للناس حسناً}؛ ومن القول الحسن أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتعليمهم العلم وبذل السلام والبشاشة وغير ذلك من كل كلام طيب، ولما كان الإنسان لا يسع الناس بماله أُمر بأمر يقدر به على الإحسان إلى كل مخلوق وهو الإحسان بالقول، فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلام القبيح للناس حتى للكفار، ولهذا قال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن}؛ ومن أدب الإنسان الذي أدب الله به عباده أن يكون الإنسان نزيهاً في أقواله وأفعاله، غير فاحش ولا بذيء ولا شاتم ولا مخاصم، بل يكون حسن الخلق واسع الحلم، مجاملاً لكلِّ أحد، صبوراً على ما يناله من أذى الخلق امتثالاً لأمر الله ورجاءً لثوابه. ثم أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لما تقدم أن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة متضمنة للإحسان إلى العبيد، ثم بعد هذا الأمر لكم بهذه الأوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير العاقل، عرف أن من إحسان الله على عباده أن أمرهم بها وتفضل بها، عليهم وأخذ المواثيق عليكم {توليتم}؛ على وجه الإعراض؛ لأن المتولي قد يتولى وله نية رجوع إلى ما تولى عنه، وهؤلاء ليس لهم رغبة ولا رجوع في هذه الأوامر، فنعوذ بالله من الخذلان. وقوله: {إلا قليلاً منكم}؛ هذا استثناء؛ لئلا يوهم أنهم تولوا كلهم، فأخبر أن قليلاً منهم عصمهم الله وثبتهم.
آية: 84 - 86 #
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}.
# {84 ـ 85} وهذا الفعل المذكور في هذه الآية فعل للذين كانوا في زمن الوحي بالمدينة، وذلك أن الأوس والخزرج ـ وهم الأنصار ـ كانوا قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - مشركين، وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية، فنزلت عليهم الفرق الثلاث من فرق اليهود: بنو قريظة، وبنو النضير، وبنو قينقاع، فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة، فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين يُعِينونهم الفرقة الأخرى من اليهود، فيقتل اليهوديُ اليهوديَ، ويخرجه من دياره إذا حصل جلاء ونهب، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها، وكان قد حصل أسارى بين الطائفتين فدى بعضهم بعضاً، والأمور الثلاثة كلها قد فرضت عليهم: ففرض عليهم أن لا يسفك بعضهم دم بعض، ولا يخرج بعضهم بعضاً، وإذا وجدوا أسيراً منهم وجب عليهم فداؤه، فعملوا بالأخير وتركوا الأولين، فأنكر الله عليهم ذلك فقال: {أفتؤمنون ببعض الكتاب}؛ وهو فداء الأسير {وتكفرون ببعض}؛ وهو القتل والإخراج، وفيها دليل على أن الإيمان يقتضي فعل الأوامر واجتناب النواهي، وأن المأمورات من الإيمان. قال تعالى: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا}؛ وقد وقع ذلك فأخزاهم الله، وسلط رسوله عليهم فقتل من قتل، وسبى من سبى منهم، وأجلى من أجلى، {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب}؛ أي: أعظمه، {وما الله بغافل عما تعملون}؛ ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعضه، فقال:
# {86} {أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة}؛ توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار فاختاروا النار على العار، فلهذا قال: {فلا يخفف عنهم العذاب}؛ بل هو باقٍ على شدته، ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات {ولا هم ينصرون}؛ أي: يدفع عنهم مكروه.
آية: 87 #
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}.
# {87} يمتنُّ تعالى على بني إسرائيل أن أرسل إليهم كليمه موسى وآتاه التوراة، ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة، إلى أن ختم أنبياءهم بعيسى [بن مريم] عليه السلام وآتاه من الآيات البينات ما يؤمن على مثله البشر {وأيدناه بروح القدس}؛ أي: قواه الله بروح القدس، قال أكثر المفسرين إنه جبريل عليه السلام، وقيل إنه الإيمان الذي يؤيد الله به عباده، ثم مع هذه النعم التي لا يُقدَر قدرُها لمَّا أتوكم {بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم}؛ عن الإيمان بهم، {ففريقاً}؛ منهم، {كذبتم وفريقاً تقتلون}؛ فقدمتم الهوى على الهدى وآثرتم الدنيا على الآخرة، وفيها من التوبيخ والتشديد ما لا يخفى.
آية: 88 #
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}.
# {88} أي: اعتذروا عن الإيمان لما دعوتهم إليه يا أيها الرسول بأن قلوبهم غلف أي عليها غلاف وأغطية فلا تفقه ما تقول، يعني فيكون لهم ـ بزعمهم ـ عذر لعدم العلم، وهذا كذب منهم، فلهذا قال تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم}؛ أي: أنهم مطرودون ملعونون بسبب كفرهم؛ فقليلاً المؤمن منهم، أو قليلاً إيمانهم، وكفرهم هو الكثير.
آية: 89 - 90 #
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}.
# {89 ـ 90} أي: {ولما جاءهم [كتابٌ]} من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم الأنبياء، المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة، وقد علموا به، وتيقنوه على أنهم إذا كان وقع بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب استنصروا بهذا النبي وتوعدوهم بخروجه، وأنهم يقاتلون المشركين معه، فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا؛ كفروا به بغياً وحسداً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، فلعنهم الله وغضب عليهم غضباً بعد غضب؛ لكثرة كفرهم وتوالي شكهم وشركهم، ولهم في الآخرة عذاب مهين أي مؤلم موجع، وهو صلْيُ الجحيم وفوت النعيم المقيم، فبئس الحال حالهم، وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من الإيمان بالله وكتبه ورسله، الكفر به وبكتبه وبرسله مع علمهم وتيقنهم، فيكون أعظمَ لعذابهم.
آية: 91 - 93 #
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}.
# {91} أي: وإذا أُمِر اليهود بالإيمان بما أنزل الله على رسوله وهو القرآن استكبروا وعتوا و {قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه}؛ أي: بما سواه من الكتب، مع أن الواجب أن يؤمنوا بما أنزل الله مطلقاً سواء أنزل عليهم أو على غيرهم، وهذا هو الإيمان النافع، الإيمان بما أنزل الله على جميع رسل [الله]، وأما التفريق بين الرسل والكتب وزعم الإيمان ببعضها دون بعض فهذا ليس بإيمان بل هو الكفر بعينه، ولهذا قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقًّا}؛ ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردًّا شافياً وألزمهم إلزاماً لا محيد لهم عنه فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال: {وهو الحق}؛ فإذا كان هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الإخبارات والأوامر والنواهي وهو من عند ربهم؛ فالكفر به بعد ذلك كفر بالله وكفر بالحق الذي أنزله. ثم قال: {مصدقاً لما معهم}؛ أي: موافقاً له في كلِّ ما دل عليه من الحق ومهيمناً عليه، فَلِمَ تؤمنون بما أنزل عليكم وتكفرون بنظيره، هل هذا إلا تعصب واتباع للهوى لا للهدى؟ وأيضاً فإن كون القرآن مصدقاً لما معهم يقتضي أنه حجة لهم على صدق ما في أيديهم من الكتب، فلا سبيل لهم إلى إثباتها إلا به، فإذا كفروا به وجحدوه صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها، ولا تتم دعواه إلا بسلامة بينته، ثم يأتي هو لبينته وحجته فيقدح فيها ويكذب بها، أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن كفراً بما في أيديهم ونقضاً له. ثم نقض عليهم تعالى دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم بقوله: {قل}؛ لهم {فَلِمَ تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين}.
# {92} {ولقد جاءكم موسى بالبينات}؛ أي: بالأدلة الواضحات المبينة للحق {ثم اتخذتم العجل من بعده}؛ أي: بعد مجيئه {وأنتم ظالمون}؛ في ذلك ليس لكم عذر.
# {93} {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطورخذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا}؛ أي: سماع قبول وطاعة واستجابة، {قالوا سمعنا وعصينا}؛ أي: صارت هذه حالتهم {وأشربوا في قلوبهم العجل}؛ أي: صُبِغ حب العجل وحب عبادته في قلوبهم وشربها بسبب كفرهم {قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين}؛ أي: أنتم تدعون الإيمان وتتمدحون بالدين الحق وأنتم قتلتم أنبياء الله واتخذتم العجل إلهاً من دون الله لمَّا غاب عنكم موسى نبي الله، ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إلا بعد التهديد وَرَفْعِ الطور فوقكم، فالتزمتم بالقول ونقضتم بالفعل، فما هذا الإيمان الذي ادعيتم؟ وما هذا الدين؟ فإن كان هذا إيماناً على زعمكم، فبئس الإيمان الداعي صاحبه إلى الطغيان والكفر برسل الله وكثرة العصيان، وقد عُهِد أن الإيمان الصحيح يأمر صاحبه بكل خير وينهاه عن كل شرٍّ، فوضح بهذا كذبهم وتبين تناقضهم.
آية: 94 - 96 #
{قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}.
# {94} أي: {قل}؛ لهم على وجه تصحيح دعواهم، {إن كانت لكم الدار الآخرة}؛ يعني الجنة، {خالصة من دون الناس}؛ كما زعمتم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودة فإن كنتم صادقين بهذه الدعوى، {فتمنوا الموت}؛ وهذا نوع مباهلة بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس بعد هذا الإلجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم إلا أحد أمرين: إما أن يؤمنوا بالله ورسوله، وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير عليهم وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة لهم، فامتنعوا عن ذلك؛ فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادّة لله ورسوله مع علمهم بذلك، ولهذا قال تعالى:
# {95} {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم}؛ من الكفر والمعاصي؛ لأنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة، فالموت أكره شيء إليهم، وهم أحرص على الحياة من كل أحد من الناس حتى من المشركين الذين لا يؤمنون بأحد من الرسل والكتب. ثم ذكر شدة محبتهم الدنيا فقال:
# {96} {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة}؛ وهذا: أبلغ ما يكون من الحرص تمنوا حالة هي من المحالات، والحال أنهم لو عُمِّروا العمر المذكور لم يغن عنهم شيئاً، ولا دفع عنهم من العذاب شيئاً، {والله بصير بما يعملون}؛ تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم.
آية: 97 - 98 #
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}.
# {97 ـ 98} أي: قل لهؤلاء اليهود الذين زعموا أن الذي منعهم من الإيمان أن وليك جبريل عليه السلام ولو كان غيره من ملائكة الله لآمنوا بك وصدقوا: إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت وتكبر على الله، فإن جبريل عليه السلام هو الذي نزل بالقرآن من عند الله على قلبك، وهو الذي ينزل على الأنبياء قبلك، والله هو الذي أمره وأرسله بذلك، فهو رسول محض، مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقاً لما تقدمه من الكتب غير مخالف لها ولا مناقض، وفيه الهداية التامة من أنواع الضلالات، والبشارة بالخير الدنيوي والأخروي لمن آمن به، فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك كفر بالله وآياته وعداوة لله ولرسله وملائكته، فإن عداوتهم لجبريل لا لذاته، بل لما ينزل به من عند الله من الحق على رسل الله، فيتضمن الكفر والعداوة للذي أنزله وأرسله والذي أرسل به والذي أرسل إليه، فهذا وجه ذلك.
آية: 99 #
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}.
# {99} يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات}؛ تحصل بها الهداية لمن استهدى وإقامة الحجة على من عاند، وهي في الوضوح والدلالة على الحق قد بلغت مبلغاً عظيماً، ووصلت إلى حالة لا يمتنع من قبولها إلا من فسق عن أمر الله وخرج عن طاعة الله، واستكبر غاية التكبر.
آية: 100 #
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}.
# {100} وهذا فيه التعجب من كثرة معاهداتهم وعدم صبرهم على الوفاء بها فكلما تفيد التكرار، فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض، ما السبب في ذلك؟ السبب أن أكثرهم لا يؤمنون، فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم نقض العهود، ولو صدق إيمانهم لكانوا مثل من قال الله فيهم: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}.
آية: 101 - 103 #
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) [وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)]}.
# {101} أي: ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم وكانوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم، فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به {نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله}؛ الذي أنزل إليهم أي طرحوه رغبة عنه {وراء ظهورهم}؛ وهذا أبلغ في الإعراض كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه وحقيقة ما جاء به، تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول، فصار كفرهم به كفراً بكتابهم من حيث لا يشعرون. ولما كان من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أن من ترك ما ينفعه وأمكنه الانتفاع به ولم ينتفع؛ ابتلي بالاشتغال بما يضره، فمن ترك عبادة الرحمن؛ ابتليَ بعبادة الأوثان، ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه؛ ابتليَ بمحبة غير الله وخوفه ورجائه، ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة الشيطان، ومن ترك الذلَّ لربه؛ ابتليَ بالذل للعبيد، ومن ترك الحق؛ ابتليَ بالباطل.
# {102 ـ 103} كذلك: هؤلاء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين، وتختلق من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر، وزعموا أن سليمان عليه السلام كان يستعمله وبه حصل له الملك العظيم، وهم كذبة في ذلك فلم يستعمله سليمان بل نزهه الصادق في قيله: {وما كفر سليمان}؛ أي: بتعلم السحر فلم يتعلمه، {ولكن الشياطين كفروا}؛ في ذلك {يعلمون الناس السحر}؛ من إضلالهم وحرصهم على إغواء بني آدم وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أُنْزِلَ على الملكين الكائنين بأرض بابل من أرض العراق، أنزل عليهما السحر امتحاناً وابتلاءً من الله لعباده فيعلمانهم السحر، {وما يعلمان من أحد حتى}؛ ينصحاه و {يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر}؛ أي: لا تتعلم السحر؛ فإنه كفر، فينهيانه عن السحر ويخبرانه عن مرتبته، فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام، وتعليم الملكين امتحاناً مع نصحمها لئلا يكون لهم حجة، فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين والسحر الذي يعلمه الملكان، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين، وكلٌّ يصبو إلى ما يناسبه. ثم ذكر مفاسد السحر فقال: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}؛ مع أن محبة الزوجين لا تقاس بمحبة غيرهما، لأن الله قال في حقهما: {وجعل بينكم مودة ورحمة}؛ وفي هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يضر بإذن الله؛ أي: بإرادة الله، والإذن نوعان: إذن قدري: وهو المتعلق بمشيئة الله كما في هذه الآية، وإذن شرعي كما في قوله تعالى في الآية السابقة: {فإنه نزله على قلبك بإذن الله}؛ وفي هذه الآية وما أشبهها أن الأسباب مهما بلغت في قوة التأثير فإنها تابعة للقضاء والقدر ليست مستقلة في التأثير، ولم يخالف في هذا الأصل أحد من فرق الأمة غير القدرية في أفعال العباد زعموا: أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة، فأخرجوها عن قدرة الله، فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين. ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة، ليس فيه منفعة لا دينية ولا دنيوية، كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي كما قال تعالى في الخمر والميسر: {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما}؛ فهذا السحر مضرة محضة فليس له داعٍ أصلاً، فالمنهيات كلها إما مضرة محضة أو شرها أكبر من خيرها، كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها. {ولقد علموا}؛ أي: اليهود، {لمن اشتراه}؛ أي: رغب في السحر رغبة المشتري في السلعة، {ما له في الآخرة من خلاق}؛ أي: نصيب بل هو موجب للعقوبة، فلم يكن فعلهم إياه جهلاً ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة فلبئس {ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}؛ علماً يثمر العمل ما فعلوه.
آية: 104 - 105 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
# {104} كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين: {راعنا}؛ أي: راع أحوالنا فيقصدون بها معنى صحيحاً، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسداً، فانتهزوا الفرصة فصاروا يخاطبون الرسول بذلك ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة سَدًّا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز إذا كان وسيلة إلى محرم، وفيه الأدب واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا الحسن وعدم الفحش وترك الألفاظ القبيحة أو التي فيها نوع تشويش واحتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال: {وقولوا انظرنا}؛ فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور، {واسمعوا}؛ لم يذكر المسموع ليعم ما أمر باستماعه فيدخل فيه سماع القرآن وسماع السنة التي هي الحكمة لفظاً ومعنى واستجابة ففيه الأدب والطاعة، ثم توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع.
# {105} وأخبر عن عداوة اليهود والمشركين للمؤمنين أنهم ما يودون، {أن ينزل عليكم من خير}؛ أي: لا قليلاً ولا كثيرًا، {من ربكم}؛ حسدًا منهم وبغضاً لكم أن يختصكم بفضله فإنه، {ذو الفضل العظيم} ومن فضله عليكم؛ إنزال الكتاب على رسولكم ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، فله الحمد والمنة.
آية: 106 - 107 #
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}.
# {106} النسخ هو النقل، فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع إلى حكم آخر أو إلى إسقاطه، وكان اليهود ينكرون النسخ ويزعمون أنه لا يجوز، وهو مذكور عندهم في التوراة، فإنكارهم له كفر وهوى محض، فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ، وأنه ما ينسخ {من آية أو ننسها}؛ أي: ننسها العباد فنزيلها من قلوبهم، {نأت بخير منها}؛ وأنفع لكم، {أو مثلها}؛ فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول لأن فضله تعالى يزداد خصوصاً على هذه الأمة التي سهل عليها دينها غاية التسهيل، وأخبر أن من قدح في النسخ [فقد] قدح في ملكه وقدرته فقال: {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}.
# {107} {ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض}؛ فإذا كان مالكاً لكم متصرفاً فيكم تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام، فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية فما له والاعتراض، وهو أيضاً ولي عباده ونصيرهم، فيتولاهم في تحصيل منافعهم، وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم، أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم. ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ، عرف بذلك حكمة الله، ورحمته عباده، وإيصالهم إلى مصالحهم من حيث لا يشعرون بلطفه.
آية: 108 - 110 #
{أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}.
# {108} ينهى الله المؤمنين أو اليهود بأن يسألوا رسولهم، {كما سئل موسى من قبل}؛ والمراد بذلك أسئلة التعنت والاعتراض، كما قال تعالى: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة}؛ وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم}؛ فهذه ونحوها هي المنهي عنها. وأما سؤال الاسترشاد والتعلم فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}؛ ويقرهم عليه كما في قوله: {يسألونك عن الخمر والميسر}؛ و {يسألونك عن اليتامى}؛ ونحو ذلك. ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة قد تصل بصاحبها إلى الكفر قال: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل}.
# {109} ثم أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب وأنهم بلغت بهم الحال أنهم ودوا {لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً}؛ وسعوا في ذلك، وعملوا المكايد، وكيدهم راجع عليهم كما قال تعالى: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون}؛ وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم، فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم [غاية الإساءة] بالعفو عنهم والصفح حتى يأتي الله بأمره، ثم بعد ذلك أتى الله بأمره إياهم بالجهاد، فشفى الله أنفس المؤمنين منهم، فقتلوا من قتلوا واسترقوا من استرقوا، وأجلوا من أجلوا، {إن الله على كل شيء قدير}.
# {110} ثم أمرهم الله بالاشتغال بالوقت الحاضر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل كل القربات، ووعدهم أنهم مهما فعلوا من خير فإنه لا يضيع عند الله بل يجدونه عنده وافراً موفراً قد حفظه {إن الله بما تعملون بصير}.
آية: 111 - 112 #
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}.
# {111} أي: قال اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فحكموا لأنفسهم بالجنة وحدهم، وهذا مجرد أماني غير مقبولة إلا بحجة وبرهان فأتوا بها إن كنتم صادقين، وهكذا كل من ادعى دعوى لا بد أن يقيم البرهان على صِحة دعواه، وإلا فلو قلبت عليه دعواه وادعى مدع عكس ما ادعى بلا برهان لكان لا فرق بينهما، فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوي أو يكذبها، ولما لم يكن بأيديهم برهان علم كذبهم بتلك الدعوى.
# {112} ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد فقال: {بلى}؛ أي: ليس بأمانيكم ودعاويكم ولكن، {من أسلم وجهه لله}؛ أي: أخلص لله أعماله متوجهاً إليه بقلبه، {وهو}؛ مع إخلاصه {محسن}؛ في عبادة ربه بأن عبده بشرعه فأولئك هم أهل الجنة وحدهم، فلهم أجرهم عند ربهم؛ وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم، {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}؛ فحصل لهم المرغوب ونجوا من المرهوب، ويفهم منها أن من ليس كذلك فهو من أهل النار الهالكين، فلا نجاة إلا لأهل الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول.
آية: 113 #
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)}.
# {113} وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد إلى أن بعضهم ضلل بعضاً، وكفر بعضهم بعضاً كما فعل الأميون من مشركي العرب وغيرهم، فكل فرقة تضلل [الفرقةَ] الأخرى، ويحكم الله في الآخرة بين المختلفين بحكمه العدل الذي أخبر به عباده، فإنه لا فوز ولا نجاة إلا لمن صدَّق جميع الأنبياء والمرسلين، وامتثل أوامر ربه، واجتنب نواهيه، ومن عداهم فهو هالك.
آية: 114 #
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}.
# {114} أي: لا أحد أظلم وأشد جرماً ممن منع مساجد الله عن ذكر الله فيها وإقامة الصلاة وغيرها من [أنواع] الطاعات، {وسعى}؛ أي: اجتهد وبذل وسعه، {في خرابها}؛ الحسي والمعنوي، فالخراب الحسي هدمها وتخريبها وتقذيرها، والخراب المعنوي منع الذاكرين لاسم الله فيها، وهذا عام لكل من اتصف بهذه الصفة فيدخل في ذلك أصحاب الفيل وقريش حين صدوا رسول الله عنها عام الحديبية، والنصارى حين أخربوا بيت المقدس، وغيرهم من أنواع الظلمة الساعين في خرابها محادّة لله ومشاقة، فجازاهم الله بأن منعهم دخولها شرعاً وقدراً إلا خائفين ذليلين، فلما أخافوا عباد الله أخافهم الله، فالمشركون الذين صدوا رسوله لم يلبث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا يسيراً حتى أذن الله له في فتح مكة ومنع المشركين من قربان بيته فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}؛ وأصحاب الفيل قد ذكر الله ما جرى عليهم، والنصارى سلط الله عليهم المؤمنين فأجلوهم [عنه]، وهكذا كل من اتصف بوصفهم فلا بد أن يناله قسطه، وهذا من الآيات العظيمة أخبر بها الباري قبل وقوعها فوقعت كما أخبر، واستدل العلماء بالآية الكريمة على أنه لا يجوز تمكين الكفار من دخول المساجد {لهم في الدنيا خزي}؛ [أي]: فضيحة؛ كما تقدم {ولهم في الآخرة عذاب عظيم}؛ وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، فلا أعظم إيماناً ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية؛ كما قال تعالى: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر}؛ بل قد أمر الله تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها فقال تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه}. وللمساجد أحكام كثيرة يرجع حاصلها إلى مضمون هذه الآيات الكريمة.
آية: 115 #
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}.
# {115} أي: {ولله المشرق والمغرب}؛ خصهما بالذكر لأنهما محل الآيات العظيمة [فهما] مطالع الأنوار ومغاربها، فإذا كان مالكاً لها كان مالكاً لكل الجهات {فأينما تولوا}؛ وجوهكم من الجهات إذا كان توليكم إياها بأمره، إما أن يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس، أو تؤمرون بالصلاة في السفر على الراحلة ونحوها، فإن القبلة حيثما توجه العبد، أو تشتبه القبلة فيتحرى الصلاة إليها، ثم يتبين له الخطأ أو يكون معذوراً بصلب أو مرض ونحو ذلك، فهذه الأمور إما أن يكون العبد فيها معذوراً أو مأموراً. وبكل حال فما استقبل جهة من الجهات خارجة عن ملك ربه {فثم وجه الله إن الله واسع عليم}؛ فيه إثبات الوجه لله تعالى على الوجه اللائق به تعالى، وإن لله وجهاً لا تشبهه الوجوه، وهو تعالى واسع الفضل والصفات عظيمها عليم بسرائركم ونياتكم، فمن سعته وعلمه، وسع لكم الأمر، وقبل منكم المأمور، فله الحمد والشكر.
آية: 116 - 117 #
{وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}.
# {116} {وقالوا}؛ أي: اليهود والنصارى والمشركون وكل من قال ذلك، {اتخذ الله ولداً}؛ فنسبوه إلى ما لا يليق بجلاله وأساءوا كل الإساءة وظلموا أنفسهم وهو تعالى صابر على ذلك منهم، قد حلم عليهم، وعافاهم، ورزقهم مع تنقصهم إياه {سبحانه}؛ أي: تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون مما لا يليق بجلاله، فسبحان من له الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا يعتريه نقصٌ بوجه من الوجوه، ومع رده لقولهم أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال: {بل له ما في السموات والأرض}؛ أي: جميعهم ملكه وعبيده يتصرف فيهم تصرف المالك بالمماليك وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره، فإذا كانوا كلهم عبيده مفتقرين إليه، وهو غني عنهم فكيف يكون منهم أحد يكون له ولداً، والولد لا بد أن يكون من جنس والده لأنه جزء منه، والله تعالى المالك القاهر وأنتم المملوكون المقهورون وهو الغني وأنتم الفقراء، فكيف مع هذا يكون له ولد؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه. والقنوت نوعان: قنوت عام وهو قنوت الخلق كلهم تحت تدبير الخالق، وخاص وهو قنوت العبادة. فالنوع الأول كما في هذه الآية، والنوع الثاني كما في قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين}. ثم قال:
# {117} {بديع السموات والأرض}؛ أي: خالقهما على وجه قد أتقنهما وأحسنهما على غير مثال سبق، {وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون}؛ فلا يستعصي عليه ولا يمتنع منه.
آية: 118 - 119 #
{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}.
# {118} أي: قال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم هلا يكلمنا الله كما كلم الرسل، {أو تأتينا آية}؛ يعنون آيات الاقتراح التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة التي تجرؤوا بها على الخالق واستكبروا على رسله كقولهم: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة}؛ {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ... }؛ الآية. {وقالوا مالِ هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ... }؛ الآيات، وقوله: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ... }؛ الآيات. فهذا دأبهم مع رسلهم يطلبون آيات التعنت لا آيات الاسترشاد، ولم يكن قصدهم تبيين الحق فإن الرسل قد جاؤوا من الآيات بما يؤمن على مثله البشر، ولهذا قال تعالى: {قد بينا الآيات لقوم يوقنون}؛ فكل موقن فقد عرف من آيات الله الباهرة وبراهينه الظاهرة ما حصل له به اليقين، واندفع عنه كل شك وريب.
ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة للآيات الدالة على صدقه - صلى الله عليه وسلم - وصحة ما جاء به فقال:
# {119} {إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً}؛ فهذا مشتمل على الآيات التي جاء بها، وهي ترجع إلى ثلاثة أمور: الأول في نفس إرساله، والثاني في سيرته وهديه ودِلِّه، والثالث في معرفة ما جاء به من القرآن والسنة. فالأول والثاني قد دخلا في قوله: {إنا أرسلناك}؛ والثالث [دخل] في قوله: {بالحق}. وبيان الأمر الأول: وهو ـ نفس إرساله ـ أنه قد علم حالة أهل الأرض قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا عليه من عبادة الأوثان والنيران والصلبان وتبديلهم للأديان حتى كانوا في ظلمة من الكفر قد عمتهم وشملتهم، إلا بقايا من أهل الكتاب قد انقرضوا قبيل البعثة، وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى ولم يتركهم هملاً، لأنه حكيم عليم قدير رحيم، فمن حكمته ورحمته بعباده أن أرسل إليهم هذا الرسول العظيم يأمرهم بعبادة الرحمن وحده لا شريك له، فبمجرد رسالته يعرف العاقل صدقه، وهو آية كبيرة على أنه رسول الله. وأما الثاني فمن عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - معرفة تامة، وعرف سيرته وهديه قبل البعثة ونشوءه على أكمل الخصال، ثم من بعد ذلك قد ازدادت مكارمه وأخلاقه العظيمة الباهرة للناظرين، فمن عرفها وسبر أحواله عرف أنها لا تكون إلا أخلاق الأنبياء الكاملين؛ لأنه تعالى جعل الأوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم. وأما الثالث: فهو معرفة ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - من الشرع العظيم والقرآن الكريم المشتمل على الإخبارات الصادقة والأوامر الحسنة والنهي عن كل قبيح، والمعجزات الباهرة، فجميع الآيات تدخل في هذه الثلاثة. قوله: {بشيراً}؛ أي: لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والأخروية، {نذيراً}؛ لمن عصاك بالشقاوة والهلاك الدنيوي والأخروي، {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}؛ أي: لست مسؤولاً عنهم، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
آية: 120 #
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}.
# {120} يخبر تعالى رسوله أنه لا يرضى منه اليهود ولا النصارى إلا باتباعه دينهم؛ لأنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه يزعمون أنه الهدى، فقل لهم: {إن هدى الله}؛ الذي أرسلت به {هو الهدى}؛ وأما ما أنتم عليه فهو الهوى بدليل قوله: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير}؛ فهذا فيه النهي العظيم عن اتباع أهواء اليهود والنصارى والتشبه بهم بما يختص به دينهم. والخطاب وإن كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أمته داخلة في ذلك؛ لأن الاعتبار بعموم المعنى لا بخصوص المخاطب، كما أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثم قال:
آية: 121 - 123 #
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}.
# {121} يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب ومنَّ عليهم به منِّة مطلقة أنهم {يتلونه حق تلاوته}؛ أي: يتبعونه حق اتباعه، والتلاوة الاتِّباع، فيحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، وهؤلاء هم السعداء من أهل الكتاب الذين عرفوا نعمة الله وشكروها، وآمنوا بكل الرسل ولم يفرقوا بين أحد منهم، فهؤلاء هم المؤمنون حقًّا لا من قال منهم نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه، ولهذا توعدهم بقوله: {ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون}.
# {122 ـ 123} وقد تقدم تفسير الآية التي بعدها.
آية: 124 - 125 #
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}.
# {124} يخبر تعالى عن عبده وخليله إبراهيم عليه السلام المتفق على إمامته وجلالته الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه، بل وكذلك المشركون أن الله ابتلاه وامتحنه بكلمات أي بأوامر ونواهٍ كما هي عادة الله في ابتلائه لعباده ليتبين الكاذب الذي لا يثبت عند الابتلاء والامتحان من الصادق، الذي ترتفع درجته، ويزيد قدره، ويزكو عمله ويخلص ذهبه، وكان من أجلِّهم في هذا المقام الخليل عليه السلام، فأتم ما ابتلاه الله به وأكمله ووفاه، فشكر الله له ذلك، ولم يزل الله شكوراً فقال: {إني جاعلك للناس إماماً}؛ أي: يقتدون بك في الهدي ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية، ويحصل لك الثناء الدائم والأجر الجزيل والتعظيم من كل أحد. وهذه ـ لعمر الله ـ أفضل درجة تنافس فيها المتنافسون، وأعلى مقام شمر إليه العاملون، وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين وأتباعهم من كل صِدِّيق متبع لهم داعٍ إلى الله وإلى سبيله، فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام، وأدرك هذا، طلب ذلك لذريته لتعلو درجته ودرجة ذريته، وهذا أيضاً من إمامته ونصحه لعباد الله ومحبته أن يكثر فيهم المرشدون، فلله عظمة هذه الهمم العالية والمقامات السامية. فأجابه الرحيم اللطيف وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال: {لا ينال عهدي الظالمين}؛ أي: لا ينال الإمامة في الدين من ظلم نفسه وضرها وحطَّ قدرها لمنافاة الظلم لهذا المقام، فإنه مقام آلته الصبر واليقين، ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من الإيمان والأعمال الصالحة والأخلاق الجميلة والشمائل السديدة والمحبة التامة والخشية والإنابة، فأين الظلم وهذا المقام؟ ودلَّ مفهوم الآية أن غير الظالم سينال الإمامة، ولكن مع إتيانه بأسبابها.
# {125} ثم ذكر تعالى أنموذجاً باقياً دالاًّ على إمامة إبراهيم وهو: هذا البيت الحرام الذي جعل قصده ركناً من أركان الإسلام حاطاًّ للذنوب والآثام، وفيه من آثار الخليل وذريته ما عرف به إمامته وتُذُكِّرت به حالته فقال: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس}؛ أي: مرجعاً يثوبون إليه بحصول منافعهم الدينية والدنيوية، يترددون إليه ولا يقضون منه وطراً، وجعله {أمناً}؛ يأمن به كلُّ أحد حتى الوحش وحتى الجمادات كالأشجار، ولهذا كانوا في الجاهلية ـ على شركهم ـ يحترمونه أشد الاحترام ويجد أحدهم قاتل أبيه في الحرم فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام زاده حرمة وتعظيماً وتشريفاً وتكريماً، {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}؛ يحتمل أن يكون المراد بذلك المقام المعروف الذي قد جعل الآن مقابل باب الكعبة، وأن المراد بهذا ركعتا الطواف يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم وعليه جمهور المفسرين ويحتمل أن يكون المقام مفرداً مضافاً فيعم جميع مقامات إبراهيم في الحج، وهي المشاعر كلها من الطواف والسعي والوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار والنحر وغير ذلك من أفعال الحج، فيكون معنى قوله: {مصلى}؛ أي: معبداً، أي اقتدوا به في شعائر الحج، ولعل هذا المعنى أولى لدخول المعنى الأول فيه واحتمال اللفظ له. {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل}؛ أي: أوحينا إليهما وأمرناهما بتطهير بيت الله من الشرك والكفر والمعاصي ومن الرجس والنجاسات والأقذار ليكون {للطائفين}؛ فيه {والعاكفين والركع السجود}؛ أي: المصلين، قدّم الطواف لاختصاصه بالمسجد الحرام، ثم الاعتكاف لأن من شرطه المسجد مطلقاً، ثم الصلاة مع أنها أفضل لهذا المعنى، وأضاف الباري البيت إليه لفوائد: منها: أن ذلك يقتضي شدة اهتمام إبراهيم وإسماعيل بتطهيره لكونه بيت الله فيبذلان جهدهما، ويستفرغان وسعهما في ذلك. ومنها: أن الإضافة تقتضي التشريف والإكرام ففي ضمنها أمر عباده بتعظيمه وتكريمه. ومنها: أن هذه الإضافة هي السبب الجالب للقلوب إليه.
آية: 126 #
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}.
# {126} أي: وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت أن يجعله الله بلداً آمناً ويرزق أهله من أنواع الثمرات، ثم قيد عليه السلام هذا الدعاء للمؤمنين تأدباً مع الله إذ كان دعاؤه الأول فيه الإطلاق، فجاء الجواب فيه مقيداً بغير الظالم، فلما دعا لهم بالرزق وقيده بالمؤمن وكان رزق الله شاملاً للمؤمن والكافر والعاصي والطائع قال تعالى: {ومن كفر}؛ أي: أرزقهم كلهم مسلمهم وكافرهم، أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله ثم ينتقل منه إلى نعيم الجنة، وأما الكافر فيتمتع فيها قليلاً، {ثم أضطره}؛ أي: ألجئه وأخرجه مكرهاً {إلى عذاب النار وبئس المصير}.
آية: 127 - 129 #
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
# {127} أي: واذكر إبراهيم وإسماعيل في حالة رفعهما القواعد من البيت الأساس واستمرارهما على هذا العمل العظيم، وكيف كانت حالهما من الخوف والرجاء حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما عملهما حتى يجعل فيه النفع العميم.
# {128} ودعوا لأنفسهما وذريتهما بالإسلام الذي حقيقته خضوع القلب وانقياده لربه المتضمن لانقياد الجوارح {وأرنا مناسكنا}؛ أي: علمناها على وجه الإراءة والمشاهدة ليكون أبلغ، يحتمل أن يكون المراد بالمناسك أعمال الحج كلها كما يدل عليه السياق والمقام ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعم من ذلك وهو الدين كله والعبادات كلها كما يدل عليه عموم اللفظ، لأن النسك التعبد، ولكن غلب على متعبدات الحج تغليباً عرفياً، فيكون حاصل دعائهما يرجع إلى التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح. ولما كان العبد مهما كان لا بد أن يعتريه التقصير ويحتاج إلى التوبة قالا: {وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم}.
# {129} {ربنا وابعث فيهم}؛ أي: في ذريتنا {رسولاً منهم}؛ ليكون أرفع لدرجتهما ولينقادوا له وليعرفوه حقيقة المعرفة {يتلو عليهم آياتك}؛ لفظاً وحفظاً وتحفيظاً، {ويعلمهم الكتاب والحكمة}؛ معنى {ويزكيهم}؛ بالتربية على الأعمال الصالحة والتبري من الأعمال الردية التي لا تزكو النفس معها، {إنك أنت العزيز}؛ أي: القاهر لكلِّ شيء الذي لا يمتنع على قوته شيء {الحكيم}؛ الذي يضع الأشياء مواضعها، فبعزتك وحكمتك ابعث فيهم هذا الرسول. فاستجاب اللهُ لهما؛ فبعث الله هذا الرسول الكريم الذي رحم الله به ذريتهما خاصة وسائر الخلق عامة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «أنا دعوة أبي إبراهيم».
ولما عظَّم اللَّهَ إبراهيمُ هذا التعظيمَ وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى:
آية: 130 - 134 #
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}
# {130} أي: ما يرغب {عن ملة إبراهيم}؛ بعد ما عرف من فضله، {إلا من سفه نفسه}؛ أي: جهلها وامتهنها ورضي لها بالدون وباعها بصفقة المغبون كما أنه لا أرشد وأكمل ممَّن رغب في ملة إبراهيم، ثم أخبر عن حالته في الدنيا والآخرة فقال: {ولقد اصطفيناه في الدنيا}؛ أي: اخترناه ووفقناه للأعمال التي صار بها من المصطفين الأخيار، {وإنه في الآخرة لمن الصالحين}؛ الذين لهم أعلى الدرجات.
# {131} {إذ قال له ربُّه أسلم قال}؛ امتثالاً لربه {أسلمتُ لربِّ العالمين}؛ إخلاصاً وتوحيداً ومحبة وإنابة فكان التوحيدُ للهِ نعته، ثم ورَّثه في ذريته ووصاهم به، وجعلها كلمة باقية في عقبه، وتوارثت فيهم حتى وصلت ليعقوبَ فوصى بها بنيه.
فأنتم ـ يا بني يعقوب ـ قد وصاكم أبوكم بالخصوص فيجب عليكم كمال الانقياد، واتباع خاتم الأنبياء. قال:
# {132} {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين}؛ أي: اختاره، وتخيره لكم رحمة بكم وإحساناً إليكم، فقوموا به، واتصفوا بشرائعه، وانصبغوا بأخلاقه حتى تستمروا على ذلك فلا يأتيكم الموت إلا وأنتم عليه، لأن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.
# {133} ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ومن بعده يعقوب قال تعالى منكراً عليهم: {أم كنتم شهداء}؛ أي: حضوراً {إذ حضر يعقوب الموت}؛ أي: مقدماته وأسبابه فقال لبنيه على وجه الاختبار ولتقرَّ عينُه في حياته بامتثالهم ما وصاهم به: {ما تعبدون من بعدي}؛ فأجابوه بما قرت به عينُه فقالوا: {نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً}؛ فلا نشرك به شيئاً ولا نعدل به {ونحن له مسلمون}؛ فجمعوا بين التوحيد والعمل، ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب، لأنهم لم يوجدوا بعد، فإذا لم يحضروا، فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية لا باليهودية، ثم قال تعالى:
# {134} {تلك أمة قد خلت}؛ أي: مضت {لها ما كسبت ولكم ما كسبتم}؛ أي: كلٌّ له عمله، وكلٌّ سيجازى بما فعله، لا يُؤَاخذ أحد بذنب أحد، ولا ينفع أحداً إلا إيمانه وتقواه، فاشتغالكم بهم وادعاؤكم أنكم على ملتهم والرضا بمجرد القول أمر فارغ لا حقيقة له، بل الواجب عليكم أن تنظروا حالتكم التي أنتم عليها هل تصلح للنجاة أم لا؟
آية: 135 #
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}
# {135} أي: دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال، [قل] له مجيباً جواباً شافياً {بل}؛ نتبع {ملة إبراهيم حنيفاً}؛ أي: مقبلاً على الله معرضاً عما سواه قائماً بالتوحيد تاركاً للشرك والتنديد، فهذا الذي في اتباعه الهداية وفي الإعراض عن ملته الكفر والغواية.
آية: 136 #
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}
# {136} هذه الآية الكريمة قد اشتملت على جميع ما يجب الإيمان به. واعلم أن الإيمان الذي هو تصديق القلب التام بهذه الأصول، وإقراره المتضمن لأعمال القلوب والجوارح، وهو ـ بهذا الاعتبار ـ يدخل فيه الإسلام وتدخل فيه الأعمال الصالحة كلها، فهي من الإيمان وأثر من آثاره، فحيث أطلق الإيمان دخل فيه ما ذكر، وكذلك الإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان، فإذا قرن بينهما كان الإيمان اسماً لما في القلب من الإقرار والتصديق، والإسلام اسماً للأعمال الظاهرة. وكذلك إذا جمع بين الإيمان والأعمال الصالحة. فقوله تعالى: {قولوا}؛ أي: بألسنتكم متواطئة عليها قلوبكم، وهذا هو القول التام المترتب عليه الثواب والجزاء، فكما أن النطق باللسان بدون اعتقاد القلب نفاق وكفر، فالقول الخالي من العمل عمل القلب عديم التأثير قليل الفائدة، وإن كان العبد يؤجر عليه إذا كان خيراً ومعه أصل الإيمان، لكن فرق بين القول المجرد والمقترن به عمل القلب. وفي قوله {قولوا}؛ إشارة إلى الإعلان بالعقيدة والصدع بها والدعوة لها، إذ هي أصل الدين وأساسه، وفي قوله {آمنا}؛ ونحوه مما فيه صدور الفعل منسوباً إلى جميع الأمة إشارة إلى أنه يجب على الأمة الاعتصام بحبل الله جميعاً والحث على الائتلاف حتى يكون داعيهم واحداً وعملهم متحداً، وفي ضمنه النهي عن الافتراق. وفيه أن المؤمنين كالجسد الواحد. وفي قوله: {قولوا آمنا بالله ... } الخ؛ دلالة على جواز إضافة الإنسان إلى نفسه الإيمان على وجه التقييد، بل على وجوب ذلك، بخلاف قوله أنا مؤمن ونحوه فإنه لا يقال إلا مقروناً بالاستثناء بالمشيئة لما فيه من تزكية النفس والشهادة على نفسه بالإيمان، فقوله: {آمنا بالله}؛ أي: بأنه واجب الوجود واحد أحد متصف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص وعيب، مستحق لإفراده بالعبادة كلها وعدم الإشراك به في شيء منها بوجه من الوجوه. {وما أنزل إلينا}؛ يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى: {وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة}؛ فيدخل فيه الإيمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله من صفات الباري وصفات رسله واليوم الآخر والغيوب الماضية والمستقبلة، والإيمان بما تضمنه ذلك من الأحكام الشرعية الأمرية وأحكام الجزاء وغير ذلك {وما أنزل إلى إبراهيم ... }؛ إلى آخر الآية، فيه الإيمان بجميع الكتب المنزلة على جميع الأنبياء، والإيمان بالأنبياء عموماً وخصوصاً ما نص عليه في الآية لشرفهم ولإتيانهم بالشرائع الكبار، فالواجب في الإيمان بالأنبياء والكتب أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول، ثم ما عرف منهم بالتفصيل وجب الإيمان به مفصلاً. وقوله: {لا نفرق بين أحد منهم}؛ أي: بل نؤمن بهم كلهم، هذه خاصية المسلمين التي انفردوا بها عن كلِّ من يدعي أنه على دين، فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم وإن زعموا أنهم يؤمنون بما يؤمنون به من الرسل والكتب فإنهم يكفرون بغيره فيفرقون بين الرسل والكتب، بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به، وينقض تكذيبهم تصديقهم، فإن الرسول الذي زعموا أنهم قد آمنوا به قد صدق سائر الرسل وخصوصاً محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كذبوا محمداً فقد كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به فيكون كفراً برسولهم، وفي قوله: {وما أوتي النبيون من ربهم}؛ دلالة على أن عطية الدين هي العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والأخروية، لم يأمرنا أن نؤمن بما أوتي الأنبياء من الملك والمال ونحو ذلك، بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا من الكتب والشرائع، وفيه أن الأنبياء مبلغون عن الله ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ دينه، ليس لهم من الأمر شيء. وفي قوله: {من ربهم}؛ إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده أن ينزل عليهم الكتب ويرسل إليهم الرسل، فلا تقتضي ربوبيته تركهم سدى ولا هملاً، وإذا كان ما أوتي النبيون إنما هو من ربهم ففيه الفرق بين الأنبياء وبين من يدعي النبوة، وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه، فالرسل لا يدعون إلا لخير ولا ينهون إلا عن كل شر، وكل واحد منهم يصدق الآخر ويشهد له بالحق من غير تخالف ولا تناقض لكونه من عند ربهم، {فلو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}؛ وهذا بخلاف من ادعى النبوة فلا بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم ونواهيهم كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع وعرف ما يدعون إليه، فلما بين تعالى جميع ما يؤمن به عموماً وخصوصاً وكان القول لا يغني عن العمل قال: {ونحن له مسلمون}؛ أي: خاضعون لعظمته منقادون لعبادته بباطننا وظاهرنا مخلصون له العبادة، بدليل تقديم المعمول وهو {له}؛ على العامل وهو، {مسلمون}. فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على إيجازها واختصارها على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. واشتملت على الإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب، وعلى التخصيص الدال على الفضل بعد التعميم، وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح والإخلاص لله في ذلك، وعلى الفرق بين الرسل الصادقين ومن ادعى النبوة من الكاذبين، وعلى تعليم الباري عباده كيف يقولون، ورحمته وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والآخرة. فسبحان من جعل كتابه تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
آية: 137 #
{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
# {137} أي: فإن آمن أهل الكتاب بمثل ما آمنتم به يا معشر المؤمنين من جميع الرسل، وجميع الكتب، الذين أول من دخل فيهم وأولى خاتمهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن، وأسلموا لله وحده ولم يفرقوا بين أحد من الرسل ، {فقد اهتدوا}؛ للصراط المستقيم الموصل لجنات النعيم؛ أي فلا سبيل لهم إلى الهداية إلا بهذا الإيمان، لا كما زعموا بقولهم كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه. والهدى: هو العلم بالحق والعمل به، وضده الضلال عن العلم، والضلال عن العمل بعد العلم وهو الشقاق الذي كانوا عليه لما تولوا وأعرضوا، فالمشاق هو الذي يكون في شقٍّ والله ورسوله في شقٍّ، ويلزم من المشاقة المحادَّة والعداوة البليغة التي من لوازمها بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول، فلهذا وعد الله رسوله أن يكفيه إياهم لأنه {السميع} لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات. {العليم} بما بين أيديهم وما خلفهم بالغيب والشهادة بالظواهر والبواطن، فإذا كان كذلك كفاك الله شرهم، وقد أنجز الله لرسوله وعده، وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم، وسبى بعضهم، وأجلى بعضهم، وشردهم كل مشرد، ففيه معجزة من معجزات القرآن وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه فوقع طبق ما أخبر.
آية: 138 #
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}
# {138} أي: الزموا صبغة الله وهو دينه، وقوموا به قياماً تامًّا بجميع أعماله الظاهرة والباطنة وجميع عقائده في جميع الأوقات حتى يكون لكم صبغة وصفة من صفاتكم، فإذا كان صفة من صفاتكم أوجب ذلك لكم الانقياد لأوامره طوعاً واختياراً ومحبة، وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة الصبغ التام للثوب الذي صار له صفة، فحصلت لكم السعادة الدنيوية والأخروية لحثِّ الدين على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ومعالي الأمور. فلهذا قال على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية؛ {ومن أحسن من الله صبغة}؛ أي: لا أحسن صبغة من صبغته ، وإذا أردت أن تعرف نموذجاً يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من الصبغ فقس الشيء بضده، فكيف ترى في عبد آمن بربه إيماناً صحيحاً أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح، فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن وفعل جميل وخلق كامل ونعت جليل، ويتخلى من كل وصف قبيح ورذيلة وعيب فَوَصْفُهُ الصدق في قوله وفعله والصبر والحلم والعفة والشجاعة والإحسان القولي والفعلي ومحبة الله وخشيته وخوفه ورجاؤه، فحاله الإخلاص للمعبود والإحسان لعبيده، فقسه بعبد كفر بربه وشرد عنه وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة من الكفر والشرك والكذب والخيانة والمكر والخداع وعدم العفة والإساءة إلى الخلق في أقواله وأفعاله فلا إخلاص للمعبود ولا إحسان إلى عبيده؛ فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما، ويتبين لك أنه لا أحسن [صبغة] من صبغة الله، وفي ضمنه أنه لا أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه. وفي قوله: {ونحن له عابدون}؛ بيان لهذه الصبغة وهي القيام بهذين الأصلين الإخلاص والمتابعة؛ لأن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، ولا تكون كذلك حتى يشرعها الله على لسان رسوله. والإخلاص أن يقصد العبد وجه الله وحده في تلك الأعمال، فتقديم المعمول يؤذن بالحصر، وقال: {ونحن له عابدون}؛ فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت والاستقرار؛ ليدلَّ على اتصافهم بذلك [وكونه صار صبغةً لهم ملازماً].
آية: 139 #
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}
# {139} المحاجة: هي المجادلة بين اثنين فأكثر تتعلق في المسائل الخلافية حتى يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله وإبطال قول خصمه، فكل واحد منهما يجتهد في إقامة الحجة على ذلك، والمطلوب منها أن تكون بالتي هي أحسن بأقرب طريق يرد الضال إلى الحق، ويقيم الحجة على المعاند، ويوضح الحق، ويبين الباطل، فإن خرجت عن هذه الأمور كانت مماراة ومخاصمة لا خير فيها، وأحدثت من الشرِّ ما أحدثت، فكان أهل الكتاب يزعمون أنهم أولى بالله من المسلمين، وهذا مجرد دعوى تفتقر إلى برهان ودليل، فإذا كان رب الجميع واحداً ليس ربًّا لكم دوننا، وكلٌّ منا ومنكم له عمله، فاستوينا نحن وأنتم بذلك، فهذا لا يوجب أن يكون أحد الفريقين أولى بالله من غيره؛ لأن التفريق مع الاشتراك في الشيء من غير فرق مؤثر دعوى باطلة، وتفريق بين متماثلين ومكابرة ظاهرة، وإنما يحصل التفضيل بإخلاص الأعمال الصالحة لله وحده، وهذه الحالة وصف المؤمنين وحدهم فتعين أنهم أولى بالله من غيرهم لأن الإخلاص هو الطريق إلى الخلاص. فهذا هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان بالأوصاف الحقيقية التي يسلمها أهل العقول ولا ينازع فيها إلا كل مكابر جهول، ففي هذه الآية إرشاد لطيف لطريق المحاجة، وأن الأمور مبنية على الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين.
آية: 140 #
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}
# {140} وهذه دعوى أخرى منهم ومحاجة في رسل الله زعموا أنهم أولى بهؤلاء الرسل المذكورين من المسلمين؛ فردَّ الله عليهم بقوله: {أأنتم أعلم أم الله}؛ فالله يقول: {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين}؛ وهم يقولون بل كان يهودياً أو نصرانياً، فإما أن يكونوا هم الصادقين العالمين أو يكون الله تعالى هو الصادق العالم بذلك، فأحد الأمرين متعين لا محالة، وصورة الجواب مبهم وهو في غاية الوضوح والبيان، حتى أنه من وضوحه لم يحتج أن يقول بل الله أعلم وهو أصدق، ونحو ذلك لانجلائه لكل أحد، كما إذا قيل الليل أنور أم النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك، وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى أنهم بأنفسهم يعرفون ذلك ويعرفون أن إبراهيم وغيره من الأنبياء لم يكونوا هوداً ولا نصارى، فكتموا هذا العلم وهذه الشهادة، فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم، ولهذا قال تعالى: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله}؛ فهي شهادة عندهم مودعة من الله لا من الخلق فيقتضي الاهتمام بإقامتها، فكتموها وأظهروا ضدها، جمعوا بين كتم الحق وعدم النطق به وإظهار الباطل والدعوة إليه، أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله وسيعاقبهم عليه أشد العقوبة، فلهذا قال: {وما الله بغافل عما تعملون}؛ بل قد أحصى أعمالهم وعدها وادَّخر لهم جزاءها، فبئس الجزاءُ جزاؤهم، وبئست النار مثوى للظالمين. وهذه طريقة القرآن في ذكر العلم والقدرة عقب الآيات المتضمنة للأعمال التي يجازى عليها، فيفيد ذلك الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ويفيد أيضاً ذكر الأسماء الحسنى بعد الأحكام أن الأمر الديني والجزائي أثرٌ من آثارها وموجب من موجباتها وهي مقتضية له. ثم قال تعالى:
آية: 141 #
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}.
# {141} تقدم تفسيرها وكررها لقطع التعلق بالمخلوقين، وإن المعول عليه ما اتصف به الإنسان لا عمل أسلافه وآبائه، فالنفع الحقيقي بالأعمال لا بالانتساب المجرد للرجال.
آية: 142 - 0 #
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
# {142} قد اشتملت الآية الأولى على معجزة وتسلية وتطمين قلوب المؤمنين واعتراض، وجوابه من ثلاثة أوجه وصفة المعترض وصفة المُسلِّم لحكم الله دينه، فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس وهم الذين لا يعرفون مصالح أنفسهم بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن وهم اليهود والنصارى ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه، وذلك أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس مدة مقامهم بمكة ثم بعد الهجرة إلى المدينة نحو سنة ونصف لما لله [تعالى] في ذلك من الحكم التي سيشير إلى بعضها، وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال الكعبة فأخبرهم أنه لا بد أن يقول السفهاء من الناس: {ما ولاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}؛ وهي استقبال بيت المقدس أيْ: أيُّ شيء صرفهم عنه؟ وفي ذلك الاعتراض على حكم الله وشرعه وفضله وإحسانه، فسَّلاهم وأخبر بوقوعه وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفه قليل العقل والحلم والديانة، فلا تبالوا بهم إذ قد عُلِم مصدر هذا الكلام، فالعاقل لا يبالي باعتراض السفيه ولا يلقي له ذهنه. ودلت الآية على أنه لا يعترض على أحكام الله إلا سفيه جاهل معاند، وأما الرشيد المؤمن العاقل فيتلقى أحكام ربه بالقبول والانقياد والتسليم كما قال تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}؛ {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم}؛ الآية {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا}؛ وقد كان في قوله السفهاء ما يغني عن رد قولهم وعدم المبالاة به، ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض فقال تعالى: {قل}؛ لهم مجيباً: {لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}؛ أي: فإذا كان المشرق والمغرب ملكاً لله ليس جهة من الجهات خارجة من ملكه ومع هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة التي هي ملة أبيكم إبراهيم فلأي شيء يعترض المعترض بتوليتكم قبلة داخلة تحت ملك الله؟ لم تستقبلوا جهة ليست ملكاً له فهذا يوجب التسليم لأمره بمجرد ذلك، فكيف وهو من فضل الله عليكم وهدايته وإحسانه أن هداكم لذلك، فالمعترض عليكم معترض على فضل الله حسداً لكم وبغياً. ولما كان قوله: {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}؛ مطلقاً والمطلق يُحمَل على المقيد فإن الهداية والضلال لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية التي إذا أتى بها العبد حصل له الهدى كما قال تعالى: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام}؛ ذكر في هذه الآية السبب الموجب لهداية هذه الأمة مطلقاً بجميع أنواع الهداية ومنَّة الله عليها فقال:
{143} {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً}؛ أي: عدلاً خياراً وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر فجعل الله هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين: وسطاً في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفاهم كاليهود بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك. ووسطاً في الشريعة لا تشديدات اليهود وآصارهم ولا تهاون النصارى. وفي باب الطهارة والمطاعم لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم طيبات عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئاً، ولا يحرمون شيئاً بل أباحوا ما دب ودرج، بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها. وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح وحرم عليهم الخبائث من ذلك، فلهذه الأمة من الدين أكمله ومن الأخلاق أجلها ومن الأعمال أفضلها ووهبهم الله من العلم والحلم والعدل والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا {أمة وسطاً}؛ كاملين معتدلين ليكونوا {شهداء على الناس}؛ بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان ولا يحكم عليهم غيرهم، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول فهو مقبول، وما شهدت له بالردِّ فهو مردود. فإن قيل كيف يقبل حكمهم على غيرهم والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على بعض؟. قيل: إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين لوجود التهمة، فأما إذا انتفت التهمة وحصلت العدالة التامة كما في هذه الأمة فإنما المقصود الحكم بالعدل والحق، وشرط ذلك العلم والعدل وهما موجودان في هذه الأمة فقُبِل قولها، فإن شكَّ شاك في فضلها وطلب مزكياً لها فهو أكمل الخلق نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فلهذا قال تعالى: {ويكون الرسول عليكم شهيداً}؛ ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم أنه إذا كان يوم القيامة وسأل الله المرسلين عن تبليغهم والأمم المكذبة عن ذلك وأنكروا أن الأنبياء بلغتهم استشهد الأنبياء بهذه الأمة، وزكاها نبيها. وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ لإطلاق قوله: {وسطاً}؛ فلو قدر اتفاقهم على الخطأ لم يكونوا وسطاً إلا في بعض الأمور، [ولقوله: {لتكونوا شهداء على الناس}: يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكمٍ أنّ اللَّهَ أحلَّه أو حرّمه أو أوجبه فإنها معصومة في ذلك]. وفيها اشتراط العدالة في الحكم والشهادة والفتيا ونحو ذلك.
آية: 143 #
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}.
# {143} يقول تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها}؛ وهي: استقبال بيت المقدس أولاً، {إلا لنعلم}؛ أي: علماً يتعلق به الثواب والعقاب، وإلا فهو تعالى عالم بكل الأمور قبل وجودها، ولكن هذا العلم لا يعلق عليه ثواباً ولا عقاباً لتمام عدله وإقامة الحجة على عباده، بل إذا وجدت أعمالهم ترتب عليها الثواب والعقاب، أي شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن {من يتبع الرسول}؛ ويؤمن به فيتبعه على كل حال لأنه عبد مأمور مدبر، ولأنه قد أخبرت الكتب المتقدمة أنه يستقبل الكعبة فالمنصف الذي مقصوده الحق مما يزيده ذلك إيماناً وطاعة للرسول، وأما من انقلب على عقبيه وأعرض عن الحق واتبع هواه فإنه يزداد كفراً إلى كفره وحيرة إلى حيرته ويدلي بالحجة الباطلة المبنية على شبهة لا حقيقة لها {وإن كانت}؛ أي: صرفك عنها {لكبيرة}؛ أي: شاقة {إلا على الذين هدى الله}؛ فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم وشكروا وأقروا له بالإحسان حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم الذي فضله على سائر بقاع الأرض وجعل قصده ركناً من أركان الإسلام وهادماً للذنوب والآثام، فلهذا خفَّ عليهم ذلك وشقَّ على من سواهم. ثم قال تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}؛ أي: ما ينبغي له ولا يليق به تعالى بل هي من الممتنعات عليه، فأخبر أنه ممتنع عليه ومستحيل أن يضيع إيمانكم، وفي هذا بشارة عظيمة لمن منَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم فلا يضيعه، وحفظه نوعان: حفظ عن الضياع والبطلان بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة والأهواء الصادة، وحفظ بتنميته لهم وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم ويتم به إيقانهم، فكما ابتدأكم بأن هداكم للإيمان فسيحفظه لكم ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره وثوابه وحفظه من كل مكدر، بل إذا وجدت المحن التي المقصود منها تبيين المؤمن الصادق من الكاذب فإنها تمحص المؤمنين وتظهر صدقهم، وكأن في هذا احترازاً عما قد يقال أن قوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}؛ قد يكون سبباً لترك بعض المؤمنين إيمانهم فدفع هذا الوهم بقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم}؛ بتقديره لهذه المحنة أو غيرها، ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة فإن الله لا يضيع إيمانهم لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها، وطاعة الله امتثال أمره في كل وقت بحسب ذلك. وفي هذه الآية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح. وقوله: {إن الله بالنَّاسِ لرءوفٌ رحيمٌ}؛ أي: شديد الرحمة بهم عظيمها، فمن رأفته ورحمته بهم أن يُتِمَّ عليهم نعمته التي ابتدأهم بها، وأن ميز عنهم من دخل في الإيمان بلسانه دون قلبه، وأن امتحنهم امتحاناً زاد به إيمانهم وارتفعت به درجتهم، وأن وجههم إلى أشرف البيوت وأجلها.
آية: 144 #
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}
# {144} يقول الله لنبيه: {قد نرى تقلب وجهك في السماء}؛ أي كثرة تردده في جميع جهاته شوقاً وانتظاراً لنزول الوحي باستقبال الكعبة، وقال: {وجهك}؛ ولم يقل بصرك لزيادة اهتمامه، ولأن تقليب الوجه مستلزم لتقليب البصر، {فلنُوَلِّيَنَّكَ}؛ أي: نوجهك لولايتنا إياك، {قبلة ترضاها}؛ أي: تحبها، وهي الكعبة، وفي هذا بيان لفضله وشرفه - صلى الله عليه وسلم -، حيث أن الله تعالى يسارع في رضاه. ثم صرح له باستقبالها فقال: {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام}؛ والوجه: ما أقبل من بدن الإنسان {وحيث ما كنتم}؛ أي: من بر وبحر شرق وغرب جنوب وشمال، {فولوا وجوهكم شطره}؛ أي: جهته، ففيها اشتراط استقبال الكعبة للصلوات كلها فرضها ونفلها، وأنه إن أمكن استقبال عينها وإلا فيكفي شطرها وجهتها، وأن الالتفات بالبدن مبطل للصلاة؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده. ولما ذكر تعالى ـ فيما تقدم ـ المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم وذكر جوابهم، ذكر هنا أن أهل الكتاب والعلمِ منهم يعلمون أنك في ذلك على حقٍّ واضحٍ لما يجدونه في كتبهم فيعترضون عناداً وبغياً، فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فلا تبالوا بذلك، فإن الإنسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه إذا كان الأمر مشتبهاً وكان ممكناً أن يكون معه صواب، فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه وأن المعترض معاند عارف ببطلان قوله فإنه لا محل للمبالاة، بل يُنتظَر بالمعترض العقوبة الدنيوية والأخروية فلهذا قال تعالى: {وما الله بغافل عمَّا يعملُون}؛ بل يحفظ عليهم أعمالهم ويجازيهم عليها، وفيها وعيد للمعترضين وتسلية للمؤمنين.
آية: 145 #
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}
# {145} كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من كمال حرصه على هداية الخلق يبذل [لهم] غاية ما يقدر عليه من النصيحة ويتلطف بهدايتهم، ويحزن إذا لم ينقادوا لأمر الله، فكان من الكفار من تمرَّد عن أمر الله واستكبر على رسل الله وترك الهدى عمداً وعدواناً فمنهم اليهود والنصارى أهل الكتاب الأول الذين كفروا بمحمد عن يقين لا عن جهل؛ فلهذا أخبره الله تعالى أنك لو {أتيت الذين أتُوا الكتاب بكل آيةٍ}؛ أي: بكلِّ برهان ودليل يوضح قولك ويبين ما تدعو إليه، {ما تبعوا قبلتك}؛ أي: ما تبعوك؛ لأن اتباع القبلة دليل على اتباعه، ولأن السبب هو شأن القبلة، وإنما كان الأمر كذلك لأنهم معاندون عرفوا الحقَّ وتركوه، فالآياتُ إنما [تفيدو] ينتفع بها من يتطلب الحق وهو مشتبه عليه؛ فتوضح له الآيات البينات، وأما من جزم بعدم اتباع الحق فلا حيلة فيه، وأيضاً فإن اختلافهم فيما بينهم حاصل، وبعضهم غير تابع قبلة بعض، فليس بغريب منهم مع ذلك أن لا يتبعوا قبلتك يا محمد وهم الأعداء حقيقة الحسدة. وقوله: {وما أنت بتابع قبلتهُم}؛ أبلغ من قوله ولا تتبع؛ لأن ذلك يتضمن أنه - صلى الله عليه وسلم -، اتصف بمخالفتهم، فلا يمكن وقوع ذلك منه، ولم يقل ولو أُتُوا بكل آية؛ لأنهم لا دليل لهم على قولهم، وكذلك إذا تبين الحق بأدلته اليقينية لم يلزم الإتيان بأجوبة الشُبَه الواردة عليه؛ لأنه لا حد لها، ولأنه يعلم بطلانها للعلم بأن كلَّ ما نافى الحق الواضح فهو باطل، فيكون حل الشبه من باب التبرع. {ولئن اتَّبعت أهواءهُم}؛ إنما قال: أهواءهم ولم يقل دينهم؛ لأن ما هم عليه مجرد أهوية نفس، حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس بدين، ومن ترك الدين اتبع الهوى ولا محالة، قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}، {من بعد ما جاءك من العلم}؛ بأنك على الحق وهم على الباطل، {إنَّك إذاً}؛ أي: إن اتبعتهم، فهذا احتراز لئلا تنفصل هذه الجملة عما قبلها ولو في الأفهام {لمن الظالمين}؛ أي: داخل فيهم ومندرج في جملتهم، وأي ظلم أعظم من ظلم من علم الحق والباطل؟ فآثر الباطل على الحق، وهذا وإن كان الخطاب له - صلى الله عليه وسلم -، فإن أمته داخلة في ذلك؛ وأيضاً فإذا كان هو - صلى الله عليه وسلم -، لو فعل ذلك ـ وحاشاه ـ صار ظالماً مع علو مرتبته وكثرة إحسانه فغيره من باب أولى وأحرى. ثم قال تعالى:
آية: 146 - 147 #
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
# {146} يخبر تعالى أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم وعرفوا أن محمداً رسول الله وأن ما جاء به حق وصدق، وتيقنوا ذلك كما تيقنوا أبناءهم بحيث لا يشتبهون [عليهم] بغيرهم، فمعرفتهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وصلت إلى حد لا يشكون فيه ولا يمترون. لكن فريقاً منهم وهم أكثرهم الذين كفروا به كتموا هذه الشهادة مع تيقنها وهم يعلمون، ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وفي ضمن ذلك تسلية للرسول والمؤمنين وتحذير لهم من شرهم وشبههم، وفريق منهم لم يكتموا الحق وهم يعلمون، فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر به جهلاً. فالعالم عليه إظهار الحق وتبيينه وتزيينه بكلِّ ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال وغير ذلك، وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق وتشيينه وتقبيحه للنفوس بكل طريق مؤدٍّ لذلك، فهؤلاء الكاتمون عكسوا الأمر فانعكست أحوالهم.
# {147} {الحق من ربك}؛ أي: هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقًّا من كلِّ شيء لما اشتمل عليه من المطالب العالية والأوامر الحسنة وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها ودفع مفاسدها لصدوره من ربك الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول والنفوس وجميع المصالح، {فلا تكونن من الممترين}؛ أي: فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه، بل تفكر فيه وتأمل حتى تصل بذلك إلى اليقين، لأن التفكر فيه لا محالة دافع للشك موصل لليقين.
آية: 148 #
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}
# {148} أي: كل أهل دين وملة له وجهة يتوجه إليها في عبادته، وليس الشأن في استقبال القبلة فإنه من الشرائع التي تتغير بها الأزمنة والأحوال ويدخلها النسخ والنقل من جهة إلى جهة، ولكن الشأن كل الشأن في امتثال طاعة الله والتقرب إليه وطلب الزلفى عنده، فهذا هو عنوان السعادة ومنشور الولاية، وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس حصلت لها خسارة الدنيا والآخرة، كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة، وهذا أمر متفق عليه في جميع الشرائع، وهو الذي خلق الله له الخلق وأمرهم به، والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها وإيقاعها على أكمل الأحوال والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل من صلاة وصيام وزكاة وحج وعمرة وجهاد ونفع متعدٍّ وقاصر، ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير وينشطها ما رتب الله عليها من الثواب قال: {أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً إن الله على كلِّ شيء قدير}؛ فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته، فيجازي كل عامل بعمله؛ {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى}. ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يتصف بها العمل، كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة من الصيام والحجِّ والعمرة وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات وآدابها، فلله ما أجمعها وأنفعها من آية.
آية: 149 - 150 #
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}
# {149} أي: {ومن حيث خرجت}؛ في أسفارك وغيرها وهذا للعموم، {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام}؛ أي: جهته. ثم خاطب الأمة عموماً فقال:
# {150} {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره}؛ وقال: {وإنه للحق من ربك}؛ أكده بأن، واللام لئلا يقع لأحد فيه أدنى شبهة، ولئلا يظن أنه على سبيل التشهي لا الامتثال، {وما الله بغافل عما تعملون}؛ بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم فتأدبوا معه وراقبوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإن أعمالكم غير مغفول عنها بل مجازون عليها أتم الجزاء إن خيراً فخير وإن شرًّا فشر، وقال هنا: {لئلا يكون للناس عليكم حجة}؛ أي: شرعنا لكم استقبال الكعبة المشرفة لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب والمشركين، فإنه لو بقي مستقبلاً لبيت المقدس لتوجهت عليه الحجة، فإن أهل الكتاب يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة هي الكعبة البيت الحرام، والمشركين يرون أن من مفاخرهم هذا البيت العظيم، وأنه من ملة إبراهيم، وأنه إذا لم يستقبله محمد - صلى الله عليه وسلم -، توجهت نحوه حججهم، وقالوا كيف يدَّعي أنه على ملة إبراهيم وهو من ذريته وقد ترك استقبال قبلته، فباستقبال القبلة قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين وانقطعت حججهم عليه، إلا من ظلم منهم؛ أي: من احتج منهم بحجة هو ظالم فيها وليس لها مستند إلا اتباع الهوى والظلم؛ فهذا لا سبيل إلى إقناعه والاحتجاج عليه، وكذلك لا معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الاحتجاج محلا يؤبه لها ولا يلقى لها بال، فلهذا قال تعالى: {فلا تخشوهم}؛ لأن حجتهم باطلة، والباطل كاسمه مخذول، مخذول صاحبه، وهذا بخلاف صاحب الحقِّ فإن للحق صولة وعزًّا يوجب خشية من هو معه، وأمر تعالى بخشيته التي هي رأس كل خير، فمن لم يخشَ الله؛ لم ينكف عن معصيته، ولم يمتثل أمره. وكان صرف المسلمين إلى الكعبة مما حصلت فيها فتنة كبيرة أشاعها أهل الكتاب والمنافقون والمشركون وأكثروا فيها من الكلام والشبه، فلهذا بسطها الله تعالى، وبينها أكمل بيان، وأكدها بأنواع من التأكيدات التي تضمنتها هذه الآيات. منها: الأمر بها ثلاث مرات مع كفاية المرة الواحدة. ومنها: أن المعهود أن الأمر إما أن يكون للرسول فتدخل فيه الأمة [تبعاً] أو للأمة عموماً، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله: {فول وجهك}؛ والأمة عموماً في قوله: {فولوا وجوهكم}. ومنها: أنه ردَّ فيه جميع الاحتجاجات الباطلة التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة كما تقدم توضيحها. ومنها: أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب. ومنها: قوله: {وإنه للحق من ربك}؛ فمجرد إخبار الصادق العظيم كافٍ شافٍ، ولكن مع هذا قال: {وإنه للحق من ربك}. ومنها: أنه أخبر وهو العالم بالخفيات أن أهل الكتاب متقرر عندهم صحة هذا الأمر، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم. ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة نعمة عظيمة وكان لطفه بهذه الأمة ورحمته لم يزل يتزايد وكلما شرع لهم شريعة فهي نعمة عظيمة قال: {ولأتم نعمتي عليكم}؛ فأصل النعمة الهداية لدينه بإرسال رسوله وإنزال كتابه، ثم بعد ذلك النعم المتممات لهذا الأصل لا تعد كثرة ولا تحصر منذ بعث الله رسوله إلى أن قرب رحيله من الدنيا وقد أعطاه الله من الأحوال والنعم وأعطى أمته ما أتم به نعمته عليه وعليهم وأنزل الله عليه {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}؛ فلله الحمد على فضله الذي لا نبلغ له عدًّا فضلاً عن القيام بشكره، {ولعلكم تهتدون}؛ أي: تعلمون الحق وتعملون به، فالله تبارك وتعالى من رحمته بالعباد قد يسَّر لهم أسباب الهداية غاية التيسير ونبههم على سلوك طرقها وبينها لهم أتم تبيين حتى أن من جملة ذلك أنه يقيض للحق المعاندين له فيجادلون فيه فيتضح بذلك الحق وتظهر آياته وأعلامه، ويتضح بطلان الباطل وأنه لا حقيقة له، ولولا قيامه في مقابلة الحق لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق وبضدها تتبين الأشياء، فلولا الليل ما عرف فضل النهار، ولولا القبيح ما عرف فضل الحسن، ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحاً ظاهراً. فلله الحمد على ذلك.
آية: 151 - 152 #
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}
# {151} يقول تعالى: إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة ليس ذلك ببدع من إحساننا ولا بأوله بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم تعرفون نسبه وصدقه وأمانته وكماله ونصحه {يتلو عليكم آياتنا}؛ وهذا يعم الآيات القرآنية وغيرها، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل والهدى من الضلال التي دلتكم أولاً على توحيد الله وكماله ثم على صدق رسوله ووجوب الإيمان به ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب، حتى حصل لكم الهداية التامة والعلم اليقيني {ويزكيكم}؛ أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم بتربيتها على الأخلاق الجميلة، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة، وذلك كتزكيتهم من الشرك إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن الخيانة إلى الأمانة، ومن الكبر إلى التواضع، ومن سوء الخلق، إلى حسن الخلق ومن التباغض والتهاجر والتقاطع إلى التحاب والتواصل والتوادد وغير ذلك من أنواع التزكية {ويعلمكم الكتاب}؛ أي: القرآن ألفاظه ومعانيه {والحكمة}؛ قيل هي السنة، وقيل: الحكمة معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها وتنزيل الأمور منازلها، فيكون على هذا تعليم السنة داخلاً في تعليم الكتاب؛ لأن السنة تبين القرآن وتفسره وتعبر عنه {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}؛ لأنهم كانوا قبل بعثته في ضلال مبين لا علم ولا عمل، فكل علم أو عمل نالته هذه الأمة فعلى يده - صلى الله عليه وسلم -، وبسببه كان. فهذه النعم هي أصول النعم على الإطلاق، وهي أكبر نعم ينعم بها على عباده؛ فوظيفتهم شكر الله عليها والقيام بها، فلهذا قال تعالى:
# {152} {فاذكروني أذكركم}؛ فأمر تعالى بذكره، ووعد عليه أفضل جزاء وهو ذكره؛ لمن ذكره كما قال تعالى على لسان رسوله: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» ، وذكر الله تعالى أفضله ما تواطأ عليه القلب واللسان وهو [الذكرُ] الذي يثمر معرفة الله ومحبته وكثرة ثوابه، والذكر هو رأس الشكر فلهذا أمر به خصوصاً ثم من بعده أمر بالشكر عموماً فقال: {واشكروا لي}؛ أي: على ما أنعمت عليكم بهذه النعم ودفعت عنكم صنوف النقم، والشكر يكون بالقلب إقراراً بالنعم واعترافاً، وباللسان ذكراً وثناءً، وبالجوارح طاعةً لله وانقياداً لأمره واجتناباً لنهيه، فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة وزيادة في النعم المفقودة، قال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم}. وفي الإتيان بالأمر بالشكر بعد النعم الدينية من العلم وتزكية الأخلاق والتوفيق للأعمال بيان أنها أكبر النعم، بل هي النعم الحقيقية التي تدوم إذا زال غيرها، وإنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل أن يشكروا الله على ذلك ليزيدهم من فضله وليندفع عنهم الإعجاب فيشتغلوا بالشكر، ولما كان الشكر ضده الكفر نهى عن ضده فقال: {ولا تكفرون}؛ المراد بالكفر ههنا ما يقابل الشكر، فهو كفر النعم وجحدها وعدم القيام بها. ويحتمل أن يكون المعنى عامًّا فيكون الكفر أنواعاً كثيرة أعظمه الكفر بالله، ثم أنواع المعاصي على اختلاف أنواعها وأجناسها من الشرك فما دونه.
آية: 153 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
# {153} أمر الله تعالى المؤمنين بالاستعانة على أمورهم الدينية والدنيوية {بالصبر والصلاة}؛ فالصبر هو حبس النفس وكفها على ما تكره، فهو ثلاثة أقسام: صبرها على طاعة الله حتى تؤديها، وعن معصية الله حتى تتركها، وعلى أقدار الله المؤلمة فلا تتسخطها. فالصبر هو المعونة العظيمة على كل أمر، فلا سبيل لغير الصابر أن يدرك مطلوبه، خصوصاً الطاعات الشاقة المستمرة فإنها مفتقرة أشد الافتقار إلى تحمل الصبر وتجرع المرارة الشاقة، فإذا لازم صاحبها الصبر فاز بالنجاح، وإن رده المكروه والمشقة عن الصبر والملازمة عليها لم يدرك شيئاً وحصل على الحرمان، وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي في محل قدرة العبد، فهذه لا يمكن تركها إلا بصبر عظيم وكف لدواعي قلبه ونوازعها لله تعالى واستعانة بالله على العصمة منها فإنها من الفتن الكبار، وكذلك البلاء الشاق خصوصاً إن استمر، فهذا تضعف معه القوى النفسانية والجسدية ويوجد مقتضاها وهو التسخط إن لم يقاومها صاحبها بالصبر لله والتوكل عليه واللجْأ إليه والافتقار على الدوام، فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد، بل مضطر في كل حالة من أحواله، فلهذا أمر الله تعالى به وأخبر أنه {مع الصابرين}؛ أي: مع من كان الصبر لهم خلقاً وصفة وملكة بمعونته وتوفيقه وتسديده فهانت عليهم بذلك المشاق والمكاره وسهل عليهم كل عظيم وزالت عنهم كل صعوبة، وهذه معية خاصة تقتضي محبته ومعونته ونصره وقربه وهذه منقبة عظيمة للصابرين فلو لم يكن للصابرين فضيلة إلا أنهم فازوا بهذه المعية من الله لكفى بها فضلاً وشرفاً، وأما المعية العامة فهي معية العلم والقدرة كما في قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} وهذه عامة للخلق. وأمر تعالى بالاستعانة بالصلاة لأن الصلاة هي عماد الدين ونور المؤمنين، وهي الصلة بين العبد وبين ربه، فإذا كانت صلاة العبد صلاة كاملة مجتمعاً فيها ما يلزم فيها وما يسن، وحصل فيها حضور القلب الذي هو لبها فصار العبد إذا دخل فيها استشعر دخوله على ربه ووقوفه بين يديه موقف العبد الخادم المتأدب مستحضراً لكل ما يقوله وما يفعله مستغرقاً بمناجاة ربه ودعائه، لا جرم أن هذه الصلاة من أكبر المعونة على جميع الأمور، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأن هذا الحضور الذي يكون في الصلاة يوجب للعبد في قلبه وصفاً وداعياً يدعوه إلى امتثال أوامر ربه واجتناب نواهيه، هذه هي الصلاة التي أمر الله أن نستعين بها على كل شيء.
آية: 154 #
{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}
# {154} لما ذكر تبارك وتعالى الأمر بالاستعانة بالصبر على جميع الأحوال ذكر نموذجاً مما يستعان بالصبر عليه وهو الجهاد في سبيله وهو أفضل الطاعات البدنية وأشقها على النفوس لمشقته في نفسه ولكونه مؤدياً للقتل وعدم الحياة التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة ولوازمها، فكل ما يتصرفون به فإنه سعيٌ لها ودفع لما يضادها. ومن المعلوم أن المحبوب لا يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه وأعظم، فأخبر تعالى أن من قتل في سبيله بأن قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر لا لغير ذلك من الأغراض فإنه لم تفته الحياة المحبوبة بل حصل له حياة أعظم وأكمل مما تظنون وتحسبون، فالشهداء {أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاَّ خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين}؛ فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى وتمتعهم برزقه البدني في المأكولات والمشروبات اللذيذة والرزق الروحي وهو الفرح وهو الاستبشار وزوال كل خوف وحزن وهذه حياة برزخية أكمل من الحياة الدنيا، بل قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش. وفي هذه الآية أعظم حث على الجهاد في سبيل الله وملازمة الصبر عليه، فلو شعر العباد بما للمقتولين في سبيل الله من الثواب لم يتخلف عنه أحد، ولكن عدم العلم اليقيني التام هو الذي فتر العزائم وزاد نوم النائم وأفات الأجور العظيمة والغنائم، لم لا يكون كذلك والله تعالى قد {اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون}؛ فوالله لو كان للإنسان ألف نفس تذهب نفساً فنفساً في سبيل الله لم يكن عظيماً في جانب هذا الأجر العظيم. ولهذا لا يتمنى الشهداء بعدما عاينوا من ثواب الله وحسن جزائه إلا أن يُرَدُّوا إلى الدنيا؛ حتى يقتلوا في سبيله مرة بعد مرة. وفي الآية دليل على نعيم البرزخ وعذابه كما تكاثرت بذلك النصوص.
آية: 155 - 157 #
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
# {155} أخبر تعالى أنه لا بد أن يبتليَ عباده بالمحن ليتبين الصادق من الكاذب والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده، لأن السراء لو استمرت لأهل الإيمان ولم يحصل معها محنة لحصل الاختلاط الذي هو فساد، وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر، هذه فائدة المحن لا إزالة ما مع المؤمنين من الإيمان ولا ردهم عن دينهم، فما كان الله ليضيع إيمان المؤمنين. فأخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده، {بشيء من الخوف}؛ من الأعداء، {والجوع}؛ أي: بشيء يسير منهما لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله أو الجوع لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك، {ونقص من الأموال}؛ وهذا يشمل جميع النقص المعتري للأموال من جوائح سماوية وغرق وضياع وأخذ الظلمة للأموال من الملوك الظلمة وقطاع الطريق وغير ذلك {والأنفس}؛ أي: ذهاب الأحباب من الأولاد والأقارب والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد أو بدن من يحبه، {والثمرات}؛ أي: الحبوب وثمار النخيل والأشجار كلها والخضر ببرد أو برَد أو حرق أو آفة سماوية من جراد ونحوه، فهذه الأمور لا بد أن تقع لأن العليم الخبير أخبر بها فوقعت كما أخبر، فإذا وقعت انقسم الناس قسمين: جازعين وصابرين. فالجازع حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب وهو وجود هذه المصيبة وفوات ما هو أعظم منها وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر ففاز بالخسارة والحرمان ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكران وحصل له السخط الدال على شدة النقصان. وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب فحبس نفسه عن التسخط قولاً وفعلاً واحتسب أجرها عند الله وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له، بل المصيبة تكون نعمة في حقه لأنها صارت طريقاً لحصول ما هو خير له وأنفع منها، فقد امتثل أمر الله وفاز بالثواب، فلهذا قال تعالى: {وبشر الصابرين}؛ أي: بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب، فالصابرون هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة والمنحة الجسيمة، ثم وصفهم بقوله:
# {156} {الذين إذا أصابتهم مصيبة}؛ وهي كل ما يؤلم القلب أو البدن أو كليهما مما تقدم ذكره، {قالوا إنا لله}؛ أي: مملوكون لله مدبرون تحت أمره وتصريفه فليس لنا من أنفسنا وأموالنا شيء، فإذا ابتلانا بشيء منها فقد تصرف أرحم الراحمين بمماليكه وأموالهم فلا اعتراض عليه، بل من كمال عبودية العبد علمه بأن وقوع البلية من المالك الحكيم الذي هو أرحم بعبده من نفسه، فيوجب له ذلك الرِّضا عن الله والشكر له على تدبيره لما هو خير لعبده وإن لم يشعر بذلك، ومع أننا مملوكون لله فإنا إليه راجعون يوم المعاد، فمجازٍ كل عامل بعمله، فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا موفراً عنده، وإن جزعنا وسخطنا لم يكن حظنا إلا السخط وفوات الأجر، فكون العبد لله وراجعاً إليه من أقوى أسباب الصبر.
# {157} {أولئك}؛ الموصوفون بالصبر المذكور {عليهم صلوات من ربهم}؛ أي: ثناء وتنويه بحالهم، {ورحمة}؛ عظيمة، ومن رحمته إياهم أن وفقهم للصبر الذي ينالون به كمال الأجر {وأولئك هم المهتدون}؛ الذين عرفوا الحق، وهو في هذا الموضع علمهم بأنهم لله وأنهم إليه راجعون وعملوا به وهو هنا صبرهم لله، ودلت هذه الآية على أن من لم يصبر فله ضد ما لهم فحصل له الذم من الله والعقوبة والضلال والخسار، فما أعظم الفرق بين الفريقين وما أقل تعب الصابرين وأعظم عناء الجازعين. فقد اشتملت هاتان الآيتان على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها لتخف وتسهل إذا وقعت، وبيان ما تقابل به إذا وقعت وهو الصبر، وبيان ما يعين على الصبر وما للصابرين من الأجر. ويعلم حال غير الصابر بضد حالة الصابر وأن هذا الابتلاء والامتحان سنة الله التي قد خلت ولن تجد لسنة الله تبديلاً وبيان أنواع المصائب.
آية: 158 #
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}
# {158} يخبر تعالى: {إن الصفا والمروة}؛ وهما معروفان {من شعائر الله}؛ أي: أعلام دينه الظاهرة التي تعبَّد الله بها عباده، وإذا كانا من شعائر الله فقد أمر الله بتعظيم شعائره فقال: {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}؛ فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله، وأن تعظيم شعائره من تقوى القلوب، والتقوى واجبة على كل مكلف، وذلك يدل على أن السعي بهما فرض لازم للحج والعمرة كما عليه الجمهور، ودلت عليه الأحاديث النبوية، وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «خذوا عني مناسككم». {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}؛ هذا دفع لوهم من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما لكونهما في الجاهلية تعبد عندهما الأصنام، فنفى تعالى الجناح لدفع هذا الوهم لا لأنه غير لازم، ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج والعمرة أنه لا يتطوع بالسعي مفرداً إلا مع انضمامه لحج أو عمرة، بخلاف الطواف بالبيت فإنه يشرع مع العمرة والحج وهو عبادة مفردة. فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة ورمي الجمار فإنها تتبع النسك، فلو فعلت غير تابعة للنسك كانت بدعة، لأن البدعة نوعان: نوع يتعبد لله بعبادة لم يشرعها أصلاً، ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة مخصوصة فتفعل على غير تلك الصفة وهذا منه. وقوله: {ومن تطوع}؛ أي: فعل طاعة مخلصاً بها لله تعالى {خيراً}؛ من حج وعمرة وطواف وصلاة وصوم وغير ذلك، فهو خير له؛ فدل هذا على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله ازداد خيره وكماله ودرجته عند الله لزيادة إيمانه، ودل تقييد التطوع بالخير أن من تطوع بالبدع التي لم يشرعها الله ولا رسوله أنه لا يحصل له إلا العناء، وليس بخير له، بل قد يكون شرًّا له إن كان متعمداً عالماً لعدم مشروعية العمل. {فإن الله شاكر عليم}؛ الشاكر والشكور من أسماء الله تعالى الذي يقبل من عباده اليسير من العمل، ويجازيهم عليه العظيم من الأجر الذي إذا قام عبده بأوامره وامتثل طاعته أعانه على ذلك وأثنى عليه ومدحه وجازاه في قلبه نوراً وإيماناً وسعة وفي بدنه قوة ونشاطاً وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء وفي أعماله زيادة توفيق، ثم بعد ذلك يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملاً موفراً لم تنقصه هذه الأمور، ومن شكره لعبده أن من ترك شيئاً لله أعاضه الله خيراً منه، ومن تقرب منه شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، ومن عامله ربح عليه أضعافاً مضاعفة، ومع أنه شاكر فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل بحسب نيته وإيمانه وتقواه ممن ليس كذلك، عليم بأعمال العباد فلا يضيعها بل يجدونها أوفر ما كانت على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم.
آية: 159 - 162 #
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}
# {159} هذه الآية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموا من شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وصفاته فإن حكمها عامٌّ لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله {من البينات}؛ الدالات على الحق المظهرات له {والهدى}؛ وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم بأن يبينوا للناس ما منَّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كتم ما أنزل الله والغش لعباد الله فأولئك {يلعنهم الله}؛ أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته {ويلعنهم اللاعنون}؛ وهم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم وإبعادهم من رحمة الله، فجوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير يصلي الله عليه وملائكته حتى الحوت في جوف الماء لسعيه في مصلحة الخلق وإصلاح أديانهم، وقربهم من رحمة الله، فجوزي من جنس عمله. فالكاتم لما أنزله الله مضاد لأمر الله مشاق لله، يبين الله الآيات للناس ويوضحها، وهذا يسعى في طمسها وإخفائها ، فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.
# {160} {إلا الذين تابوا}؛ أي: رجعوا عما هم عليه من الذنوب ندماً وإقلاعاً وعزماً على عدم المعاودة {وأصلحوا}؛ ما فسد من أعمالهم؛ فلا يكفي ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن، ولا يكفي ذلك في الكاتم أيضاً حتى يبين ما كتمه ويبدي ضد ما أخفى فهذا يتوب الله عليه لأن توبة الله غير محجوب عنها، فمن أتى بسبب التوبة تاب الله عليه لأنه {التواب}؛ أي: الرجاع على عباده بالعفو والصفح بعد الذنب إذا تابوا وبالإحسان والنعم بعد المنع إذا رجعوا {الرحيم}؛ الذي اتصف بالرحمة العظيمة التي وسعت كل شيء، ومن رحمته أن وفقهم للتوبة والإنابة فتابوا وأنابوا ثم رحمهم بأن قبل ذلك منهم لطفاً وكرماً، هذا حكم التائب من الذنب.
# {161} وأما من كفر واستمر على كفره حتى مات لم يرجع إلى ربه ولم ينب إليه ولم يتب عن قريب فأولئك {عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين}؛ لأنه لما صار كفرهم وصفاً ثابتاً صارت اللعنة عليهم وصفاً ثابتاً لا تزول، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
# {162} {خالدين فيها}؛ أي: في اللعنة أو في العذاب وهما متلازمان {لا يخفف عنهم العذاب}؛ بل عذابهم دائم شديد مستمر {ولا هم ينظرون}؛ أي: يمهلون لأن وقت الإمهال وهو الدنيا قد مضى، ولم يبق لهم عذر فيعتذرون.
آية: 163 #
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}
# {163} يخبر تعالى وهو أصدق القائلين أنه {إله واحد}؛ أي: متوحد منفرد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله فليس له شريك في ذاته ولا سمي له ولا كفو له ولا مثل ولا نظير ولا خالق ولا مدبر غيره، فإذا كان كذلك فهو المستحق لأن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة ولا يشرك به أحد من خلقه لأنه {الرحمن الرحيم}؛ المتصف بالرحمة العظيمة التي لا يماثلها رحمة أحد فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي، فبرحمته وجدت المخلوقات وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالات، وبرحمته اندفع عنها كل نقمة، وبرحمته عرَّف عباده نفسه بصفاته وآلائه وبين لهم كل ما يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة فمن الله وأن أحداً من المخلوقين لا ينفع أحداً عُلِمَ أن الله هو المستحق لجميع أنواع العبادة وأن يفرد بالمحبة والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل وغير ذلك من أنواع الطاعات وأن من أظلم الظلم وأقبح القبيح أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد وأن يشرك المخلوقين من تراب برب الأرباب أو يعبد المخلوق المدبر العاجز من جميع الوجوه مع الخالق المدبر القادر القوي الذي [قد] قهر كل شيء، ودان له كل شيء. ففي هذه الآية إثبات وحدانية الباري وإلهيته وتقريرها بنفيها عن غيره من المخلوقين وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها وجود جميع النعم واندفاع جميع النقم، فهذا دليل إجمالي على وحدانيته تعالى. ثم ذكر الأدلة التفصيلية فقال:
آية: 164 #
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
# {164} أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات؛ أي: أدلة على وحدانية الباري وإلهيته وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته، ولكنها {لقوم يعقلون}؛ أي: لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له، فعلى حسب ما منَّ الله على عبده من العقل ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبره، ففي {خلق السموات}؛ في ارتفاعها واتساعها وإحكامها وإتقانها وما جعل الله فيها من الشمس والقمر والنجوم وتنظيمها لمصالح العباد وفي خلق {الأرض}؛ مهاداً للخلق يمكنهم القرار عليها والانتفاع بما عليها والاعتبار، ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير وبيان قدرته العظيمة التي بها خلقها، وحكمته التي بها أتقنها وأحسنها ونظمها، وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع من منافع الخلق ومصالحهم وضروراتهم وحاجاتهم، وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله واستحقاقه أن يفرد بالعبادة لانفراده بالخلق والتدبير والقيام بشؤون عباده. وفي {اختلاف الليل والنهار}؛ وهو تعاقبهما على الدوام إذا ذهب أحدهما خلفه الآخر، وفي اختلافهما في الحر والبرد والتوسط، وفي الطول والقصر والتوسط، وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بني آدم وحيواناتهم، وجميع ما على وجه الأرض من أشجار ونوابت، كل ذلك بانتظام وتدبير وتسخير تنبهر له العقول، وتعجز عن إدراكه من الرجال الفحول ما يدل ذلك على قدرة مصرفها وعلمه وحكمته ورحمته الواسعة ولطفه الشامل وتصريفه وتدبيره الذي تفرد به وعظمته وعظمة ملكه وسلطانه ممّا يوجب أن يؤله ويعبد ويفرد بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء وبذل الجهد في محابه ومراضيه. وفي {الفلك التي تجري في البحر} وهي السفن والمراكب ونحوها مما ألهم الله عباده صنعتها وخلق لهم من الآلات الداخلية والخارجية ما أقدرهم عليها ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح التي تحملها بما فيها من الركاب والأموال والبضائع التي هي من منافع الناس وبما تقوم مصالحهم وتنتظم معايشهم، فمن الذي ألهمهم صنعتها وأقدرهم عليها وخلق لهم من الآلات ما به يعملونها، أم من الذي سخر لها البحر تجري فيه بإذنه وتسخيره والرياح، أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية النار والمعادن المعينة على حملها وحمل ما فيها من الأموال، فهل هذه الأمور حصلت اتفاقاً أم استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز الذي خرج من بطن أمه لا علم له ولا قدرة، ثم خلق له ربه القدرة وعلمه ما يشاء تعليمه، أم المسخر لذلك رب واحد حكيم عليم لا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه شيء. بل الأشياء قد دانت لربوبيته، واستكانت لعظمته، وخضعت لجبروته. وغاية العبد الضعيف أن جعله الله جزءاً من أجزاء الأسباب التي بها وجدت هذه الأمور العظام، فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه، وذلك يوجب أن تكون المحبة كلها له والخوف والرجاء وجميع الطاعة والذل والتعظيم {وما أنزل الله من السماء من ماء}؛ وهو المطر النازل من السحاب {فأحيا به الأرض بعد موتها}؛ فأظهرت من أنواع الأقوات وأصناف النبات ما هو من ضرورات الخلائق التي لا يعيشون بدونها، أليس ذلك دليلاً على قدرة من أنزله وأخرج به ما أخرج ورحمته ولطفه بعباده وقيامه بمصالحهم وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟ أَما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليلاً على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ {وبث فيها}؛ أي في الأرض {من كلِّ دابة}؛ أي: نشر في أقطار الأرض من الدواب المتنوعة ما هو دليل على قدرته وعظمته ووحدانيته وسلطانه العظيم، وسخرها للناس ينتفعون بها بجميع وجوه الانتفاع: فمنها ما يأكلون من لحمه ويشربون من دره، ومنها ما يركبون، ومنها ما هو ساعٍ في مصالحهم وحراستهم، ومنها ما يعتبر به، ومنها أنه بث فيها من كل دابة فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم المتكفل بأقواتهم، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها. وفي {تصريف الرياح}؛ باردة وحارة وجنوباً وشمالاً وشرقاً ودبوراً وبين ذلك، وتارة تثير السحاب، وتارة تؤلف بينه، وتارة تلقحه، وتارة تدره، وتارة تمزقه، وتزيل ضرره، وتارة تكون رحمة، وتارة ترسل بالعذاب، فمن الذي صرفها هذا التصريف وأودع فيها من منافع العباد ما لا يستغنون عنه، وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات وتصلح الأبدان والأشجار والحبوب والنوابت إلا العزيز الحكيم الرحيم اللطيف بعباده المستحق لكل ذلٍّ وخضوع ومحبةٍ وإنابة وعبادة، وفي تسخير السحاب بين السماء والأرض على خفته ولطافته يحمل الماء الكثير فيسوقه الله إلى حيث شاء فيحيي به البلاد والعباد ويروي التلول والوهاد وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه، فإذا كان يضرهم كثرته أمسكه عنهم فينزله رحمة ولطفاً ويصرفه عناية وعطفاً، فما أعظم سلطانه وأغزر إحسانه وألطف امتنانه، أليس من القبيح بالعباد أن يتمتعوا برزقه ويعيشوا ببره وهم يستعينون بذلك على مساخطه ومعاصيه، أليس ذلك دليلاً على حلمه وصبره وعفوه وصفحه وعظيم لطفه، فله الحمد أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً. والحاصل أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات، وتغلغل فكره في بدائع المبتدعات، وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر والحكمة علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر، وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها، فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون وإليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات فلا إله إلا الله، ولا رب سواه.
ثم قال تعالى:
آية: 165 - 167 #
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}.
# {165 ـ 166 ـ 167} ما أحسن اتصال هذه الآية بالتي قبلها، فغنه تعالى لما بين وحدانيته وأدلتها القاطعة وبراهينها الساطعة الموصولة إل علم اليقين المزيلة لكل شك ذر هنا أن {من الناس}، مع هذا البيان التام {من يتخذ} من المخلوقين {أنداداً} لله؛ أي: نظراء ومثلاء يساويهم في الله بالعبادة والمحبة والتعظيم والطاعة، ومن كان بهذه الحالة ـ بعد إقامة الحجة وبيان التوحيد ـ علم أنه معاند لله، مشاق له، أو معرض عن تدبر آياته، والتفكر في مخلوقاته فليس له أدنى عذر في ذلك، بل قد حقت عليه كلمة العذاب، وهؤلاء الذين يتخذون الأنداد مع الله لا يسوونهم بالله في الخلق والرزق والتدبير، وإنما يسوونهم به في العبادة فيعبدونهم ليقربوهم إليه، وفي قوله اتخذوا دليل على أنه ليس لله ندٌّ وإنما المشركون جعلوا بعض المخلوقات أنداداً له تسمية مجردة ولفظاً فارغاً من المعنى؛ كما قال تعالى: {وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول}؛ {إن هي إلاَّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلاَّ الظن}. فالمخلوق ليس ندًّا لله لأن الله هو الخالق وغيره مخلوق والرب الرازق ومن عداه مرزوق، والله هو الغني وأنتم الفقراء وهو الكامل من كل الوجوه، والعبيد ناقصون من جميع الوجوه، والله هو النافع الضار، والمخلوق ليس له من النفع والضر والأمر شيء، فعلم علماً يقيناً بطلان قول من اتخذ من دون الله آلهة وأنداداً سواء كان ملكاً أو نبيًّا أو صالحاً أو صنماً أو غير ذلك وإن الله هو المستحق للمحبة الكاملة والذل التام، فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله: {والذين آمنوا أشد حبًّا لله}؛ أي: من أهل الأنداد لأندادهم لأنهم أخلصوا محبتهم له وهؤلاء أشركوا بها، ولأنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة الذي محبته هي عين صلاح العبد وسعادته وفوزه. والمشركون أحبوا من لا يستحق من الحب شيئاً ومحبته عين شقاء العبد وفساده وتشتت أمره. فلهذا توعدهم الله بقوله: {ولو يرى الذين ظلموا}؛ باتخاذ الأنداد والانقياد لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله وسعيهم فيما يضرهم {إذ يرون العذاب}؛ أي: يوم القيامة عياناً بأبصارهم {أن القوة لله جميعاً وأن الله شديد العذاب}؛ أي: لعلموا علماً جازماً أن القوة والقدرة لله كلها وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء، فتبين لهم في ذلك اليوم ضعفها وعجزها لا كما اشتبه عليهم في الدنيا، وظنوا أن لها من الأمر شيئاً وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه فخاب ظنهم، وبطل سعيهم، وحق عليهم شدة العذاب ولم تدفع عنهم أندادهم شيئاً، ولم تغن عنهم مثقال ذرة من النفع، بل يحصل لهم الضرر منها من حيث ظنوا نفعها. وتبرأ المتبعون من التابعين، وتقطعت بينهم الوصل التي كانت في الدنيا لأنها كانت لغير الله وعلى غير أمر الله، ومتعلقة بالباطل الذي لا حقيقة له فاضمحلت أعمالهم، وتلاشت أحوالهم، وتبين لهم أنهم كانوا كاذبين وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها انقلبت عليهم حسرة وندامة وأنهم خالدون في النار لا يخرجون منها أبداً، فهل بعد هذا الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل فعملوا العمل الباطل ورجوا غير مرجوٍ وتعلقوا بغير متعلق فبطلت الأعمال ببطلان متعلقها ولما بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من الأمل فيها فضرتهم غاية الضرر، وهذا بخلاف من تعلق بالله الملك الحق المبين، وأخلص العمل لوجهه، ورجا نفعه فهذا قد وضع الحق في موضعه، فكانت أعماله حقًّا لتعلقها بالحق ففاز بنتيجة عمله ووجد جزاءه عند ربه غير منقطع كما قال تعالى: {الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم، والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم، ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم كذلك يضرب الله للناس أمثالهم}. وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرؤوا من متبوعهم بأن يتركوا الشرك بالله ويقبلوا على إخلاص العمل لله، وهيهات فات الأمر وليس الوقت وقت إمهال وإنظار، ومع هذا فهم كذبة فلو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنما هو قول يقولونه وأماني يتمنونها حنقاً وغيظاً على المتبوعين لما تبرؤوا منهم والذنب ذنبهم فرأس المتبوعين على الشر إبليس ومع هذا يقول لأتباعه: {لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم}.
آية: 168 - 170 #
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}
# {168} هذا خطاب للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم، فامتن عليهم بأن أمرهم أن يأكلوا من جميع ما في الأرض من حبوب وثمار وفواكه وحيوانات حالة كونها {حلالاً}؛ أي: محللاً لكم تناوله ليس بغصب ولا سرقة ولا محصلاً بمعاملة محرمة أو على وجه محرم أو معيناً على محرم {طيباً}؛ أي: ليس بخبيث كالميتة والدم ولحم الخنزير والخبائث كلها. ففي هذه الآية دليل على أن الأصل في الأعيان الإباحة أكلاً وانتفاعاً وأن المحرم نوعان: إما محرم لذاته وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب، وإما محرم لما عرض له وهو المحرم لتعلق حق الله أو حق عباده به، وهو ضد الحلال. وفيه دليل على أن الأكل بقدر ما يقيم البنية واجب يأثم تاركه لظاهر الأمر، ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به إذ هو عين صلاحهم نهاهم عن اتباع {خطوات الشيطان}؛ أي: طرقه التي يأمر بها، وهي جميع المعاصي من كفر وفسوق وظلم، ويدخل في ذلك تحريم السوائب والحام ونحو ذلك، ويدخل فيه [أيضاً] تناول المأكولات المحرمة. {إنه لكم عدو مبين}؛ أي: ظاهر العداوة فلا يريد بأمركم إلا غشكم وأن تكونوا من أصحاب السعير، فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته حتى أخبرنا وهو أصدق القائلين بعداوته الداعية للحذر منه، ثم لم يكتف بذلك حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به، وأنه أقبح الأشياء، وأعظمها مفسدة، فقال:
# {169} {إنما يأمركم بالسوء}؛ أي: الشر الذي يسوء صاحبه، فيدخل في ذلك جميع المعاصي فيكون قوله، {والفحشاء}؛ من باب عطف الخاص على العام لأن الفحشاء من المعاصي ما تناهى قبحه كالزنا وشرب الخمر والقتل والقذف والبخل ونحو ذلك مما يستفحشه من له عقل {وأن تقولوا على الله مالا تعلمون}؛ فيدخل في ذلك القول على الله بلا علم في شرعه وقدره، فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو نفى عنه ما أثبته لنفسه، أو أثبت له ما نفاه عن نفسه؛ فقد قال على الله بلا علم، ومن زعم أن لله ندًّا وأوثاناً تقرب مَنْ عَبَدَها من الله فقد قال على الله تعالى بلا علم، ومن قال: إن الله أحل كذا، أو حرم كذا، أو أمر بكذا، أو نهى عن كذا بغير بصيرة، فقد قال على الله بلا علم، ومن قال: إنَّ الله خلق هذا الصنف من المخلوقات للعلة الفلانية بلا برهان له بذلك؛ فقد قال على الله بلا علم. ومن أعظم القول على الله بلا علم أن يتأول المتأول كلامه أو كلام رسوله على معاني اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلال ثم يقول إن الله أرادها، فالقول على الله بلا علم من أكبر المحرمات وأشملها وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها، فهذه طرق الشيطان التي يدعو إليها هو وجنوده، ويبذلون مكرهم وخداعهم على إغواء الخلق بما يقدرون عليه، وأما الله تعالى فإنه يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. فلينظر العبد نفسه مع أي الداعيَيْنِ [هو] ومن أي الحِزْبَيْنِ؟ أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية والأخروية الذي كل الفلاح بطاعته وكل الفوز في خدمته وجميع الأرباح في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة، الذي لا يأمر إلا بالخير ولا ينهى إلا عن الشرِّ، أم تتبع داعي الشيطان الذي هو عدو الإنسان الذي يريد لك الشرَّ ويسعى بجهده على إهلاكك في الدنيا والآخرة؟ الذي كل الشرِّ في طاعته وكل الخسران في ولايته، الذي لا يأمر إلا بشرٍّ ولا ينهى إلا عن خير.
ثم أخبر تعالى عن حال المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على رسوله مما تقدم وصفه رغبوا عن ذلك وقالوا:
# {170} {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} فاكتفوا بتقليد الآباء، وزهدوا في الإيمان بالأنبياء، ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس وأشدهم ضلالاً. وهذه شبهة لرد الحق واهية، فهذا دليل على إعراضهم عن الحق ورغبتهم عنه وعدم إنصافهم، فلو هدوا لرشدهم وحسن قصدهم لكان الحق هو القصد، ومن جعل الحق قصده، ووازن بينه وبين غيره، تبين له الحق قطعاً واتبعه إن كان منصفاً. ثم قال تعالى:
آية: 171 #
{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}
# {171} لما بين تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل وردهم لذلك بالتقليد علم من ذلك أنهم غير قابلين للحق ولا مستجيبين له، بل كان معلوماً لكل أحد أنهم لن يزولوا عن عنادهم، أخبر تعالى أن مثلهم عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها وليس لها علم بما يقول داعيها ومناديها، فهم يسمعون مجرد الصوت الذي تقوم به عليهم الحجة، ولكنهم لا يفقهونه فقهاً ينفعهم، فلهذا كانوا صمًّاً لا يسمعون الحق سماع فهم وقبول، عمياً لا ينظرون نظر اعتبار، بُكماً فلا ينطقون بما فيه خير لهم، والسبب الموجب لذلك كله أنه ليس لهم عقل صحيح بل هم أسفه السفهاء وأجهل الجهلاء. فهل يستريب العاقل أن من دُعِيَ إلى الرشاد وذيد عن الفساد، ونُهِيَ عن اقتحام العذاب، وأُمِرَ بما فيه صلاحه وفلاحه وفوزه ونعيمه، فعصى الناصح، وتولى عن أمر ربه، واقتحم النار على بصيرة واتبع الباطل ونبذ الحق أن هذا ليس له مسكة من عقل، وأنه لو اتصف بالمكر والخديعة والدهاء فإنه من أسفه السفهاء.
آية: 172 - 173 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}
# {172} هذا أمر للمؤمنين خاصة بعد الأمر العام، وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي بسبب إيمانهم، فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق والشكر لله على إنعامه باستعمالها بطاعته والتقوي بها على ما يوصل إليه، فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً}؛ فالشكر في هذه الآية هو العمل الصالح، وهنا لم يقل حلالاً لأن المؤمن أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة، ولأن إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له. وقوله: {إن كنتم إياه تعبدون}؛ أي: فاشكروه فدل على أن من لم يشكر الله لم يعبده وحده، كما أن من شكره فقد عبده وأتى بما أمر به، ويدل أيضاً على أن أكل الطيب سبب للعمل الصالح وقبوله. والأمر بالشكر عقيب النعم، لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة، ويجلب النعم المفقودة، كما أن الكفر ينفر النعم المفقودة، ويزيل النعم الموجودة.
# {173} ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال: {إنما حرم عليكم الميتة}؛ وهي: ما مات بغير تذكية شرعية؛ لأن الميتة خبيثة مضرة لرداءتها في نفسها ولأن الأغلب أن تكون عن مرض فيكون زيادة مرض ، واستثنى الشارع من هذا العموم ميتة الجراد وسمك البحر فإنه حلال طيب {والدم}؛ أي: المسفوح كما قيد في الآية الأخرى {وما أهل به لغير الله}؛ أي ذبح لغير الله كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار والقبور ونحوها، وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات، وجيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليه بمفهوم قوله: {طيبات}؛ فعموم المحرمات تستفاد من الآية السابقة من قوله: {حلالاً طيباً}؛ كما تقدم وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها لطفاً بنا وتنزيهاً عن المضر، ومع هذا {فمن اضطر}؛ أي ألجئ إلى المحرم بجوع وعدم أو إكراه {غير باغ}؛ أي: غير طالب للمحرم مع قدرته على الحلال أو مع عدم جوعه {ولا عاد}؛ أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له اضطراراً فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها {فلا إثم}؛ أي: جناح {عليه}؛ وإذا ارتفع الإثم رجع الأمر إلى ما كان عليه، والإنسان بهذه الحالة مأمور بالأكل بل منهيٌّ أن يلقي بيده إلى التهلكة وأن يقتل نفسه، فيجب إذاً عليه الأكل ويأثم إن ترك الأكل حتى مات فيكون قاتلاً لنفسه، وهذه الإباحة والتوسعة من رحمته تعالى بعباده، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال: {إن الله غفورٌ رحيم}. ولما كان الحل مشروطاً بهذين الشرطين، وكان الإنسان في هذه الحالة ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها، أخبر [تعالى] أنه غفور، فيغفر [له] ما أخطأ فيه في هذه الحال خصوصاً، وقد غلبته الضرورة، وأذهبت حواسه المشقة. وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة «الضرورات تبيح المحظورات»، فكل محظور اضطر له الإنسان فقد أباحه له الملك الرحمن، فله الحمد والشكر أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
آية: 174 - 176 #
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}.
# {174 ـ 175} هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله من العلم الذي أخذ الله الميثاق على أهله أن يبينوه للناس ولا يكتموه، فمن تعوض عنه بالحطام الدنيوي ونبذ أمر الله فأولئك {ما يأكلون في بطونهم إلا النار}؛ لأن هذا الثمن الذي اكتسبوه إنما حصل لهم بأقبح المكاسب وأعظم المحرمات، فكان جزاؤهم من جنس عملهم، {ولا يكلمهم الله يوم القيامة}؛ بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم، فهذا أعظم عليهم من عذاب النار، {ولا يزكيهم}؛ أي: لا يطهرهم من الأخلاق الرذيلة، وليس لهم أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها، وإنما لم يزكهم لأنهم فعلوا أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله والاهتداء به والدعوة إليه، فهؤلاء نبذوا كتاب الله وأعرضوا عنه واختاروا الضلالة على الهدى والعذاب على المغفرة فهؤلاء لا يصلح لهم إلا النار، فكيف يصبرون عليها؟ وأنَّى لهم الجلد عليها؟
# {176} {ذلك}؛ المذكور وهو مجازاته بالعدل ومنعه أسباب الهداية ممن أباها واختار سواها {بأن الله نزل الكتاب بالحق}؛ ومن الحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وأيضاً ففي قوله: {نزل الكتاب بالحق}؛ ما يدل على أن الله أنزله لهداية خلقه وتبيين الحق من الباطل والهدى من الضلال، فمن صرفه عن مقصوده فهو حقيق بأن يجازَى بأعظم العقوبة، {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}؛ أي: وإن الذين اختلفوا في الكتاب فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه والذين حرفوه وصرفوه على أهوائهم ومراداتهم {لفي شقاق}؛ أي: محادة {بعيد}؛ من الحق، لأنهم قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للاتفاق وعدم التناقض، فمرج أمرهم، وكثر شقاقهم، وترتب على ذلك افتراقهم، بخلاف أهل الكتاب الذين آمنوا به، وحكموه في كل شيء، فإنهم اتفقوا، وارتفقوا بالمحبة والاجتماع عليه. وقد تضمنت هذه الآيات الوعيد للكاتمين لما أنزل الله المؤثرين عليه عرض الدنيا بالعذاب والسخط، وأن الله لا يطهرهم بالتوفيق ولا بالمغفرة. وذكر السبب في ذلك بإيثارهم الضلالة على الهدى، فترتب على ذلك اختيار العذاب على المغفرة ثم توجع لهم بشدة صبرهم على النار لعملهم بالأسباب التي يعلمون أنها موصلة لها، وأن الكتاب مشتمل على الحق الموجب للاتفاق عليه وعدم الافتراق، وأن كل من خالفه فهو في غاية البعد عن الحق والمنازعة والمخاصمة. والله أعلم.
آية: 177 #
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
# {177} يقول تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب}؛ أي: ليس هذا هو البر المقصود من العباد فيكون كثرة البحث فيه والجدال من العناء الذي ليس تحته إلا الشقاق والخلاف، وهذا نظير قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» ، ونحو ذلك، {ولكن البر من آمن بالله}؛ أي: بأنه إله واحد موصوف بكل صفة كمال منزَّه عن كلِّ نقص {واليوم الآخر}؛ وهو كل ما أخبر الله به في كتابه أو أخبر به الرسول مما يكون بعد الموت {والملائكة}؛ الذين وصفهم الله لنا في كتابه ووصفهم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، {والكتاب}؛ أي: جنس الكتب التي أنزلها الله على رسله وأعظمها القرآن فيؤمن بما تضمنه من الأخبار والأحكام. {والنبيين}؛ عموماً، خصوصاً خاتمهم وأفضلهم محمد - صلى الله عليه وسلم - {وآتى المال}؛ وهو كل ما يتمول الإنسان من مال قليلاً كان أو كثيراً أي أعطى المال {على حبه}؛ أي: حب المال بين به أن المال محبوب للنفوس فلا يكاد يخرجه العبد، فمن أخرجه مع حبه له تقرباً إلى الله تعالى كان هذا برهاناً لإيمانه، ومن إيتاء المال على حبه أن يتصدق وهو صحيح شحيح يأمل الغنى ويخشى الفقر، وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة كان أفضل لأنه في هذه الحال يحب إمساكه لما يتوهمه من العُدْم والفقر، وكذلك إخراج النفيس من المال وما يحبه من ماله كما قال تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}؛ فكل هؤلاء ممن آتى المال على حبه. ثم ذكر المنفق عليه وهم أولى الناس ببرِّك وإحسانك من الأقارب؛ الذين تتوجع لمصابهم وتفرح بسرورهم الذين يتناصرون ويتعاقلون، فمن أحسن البر وأوفقه تعاهد الأقارب بالإحسان المالي والقولي على حسب قربهم وحاجتهم، ومن {اليتامى}؛ الذين لا كاسب لهم وليس لهم قوة يستغنون بها، وهذا من رحمته تعالى بالعباد الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده، فالله قد أوصى العباد وفرض عليهم في أموالهم الإحسان إلى من فقد آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه، ولأن الجزاء من جنس العمل فمن رحم يتيمَ غيره رُحِم يتيمه. {والمساكين}؛ وهم الذين أسكنتهم الحاجة وأذلهم الفقر فلهم حق على الأغنياء بما يدفع مسكنتهم أو يخففها بما يقدرون عليه وبما يتيسر. {وابن السبيل}؛ وهو الغريب المنقطع به في غير بلده. فحث الله عباده على إعطائه من المال ما يعينه على سفره لكونه مظنة الحاجة وكثرة المصارف، فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته وخوَّله من نعمته أن يرحم أخاه الغريب الذي بهذه الصفة على حسب استطاعته ولو بتزويده أو إعطائه آلة لسفره أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها. {والسائلين}؛ أي: الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج توجب السؤال، كمن ابتلي بأرش جناية أو ضريبة عليه من ولاة الأمور أو يسأل الناس لتعمير المصالح العامة كالمساجد والمدارس والقناطر ونحو ذلك فهذا له الحق وإن كان غنياً. {وفي الرقاب}؛ فيدخل فيه العتق والإعانة عليه وبذل مال للمكاتَب ليوفي سيده وفداء الأسراء عند الكفار أو عند الظلمة. {وأقام الصلاة وآتى الزكاة}؛ قد تقدم مراراً أن الله تعالى يقرن بين الصلاة والزكاة لكونهما أفضل العبادات، وأكمل القربات عبادات قلبية وبدنية ومالية، وبهما يوزن الإيمان ويعرف ما مع صاحبه من الإيقان، {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا}؛ والعهد هو الالتزام بإلزام الله أو إلزام العبد لنفسه فدخل في ذلك حقوق الله كلها، لكون الله ألزم بها عباده والتزموها، ودخلوا تحت عهدتها ووجب عليهم أداؤها، وحقوق العباد التي أوجبها الله عليهم والحقوق التي التزمها العبد كالأيمان والنذور ونحو ذلك. {والصابرين في البأساء}؛ أي: الفقر لأن الفقير يحتاج إلى الصبر من وجوه كثيرة لكونه يحصل له من الآلام القلبية والبدنية المستمرة ما لا يحصل لغيره، فإن تنعم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألم وإن جاع أو جاعت عياله تألم، وإن أكل طعاماً غير موافق لهواه تألم، وإن عري أو كاد تألم، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم، وإن أصابه البرد الذي لا يقدر على دفعه تألم، فكل هذه ونحوها مصائب يؤمر بالصبر عليها والاحتساب ورجاء الثواب من الله عليها {والضراء}؛ أي: المرض على اختلاف أنواعه من حمى وقروح ورياح ووجع عضو حتى الضرس والإصبع ونحو ذلك فإنه يحتاج إلى الصبر على ذلك، لأن النفس تضعف والبدنَ يألم وذلك في غاية المشقة على النفوس، خصوصاً مع تطاول ذلك، فإنه يؤمر بالصبر احتساباً لثواب الله تعالى {وحين البأس}؛ أي: وقت القتال للأعداء المأمور بقتالهم، لأن الجلاد يشق غاية المشقة على النفس ويجزع الإنسان من القتل أو الجراح أو الأسر، فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتساباً ورجاء لثواب الله تعالى الذي منه النصر والمعونة التي وعدها الصابرين. {أولئك}؛ أي: المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة والأعمال التي هي آثار الإيمان وبرهانه ونوره والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية فأولئك {الذين صدقوا}؛ في إيمانهم لأن أعمالهم صدقت إيمانهم {وأولئك هم المتقون}؛ لأنهم تركوا المحظور وفعلوا المأمور، لأن هذه الأمور مشتملة على كل خصال الخير تضمناً ولزوماً لأن الوفاء بالعهد يدخل فيه الدين كله، ولأن العبادات المنصوص عليها في هذه الآية أكبر العبادات، ومن قام بها كان بما سواها أقوم، فهؤلاء [هم] الأبرار الصادقون المتقون. وقد علم ما رتب الله على هذه الأمور الثلاثة من الثواب الدنيوي والأخروي مما لا يمكن تفصيله في مثل هذا الموضع.
آية: 178 - 179 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}.
# {178} يَمْتَنُّ تعالى على عباده المؤمنين بأنه فرض عليهم {القصاص في القتلى}؛ أي: المساواة فيه، وأن يقتل القاتل على الصفة التي قتل عليها المقتول، إقامة للعدل والقسط بين العباد، وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول إذا طلب القصاص، ويمكنه من القاتل، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد، ويمنعوا الولي من الاقتصاص كما عليه عادة الجاهلية ومن أشبههم من إيواء المحدِثين. ثم بين تفصيل ذلك فقال: {الحر بالحر}؛ يدخل بمنطوقها الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى؛ والأنثى بالذكر والذكر بالأنثى، فيكون منطوقها مقدماً على مفهوم قوله الأنثى بالأنثى مع دلالة السنة على أن الذكر يقتل بالأنثى، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا فلا يقتلان بالولد لورود السنة بذلك مع أن في قوله: {القصاص}؛ ما يدل على أنه ليس من العدل أن يقتل الوالد بولده ولأن ما في قلب الوالد من الشفقة والرحمة ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله أو أذية شديدة جدًّا من الولد له، وخرج من العموم أيضاً الكافر بالسنة مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة، وأيضاً فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه، {والعبد بالعبد}؛ ذكراً كان أو أنثى تساوت قيمهما أو اختلفت، ودل بمفهومها على أن الحر لا يقتل بالعبد لكونه غير مساوٍ له، {والأنثى بالأنثى}؛ أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة، وتقدم وجه ذلك. وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل وأن الدية بدل عنه، فلهذا قال: {فمن عفي له من أخيه شيء}؛ أي: عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية أو عفا بعض الأولياء فإنه يسقط القصاص وتجب الدية وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي، فإذا عفا عنه، وجب على الولي؛ أي ولي المقتول أن يتبع القاتل، {بالمعروف}؛ من غير أن يشق عليه ولا يحمله ما لا يطيق، بل يحسن الاقتضاء والطلب ولا يحرجه. وعلى القاتل {أداء إليه بإحسان}؛ من غير مطلٍ ولا نقص ولا إساءة فعلية أو قولية، فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو إلا الإحسان بحسن القضاء، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف ومن عليه الحق بالأداء بالإحسان ، وفي قوله: {فمن عفي له من أخيه}؛ ترقيق وحث على العفو إلى الدية وأحسن من ذلك العفو مجاناً. وفي قوله: {أخيه}؛ دليل على أن القاتل لا يكفر لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان فلم يخرج بالقتل منها ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر لا يكفر بها فاعلها وإنما ينقص بذلك إيمانه، وإذا عفا أولياء المقتول أو عفا بعضهم احتقن دم القاتل وصار معصوماً منهم ومن غيرهم، ولهذا قال: {فمن اعتدى بعد ذلك}؛ أي: بعد العفو، {فله عذاب أليم}؛ أي في الآخرة، وأما قتله وعدمه فيؤخذ مما تقدم لأنه قتل مكافئاً له فيجب قتله بذلك، وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل، وأن الآية تدل على أنه يتعين قتله ولا يجوز العفو عنه، وبذلك قال بعض العلماء، والصحيح الأول لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره.
ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال:
# {179} {ولكم في القصاص حياة}؛ أي: تنحقن بذلك الدماء وتنقمع به الأشقياء، لأن من عرف أنه مقتول إذا قتل لا يكاد يصدر منه القتل، وإذا رُئيَ القاتل مقتولاً انذعر بذلك غيره وانزجر، فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل لم يحصل انكفاف الشر الذي يحصل بالقتل، وهكذا سائر الحدود الشرعية فيها من النكاية والانزجار ما يدل على حكمة الحكيم الغفار. ونكر الحياة لإفادة التعظيم والتكثير، ولما كان هذا الحكم لا يعرف حقيقته إلا أهل العقول الكاملة والألباب الثقيلة خصهم بالخطاب دون غيرهم، وهذا يدل على أن الله تعالى يحب من عباده أن يعملوا أفكارهم وعقولهم في تدبر ما في أحكامه من الحكم والمصالح الدالة على كماله وكمال حكمته وحمده وعدله ورحمته الواسعة، وأن من كان بهذه المثابة فقد استحقَّ المدح بأنه من ذوي الألباب الذين وجه إليهم الخطاب وناداهم رب الأرباب، وكفى بذلك فضلاً وشرفاً لقوم يعقلون. وقوله: {لعلكم تتقون}؛ وذلك أن من عرف ربه، وعرف ما في دينه وشرعه من الأسرار العظيمة والحكم البديعة والآيات الرفيعة أوجب له ذلك أن ينقاد لأمر الله، ويعظم معاصيه فيتركها؛ فيستحق بذلك أن يكون من المتقين.
آية: 180 - 182 #
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}
# {180} أي: فرض الله عليكم يا معشر المؤمنين {إذا حضر أحدكم الموت}؛ أي: أسبابه كالمرض المشرف على الهلاك وحضور أسباب المهالك وكان قد {ترك خيراً }؛ وهو المال الكثير عرفاً فعليه أن يوصي لوالديه وأقرب الناس إليه بالمعروف على قدر حاله من غير سرف ولا اقتصار على الأبعد دون الأقرب، بل يرتبهم على القرب والحاجة ولهذا أتى فيه بأفعل التفضيل، وقوله: {حقًّا على المتقين}؛ دل على وجوب ذلك، لأن الحق هو الثابت، وقد جعله الله من موجبات التقوى. واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين، مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل، والأحسن في هذا أن يقال إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة ردها الله تعالى إلى العرف الجاري، ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث بعد أن كان مجملاً، وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حُجِب بشخص أو وصف، فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره، وهذا القول تتفق عليه الأمة، ويحصل به الجمع بين القولَيْنِ المتقدِمَيْنِ، لأن كلاًّ من القائلَيْنِ بهما كلٌّ منهم لَحظَ مَلْحَظاً واختلف المورد، فبهذا الجمع يحصل الاتفاق والجمع بين الآيات، فإنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ الذي لم يدل عليه دليل صحيح.
ولما كان الموصي قد يمتنع من الوصية لما يتوهمه أن من بعده قد يبدل ما وصَّى به قال تعالى:
# {181 ـ 182} {فمن بدله}؛ أي: الإيصاء للمذكورين أو غيرهم {بعدما سمعه}؛ أي: بعد ما عقله وعرف طرقه وتنفيذه {فإنما إثمه على الذين يبدلونه}؛ وإلا فالموصي وقع أجره على الله، وإنما الإثم على المبدل المغير {إن الله سميع}؛ يسمع سائر الأصوات ومنه سماعه لمقالة الموصي ووصيته فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه وأن لا يجور في وصيته، {عليم}؛ بنيته وعليم بعمل الموصَى إليه، فإذا اجتهد الموصي، وعلم الله من نيته ذلك أثابه ولو أخطأ، وفيه التحذير للموصَى إليه من التبديل، فإن الله عليم به مطلع على [ما] فعله فليحذر من الله، هذا حكم الوصية العادلة وأما الوصية التي فيها حيف وجنف وإثم فينبغي لمن حضر الموصي وقت الوصية بها أن ينصحه بما هو الأحسن والأعدل، وأن ينهاه عن الجور والجنف وهو الميل بها عن خطأ من غير تعمد، والإثم وهو التعمد لذلك، فإن لم يفعل ذلك فينبغي له أن يصلح بين الموصَى إليهم ويتوصل إلى العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم، فهذا قد فعل معروفاً عظيماً، وليس عليه إثم كما على مبدل الوصية الجائزة ولهذا قال: {إن الله غفور}؛ أي: يغفر جميع الزلات ويصفح عن التبعات لمن تاب إليه، ومنه مغفرته لمن غض من نفسه وترك بعض حقه لأخيه لأن من سامح سامحه الله، غفور لميتهم الجائر في وصيته إذا احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضاً لأجل براءة ذمته، {رحيم}؛ بعباده حيث شرع لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون. فدلت هذه الآيات على الحث على الوصية وعلى بيان من هي له وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة والترغيب في الإصلاح في الوصية الجائرة.
آية: 183 - 185 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
# {183} يخبر تعالى بما منَّ الله به على عباده بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختصَّيتم بها. ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: {لعلكم تتقون}؛ فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه، فممِّا اشتمل عليه من التقوى أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها التي تميل إليها نفسه متقرباً بذلك إلى الله راجياً بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه لعلمه باطلاع الله عليه، ومنها: أنَّ الصيام يضيق مجاري الشيطان فإنه يجري من ابن ادم مجرى الدم فبالصيام يضعف نفوذه وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب تكثر طاعته والطاعات من خصال التقوى، ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين. وهذا من خصال التقوى.
# {184} ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام أخبر أنه أيام معدودات أي قليلة في غاية السهولة ثم سهل تسهيلاً آخر فقال: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر}؛ وذلك للمشقة في الغالب رخص الله لهما في الفطر، ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض وانقضى السفر وحصلت الراحة، وفي قوله: {فعدة من أيام}؛ فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان كاملاً كان أو ناقصاً وعلى أنه يجوز أن يقضي أياماً قصيرة باردة عن أيام طويلة حارة كالعكس، وقوله: {وعلى الذين يطيقونه}؛ أي: يطيقون الصيام {فدية}؛ عن كل يوم يفطرونه {طعام مسكين}؛ وهذا في ابتداء فرض الصيام لما كانوا غير معتادين للصيام وكان فرضه حتماً فيه مشقة عليهم دَرَّجَهم الربُّ الحكيم بأسهل طريق، وخَيَّرَ المطيق للصوم بين أن يصوم وهو أفضل أو يطعم ولهذا قال: {وأن تصوموا خير لكم}؛ ثم بعد ذلك جعل الصيام حتماً على المطيق، وغير المطيق يفطر ويقضيه في أيام أُخَر، وقيل: وعلى الذين يطيقون؛ أي يتكلفونه، ويشق عليهم مشقة غير محتملة كالشيخ الكبير، فدية عن كل يوم مسكين، وهذا هو الصحيح.
# {185} {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن}؛ أي: الصوم المفروض عليكم هو شهر رمضان الشهر العظيم الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحق والباطل والهدى والضلال وأهل السعادة وأهل الشقاوة، فحقيق بشهر هذا فضله، وهذا إحسان الله عليكم فيه، أن يكون موسماً للعباد مفروضاً فيه الصيام، فلما قرره وبين فضيلته وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}؛ هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر، ولما كان النسخ للتخيير بين الصيام والفداء خاصة، أعاد الرخصة للمريض والمسافر لئلا يتوهم أن الرخصة أيضاً منسوخة فقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}؛ أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير ويسهلها أبلغ تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله، وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله؛ سهله تسهيلاً آخر إما بإسقاطه أو تخفيفه بأنواع التخفيفات، وهذه جملة لا يمكن تفصيلها، لأن تفاصيلها جميع الشرعيات، ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات. {ولتكملوا العدة}؛ وهذا والله أعلم لئلا يتوهم متوهم أن صيام رمضان يحصل المقصود منه ببعضه، دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته، ويشكر الله تعالى عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده وبالتكبير عند انقضائه، ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد.
آية: 186 #
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
# {186} هذا جواب سؤال. سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعضُ أصحابه فقالوا: يا رسول الله، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزل {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}؛ لأنه تعالى الرقيب الشهيد المطلع على السر وأخفى يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور فهو قريب أيضاً من داعيه بالإجابة، ولهذا قال: {أجيب دعوة الداع إذا دعان}؛ والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق. فمن دعا ربه بقلب حاضر ودعاء مشروع ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء كأكل الحرام ونحوه فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصاً إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية والإيمان به الموجب للاستجابة، فلهذا قال: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}؛ أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة، ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره سبب لحصول العلم كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}. ثم قال تعالى:
آية: 187 #
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
# {187} كان في أول فرض الصيام يحرم على المسلمين الأكل والشرب والجماع في الليل بعد النوم ، فحصلت المشقة لبعضهم، فخفف الله تعالى عنهم ذلك وأباح في ليالي الصيام كلها الأكل والشرب والجماع، سواء نام أو لم ينم، لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به، {فتاب}؛ الله {عليكم}؛ بأن وسع لكم أمراً كان لولا توسعته موجباً للإثم، {وعفا عنكم}؛ ما سلف من التخون {فالآن}؛ بعد هذه الرخصة والسعة من الله {باشروهن}؛ وطئاً وقبلة ولمساً وغير ذلك {وابتغوا ما كتب الله لكم}؛ أي: انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب إلى الله تعالى، والمقصود الأعظم من الوطء، وهو حصول الذرية وإعفاف فرجه وفرج زوجته، وحصول مقاصد النكاح، ومما كتب الله لكم ليلة القدر الموافقة لليالي صيام رمضان، فلا ينبغي لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها، فاللذة مدركة وليلة القدر إذا فاتت لم تدرك. {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}؛ هذا غاية للأكل والشرب والجماع، وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكًّا في طلوع الفجر فلا بأس عليه، وفيه دليل على استحباب السحور للأمر، وأنه يستحب تأخيره، أخذاً من معنى رخصة الله وتسهيله على العباد، وفيه أيضاً دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل أن يغتسل، ويصح صيامه لأن لازم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، أن يدركه الفجر وهو جنب، ولازم الحق حق {ثم}؛ إذا طلع الفجر {أتموا الصيام}؛ أي: الإمساك عن المفطرات {إلى الليل}؛ وهو غروب الشمس، ولما كان إباحة الوطء في ليالي الصيام ليست إباحة عامة لكل أحد، فإن المعتكف لا يحل له ذلك استثناه بقوله: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}؛ أي: وأنتم متصفون بذلك. ودلت الآية على مشروعية الاعتكاف وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى وانقطاعاً إليه، وأن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجدٍ، ويستفاد من تعريف المساجد أنها المساجد المعروفة عندهم، وهي التي تقام فيها الصلوات الخمس، وفيه أن الوطء من مفسدات الاعتكاف. تلك المذكورات وهو تحريم الأكل والشرب والجماع، ونحوه من المفطرات في الصيام، وتحريم الفطر على غير المعذور، وتحريم الوطء على المعتكف، ونحو ذلك من المحرمات {حدود الله}؛ التي حدها لعباده ونهاهم عنها فقال: {فلا تقربوها}؛ أبلغ من قوله فلا تفعلوها؛ لأن القربان يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه، والنهي عن وسائله الموصلة إليه. والعبد مأمور بترك المحرمات والبعد منها غاية ما يمكنه، وترك كل سبب يدعو إليها، وأما الأوامر فيقول الله فيها تلك حدود الله فلا تعتدوها فينهى عن مجاوزتها {كذلك}؛ أي: بيَّن الله لعباده الأحكام السابقة أتم تبيين وأوضحها لهم أكمل إيضاح {يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون}؛ فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه، وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه، فإن الإنسان قد يفعل المحرم، على وجه الجهل بأنه محرم ولو علم تحريمه لم يفعله، فإذا بين الله للناس آياته؛ لم يبق لهم عذر ولا حجة، فكان ذلك سبباً للتقوى.
آية: 188 #
{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
# {188} أي: ولا تأخذوا أموالكم أي أموال غيركم، أضافه إليهم لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويحترم ماله كما يحترم ماله، ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة، ولما كان أكلها نوعين: نوعاً بحقٍّ ونوعاً بباطل، وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل قيده تعالى بذلك، ويدخل بذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية أو نحو ذلك، ويدخل فيه أيضاً أخذها على وجه المعاوضة بمعاوضة محرمة، كعقود الربا والقمار كلها فإنها من أكل المال بالباطل، لأنه ليس في مقابلة عوض مباح، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة ونحوها، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات والأوقاف والوصايا، لمن ليس له حق منها أو فوق حقه، فكل هذا ونحوه من أكل المال بالباطل، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه حتى ولو حصل فيه النزاع والارتفاع إلى حاكم الشرع، وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة غلبت حجة المحق، وحكم له الحاكم بذلك، فإن حكم الحاكم لا يبيح محرماً ولا يحلل حراماً، إنما يحكم على نحو مما يسمع، وإلا فحقائق الأمور باقية، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ولا شبهة ولا استراحة، فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة، وحكم له بذلك فإنه لا يحل له، ويكون آكلاً لمال غيره بالباطل والإثم، وهو عالم بذلك فيكون أبلغ في عقوبته وأشد في نكاله. وعلى هذا؛ فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى: {ولا تكن للخائنين خصيماً}.
آية: 189 #
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}.
# {189} فقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة}؛ ـ جمع هلال ـ ما فائدتها وحكمتها أو عن ذاتها {قل هي مواقيت للناس}؛ أي: جعلها الله تعالى بلطفه ورحمته على هذا التدبير، يبدو الهلال ضعيفاً في أول الشهر، ثم يتزايد إلى نصفه، ثم يشرع في النقص إلى كماله، وهكذا ليعرف الناس بذلك مواقيت عباداتهم؛ من الصيام وأوقات الزكاة والكفارات وأوقات الحج، ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات، ويستغرق أوقاتاً كثيرة قال: {والحج}؛ وكذلك تعرف بذلك أوقات الديون المؤجلات، ومدة الإجارات ومدة العدد والحمل، وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق، فجعله تعالى حساباً يعرفه كل أحد من صغير وكبير وعالم وجاهل، فلو كان الحساب بالسنة الشمسية لم يعرفه إلا النادر من الناس. {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها}؛ وهذا كما كان الأنصار وغيرهم من العرب إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت من أبوابها؛ تعبداً بذلك وظنًّا أنه برٌّ، فأخبر تعالى أنه ليس من البرِّ ؛ لأن الله تعالى لم يشرعه لهم، وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ولا رسوله فهو متعبد ببدعة، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها؛ لما فيه من السهولة عليهم التي هي قاعدة من قواعد الشرع. ويستفاد من إشارة الآية أنه ينبغي في كل أمر من الأمور أن يأتيه الإنسان من الطريق السهل القريب الذي قد جعل له موصلاً، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ينبغي أن ينظر في حالة المأمور، ويستعمل معه الرفق والسياسة التي بها يحصل المقصود أو بعضه، والمتعلم والمعلم ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله يحصل به مقصوده، وهكذا كل من حاول أمراً من الأمور، وأتاه من أبوابه، وثابر عليه فلا بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود. {واتقوا الله}؛ هذا هو البرُّ الذي أمر الله به، وهو لزوم تقواه على الدوام بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فإنه سبب للفلاح الذي هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، فمن لم يتق الله تعالى لم يكن له سبيل إلى الفلاح، ومن اتقاه فاز بالفلاح والنجاح.
آية: 190 - 193 #
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}.
# {190} هذه الآيات تتضمن الأمر بالقتال في سبيل الله، وهذا كان بعد الهجرة إلى المدينة، لَمَّا قَوِيَ المسلمون للقتال أمرهم الله به بعدما كانوا مأمورين بكفِّ أيديهم، وفي تخصيص القتال {في سبيل الله}؛ حث على الإخلاص ونهيٌ عن الاقتتال في الفتن بين المسلمين، {الذين يقاتلونكم}؛ أي: الذين هم مستعدون لقتالكم، وهم المكلفون الرجال غير الشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال. والنهي عن الاعتداء يشمل أنواع الاعتداء كلها من قتل من لا يقاتل من النساء والمجانين والأطفال والرهبان ونحوهم، والتمثيل بالقتلى وقتل الحيوانات وقطع الأشجار ونحوها، لغير مصلحة تعود للمسلمين، ومن الاعتداء مقاتلة من تقبل منهم الجزية، إذا بذلوها فإن ذلك لا يجوز.
# {191 ـ 192} {واقتلوهم حيث ثقفتموهم}؛ هذا أمر بقتالهم أينما وجدوا في كل وقت وفي كل زمان قتال مدافعة وقتال مهاجمة، ثم استثنى من هذا العموم قتالهم {عند المسجد الحرام}؛ وأنه لا يجوز إلا أن يَبْدَؤوا بالقتال فإنهم يُقَاتَلُون جزاء لهم على اعتدائهم، وهذا مستمر في كل وقت حتى ينتهوا عن كفرهم فيسلموا، فإن الله يتوب عليهم ولو حصل منهم ما حصل من الكفر بالله والشرك في المسجد الحرام وصد الرسول والمؤمنين عنه، وهذا من رحمته وكرمه بعباده. ولما كان القتال عند المسجد الحرام يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد الحرام أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك والصد عن دينه أشد من مفسدة القتل، فليس عليكم أيها المسلمون حرج في قتالهم. ويستدل في هذه الآية على القاعدة المشهورة وهي أنه يرتكب أخف المفسدتين لدفع أعلاهما.
# {193} ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله، وأنه ليس المقصود به سفك دماء الكفار وأخذ أموالهم، ولكن المقصود به أن {يكون الدين لله} تعالى، فيظهر دين الله تعالى على سائر الأديان، ويدفع كل ما يعارضه من الشرك وغيره وهو المراد بالفتنة، فإذا حصل هذا المقصود فلا قتل ولا قتال. {فإن انتهوا}؛ عن قتالكم عند المسجد الحرام، {فلا عدوان إلا على الظالمين}؛ أي: فليس عليهم منكم اعتداء إلا من ظلم منهم؛ فإنه يستحق المعاقبة بقدر ظلمه.
آية: 194 #
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}.
# {194} يقول تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} يحتمل أن يكون المراد به ما وقع من صد المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه عام الحديبية عن الدخول لمكة وقاضوهم على دخولها من قابل، وكان الصد والقضاء في شهر حرام وهو ذو القعدة فيكون هذا بهذا، فيكون فيه تطييب لقلوب الصحابة بتمام نسكهم وكماله، ويحتمل أن يكون المعنى أنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام، فقد قاتلوكم فيه وهم المعتدون، فليس عليكم في ذلك حرج، وعلى هذا فيكون قوله: {والحرمات قصاص}؛ من باب عطف العام على الخاص، أي كل شيء يحترم من شهر حرام أو بلد حرام أو إحرام، أو ما هو أعم من ذلك جميع ما أمر الشرع باحترامه، فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه: فمن قاتل في الشهر الحرام قوتل، ومن هتك البلد الحرام أخذ منه الحد ولم يكن له حرمة، ومن قتل مكافئاً له قتل به، ومن جرحه، أو قطع عضواً منه اقتص منه، ومن أخذ مال غيره المحترم؛ أخذ منه بدله، ولكن هل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم لا؟ خلاف بين العلماء، الراجح من ذلك أنه إن كان سبب الحق ظاهراً كالضيف إذا لم يقره غيره، والزوجة والقريب إذا امتنع من تجب عليه، النفقة من الإنفاق عليه، فإنه يجوز أخذه من ماله، وإن كان السبب خفيًّا كمن جحد دَيْن غيره أو خانه في وديعة أو سرق منه ونحو ذلك، فإنه لا يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له جمعاً بين الأدلة، ولهذا قال تعالى توكيداً وتقوية لما تقدم: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}؛ هذا تفسير لصفة المقاصة وأنها هي المماثلة في مقابلة المعتدي. ولما كانت النفوس ـ في الغالب ـ لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي أمر تعالى بلزوم تقواه التي هي الوقوف عند حدوده وعدم تجاوزها وأخبر تعالى أنه {مع المتقين}؛ أي: بالعون والنصر والتأييد والتوفيق، ومن كان الله معه حصل له السعادة الأبدية، ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه، وخذله فَوَكَلَه إلى نفسه، فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد.
آية: 195 #
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}.
# {195} يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله، وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله، وهي كل طرق الخير من صدقة على مسكين أو قريب أو إنفاق على من تجب مؤنته، وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فإن النفقة فيه جهاد بالمال وهو فرض كالجهاد بالبدن، وفيها من المصالح العظيمة الإعانة على تقوية المسلمين و [على] توهية الشرك وأهله وعلى إقامة دين الله وإعزازه، فالجهاد في سبيل الله، لا يقوم إلا على ساق النفقة، فالنفقة له كالروح لا يمكن وجوده بدونها، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله إبطال للجهاد وتسليط للأعداء، وشدة تكالبهم، فيكون قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}؛ كالتعليل لذلك. والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد إذا كان تركه موجباً أو مقارباً لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك ترك الجهاد في سبيل الله، أو النفقة فيه الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف أو محل مسبعة أو حيات، أو يصعد شجراً أو بنياناً خطراً، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك، فهذا ونحوه ممن ألقى بيده إلى التهلكة، ومن ذلك الإقامة على معاصي الله واليأس من التوبة، ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض التي تركها هلاك للروح والدين. ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعاً من أنواع الإحسان أمر بالإحسان عموماً فقال: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}؛ وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان لأنه لم يقيده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم، ويدخل فيه الإحسان بالجاه بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس من تفريج كرباتهم، وإزالة شداتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم وإرشاد ضالهم وإعانة من يعمل عملاً، والعمل لمن لا يحسن العمل، ونحو ذلك مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضاً الإحسان في عبادة الله تعالى، وهو كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، فمن اتصف بهذه الصفات كان من الذين قال الله فيهم: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}؛ وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره.
ولما فرغ تعالى من ذكر أحكام الصيام والجهاد ذكر أحكام الحج فقال:
آية: 196 #
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}.
# {196} يستدل بقوله: {وأتموا الحج والعمرة}؛ على أمور: أحدها وجوب الحج والعمرة وفرضيتهما. الثاني وجوب إتمامهما بأركانهما وواجباتهما التي قد دل عليها فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: «خذوا عني مناسككم». الثالث أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة. الرابع أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما ولو كانا نفلاً. الخامس الأمر بإتقانهما وإحسانهما، وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم لهما. السادس فيه الأمر بإخلاصهما {لله} تعالى. السابع أنه لا يخرج المحرم بهما بشيء من الأشياء حتى يكملهما، إلا بما استثناه الله وهو الحصر، فلهذا قال: {فإن أحصرتم}؛ أي: منعتم من الوصول إلى البيت لتكميلهما بمرض أو ضلالة أو عدو، ونحو ذلك من أنواع الحصر الذي هو المنع {فما استيسر من الهدي}؛ أي: فاذبحوا ما استيسر من الهدي وهو سبع بدنة أو سبع بقرة أو شاة يذبحها المحصر، ويحلق، ويحل من إحرامه بسبب الحصر كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه لما صدهم المشركون عام الحديبية ، فإن لم يجد الهدي فليصم بدله عشرة أيام كما في المتمتع ثم يحل. ثم قال تعالى: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهديُ محله}؛ وهذا من محظورات الإحرام إزالة الشعر بحلق أو غيره لأن المعنى واحد من الرأس أو من البدن، لأن المقصود من ذلك، حصول الشعث والمنع من الترفه بإزالته وهو موجود في بقية الشعر، وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر تقليم الأظفار بجامع الترفه، ويستمر المنع مما ذكر حتى يبلغ الهدي محله وهو يوم النحر، والأفضل أن يكون الحلق بعد النحر كما تدل عليه الآية. ويستدل بهذه الآية على أن المتمتع إذا ساق الهدي لم يتحلل من عمرته قبل يوم النحر، فإذا طاف وسعى للعمرة أحرم بالحج، ولم يكن له إحلال بسبب سوق الهدي، وإنما منع تبارك وتعالى من ذلك لما فيه من الذل والخضوع لله والانكسار له والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد، وليس عليه في ذلك من ضرر؛ فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض ينتفع بحلق رأسه له أو قروح أو قمل ونحو ذلك، فإنه يحل له أن يحلق رأسه، ولكن يكون عليه فدية من صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين ، أو نسك ما يجزي في أضحية فهو مخير، والنسك أفضل فالصدقة فالصيام، ومثل هذا، كل ما كان في معنى ذلك من تقليم الأظفار أو تغطية الرأس أو لبس المخيط أو الطيب؛ فإنه يجوز عند الضرورة مع وجوب الفدية المذكورة، لأن القصد من الجميع إزالة ما به يترفه. ثم قال تعالى: {فإذا أمنتم}؛ أي: بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو وغيره {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}؛ بأن توصل بها إليه، وانتفع بتمتعه بعد الفراغ منها {فما استيسر من الهدي}؛ أي فعليه ما تيسر من الهدي، وهو ما يجزي في أضحية، وهذا دم نسك مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة، ولإنعام الله عليه بحصول الانتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة وقبل الشروع في الحج، ومثلها القِران لحصول النسكين له، ويدل مفهوم الآية على أن المفرد للحج ليس عليه هدي، ودلت الآية على جواز بل فضيلة المتعة وعلى جواز فعلها في أشهر الحج {فمن لم يجد}؛ أي الهدي أو ثمنه {فصيام ثلاثة أيام في الحج}؛ أول جوازها من حين الإحرام بالعمرة، وآخرها ثلاثة أيام بعد النحر، أيام رمي الجمار والمبيت بمنى، ولكن الأفضل منها أن يصوم السابع والثامن والتاسع {وسبعة إذا رجعتم}؛ أي: فرغتم من أعمال الحج، فيجوز فعلها في مكة، وفي الطريق، وعند وصوله إلى أهله. ذلك المذكور من وجوب الهدي على المتمتع {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}؛ بأن كان عنه مسافة قصر فأكثر أو بعيداً عنه عرفا، فهذا الذي يجب عليه الهدي لحصول النسكين له في سفر واحد، وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام، فليس عليه هدي لعدم الموجب لذلك. {واتقوا الله}؛ أي: في جميع أموركم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ومن ذلك امتثالكم لهذه المأمورات واجتناب هذه المحظورات المذكورة في هذه الآية {واعلموا أن الله شديد العقاب}؛ أي: لمن عصاه، وهذا هو الموجب للتقوى، فإن من خاف عقاب الله؛ انكف عما يوجب العقاب، كما أن من رجا ثواب الله؛ عمل لما يوصله إلى الثواب، وأما من لم يخف العقاب، ولم يرج الثواب؛ اقتحم المحارم، وتجرأ على ترك الواجبات.
آية: 197 #
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ (197)}.
# {197} يخبر تعالى أن {الحج} واقع في {أشهر معلومات}؛ عند المخاطبين مشهورات بحيث لا تحتاج إلى تخصيص، كما احتاج الصيام إلى تعيين شهره، وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس، وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم. والمراد بالأشهر المعلومات عند الجمهور: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالباً {فمن فرض فيهن الحج}؛ أي: أحرم به، لأن الشروع فيه يصيره فرضاً، ولو كان نفلاً. واستدل بهذه الآية الشافعي ومن تابعه على أنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره، قلت: لو قيل [أنّ] فيها دلالة لقول الجمهور بصحة الإحرام بالحج قبل أشهره لكان قريباً، فإن قوله: {فمن فرض فيهن الحج}؛ دليل على أن الفرض قد يقع في الأشهر المذكورة، وقد لا يقع فيها وإلا لم يقيده، وقوله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}؛ أي: يجب أن تعظموا الإحرام بالحج وخصوصاً الواقع في أشهره، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث وهو الجماع، ومقدماته الفعلية والقولية، خصوصاً عند النساء بحضرتهن، والفسوق وهو جميع المعاصي، ومنها محظورات الإحرام، والجدال وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر وتوقع العداوة، والمقصود من الحج الذل والانكسار لله والتقرب إليه بما أمكن من القربات والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبروراً، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة ، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان، فإنه يتغلظ المنع عنها في الحج. واعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الأوامر، ولهذا قال تعالى: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}؛ أتى بمن لتنصيص العموم فكل خير وقربة وعبادة داخل في ذلك، أي: فإن الله به عليم، وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير خصوصاً في تلك البقاع الشريفة والحرمات المنيفة، فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها من صلاة وصيام وصدقة وطواف وإحسان قولي وفعلي، ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك؛ فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين، والكف عن أموالهم سؤالاً واستشرافاً، وفي الإكثار منه نفع، وإعانة للمسافرين، وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البِنْية بُلْغَةٌ ومتاع، وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه فهو زاد التقوى؛ الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة وأجل نعيم دائماً أبداً، ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به، الذي هو عرضة لكل شر وممنوع من الوصول إلى دار المتقين، فهذا مدح للتقوى، ثم أمر بها أولي الألباب فقال: {واتقوني يا أولي الألباب}؛ أي: يا أهل العقول الرزينة، اتقوا ربكم، الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقولُ، وتركها دليل على الجهل وفساد الرأي.
آية: 198 - 202 #
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}
# {198} لما أمر تعالى بالتقوى أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يحب إذا كان المقصود هو الحج، وكان الكسب حلالاً منسوباً إلى فضل الله؛ لا منسوباً إلى حذق العبد والوقوف مع السبب ونسيان المسبب، فإن هذا هو الحرج بعينه وفي قوله: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام}؛ دلالة على أمور: أحدها: الوقوف بعرفة، وأنه كان معروفاً أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف. الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام وهو المزدلفة، وذلك أيضاً معروف يكون ليلة النحر بائتاً بها، وبعد صلاة الفجر يقف في المزدلفة داعياً حتى يسفر جدًّا، ويدخل في ذكر الله عنده إيقاع الفرائض والنوافل فيه. الثالث: أن الوقوف بمزدلفة متأخر عن الوقوف بعرفة كما تدل عليه الفاء والترتيب. الرابع والخامس: أن عرفات ومزدلفة كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها وإظهارها. السادس: أن مزدلفة في الحرم كما قيده بالحرام. السابع: أن عرفة في الحل كما هو مفهوم التقييد بمزدلفة. {واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين}؛ أي اذكروا الله تعالى كما منَّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون. فهذه من أكبر النعم التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان.
# {199} {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}؛ أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفاً عندهم، وهو رمي الجمار، وذبح الهدايا، والطواف والسعي والمبيت بمنى ليالي التشريق، وتكميل باقي المناسك، ولما كانت هذه الإفاضة يقصد بها ما ذكر والمذكورات آخر المناسك، أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة، وهكذا ينبغي للعبد كلما فرغ من عبادة أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومنَّ بها على ربه، وجعلت له محلاًّ ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت ورد العمل، كما أن الأول حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.
# {200 ـ 201 ـ 202} ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق، وأن الجميع يسألونه مطالبهم، ويستدفعونه ما يضرهم، ولكن مقاصدهم تختلف، فمنهم {من يقول ربنا آتنا في الدنيا}؛ أي: يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته، وليس له في الآخرة من نصيب لرغبته عنها، وقصر همته على الدنيا، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين، ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه، وكل من هؤلاء وهؤلاء لهم نصيب من كسبهم وعملهم، وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم وهماتهم ونياتهم جزاءً دائراً بين العدل والفضل، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه. وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داعٍ مسلماً أو كافراً أو فاسقاً، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه دليلاً على محبته له وقربه منه إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين، والحسنة المطلوبة في الدنيا، يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد من رزق هني واسع حلال، وزوجة صالحة، وولد تقر به العين، وراحة، وعلم نافع، وعمل صالح، ونحو ذلك من المطالب المحبوبة والمباحة، وحسنة الآخرة هي السلامة من العقوبات في القبر والموقف والنار، وحصول رضا الله، والفوز بالنعيم المقيم، والقرب من الرب الرحيم، فصار هذا الدعاء أجمع دعاء وأكمله وأولاه بالإيثار، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يكثر من الدعاء به والحث عليه.
آية: 203 #
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}
# {203} يأمر تعالى بذكره في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق الثلاثة بعد العيد لمزيتها وشرفها، وكون بقية المناسك تفعل بها، ولكون الناس أضيافاً لله فيها، ولهذا حرم صيامها، فللذكر فيها مزية ليست لغيرها، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله» ، ويدخل في ذكر الله فيها؛ ذكره عند رمي الجمار، وعند الذبح، والذكر المقيد عقب الفرائض، بل قال بعض العلماء إنه يستحب فيها التكبير المطلق كالعشر وليس ببعيد {فمن تعجل في يومين}؛ أي: خرج من منى، ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني {فلا إثم عليه ومن تأخر}؛ بأن بات بها ليلة الثالث، ورمى من الغد {فلا إثم عليه}؛ وهذا تخفيف من الله تعالى على عباده في إباحة كلا الأمرين، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين، فالتأخُّر أفضل؛ لأنه أكثر عبادة. ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره، والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم والمتأخر فقط، قيده بقوله: {لمن اتقى}؛ أي: اتقى الله في جميع أموره وأحوال الحج، فمن اتقى الله في كل شيء، حصل له نفي الحرج في كل شيء، ومن اتقاه في شيء دون شيء كان الجزاء من جنس العمل {واتقوا الله}؛ بامتثال أوامره، واجتناب معاصيه {واعلموا أنكم إليه تحشرون}؛ فمجازيكم بأعمالكم، فمن اتقاه وجد جزاء التقوى عنده، ومن لم يتقه عاقبه أشدَّ العقوبة، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله، فلهذا حثَّ تعالى على العلم بذلك.
آية: 204 - 206 #
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}
# {204} لما أمر تعالى بالإكثار من ذكره، وخصوصاً في الأوقات الفاضلة الذي هو خيرٌ ومصلحة وبرٌّ أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه، ويخالف فعلُه قولَه، فالكلام إما أن يرفع الإنسان أو يخفضه فقال: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا}؛ أي: إذا تكلم راق كلامُه السامعَ، وإذا نطق ظننته يتكلم بكلام نافع، ويؤكد ما يقول بأنه {يشهد الله على ما في قلبه}؛ بأن يخبر أن الله يعلم أن ما في قلبه موافق لما نطق به، وهو كاذب في ذلك لأنه يخالف قوله فعله، فلو كان صادقاً لتوافق القول والفعل كحال المؤمن غير المنافق، ولهذا قال: {وهو ألد الخصام}؛ أي: إذا خاصمته، وجدت فيه من اللدد والصعوبة والتعصب وما يترتب على ذلك ما هو من مقابح الصفات، ليس كأخلاق المؤمنين؛ الذين جعلوا السهولة مركبهم والانقياد للحق وظيفتهم والسماحة سجيتهم.
# {205} {وإذا تولى}؛ هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك {سعى في الأرض ليفسد فيها}؛ أي: يجتهد على أعمال المعاصي التي هي إفساد في الأرض فيهلك بسبب ذلك {الحرث والنسل}؛ فالزروع والثمار والمواشي تتلف، وتنقص، وتقل بركتها بسبب العمل في المعاصي، {والله لا يحب الفساد}؛ فإذا كان لا يحب الفساد فهو يبغض العبد المفسد في الأرض غاية البغض، وإن قال بلسانه قولاً حسناً. ففي هذه الآية دليل على أن الأقوال التي تصدر من الأشخاص ليست دليلاً على صدقٍ ولا كذبٍ ولا برٍّ ولا فجورٍ، حتى يوجد العمل المصدق لها، المزكي لها، وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود والمحق والمبطل من الناس ببرِّ أعمالهم، والنظر لقرائن أحوالهم، وأن لا يغتر بتمويههم وتزكيتهم أنفسهم، ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله إذا أمر بتقوى الله تكبر وأنف.
# {206} {وأخذته العزة بالإثم}؛ فيجمع بين العمل بالمعاصي والتكبر على الناصحين {فحسبه جهنم}؛ التي هي دار العاصين والمتكبرين {وبئس المهاد}؛ أي المستقر والمسكن، عذاب دائم، وهمٌ لا ينقطع، ويأس مستمر، لا يخفف عنهم العذاب ولا يرجون الثواب، جزاءً لجنايتهم ومقابلة لأعمالهم، فعياذاً بالله من أحوالهم.
آية: 207 #
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}
# {207} [هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم، وأرخصوها، وبذلوها طلباً لمرضاة الله، ورجاءً لثوابه، فهم بذلوا الثمن للملي الوفي، الرءوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك، وقد وَعَدَ الوفاء بذلك، فقال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنة ... } إلى آخر الآية. وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا، وبذل ما به رغبوا، فلا تسأل بعد هذا عمّا يحصل لهم من الكريم، وما ينالهم من الفوز والتكريم].
آية: 208 - 209 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}.
# {208} هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا {في السلم كافة}؛ أي: في جميع شرائع الدين، ولا يتركوا منها شيئاً، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه؛ إن وافق الأمر المشروع هواه فعله، وإن خالفه تركه، بل الواجب أن يكون الهوى تبعاً للدين، وأن يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال الخير، وما يعجز عنه يلتزمه، وينويه فيدركه بنيته، ولما كان الدخول في السلم كافة لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان}؛ أي: في العمل بمعاصي الله، {إنه لكم عدو مبين}؛ والعدو المبين لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء وما به الضرر عليكم، ولما كان العبد لا بد أن يقع منه خللٌ وزللٌ قال تعالى:
# {209} {فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات}؛ أي: على علم ويقين، {فاعلموا أن الله عزيز حكيم}، وفيه من الوعيد الشديد والتخويف ما يوجب ترك الزلل، فإن العزيز المقام الحكيم إذا عصاه العاصي، قهره بقوته، وعذبه بمقتضى حكمته، فإن من حكمته تعذيب العصاة والجناة.
آية: 210 #
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
# {210} وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب، يقول تعالى: هل ينتظر الساعون في الفساد في الأرض، المتبعون لخطوات الشيطان، النابذون لأمر الله إلا يوم الجزاء بالأعمال، الذي قد حُشِي من الأهوال والشدائد والفظائع ما يقلقل قلوب الظالمين، ويحق به الجزاء السَّيئ على المفسدين، وذلك أن الله تعالى يطوي السماواتِ والأرضَ، وتنتثر الكواكبُ، وتُكوَّر الشمس والقمر، وتنزل الملائكة الكرام فتحيط بالخلائق، وينزل الباري تبارك وتعالى {في ظلل من الغمام} ليفصل بين عباده بالقضاء العدل، فتوضع الموازين، وتنشر الدواوين، وتبيَّض وجوه أهل السعادة، وتسوَّد وجوه أهل الشقاوة، ويتميز أهل الخير من أهل الشرِّ، وكل يجازى بعمله، فهنالك يعضُّ الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه. وهذه الآية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة المثبتين للصفات الاختيارية؛ كالاستواء، والنزول، والمجيء، ونحو ذلك من الصفات التي أخبر بها تعالى عن نفسه، أو أخبر بها عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فيثبتونها على وجه يليق بجلال الله وعظمته من غير تشبيه ولا تحريف، خلافاً للمعطلة على اختلاف أنواعهم، من الجهمية والمعتزلة والأشعرية ونحوهم، ممن ينفي هذه الصفات، ويتأول لأجلها الآيات بتأويلات ما أنزل الله عليها من سلطان، بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان رسوله، والزعم بأن كلامهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب، فهؤلاء ليس معهم دليل نقلي؛ بل ولا دليل عقلي. أما النقلي فقد اعترفوا أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة، ظاهرها بل صريحها دال على مذهب أهل السنة والجماعة، وأنها تحتاج لدلالتها على مذهبهم الباطل أن تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص، وهذا كما ترى لا يرتضيه من في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات، بل العقل دل على أن الفاعل أكمل من الذي لا يقدر على الفعل، وأن فعله تعالى المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال، فإن زعموا أن إثباتها يدل على التشبيه بخلقه، قيل لهم الكلام على الصفات يتبع الكلام على الذات، فكما أن لله ذاتاً لا تشبهها الذوات فلله صفات لا تشبهها الصفات، فصفاته تبع لذاته وصفات خلقه تبع لذواتهم، فليس في إثباتها ما يقتضي التشبيه بوجه، ويقال أيضاً لمن أثبت بعض الصفات، ونفى بعضاً، أو أثبت الأسماء دون الصفات: إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه، وأثبته رسوله، وإما أن تنفي الجميع، وتكون منكراً لرب العالمين. وأما إثباتك بعض ذلك ونفيك لبعضه فهذا تناقض، فَفَرِّقْ بين ما أثبته وبين ما نفيته، ولن تجد إلى الفرق سبيلاً. فإن قلت ما أثبته لا يقتضي تشبيهاً، قال لك أهل السنة والإثبات لما نفيته لا يقتضي تشبيهاً، فإن قلت لا أعقل من الذي نفيته إلا التشبيه، قال لك النفاة ونحن لا نعقل من الذي أثبته إلا التشبيه، فما أجبت به النفاة أجابك به أهل السنة لما نفيته. والحاصل أن من نفى شيئاً، وأثبت شيئاً مما دل الكتاب والسنة على إثباته فهو متناقض؛ لا يثبت له دليل شرعي ولا عقلي، بل قد خالف المعقول والمنقول.
آية: 211 #
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}
# {211} يقول تعالى: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة}، تدل على الحق وعلى صدق الرسل فتيقنوها، وعرفوها، فلم يقوموا بشكر هذه النعمة التي تقتضي القيام بها، بل كفروا بها، وبدلوا نعمة الله كفراً؛ فلهذا استحقوا أن ينزل الله عليهم عقابه، ويحرمهم من ثوابه، وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديلاً لها؛ لأن من أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية فلم يشكرها، ولم يقم بواجبها اضمحلت عنه، وذهبت وتبدلت بالكفر والمعاصي، فصار الكفر بدل النعمة، وأما من شكر الله تعالى، وقام بحقها فإنها تثبت، وتستمر، ويزيده الله منها.
آية: 212 #
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}
# {212} يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله، ولم ينقادوا لشرعه أنهم زينت لهم الحياة الدنيا، فزينت في أعينهم وقلوبهم، فرضوا بها، واطمأنوا بها، فصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها، فأقبلوا عليها، وأكبوا على تحصيلها، وعظموها، وعظموا من شاركهم في صنيعهم، واحتقروا المؤمنين، واستهزؤوا بهم، وقالوا: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا، وهذا من ضعف عقولهم ونظرهم القاصر، فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وسيحصل الشقاء فيها لأهل الإيمان والكفران، بل المؤمن في الدنيا وإن ناله مكروه فإنه يصبر ويحتسب، فيخفف الله عنه بإيمانه وصبره ما لا يكون لغيره، وإنما الشأن كلُّ الشأن والتفضيل الحقيقي في الدار الباقية، فلهذا قال تعالى: {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة}؛ فيكون المتقون في أعلى الدرجات متمتعين بأنواع النعيم والسرور والبهجة والحبور، والكفار تحتهم في أسفل الدركات، معذبين بأنواع العذاب والإهانة والشقاء السرمدي الذي لا منتهى له، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين، ونعي على الكافرين، ولما كانت الأرزاق الدنيوية والأخروية لا تحصل إلا بتقدير الله، ولن تنال إلا بمشيئة الله قال تعالى: {والله يرزق من يشاء بغير حساب}؛ فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ومحبة الله وخشيته ورجائه ونحو ذلك فلا يعطيها إلا من يحبه.
آية: 213 #
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}.
# {213}؛ [أي: كانوا مجتمعين على الهدى، وذلك عشرة قرون بعد نوح عليه السلام، فلما اختلفوا في الدِّين، فكفر فريقٌ منهم، وبقي الفريقُ الآخرُ على الهدى، وحصل النزاع، بعث اللهُ الرُّسل؛ ليفصلوا بين الخلائق، ويقيموا الحجة عليهم، وقيل: بل كانوا]؛ أي: كان الناس مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء ليس لهم نور ولا إيمان، فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم {مبشرين}؛ من أطاع الله بثمرات الطاعات من الرزق والقوة في البدن والقلب والحياة الطيبة، وأعلى ذلك الفوز برضوان الله والجنة {ومنذرين}؛ من عصى الله بثمرات المعصية من حرمان الرزق والضعف والإهانة والحياة الضيقة، وأشد ذلك سخط الله والنار، وأنزل الكتب عليهم بالحق؛ وهو الإخبارات الصادقة والأوامر العادلة. فكل ما اشتملت عليه الكتب فهو حق يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع أن يرد الاختلاف إلى الله وإلى رسوله، ولولا أن في كتابه وسنة رسوله فصلَ النزاع لما أمر بالرد إليهما، ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب، وكان هذا يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض، وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف، فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات والأدلة القاطعات، وضلوا بذلك ضلالاً بعيداً، وهدى الله {الذين آمنوا}؛ من هذه الأمة {لما اختلفوا فيه من الحق}؛ فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب، وأخطَؤوا فيه الحق والصواب، هدى الله للحق فيه هذه الأمة {بإذنه}؛ تعالى وتيسيره لهم ورحمته. {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}؛ فعم الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم عدلاً منه تعالى وإقامة حجة على الخلق؛ لئلا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير، وهدى ـ بفضله ورحمته وإعانته ولطفه ـ مَنْ شاء مِنْ عباده، فهذا فضله وإحسانه، وذاك عدله وحكمته تبارك وتعالى.
آية: 214 #
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}
# {214} يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها ومن السيادة آلتها، ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني ومجرد الدعاوي؛ حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه، فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم {مستهم البأساء والضراء}؛ أي: الفقر والأمراض في أبدانهم {وزلزلوا}؛ بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل والنفي، وأخذ الأموال، وقتل الأحبة، وأنواع المضار، حتى وصلت بهم الحال، وآل بهم الزلزال إلى أن استبطؤوا نصر الله مع يقينهم به، ولكن لشدة الأمر وضيقه قال {الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله}؛ فلما كان الفرج عند الشدة، وكلما ضاق الأمر اتسع قال تعالى: {ألا إن نصر الله قريب}؛ فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن، فكلما اشتدت عليه وصعبت إذا صابر وثابر على ما هو عليه؛ انقلبت المحنة في حقه منحة، والمشقات راحات، وأعقبه ذلك الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء. وهذه الآية نظير قوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}؛ وقوله تعالى: {ألم. أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}؛ فعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
آية: 215 #
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}
# {215} أي: يسألونك عن النفقة وهذا يعم السؤال عن المنفَق والمنفَق عليه، فأجابهم عنها فقال: {قل ما أنفقتم من خير}؛ أي: مال قليل أو كثير فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم أعظمهم حقًّا عليك، وهم الوالدان الواجب برهما والمحرم عقوقهما، ومن أعظم برهما، النفقة عليهما، ومن أعظم العقوق ترك الإنفاق عليهما، ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة على الولد الموسر، ومن بعد الوالدين الأقربون على اختلاف طبقاتهم، الأقرب، فالأقرب، على حسب القرب والحاجة، فالإنفاق عليهم صدقة وصلة {واليتامى}؛ وهم الصغار الذين لا كاسب لهم فهم في مظنة الحاجة، لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم وفقد الكاسب، فوصى الله بهم العباد رحمة منه بهم ولطفاً {والمساكين}؛ وهم أهل الحاجات وأرباب الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة، فينفَق عليهم لدفع حاجاتهم وإغنائهم {وابن السبيل}؛ أي: الغريب المنقطع به في غير بلده، فيعان على سفره بالنفقة التي توصله إلى مقصده. ولما خصص الله تعالى هؤلاء الأصناف لشدة الحاجة، عمم تعالى فقال: {وما تفعلوا من خير}؛ من صدقة على هؤلاء وغيرهم بل ومن جميع أنواع الطاعات والقربات لأنها تدخل في اسم الخير {فإن الله به عليم}؛ فيجازيكم عليه، ويحفظه لكم كلٌّ على حسب نيته وإخلاصه، وكثرة نفقته وقلتها، وشدة الحاجة إليها، وعظم وقعها ونفعها.
آية: 216 #
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}
# {216} هذه الآية فيها فرض القتال في سبيل الله بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه لضعفهم وعدم احتمالهم لذلك، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وكثر المسلمون، وقووا؛ أمرهم الله تعالى بالقتال، وأخبر أنه مكروه للنفوس، لما فيه من التعب والمشقة وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف، ومع هذا فهو خير محض لما فيه من الثواب العظيم والتحرز من العقاب الأليم والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم، وغير ذلك مما هو مُربٍ على ما فيه من الكراهة {وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم}؛ وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة فإنه شرٌّ؛ لأنه يعقب الخذلان، وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله، وحصول الذلِّ والهوان، وفوات الأجر العظيم، وحصول العقاب. وهذه الآيات عامة مطردة في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك، وأن أفعال الشر التي تحبها النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شرٌّ بلا شك، وأما أحوال الدنيا فليس الأمر مطرداً، ولكن الغالب على العبد المؤمن أنه إذا أحب أمراً من الأمور فقيض الله له من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له، فالأوفق له في ذلك أن يشكر الله، ويعتقد الخير في الواقع، لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه، وأقدر على مصلحة عبده منه، وأعلم بمصلحته منه كما قال تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}؛ فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره سواء سرتكم أو ساءتكم.
ولما كان الأمر بالقتال لو لم يقيد؛ لشمل الأشهر الحرم وغيرها، استثنى تعالى القتال في الأشهر الحرم فقال:
آية: 217 #
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}.
# {217} الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا. وقال بعض المفسرين: إنه لم ينسخ لأن المطلق محمول على المقيد، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقاً، ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم بل أكبر مزاياها تحريم القتال فيها، وهذا إنما هو في قتال الابتداء وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم كما يجوز في البلد الحرام. ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل لسرية عبد الله بن جحش وقتلهم عمرو بن الحضرمي وأخذهم أموالهم ـ وكان ذلك على ما قيل في شهر رجب ـ عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم وكانوا في تعييرهم ظالمين إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين، قال تعالى في بيان ما فيهم: {وصد عن سبيل الله}؛ أي: صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله وفتنتهم من آمن به وسعيهم في ردهم عن دينهم وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام والبلد الحرام الذي هو بمجرده كاف في الشرِّ، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام {وإخراج أهله}؛ أي: أهل المسجد الحرام وهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه لأنهم أحق به من المشركين وهم عُمَّاره على الحقيقة فأخرجوهم {منه}؛ ولم يمكنوهم من الوصول إليه مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد، فهذه الأمور كل واحد منها {أكبر من القتل}؛ في الشهر الحرام فكيف وقد اجتمعت فيهم فعلم أنهم فسقة ظلمة في تعييرهم المؤمنين. ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم ويكونوا كفاراً بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير، فهم باذلون قدرتهم في ذلك ساعون بما أمكنهم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وهذا الوصف عامٌّ لكل الكفار لا يزالون يقاتلون غيرهم حتى يردوهم عن دينهم، وخصوصاً أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين بذلوا الجمعيات، ونشروا الدعاة، وبثوا الأطباء، وبنوا المدارس لجذب الأمم إلى دينهم، وتدخيلهم عليهم كل ما يمكنهم من الشبه التي تشككهم في دينهم، ولكن المرجو من الله تعالى الذي منَّ على المؤمنين بالإسلام، واختار لهم دينه القيم، وأكمل لهم دينه أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم قيام، وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره، ويجعل كيدهم في نحورهم، وينصر دينه، ويعلي كلمته وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار كما صدقت على من قبلهم {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}؛ ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافراً {فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة}؛ لعدم وجود شرطها وهو الإسلام {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. ودلت الآية بمفهومها أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام أنه يرجع إليه عمله [الذي قبل ردته]، وكذلك من تاب من المعاصي فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة.
آية: 218 #
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
# {218} هذه الأعمال الثلاثة هي عنوان السعادة وقطب رَحَى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح والخسران، فأما الإيمان فلا تسأل عن فضيلته وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأهل الجنة من أهل النار، وهو الذي إذا كان مع العبد قبلت أعمال الخير منه، وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل ولا فرض ولا نفل، وأما الهجرة فهي مفارقة المحبوب المألوف لرضا الله تعالى فيترك المهاجر وطنه وأمواله وأهله وخلانه تقرباً إلى الله ونصرة لدينه، وأما الجهاد فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة وجزاؤه أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام، وخذلان عباد الأصنام وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها، كان لغيرها أشد قياماً به وتكميلاً، فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة، وأما الرجاء المقارن للكسل وعدم القيام بالأسباب فهذا عجز وتمنٍّ وغرور، وهو دالٌّ على ضعف همة صاحبه، ونقص عقله، بمنزلة من يرجو وجود الولد بلا نكاح، ووجود الغلة بلا بذر وسقي ونحو ذلك. وفي قوله: {أولئك يرجون رحمة الله}؛ إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها ويعول عليها، بل يرجو رحمة ربه ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه وستر عيوبه، ولهذا قال: {والله غفور}؛ أي: لمن تاب توبة نصوحاً، {رحيم}؛ وسعت رحمته كلَّ شيء وعمَّ جُودُه وإحسانُه كلَّ حيٍّ، وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة حصل له مغفرة الله، إذ الحسنات يذهبن السيئات، وحصلت له رحمة الله، وإذا حصلت له المغفرة اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة التي هي آثار الذنوب التي قد غفرت، واضمحلت آثارها، وإذا حصلت له الرحمة حصل على كل خير في الدنيا والآخرة، بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم، فلولا توفيقه إياهم لم يريدوها، ولولا إقدارهم عليها، لم يقدروا عليها ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم، فله الفضل أولاً وآخراً وهو الذي مَنَّ بالسبب والمسبب، ثم قال تعالى:
آية: 219 #
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}
# {219} أي: يسألك يا أيها الرسولُ، المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر، وقد كانا مستعمليْنِ في الجاهلية وأول الإسلام، فكأنه وقع فيهما إشكال، فلهذا سألوا عن حكمهما، فأمر الله تعالى نبيَّه أن يبين لهم منافعهما ومضارهما ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما وتحتيم تركهما، فأخبر أن إثمهما ومضارهما وما يصدر عنهما من ذهاب العقل والمال والصد عن ذكر الله وعن الصلاة والعداوة والبغضاء أكبر مما يظنونه من نفعهما من كسب المال بالتجارة بالخمر وتحصيله بالقمار والطرب للنفوس عند تعاطيهما، وكان هذا البيان زاجراً للنفوس عنهما لأن العاقل يرجح ما ترجحت مصلحته، ويجتنب ما ترجحت مضرته، ولكن لما كانوا قد ألفوهما، وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة؛ قدم هذه الآية مقدمة للتحريم الذي ذكره في قوله: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان} إلى قوله: {منتهون}، وهذا من لطفه ورحمته وحكمته، ولهذا لما نزلت قال عمر رضي الله عنه: انتهينا انتهينا. فأما الخمر فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه من أي نوع كان، وأما الميسر فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين من النرد والشطرنج وكل مغالبة قولية أو فعلية بعوض، سوى مسابقة الخيل والإبل والسهام؛ فإنها مباحة لكونها معينة على الجهاد؛ [فلهذا] رخص فيها الشارع. {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم، فيسر الله لهم الأمر وأمرهم أن ينفقوا العفو، وهو المتيسر من أموالهم الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم، وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه من غني وفقير ومتوسط، كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله ولو شق تمرة، ولهذا أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أن يأخذ العفو من أخلاق الناس وصدقاتهم، ولا يكلفهم ما يشق عليهم؛ ذلك بأن الله تعالى لم يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا أو تكليفاً لنا بما يشق، بل أمرنا بما فيه سعادتنا وما يسهل علينا وما به النفع لنا ولإخواننا فيستحق على ذلك أتم الحمد. ولما بين تعالى هذا البيان الشافي وأطلع العباد على أسرار شرعه قال: {كذلك يبين الله لكم الآيات}؛ أي: الدالات على الحق المحصلات للعلم النافع والفرقان، {لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة}؛ أي: لكي تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه، وتعرفوا أن أوامره فيها مصالح الدنيا والآخرة، وأيضاً لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها فترفضوها، وفي الآخرة وبقائها، وأنها دار الجزاء فتعمروها.
آية: 220 #
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}.
# {220} لما نزل قوله تعالى: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}؛ شق ذلك على المسلمين وعزلوا طعامهم عن طعام اليتامى خوفاً على أنفسهم من تناولها ولو في هذه الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها، وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن ذلك ، فأخبرهم تعالى أن المقصود إصلاح أموال اليتامى بحفظها وصيانتها والاتجار فيها، وأن خلطتهم إياهم في طعام وغيره جائز على وجه لا يضر باليتامى لأنهم إخوانكم ومن شأن الأخ مخالطة أخيه، والمرجع في ذلك إلى النية والعمل، فمن علم [اللهُ] من نيته أنه مصلح لليتيم وليس له طمع في ماله فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن عليه بأس، ومن علم الله من نيته أن قصده بالمخالطة التوصل إلى أكلها [وتناولها] فذلك الذي حُرِّجَ وأُثِّم، والوسائل لها أحكام المقاصد. وفي هذه الآية دليل على جواز أنواع المخالطات في المآكل والمشارب والعقود وغيرها، وهذه الرخصة لطف من الله تعالى وإحسان وتوسعة على المؤمنين وإلا، فلو {شاء الله لأعنتكم}؛ أي: شق عليكم بعدم الرخصة بذلك فحُرِّجْتُم وشُقَّ عليكم وأثمتم {إن الله عزيز}؛ أي: له القوة الكاملة والقهر لكل شيء ولكنه مع ذلك {حكيم}؛ لا يفعل إلا ما هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة فعزته لا تنافي حكمته فلا يقال إنه ما شاء فعل وافق الحكمة أو خالفها، بل يقال إن أفعاله وكذلك أحكامه تابعة لحكمته فلا يخلق شيئًا عبثًا بل لا بد له من حكمة عرفناها أم لم نعرفها، وكذلك لم يشرع لعباده شيئًا مجردًا عن الحكمة، فلا يأمر إلا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة ولا ينهى إلا عما فيه مفسدة خالصة أو راجحة لتمام حكمته ورحمته.
آية: 221 #
{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
# {221} أي: {ولا تنكحوا}؛ النساء، {المشركات}؛ ما دمن على شركهن {حتى يؤمن}؛ لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة ولو بلغت من الحسن ما بلغت، وهذه عامة في جميع النساء المشركات، وخصصتها آية المائدة في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب}؛ {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا}؛ وهذا عام لا تخصيص فيه، ثم ذكر تعالى الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة لمن خالفهما في الدين فقال: {أولئك يدعون إلى النار}؛ أي: في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فمخالطتهم على خطر منهم، والخطر ليس من الأخطار الدنيوية إنما هو الشقاء الأبدي. ويستفاد من تعليل الآية النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع؛ لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح كثيرة؛ فالخلطة المجردة من باب أولى وخصوصاً الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم كالخدمة ونحوها. وفي قوله: {ولا تنكحوا المشركين}؛ دليل على اعتبار الولي في النكاح {والله يدعو إلى الجنة والمغفرة}؛ أي: يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة التي من آثارها دفع العقوبات؛ وذلك بالدعوة إلى أسبابها من الأعمال الصالحة والتوبة النصوح والعلم النافع والعمل الصالح، {ويبين آياته}؛ أي: أحكامه وحكمها {للناس لعلهم يتذكرون}؛ فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه وعلم ما جهلوه والامتثال لما ضيَّعوه. ثم قال تعالى:
آية: 222 - 223 #
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}
# {222} يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض وهل تكون المرأة بحالها بعد الحيض كما كانت قبل ذلك أم تجتنب مطلقاً كما يفعله اليهود؟ فأخبر تعالى أن الحيض أذى وإذا كان أذى فمن الحكمة أن يمنع الله تعالى عباده عن الأذى وحده، ولهذا قال: {فاعتزلوا النساء في المحيض}؛ أي: مكان الحيض وهو الوطء في الفرج خاصة فهذا المحرم إجماعاً، وتخصيص الاعتزال في المحيض يدل على أن مباشرة الحائض وملامستها في غير الوطء في الفرج جائز، لكن قوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن}؛ يدل على ترك المباشرة فيما قرب من الفرج وذلك فيما بين السرة والركبة ينبغي تركه كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض أمرها أن تتزر فيباشرها ، وحد هذا الاعتزال وعدم القربان للحيض {حتى يطهرن}؛ أي: ينقطع دمهن، فإذا انقطع الدم زال المنع الموجود وقت جريانه، الذي كان لحله شرطان: انقطاع الدم والاغتسال منه، فلما انقطع الدم زال الشرط الأول وبقي الثاني فلهذا قال: {فإذا تطهرن}؛ أي: اغتسلن، {فأتوهن من حيث أمركم الله}؛ أي: في القبل لا في الدبر لأنه محل الحرث، وفيه دليل على وجوب الاغتسال للحائض وإن انقطاع الدم شرط لصحته، ولما كان هذا المنع لطفاً منه تعالى بعباده وصيانة عن الأذى، قال تعالى: {إن الله يحب التوابين}؛ أي: من ذنوبهم على الدوام، {ويحب المتطهرين}؛ أي: المتنزهين عن الآثام، وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث، ففيه مشروعية الطهارة مطلقاً؛ لأن الله تعالى يحب المتصف بها، ولهذا كانت الطهارة مطلقاً شرطاً لصحة الصلاة والطواف وجواز مس المصحف، ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة والصفات القبيحة والأفعال الخسيسة.
# {223} {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أَنى شئتم}؛ مقبلة ومدبرة غير أنه لا يكون إلا في القبل لكونه موضع الحرث وهو الموضع الذي يكون منه الولد، وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر؛ لأن الله لم يبح إتيان المرأة إلا في الموضع الذي منه الحرث. وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في تحريم ذلك ولعن فاعله. {وقدموا لأنفسكم}؛ أي: من التقرب إلى الله بفعل الخيرات، ومن ذلك أن يباشر الرجل امرأته ويجامعها على وجه القربة والاحتساب وعلى رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم. {واتقوا الله}؛ أي: في جميع أحوالكم كونوا ملازمين لتقوى الله مستعينين على ذلك بعلمكم، {أنكم ملاقوه}؛ ومجازيكم على أعمالكم الصالحة وغيرها، [ثم قال]: {وبشر المؤمنين}؛ لم يذكر المبَشر به ليدل على العموم وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكل خير واندفاع كل ضير رُتِّب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة، وفيها محبة الله للمؤمنين ومحبة ما يسرهم واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.
آية: 224 #
{وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}
# {224} المقصود من اليمين والقسم تعظيم المُقْسَمِ به وتأكيد المُقْسَم عليه. وكان الله تعالى قد أمر بحفظ الأيمان وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء، ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا كان البر باليمين يتضمن ترك ما هو أحب إليه فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة أي مانعة وحائلة عن أن يبروا أي يفعلوا خيراً ويتقوا شرًّا ويصلحوا بين الناس، فمن حلف على ترك واجب وجب حِنْثه وحرم إقامته على يمينه، ومن حلف على ترك مستحب استحب له الحِنْثُ، ومن حلف على فعل محرَّم وجب الحِنْثُ، أو على فعل مكروه استحب الحِنْث. وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحِنْث. ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة أنه إذا تزاحمت المصالح قدم أهمها، فهنا تتميم اليمين مصلحة، وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء مصلحة أكبر من ذلك، فقدمت لذلك. ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال: {والله سميع}؛ أي: لجميع الأصوات، {عليم}؛ بالمقاصد والنيات، ومنه سماعه لأقوال الحالفين وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شرٌّ، وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته، وأن أعمالكم ونياتكم قد استقر علمها عنده. ثم قال تعالى:
آية: 225 #
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}
# {225} أي: لا يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من الأيمان اللاغية التي يتكلم بها العبد، من غير قصد منه، ولا كسب قلب، ولكنها جرت على لسانه، كقول الرجل في عرض كلامه: لا والله وبلى والله، وكحلفه على أمر ماضٍ يظن صدق نفسه، وإنما المؤاخذة على ما قصده القلب، وفي هذا دليل على اعتبار المقاصد في الأقوال كما هي معتبرة في الأفعال، والله غفور لمن تاب إليه، حليم بمن عصاه حيث لم يعاجلْه بالعقوبة، بل حلم عنه، وستر، وصفح مع قدرته عليه وكونه بين يديه.
آية: 226 - 227 #
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}
# {226} وهذا من الأيمان الخاصة بالزوجة في أمر خاص وهو حلف الرجل على ترك وطء زوجته مطلقاً أو مقيداً بأقل من أربعة أشهر أو أكثر، فمن آلى من زوجته خاصة فإن كان لدون أربعة أشهر فهذا مثل سائر الأيمان إن حنث كفَّر وإن أتم يمينه فلا شيء عليه، وليس لزوجته عليه سبيل لأنه مَلَّكَه أربعة أشهر، وإن كان أبداً أو مدة تزيد على أربعة أشهر ضربت له مدة أربعة أشهر من يمينه إذا طلبت زوجته ذلك لأنه حق لها، فإذا تمت أمر بالفيئة وهو الوطء، فإن وطئ فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين، وإن امتنع أجبر على الطلاق، فإن امتنع طلق عليه الحاكم ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته أحب إلى الله تعالى، ولهذا قال: {فإن فاءوا}؛ أي: رجعوا إلى ما حلفوا على تركه وهو الوطء، {فإن الله غفور}؛ يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف بسبب رجوعهم {رحيم}؛ حيث جعل لأيمانهم كفارة وتحلة ولم يجعلها لازمة لهم غير قابلة للانفكاك، ورحيم بهم أيضاً حيث فاءوا إلى زوجاتهم وحنوا عليهن ورحموهن.
# {227} {وإن عزموا الطلاق}؛ أي امتنعوا من الفيئة فكان ذلك دليلاً على رغبتهم عنهن وعدم إرادتهم لأزواجهم، وهذا لا يكون إلا عزماً على الطلاق فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة وإلا أجبره الحاكم عليه أو قام به {فإن الله سميع عليم}؛ فيه وعيد وتهديد لمن يحلف هذا الحلف ويقصد بذلك المضارة والمشاقة. ويستدل بهذه الآية على أن الإيلاء خاص بالزوجة لقوله من نسائهم، وعلى وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مرة؛ لأنه بعد الأربعة يجبر إما على الوطء أو على الطلاق، ولا يكون ذلك إلا لتركه واجباً.
آية: 228 #
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}.
# {228} أي: النساء [اللاتي] طلقهن أزواجهن {يتربصن بأنفسهن}؛ أي: ينتظرن ويعتددن مدة {ثلاثة قروء}؛ أي: حيض أو أطهار على اختلاف العلماء في المراد بذلك مع أن الصحيح أن القرء الحيض، ولهذه العدة عدة حكم منها العلم ببراءة الرحم إذا تكررت عليها ثلاثة الأقراء علم أنه ليس في رحمها حمل فلا يفضي إلى اختلاط الأنساب، ولهذا أوجب تعالى عليهن الإخبار عن، {ما خلق الله في أرحامهن}؛ وحرم عليهن كتمان ذلك من حمل أو حيض، لأن كتمان ذلك يفضي إلى مفاسد كثيرة فكتمان الحمل موجب أن تلحقه بغير من هو له رغبة فيه أو استعجالاً لانقضاء العدة فإذا ألحقته بغير أبيه حصل من قطع الرحم والإرث واحتجاب محارمه وأقاربه عنه، وربما تزوج ذوات محارمه وحصل في مقابلة ذلك إلحاقه بغير أبيه وثبوت توابع ذلك من الإرث منه وله، ومن جعل أقارب الملحق به أقارب له وفي ذلك من الشر والفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد، ولو لم يكن في ذلك إلا إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه، وفيه الإصرار على الكبيرة العظيمة وهي الزنا لكفى بذلك شرًّا. وأما كتمان الحيض فإن استعجلت فأخبرت به وهي كاذبة ففيه من انقطاع حق الزوج عنها وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشرِّ كما ذكرنا، وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض لتطول العدة فتأخذ منه نفقة غير واجبة عليه بل هي سحت عليها محرمة من جهتين: من كونها لا تستحقه، ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة، وربما راجعها بعد انقضاء العدة فيكون ذلك سفاحاً لكونها أجنبية منه، فلهذا قال تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر}. فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الآخر وإلا فلو آمنَّ بالله واليوم الآخر وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن لم يصدر منهن شيء من ذلك، وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة عما تخبر بها عن نفسها من الأمر الذي لا يطلع عليه غيرها كالحمل والحيض ونحوهما. ثم قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك}؛ أي: لأزواجهن ما دامت متربصة في تلك العدة أن يردوهن إلى نكاحهن {إن أرادوا إصلاحاً}؛ أي: رغبة وألفة ومودة، ومفهوم الآية أنهم إن لم يريدوا الإصلاح فليسوا بأحق بردهن فلا يحل لهم أن يراجعوهن لقصد المضارة لها وتطويل العدة عليها، وهل يملك ذلك مع هذا القصد؟ فيه قولان: الجمهور على أنه يملك ذلك مع التحريم، والصحيح أنه إذا لم يرد الإصلاح لا يملك ذلك كما هو ظاهر الآية الكريمة، وهذه حكمة أخرى في هذا التربص، وهي أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها فجعلت له هذه المدة ليتروى بها ويقطع نظره، وهذا يدل على محبته تعالى للألفة بين الزوجين وكراهته للفراق كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» ، وهذا خاص في الطلاق الرجعي، وأما الطلاق البائن فليس البعل بأحق برجعتها، بل إن تراضيا على التراجع فلا بد من عقد جديد مجتمع الشروط. ثم قال تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}؛ أي: وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة، ومرجع الحقوق بين الزوجين إلى المعروف وهو العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص والعوائد، وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة والمعاشرة والمسكن وكذلك الوطء الكل يرجع إلى المعروف، فهذا موجب العقد المطلق، وأما مع الشرط فعلى شرطهما، إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً. {وللرجال عليهن درجة}؛ أي: رفعة ورياسة وزيادة حق عليها كما قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم}؛ ومنصب النبوة والقضاء والإمامة الصغرى والكبرى وسائر الولايات [مختصٌّ] بالرجال، وله ضعفا ما لها في كثير من الأمور كالميراث ونحوه {والله عزيز حكيم}؛ أي: له العزة القاهرة والسلطان العظيم الذي دانت له جميع الأشياء، ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه. ويخرج من عموم هذه الآية الحوامل فعدتهن وضع الحمل، واللاتي لم يدخل بهن فليس لهن عدة، والإماء فعدتهن حيضتان كما هو قول الصحابة رضي الله عنهم، وسياق الآية يدل على أن المراد بها الحرة.
آية: 229 #
{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}
# {229} كان الطلاق في الجاهلية واستمر أول الإسلام يطلق الرجل زوجته بلا نهاية، فكان إذا أراد مضارتها طلقها فإذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبداً، فيحصل عليها من الضرر ما الله به عليم. فأخبر تعالى أن {الطلاق}؛ أي: الذي تحصل به الرجعة، {مرتان}؛ ليتمكن الزوج إن لم يرد المضارة من ارتجاعها ويراجع رأيه في هذه المدة، وأما ما فوقها فليس محلاًّ لذلك؛ لأن من زاد على الثنتين فإما متجرئ على المحرم أو ليس له رغبة في إمساكها بل قصده المضارة، فلهذا أمر تعالى الزوج أن يمسك زوجته {بمعروف}؛ أي: عشرة حسنة ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم، وهذا هو الأرجح، وإلا يسرحها ويفارقها، {بإحسان}؛ ومن الإحسان أن لا يأخذ على فراقه لها شيئاً من مالها لأنه ظلم وأخذ للمال في غير مقابلة بشيء، فلهذا قال: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله}؛ وهي المخالعة بالمعروف بأن كرهت الزوجة زوجها لخُلُقِه أو خَلْقِه أو نقص دينه، وخافت أن لا تطيع الله فيه {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به}؛ لأنه عوض لتحصيل مقصودها من الفرقة، وفي هذا مشروعية الخلع إذا وجدت هذه الحكمة {تلك}؛ أي: ما تقدم من الأحكام الشرعية، {حدود الله}؛ أي: أحكامه التي شرعها لكم وأمر بالوقوف معها {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}، وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلال وتعدى منه إلى الحرام فلم يسعه ما أحل الله؟ والظلم ثلاثة أقسام: ظلم العبد فيما بينه وبين الله، وظلم العبد الأكبر الذي هو الشرك، وظلم العبد فيما بينه وبين الخلق. فالشرك لا يغفره الله إلاَّ بالتوبة، وحقوق العباد لا يترك الله منها شيئاً، والظلم الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك تحت المشيئة والحكمة.
آية: 230 - 231 #
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}
# {230} يقول تعالى: {فإن طلقها}؛ أي: الطلقة الثالثة {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره}؛ أي: نكاحاً صحيحاً ويطأها، لأن النكاح الشرعي لا يكون إلا صحيحاً ويدخل فيه العقد والوطء وهذا بالاتفاق، ويتعين أن يكون نكاح الثاني نكاح رغبة، فإن قصد به تحليلها للأول فليس بنكاح ولا يفيد التحليل، ولا يفيد وطء السيد لأنه ليس بزوج، فإذا تزوجها الثاني راغباً، ووطأها، ثم فارقها وانقضت عدتها {فلا جناح عليهما}؛ أي: على الزوج الأول والزوجة {أن يتراجعا}؛ أي: يجددا عقداً جديداً بينهما لإضافته التراجع إليهما، فدل على اعتبار التراضي، ولكن يشترط في التراجع أن يظنا {أن يقيما حدود الله}؛ بأن يقوم كل منهما بحق صاحبه، وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة للفراق، وعزما أن يبدلاها بعشرة حسنة، فهنا لا جناح عليهما في التراجع. ومفهوم الآية الكريمة أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحاً، لأن جميع الأمور إن لم يقم فيها أمر الله ويسلك بها طاعته لم يحل الإقدام عليها، وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور، خصوصاً الولايات الصغار والكبار، أن ينظر في نفسه، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك ووثق بها أقدم وإلا أحجم. ولما بيَّن تعالى هذه الأحكام العظيمة قال: {وتلك حدود الله}؛ أي: شرائعه التي حددها وبينها ووضحها، {يبينها لقوم يعلمون}؛ لأنهم هم المنتفعون بها النافعون لغيرهم، وفي هذا من فضيلة أهل العلم ما لا يخفى، لأن الله تعالى جعل تبيينه لحدوده خاصًّا بهم وأنهم المقصودون بذلك، وفيه أن الله تعالى يحب من عباده معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها.
# {231} ثم قال تعالى: {وإذا طلقتم النساء}؛ أي: طلاقاً رجعياً بواحدة أو اثنتين {فبلغن أجلهن}؛ أي: قاربن انقضاء عدتهن {فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف}؛ أي: إما أن تراجعوهن ونيتكم القيام بحقوقهن، أو تتركوهن بلا رجعة ولا إضرار، ولهذا قال: {ولا تمسكوهن ضرارًا}؛ أي: مضارة بهن {لتعتدوا} في فعلكم هذا الحلال إلى الحرام، فالحلال الإمساك بالمعروف والحرام المضارة، {ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه}، ولو كان الحق يعود للمخلوق فالضرر عائد إلى من أراد الضرار، {ولا تتخذوا آيات الله هزواً}، لما بين تعالى حدوده غاية التبيين وكان المقصود العلم بها والعمل والوقوف معها وعدم مجاوزتها، لأنه تعالى لم ينزلها عبثاً بل أنزلها بالحق والصدق والجد، نهى عن اتخاذها هزواً، أي: لعباً بها وهو التجري عليها وعدم الامتثال لواجبها، مثل: استعمال المضارة في الإمساك أو الفراق أو كثرة الطلاق أو جمع الثلاث، والله من رحمته جعل له واحدة بعد واحدة رفقاً به، وسعياً في مصلحته. {واذكروا نعمة الله عليكم}؛ عموماً باللسان حمداً وثناء وبالقلب اعترافاً وإقراراً وبالأركان بصرفها في طاعة الله {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة}؛ أي: السنة، اللذين بَيَّن لكم بهما طرق الخير، ورغبكم فيها، وطرق الشر، وحذركم إياها، وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه، وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، وقيل المراد بالحكمة أسرار الشريعة، فالكتاب فيه الحكم، والحكمة فيها بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه، وكلا المعنيين صحيح، ولهذا قال: {يعظكم به}؛ أي: بما أنزل عليكم، وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة أسرارُ الشريعة لأن الموعظة ببيان الحكم والحكمة والترغيب أو الترهيب، فالحكم به يزول الجهل، والحكمة مع الترغيب يوجب الرغبة، والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة {واتقوا الله} في جميع أموركم {واعلموا أن الله بكل شيء عليم}؛ فلهذا بين لكم هذه الأحكام بغاية الإتقان والإحكام التي هي جارية مع المصالح في كل زمان ومكان، فله الحمد والمنة.
آية: 232 #
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}
# {232} هذا خطاب لأولياء المرأة المطلقة دون الثلاث إذا خرجت من العدة وأراد زوجها أن ينكحها ورضيت بذلك فلا يجوز لوليها من أب وغيره أن يعضلها أي يمنعها من التزوج به حنقاً عليه وغضباً واشمئزازاً لما فعل من الطلاق الأول، وذكر أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فإيمانه يمنعه من العضل، ذلك {أزكى لكم وأطهر}؛ وأطيب مما يظن الولي أن عدم تزويجه هو الرأي واللائق وأنه يقابل بطلاقه الأول بعدم تزويجه كما هو عادة المترفعين المتكبرين، فإن كان يظن أن المصلحة في عدم تزويجه. فالله {يعلم وأنتم لا تعلمون}؛ فامتثلوا أمر من هو عالم بمصالحكم، مريد لها قادر عليها، ميسر لها من الوجه الذي تعرفون وغيره. وفي هذه الآية دليل على أنه لا بد من الولي في النكاح لأنه نهى الأولياء عن العضل، ولا ينهاهم إلا عن أمر هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق. ثم قال تعالى:
آية: 233 #
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}
# {233} هذا خبر بمعنى الأمر تنزيلاً له منزلة المتقرر الذي لا يحتاج إلى أمر بأن {يرضعن أولادهن حولين}؛ ولما كان الحول يطلق على الكامل وعلى معظم الحول قال: {كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة}؛ فإذا تم للرضيع حولان فقد تم رضاعه وصار اللبن بعد ذلك بمنزلة سائر الأغذية، فلهذا كان الرضاع بعد الحولين غير معتبر لا يُحَرِّم. ويؤخذ من هذا النص ومن قوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}؛ أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأنه يمكن وجود الولد بها {وعلى المولود له}؛ أي: الأب، {رزقهن وكسوتهن بالمعروف}؛ وهذا شامل لما إذا كانت في حباله أو مطلقة، فإن على الأب رزقها؛ أي: نفقتها وكسوتها وهي الأجرة للرضاع، ودل هذا على أنها إذا كانت في حباله لا يجب لها أجرة غير النفقة والكسوة وكل بحسب حاله، فلهذا قال: {لا تكلف نفس إلا وسعها}؛ فلا يكلف الفقير أن ينفق نفقة الغني ولا من لم يجد شيئاً بالنفقة حتى يجد {لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده}؛ أي: لا يحل أن تضار الوالدة بسبب ولدها، إما أن تمنع من إرضاعه أو لا تعطى ما يجب لها من النفقة والكسوة أو الأجرة {ولا مولود له بولده}؛ بأن تمتنع من إرضاعه على وجه المضارة [له] أو تطلب زيادة عن الواجب ونحو ذلك من أنواع الضرر، ودل قوله: {مولود له}؛ أن الولد لأبيه لأنه موهوب له ولأنه من كسبه، فلذلك جاز له الأخذ من ماله رضيَ أو لم يرضَ، بخلاف الأم. وقوله: {وعلى الوارث مثل ذلك}؛ أي: على وارث الطفل إذا عدم الأب، وكان الطفل ليس له مال مثل ما على الأب من النفقة للمرضع والكسوة، فدل على وجوب نفقة الأقارب المعسرين على القريب الوارث الموسر، {فإن أرادا}؛ أي: الأبوان، {فصالاً}؛ أي: فطام الصبي قبل الحولين، {عن تراضٍ منهما}؛ بأن يكونا راضيين، {وتشاور}؛ فيما بينهما هل هو مصلحة للصبي أم لا؟ فإن كان مصلحة ورضيا {فلا جناح عليهما}؛ في فطامه قبل الحولين، فدلت الآية بمفهومها على أنه إن رضي أحدهما دون الآخر أو لم يكن مصلحة للطفل أنه لا يجوز فطامه. وقوله: {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم}؛ أي: تطلبوا لهم المراضع غير أمهاتهم على غير وجه المضارة، {فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف}؛ أي: للمرضعات، {والله بما تعملون بصير}؛ فمجازيكم على ذلك بالخير والشر.
آية: 234 #
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}
# {234} أي: إذا توفي الزوج مكثت زوجته متربصة أربعة أشهر وعشرة أيام وجوباً، والحكمة في ذلك ليتبين الحمل في مدة الأربعة ويتحرك في ابتدائه في الشهر الخامس، وهذا العام مخصوص بالحوامل، فإن عدتهن بوضع الحمل، وكذلك الأمة عدتها على النصف من عدة الحرة شهران وخمسة أيام. وقوله: {فإذا بلغن أجلهن}؛ أي: انقضت عدتهن، {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن}؛ أي: من مراجعتها للزينة والطيب، {بالمعروف}؛ أي: على وجه غير محرم ولا مكروه، وفي هذا وجوب الإحداد مدة العدة على المتوفى عنها زوجها دون غيرها من المطلقات والمفارقات وهو مجمع عليه بين العلماء، {والله بما تعملون خبير}؛ أي: عالم بأعمالكم ظاهرها وباطنها جليِّها وخفيها فمجازيكم عليها، وفي خطابه للأولياء بقوله: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن}؛ دليل على أن الولي ينظر على المرأة ويمنعها مما لا يجوز فعله، ويجبرها على ما يجب وأنه مخاطب بذلك واجب عليه.
آية: 235 #
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}
# {235} هذا حكم المعتدة من وفاة أو المبانة في الحياة، فيحرم على غير مبينها أن يصرح لها في الخطبة وهو المراد بقوله: {ولكن لا تواعدوهن سرًّا}؛ وأما التعريض فقد أسقط تعالى فيه الجناح، والفرق بينهما أن التصريح لا يحتمل غير النكاح فلهذا حرم خوفاً من استعجالها وكذبها في انقضاء عدتها رغبة في النكاح، ففيه دلالة على منع وسائل المحرم وقضاء لحق زوجها الأول بعدم مواعدتها لغيره مدة عدتها، وأما التعريض وهو الذي يحتمل النكاح وغيره فهو جائز للبائن كأن يقول [لها]: إني أريد التزوج وإني أحب أن تشاوريني عند انقضاء عدتك ونحو ذلك، فهذا جائز لأنه ليس بمنزلة الصريح، وفي النفوس داعٍ قوي إليه، وكذا إضمار الإنسان في نفسه أن يتزوج من هي في عدتها إذا انقضت، ولهذا قال: {أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن}؛ هذا التفصيل كله في مقدمات العقد، وأما عقد النكاح فلا يحل، {حتى يبلغ الكتاب أجله}؛ أي: تنقضي العدة. {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم}؛ أي: فانووا الخير ولا تنووا الشرَّ خوفاً من عقابه ورجاء لثوابه، {واعلموا أن الله غفور}؛ لمن صدرت منه الذنوب فتاب منها، ورجع إلى ربه، {حليم}؛ حيث لم يعاجل العاصينَ على معاصيهم مع قدرته عليهم.
آية: 236 #
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)}
# {236} أي: ليس عليكم ـ يا معشر الأزواج ـ جناح وإثم بتطليق النساء قبل المسيس وفرض المهر وإن كان في ذلك كسر لها فإنه ينجبر بالمتعة فعليكم أن تمتعوهن؛ بأن تعطوهن شيئاً من المال جبراً لخواطرهن {على الموسع قدره وعلى المقتر}؛ أي: المعسر، {قدره}؛ وهذا يرجع إلى العرف وأنه يختلف باختلاف الأحوال ولهذا قال: {متاعاً بالمعروف}؛ فهذا حق واجب {على المحسنين}؛ ليس لهم أن يبخسوهن، فكما تسببوا لتشوفهن واشتياقهن وتعلق قلوبهن، ثم لم يعطوهن ما رغبن فيه فعليهم في مقابلة ذلك المتعة. فلله ما أحسن هذا الحكم الإلهي وأدله على حكمة شارعه ورحمته! ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟! فهذا حكم المطلقات قبل المسيس وقبل فرض المهر، ثم ذكر حكم المفروض لهن فقال:
آية: 237 #
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}
# {237} أي: إذا طلقتم النساء قبل المسيس وبعد فرض المهر فللمطلقات من المهر المفروض نصفه ولكم نصفه، هذا هو الواجب ما لم يدخله عفو ومسامحة بأن تعفو عن نصفها لزوجها إذا كان يصح عفوها، {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}؛ وهو الزوج على الصحيح لأنه الذي بيده حل عقدته، ولأن الولي لا يصح أن يعفو عن ما وجب للمرأة لكونه غير مالك ولا وكيل، وقيل: إنه الأب وهو الذي يدل عليه لفظ الآية الكريمة. ثم رغب في العفو وأن من عفا كان أقرب لتقواه لكونه إحساناً موجباً لشرح الصدر، ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف، وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة، لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب، وهو أخذ الواجب وإعطاء الواجب، وإما فضل وإحسان، وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة ولو في بعض الأوقات، وخصوصاً لمن بينك وبينه معاملة أو مخالطة، فإن اللهَ مجازٍ المحسنين بالفضل والكرم، ولهذا قال: {إن الله بما تعملون بصير}. ثم قال تعالى:
آية: 238 - 239 #
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}
# {238} يأمر تعالى بالمحافظة {على الصلوات}؛ عموماً وعلى، {الصلاة الوسطى}؛ وهي العصر خصوصاً، والمحافظة عليها أداؤها بوقتها وشروطها وأركانها وخشوعها وجميعِ ما لها من واجب ومستحب. وبالمحافظة على الصلوات تحصل المحافظة على سائر العبادات وتفيد النهيَ عن الفحشاء والمنكر، خصوصاً إذا أكملها كما أمر بقوله: {وقوموا لله قانتين}؛ أي: ذليلين مخلصين خاشعين، فإن القنوت دوام الطاعة مع الخشوع.
# {239} وقوله: {فإن خفتم}؛ حذف المتعلق ليعم الخوف من العدو والسبع وفواتِ ما يتضرر العبد بفوته فصلوا {رجالاً}؛ ماشين على أرجلكم، {أو ركباناً}؛ على الخيل والإبل وسائر المركوبات، وفي هذه الحال لا يلزمه الاستقبال. فهذه صفة صلاة المعذور بالخوف فإذا حصل الأمن صلى صلاة كاملة ويدخل في قوله: {فإذا أمنتم فاذكروا الله}؛ تكميل الصلوات، ويدخل فيه أيضاً الإكثار من ذكر الله شكراً له على نعمة الأمن وعلى نعمة التعليم لما فيه سعادة العبد. وفي الآية الكريمة فضيلة العلم وأن على من علمه الله ما لم يكن يعلم الإكثارَ من ذكر الله، وفيه الإشعارُ أيضاً أن الإكثار من ذكره سبب لتعليم علوم أخر لأن الشكر مقرون بالمزيد. ثم قال تعالى:
آية: 240 #
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}
# {240} اشتهر عند كثير من المفسرين أن هذه الآية الكريمة نسختها الآية التي قبلها وهي قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً}؛ وأن الأمر كان على الزوجة أن تتربص حولاً كاملاً ثم نسخ بأربعة أشهر وعشر، ويجيبون عن تقدم الآية الناسخة أن ذلك تقدم في الوضع لا في النزول لأن شرط الناسخ أن يتأخر عن المنسوخ، وهذا القول لا دليل عليه، ومن تأمل الآيتين اتضح له أن القول الآخر في الآية هو الصواب، وأن الآية الأولى في وجوب التربص أربعة أشهر وعشراً على وجه التحتيم على المرأة، وأما في هذه الآية فإنها وصية لأهل الميت أن يبقوا زوجة ميتهم عندهم حولاً كاملاً جبراً لخاطرها وبرًّا بميتهم، ولهذا قال: {وصية لأزواجهم}؛ أي: وصية من الله لأهل الميت أن يستوصوا بزوجته ويمتعوها ولا يخرجوها، فإن رغبت أقامت في وصيتها وإن أحبت الخروج فلا حرج عليها، ولهذا قال: {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن}؛ أي: من التجمل واللباس، لكن الشرط أن يكون بالمعروف الذي لا يخرجها عن حدود الدين والاعتبار. وختم الآية بهذين الاسمين العظيمين الدالين على كمال العزة وكمال الحكمة، لأن هذه أحكام صدرت عن عزته، ودلت على كمال حكمته حيث وضعها في مواضعها اللائقة بها.
آية: 241 - 242 #
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}
# {241 ـ 242} لما بين في الآية السابقة إمتاع المفارقة بالموت ذكر هنا أن كل مطلقة فلها على زوجها أن يمتعها ويعطيها ما يناسب حاله وحالها وأنه حق إنما يقوم به المتقون، فهو من خصال التقوى الواجبة أو المستحبة، فإن كانت المرأة لم يسم لها صداق وطلقها قبل الدخول فتقدم أنه يجب عليه بحسب يساره وإعساره، وإن كان مسمى لها فمتاعها نصف المسمى، وإن كانت مدخولاً بها صارت المتعة مستحبة في قول جمهور العلماء ومن العلماء من أوجب ذلك استدلالاً بقوله: {حقاً على المتقين}؛ والأصل في الحق أنه واجب خصوصاً وقد أضافه إلى المتقين، وأصل التقوى واجبة، فلما بين تعالى هذه الأحكام الجليلة بين الزوجين؛ أثنى على أحكامه، وعلى بيانه لها وتوضيحه، وموافقتها للعقول السليمة، وأن القصد من بيانه لعباده أن يعقلوا عنه ما بينه فيعقلونها حفظاً وفهماً وعملاً بها، فإن ذلك من تمام عقلها.
آية: 243 #
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)}
# {243} أي: ألم تسمع بهذه القصة العجيبة الجارية على من قبلكم من بني إسرائيل حيث حل الوباء بديارهم فخرجوا بهذه الكثرة فراراً من الموت فلم ينجِهِمُ الفرارُ ولا أغنى عنهم من وقوع ما كانوا يحذرون، فعاملهم بنقيض مقصودهم وأماتهم الله عن آخرهم، ثم تفضل عليهم فأحياهم إما بدعوة نبي كما قاله كثير من المفسرين وإما بغير ذلك، ولكن ذلك بفضله وإحسانه وهو لا يزال فضله على الناس وذلك موجب لشكرهم لنعم الله بالاعتراف بها وصرفها في مرضاة الله ومع ذلك فأكثر الناس قد قصروا بواجب الشكر. وفي هذه القصة عبرة بأنه على كل شيء قدير وذلك آية محسوسة على البعث؛ فإن هذه القصة معروفة منقولة نقلاً متواتراً عند بني إسرائيل ومن اتصل بهم، ولهذا أتى بها تعالى بأسلوب الأمر الذي قد تقرر عند المخاطبين، ويحتمل أن هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم خوفاً من الأعداء وجبناً عن لقائهم، ويؤيد هذا أن الله ذكر بعدها الأمر بالقتال وأخبر عن بني إسرائيل أنهم كانوا مخرجين من ديارهم وأبنائهم، وعلى الاحتمالين فإن فيها ترغيباً في الجهاد وترهيباً من التقاعد عنه وأن ذلك لا يغني عن الموت شيئاً {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}.
آية: 244 - 245 #
{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}
# {244 ـ 245} جمع الله بين الأمر بالقتال في سبيله بالمال والبدن؛ لأن الجهاد لا يقوم إلا بالأمرين، وحث على الإخلاص فيه بأن يقاتل العبد لتكون كلمة الله هي العليا فإن الله {سميع}؛ للأقوال وإن خفيت {عليم}؛ بما تحتوي عليه القلوب من النيات الصالحة وضدها. وأيضاً فإنه إذا علم المجاهد في سبيله أن الله سميع عليم، هان عليه ذلك وعلم أنه بعينه ما يتحمل المتحملون من أجله وأنه لا بد أن يمدهم بعونه ولطفه. وتأمل هذا الحث اللطيف على النفقة وإن المنفق قد أقرض الله الملي الكريم ووعده المضاعفة الكثيرة كما قال تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم}؛ ولما كان المانع الأكبر من الإنفاق خوفَ الإملاقِ أخبر تعالى أنَّ الغنى والفقرَ بيد الله، وأنه يقبض الرزق على من يشاء ويبسطه على من يشاء، فلا يتأخر من يريد الإنفاق خوفَ الفقر، ولا يظن أنه ضائع، بل مرجع العباد كلهم إلى الله فيجد المنفقون والعاملون أجرهم عنده مدخراً أحوج ما يكونون إليه، ويكون له من الوقع العظيم ما لا يمكن التعبير عنه. والمراد بالقرض الحسن هو ما جمع أوصاف الحسن من النية الصالحة وسماحة النفس بالنفقة ووقوعها في محلها وأن لا يتبعها المنفِقُ مَنًّا ولا أذىً ولا مبطلاً ومنقصاً.
آية: 246 - 252 #
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}.
# {246 ـ 247} يقص الله تعالى هذه القصة على الأمة ليعتبروا وليرغبوا في الجهاد ولا ينكلوا عنه، فإن الصابرين صارت لهم العواقب الحميدة في الدنيا والآخرة والناكلين خسروا الأمرين، فأخبر تعالى أن أهل الرأي من بني إسرائيل وأصحاب الكلمة النافذة تراودوا في شأن الجهاد واتفقوا على أن يطلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكاً لينقطع النزاع بتعيينه وتحصلَ الطاعة التامة ولا يبقى لقائل مقال، وأن نبيهم خشي أن طلبهم هذا مجردُ كلام لا فعل معه، فأجابوا نبيهم بالعزم الجازم وأنهم التزموا ذلك التزاماً تامًّا، وأن القتال متعين عليهم حيث كان وسيلة لاسترجاع ديارهم ورجوعهم إلى مقرهم ووطنهم، وأنه عين لهم نبيهم طالوت ملكاً يقودهم في هذا الأمر الذي لا بد له من قائد يحسن القيادة، وأنهم استغربوا تعيينه لطالوت وثَمَّ من هو أحق منه بيتاً وأكثر مالاً، فأجابهم نبيهم: إن الله اختاره عليكم بما آتاه الله من قوة العلم بالسياسة وقوة الجسم، اللذين هما آلة الشجاعة والنجدة وحسن التدبير، وأن الملك ليس بكثرة المال، ولا بكون صاحبه ممن كان الملك والسيادة في بيوتهم، فالله يؤتي ملكه من يشاء. ثم لم يكتف ذلك النبي الكريم بتقنيعهم بما ذكره من كفاءة طالوت واجتماع الصفات المطلوبة فيه حتى قال لهم:
# {248} {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون}؛ وكان هذا التابوت قد استولت عليه الأعداء، فلم يكتفوا بالصفات المعنوية في طالوت ولا بتعيين الله له على لسان نبيهم حتى يؤيد ذلك هذه المعجزة ولهذا قال: {إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين}؛ فحينئذ سلموا وانقادوا. فلما ترأس فيهم طالوت وجندهم ورتبهم وفصل بهم إلى قتال عدوهم وكان قد رأى منهم من ضعف العزائم والهمم ما يحتاج إلى تمييز الصابر من الناكل فقال:
# {249 ـ 250} {إن الله مبتليكم بنهر}؛ تمرون عليه وقت حاجة إلى الماء، {فمن شرب منه فليس مني}؛ أي لا يتبعني؛ لأن ذلك برهان على قلة صبره ووفور جزعه {ومن لم يطعمه فإنه مني}؛ لصدقه وصبره، {إلا من اغترف غرفة بيده}؛ أي: فإنه مسامح فيها. فلما وصلوا إلى ذلك النهر وكانوا محتاجين إلى الماء شربوا كلهم منه {إلا قليلاً منهم}؛ فإنهم صبروا ولم يشربوا {فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا}؛ أي: الناكلون أو الذين عبروا {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}؛ فإن كان القائلون هم الناكلين فهذا قول يبررون به نكولهم، وإن كان القائلون هم الذين عبروا مع طالوت فإنه حصل معهم نوع استضعاف لأنفسهم، ولكن شجعهم على الثبات والإقدام أهل الإيمان الكامل حيث قالوا: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}؛ بعونه وتأييده ونصره فثبتوا وصبروا لقتال عدوهم جالوت وجنوده.
# {251} {وقتل داود}؛ - صلى الله عليه وسلم -، {جالوت}؛ وحصل بذلك الفتح والنصر على عدوهم {وآتاه الله}؛ أي: داود {الملك والحكمة}؛ النبوة والعلوم النافعة وآتاه الله الحكمة وفصل الخطاب. ثم بين تعالى فائدة الجهاد فقال: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}؛ باستيلاء الكفرة والفجار وأهل الشر والفساد {ولكن الله ذو فضل على العالمين}؛ حيث لطف بالمؤمنين ودافع عنهم وعن دينهم بما شرعه وبما قدره. فلما بين هذه القصة قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -:
# {252} {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين}؛ ومن جملة الأدلة على رسالته هذه القصة حيث أخبر بها وحياً من الله مطابقاً للواقع. وفي هذه القصة عِبَرٌ كثيرةٌ للأمة: منها: فضيلة الجهاد في سبيله وفوائده وثمراته وأنه السبب الوحيد في حفظ الدين وحفظ الأوطان وحفظ الأبدان والأموال، وأنَّ المجاهدين ولو شقت عليهم الأمور فإن عواقبهم حميدة، كما أن الناكلين ولو استراحوا قليلاً فإنهم سيتعبون طويلاً. ومنها: الانتداب لرياسة من فيه كفاءة وأن الكفاءة ترجع إلى أمرين: إلى العلم الذي هو علم السياسة والتدبير، وإلى القوة التي ينفذ بها الحق، وأن من اجتمع فيه الأمران فهو أحق من غيره. ومنها: الاستدلال بهذه القصة على ما قاله العلماء أنه ينبغي للأمير للجيوش أن يتفقدها عند فصولها؛ فيمنع من لا يصلح للقتال من رجال وخيل وركاب، لضعفه أو ضعف صبره أو لتخذيله أو خوف الضرر بصحبته، فإن هذا القسم ضرر محض على الناس. ومنها: أنه ينبغي عند حضور البأس تقوية المجاهدين وتشجيعهم وحثهم على القوة الإيمانية والاتِّكال الكامل على الله والاعتماد عليه، وسؤال الله التثبيت والإعانة على الصبر والنصر على الأعداء. ومنها: أن العزم على القتال والجهاد غير حقيقته، فقد يعزم الإنسان ولكن عند حضوره تنحل عزيمته، ولهذا من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد» ، فهؤلاء الذين عزموا على القتال وأتوا بكلام يدل على العزم المصمم لما جاء الوقت نكص أكثرهم، ويشبه هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأسألك الرضا بعد القضا» ؛ لأن الرضا بعد وقوع القضاء المكروه للنفوس هو الرضا الحقيقي.
آية: 253 #
قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)}.
# {253} يخبر الباري أنه فاوت بين الرسل في الفضائل الجليلة والتخصيصات الجميلة، بحسب ما منَّ الله به عليهم وقاموا به من الإيمان الكامل واليقين الراسخ والأخلاق العالية والآداب السامية والدعوة والتعليم والنفع العميم، فمنهم من اتخذه خليلاً، ومنهم من كلمه تكليماً، ومنهم من رفعه فوق الخلائق درجات، وجميعهم لا سبيل لأحد من البشر إلى الوصول إلى فضلهم الشامخ. وخص عيسى بن مريم أنه آتاه البينات الدالة على أنه رسول الله حقًّا وعبده صدقاً وأن ما جاء به من عند الله كله حق، فجعله يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله وكلم الناس في المهد صبياً وأيده بروح القدس أي بروح الإيمان، فجعل روحانيتَهُ فائقةً روحانيةَ غيرِهِ، فحصل له بذلك القوة والتأييد، وإن كان أصل التأييد بهذه الروح عامًّا لكل مؤمن بحسب إيمانه كما قال: {وأيدهم بروح منه}؛ لكن ما لعيسى أعظم مما لغيره لهذا خصه الله بالذكر، وقيل: إن روح القدس هنا جبريل أيده الله بإعانته ومؤازرته لكن المعنى هو الأول. ولما أخبر عن كمال الرسل وما أعطاهم من الفضل والخصائص وأن دينهم واحد ودعوتهم إلى الخير واحدة، وكان موجب ذلك ومقتضاه أن تجتمع الأمم على تصديقهم والانقياد لهم لما آتاهم من البينات التي على مثلها يؤمن البشر، لكن أكثرهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، ووقع الاختلاف بين الأمم فمنهم من آمن ومنهم من كفر ووقع لأجل ذلك الاقتتال، الذي هو موجب الاختلاف والتعادي، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فما اختلفوا، ولو شاء الله أيضاً بعدما وقع الاختلاف الموجب للاقتتال ما اقتتلوا، ولكن حكمته اقتضت جريان الأمور على هذا النظام بحسب الأسباب. ففي هذه الآية أكبر شاهد على أنه تعالى يتصرف في جميع الأسباب المقتضية لمسبباتها، وأنه إن شاء أبقاها وإن شاء منعها، وكل ذلك تبع لحكمته وحده فإنه فعال لما يريد، فليس لإرادته ومشيئته ممانع ولا معارض ولا معاون.
آية: 254 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}
# {254} يحث الله المؤمنين على النفقات في جميع طرق الخير، لأن حذف المعمول يفيد التعميم، ويذكرهم نعمته عليهم بأنه هو الذي رزقهم ونوَّع عليهم النعم، وأنه لم يأمرهم بإخراج جميع ما في أيديهم بل أتى بِمِنْ الدالة على التبعيض، فهذا مما يدعوهم إلى الإنفاق، ومما يدعوهم أيضاً إخبارهم أن هذه النفقات مدخرة عند الله في يوم لا تفيد فيه المعاوضات بالبيع ونحوه ولا التبرعات ولا الشفاعات فكل أحد يقول ما قدمت لحياتي، فتنقطع الأسباب كلها إلا الأسباب المتعلقة بطاعة الله والإيمان به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون}، {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً}. ثم قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون}؛ وذلك لأن الله خلقهم لعبادته، ورزقهم، وعافاهم، ليستعينوا بذلك على طاعته، فخرجوا عما خلقهم الله له، وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً، واستعانوا بنعمه على الكفر والفسوق والعصيان، فلم يبقوا للعدل موضعاً، فلهذا حصر الظلم المطلق فيهم.
آية: 255 #
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
# {255} أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الآية أعظم آيات القرآن لما احتوت عليه من معاني التوحيد والعظمة وسعة الصفات للباري تعالى، فأخبر أنه {الله}؛ الذي له جميع معاني الألوهية، وأنه لا يستحق الألوهية والعبودية إلا هو، فألوهية غيره وعبادة غيره باطلة، وأنه {الحي} الذي له جميع معاني الحياة الكاملة من السمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات الذاتية، كما أن {القيوم}؛ تدخل فيه جميع صفات الأفعال لأنه القيوم الذي قام بنفسه واستغنى عن جميع مخلوقاته وقام بجميع الموجودات فأوجدها وأبقاها وأمدها بجميع ما تحتاج إليه في وجودها وبقائها. ومن كمال حياته وقيوميته أنه {لا تأخذه سنة}؛ أي: نعاس {ولا نوم}؛ لأن السنة والنوم إنما يعرضان للمخلوق الذي يعتريه الضعف والعجز والانحلال، ولا يعرضان لذي العظمة والكبرياء والجلال، وأخبر أنه مالك جميع ما في السماوات والأرض، فكلهم عبيد لله مماليك لا يخرج أحد منهم عن هذا الطور {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً}؛ فهو المالك لجميع الممالك وهو الذي له صفات الملك والتصرف والسلطان والكبرياء، ومن تمام ملكه أنه لا {يشفع عنده}؛ أحد {إلا بإذنه}؛ فكل الوجهاء والشفعاء عبيد له مماليك لا يَقْدِمُون على شفاعة حتى يأذن لهم {قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض}؛ والله لا يأذن لأحد أن يشفع إلا فيمن ارتضى ولا يرتضي إلا توحيده واتباع رسله، فمن لم يتصف بهذا فليس له في الشفاعة نصيب. ثم أخبر عن علمه الواسع المحيط وأنه يعلم ما بين أيدي الخلائق من الأمور المستقبلة التي لا نهاية لها {وما خلفهم}؛ من الأمور الماضية التي لا حد لها، وأنه لا تخفى عليه خافية {يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور}؛ وأن الخلق لا يحيط أحد بشيء من علم الله ومعلوماته {إلا بما شاء} منها وهو ما أطلعهم عليه من الأمور الشرعية والقدرية، وهو جزء يسير جدًّا مضمحل في علوم الباري ومعلوماته كما قال أعلم الخلق به وهم الرسل والملائكة: {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا}؛ ثم أخبر عن عظمته وجلاله وأن كرسيه وسع السماوات والأرض، وأنه قد حفظهما ومن فيهما من العوالم بالأسباب والنظامات التي جعلها الله في المخلوقات، ومع ذلك فلا يؤوده أي يثقله حفظهما لكمال عظمته واقتداره وسعة حكمته في أحكامه {وهو العلي}؛ بذاته على جميع مخلوقاته، وهو العلي بعظمة صفاته، وهو العلي الذي قهر المخلوقات، ودانت له الموجودات، وخضعت له الصعاب، وذلت له الرقاب {العظيم}؛ الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء والمجد والبهاء، الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء وإن جلت عن الصفة فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم. فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني يحق أن تكون أعظم آيات القرآن، ويحق لمن قرأها متدبراً متفهماً أن يمتلئ قلبه من اليقين والعرفان والإيمان، وأن يكون محفوظاً بذلك من شرور الشيطان.
آية: 256 #
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
# {256} هذا بيان لكمال هذا الدين الإسلامي، وأنه لكمال براهينه، واتضاح آياته وكونه هو دين العقل والعلم ودين الفطرة والحكمة ودين الصلاح والإصلاح ودين الحق والرشد، فلكماله وقبول الفطر له لا يحتاج إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب، ويتنافى مع الحقيقة والحق أو لما تخفى براهينه وآياته، وإلا فمن جاءه هذا الدين ورده ولم يقبله فإنه لعناده، فإنه {قد تبين الرشد من الغي} فلم يبق لأحد عذر ولا حجة إذا رده ولم يقبله. ولا منافاة بين هذا المعنى وبين الآيات الكثيرة الموجبة للجهاد، فإن الله أمر بالقتال ليكون الدين كله لله، ولدفع اعتداء المعتدين على الدين، وأجمع المسلمون على أن الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر، وأنه من الفروض المستمرة الجهاد القولي والجهاد الفعلي، ومن ظن من المفسرين أن هذه الآية تنافي آيات الجهاد فجزم بأنها منسوخة فقوله ضعيف لفظاً ومعنى كما هو واضح بين لمن تدبر الآية الكريمة كما نبهنا عليه. ثم ذكر الله انقسام الناس إلى قسمين: قسم آمن بالله وحده لا شريك له وكفر بالطاغوت ـ وهو كل ما ينافي الإيمان بالله من الشرك وغيره ـ فهذا قد {استمسك بالعروة الوثقى} التي لا انفصام لها، بل هو مستقيم على الدين الصحيح حتى يصل به إلى الله وإلى دار كرامته. ويؤخذ القسم الثاني من مفهوم الآية أن من لم يؤمن بالله بل كفر به وآمن بالطاغوت فإنه هالك هلاكاً أبدياً ومعذب عذاباً سرمدياً. وقوله {والله سميع}؛ أي: لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، وسميع لدعاء الداعين وخضوع المتضرعين. {عليم}؛ بما أكنته الصدور، وما خفي من خفايا الأمور، فيجازي كل أحد بحسب ما يعلمه من نياته وعمله.
آية: 257 #
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}
# {257} هذه الآية مترتبة على الآية التي قبلها، فالسابقة هي الأساس وهذه هي الثمرة. فأخبر تعالى أن الذين آمنوا بالله وصدقوا إيمانهم بالقيام بواجبات الإيمان وترك كل ما ينافيه أنه وليهم يتولاهم بولايته الخاصة، ويتولى تربيتهم، فيخرجهم من ظلمات الجهل والكفر والمعاصي والغفلة والإعراض، إلى نور العلم واليقين والإيمان والطاعة والإقبال الكامل على ربهم، وينور قلوبهم بما يقذفه فيها من نور الوحي والإيمان، وييسرهم لليسرى، ويجنبهم العسرى، وأما الذين كفروا فإنهم لما تولوا غير وليهم، ولاهم الله ما تولوا لأنفسهم، وخذلهم، ووكلهم إلى رعاية من تولاهم ممن ليس عنده نفع ولا ضر، فأضلوهم، وأشقوهم، وحرموهم هداية العلم النافع والعمل الصالح، وحرموهم السعادة، وصارت النار مثواهم خالدين فيها مخلدين. اللهم تولنا فيمن توليت.
آية: 258 #
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}
# {258} يقص الله علينا من أنباء الرسل والسالفين ما به تتبين الحقائق، وتقوم البراهين المتنوعة على التوحيد، فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، حيث حاج هذا الملك الجبار، وهو نمرود البابلي المعطل المنكر لرب العالمين، وانتدب لمقاومة إبراهيم الخليل ومحاجته في هذا الأمر الذي لا يقبل شكًّا ولا إشكالاً ولا ريباً وهو توحيد الله وربوبيته الذي هو أجلى الأمور وأوضحها. ولكن هذا الجبار غره ملكه وأطغاه حتى وصلت به الحال إلى أن نفاه، وحاج إبراهيمَ الرسولَ العظيمَ الذي أعطاه الله من العلم واليقين ما لم يعط أحداً من الرسل سوى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال إبراهيم مناظراً له: {ربي الذي يحيي ويميت}؛ أي: هو المنفرد بالخلق والتدبير والإحياء والإماتة، فذكر من هذا الجنس أظهرها وهو الإحياء والإماتة، فقال ذلك الجبار مباهتاً: {أنا أحيي وأميت}؛ وعنى بذلك أني أقتل من أردت قتله وأستبقي من أردت استبقاءه، ومن المعلوم أن هذا تمويه وتزوير عن المقصود، وأن المقصود أن الله تعالى هو الذي تفرد بإيجاد الحياة في المعدومات وردها على الأموات، وأنه هو الذي يميت العباد والحيوانات بآجالها بأسباب ربطها وبغير أسباب. فلما رآه الخليل مموهاً تمويهاً ربما راج على الهمج الرَّعاع قال إبراهيم ملزماً له بتصديق قوله إن كان كما يزعم: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت الذي كفر}؛ أي: وقف وانقطعت حجته، واضمحلت شبهته. وليس هذا من الخليل انتقالاً من دليل إلى آخر، وإنما هو إلزام لنمرود بطرد دليله إن كان صادقاً وأتى بهذا الذي لا يقبل الترويج والتزوير والتمويه، فجميع الأدلة السمعية والعقلية والفطرية قد قامت شاهدة بتوحيد الله معترفة بانفراده بالخلق والتدبير وأن من هذا شأنه لا يستحق العبادة إلا هو، وجميع الرسل متفقون على هذا الأصل العظيم، ولم ينكره إلا معاند مكابر مماثل لهذا الجبار العنيد، فهذا من أدلة التوحيد، ثم ذكر أدلة كمال القدرة والبعث والجزاء فقال:
آية: 259 - 260 #
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}.
# {259} هذان دليلان عظيمان محسوسان في الدنيا قبل الآخرة على البعث والجزاء، واحد أجراه الله على يد رجل شاك في البعث على الصحيح كما تدل عليه الآية الكريمة، والآخر على يد خليله إبراهيم، كما أجرى دليل التوحيد السابق على يده. فهذا الرجل مرَّ على قرية قد دمرت تدميراً وخوت على عروشها قد مات أهلها وخربت عمارتها، فقال على وجه الشك والاستبعاد: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها}؟ أي: ذلك بعيد وهي في هذه الحال، يعني وغيرها مثلها بحسب ما قام بقلبه تلك الساعة، فأراد الله رحمته ورحمة الناس حيث أماته الله مئة عام، وكان معه حمار فأماته معه، ومعه طعام وشراب فأبقاهما الله بحالهما كل هذه المدد الطويلة. فلما مضت الأعوام المائة بعثه الله فقال: {كم لبثت قال: لبثت يوماً أو بعض يوم}؛ وذلك بحسب ما ظنه، فقال الله: {بل لبثت مائة عام}؛ والظاهر أن هذه المجاوبة على يد بعض الأنبياء الكرام. ومن تمام رحمة الله به وبالناس أنه أراه الآية عياناً ليقتنع بها، فبعد ما عرف أنه ميت قد أحياه الله قيل له: انظر {إلى طعامك وشرابك لم يتسنه}؛ أي: لم يتغير في هذه المُدَد الطويلة. وذلك من آيات قدرة الله فإن الطعام والشراب خصوصاً ما ذكره المفسرون أنه فاكهة وعصير لا يلبث أن يتغير وهذا قد حفظه الله مئة عام وقيل له: {انظر إلى حمارك}؛ فإذا هو قد تمزق وتفرق وصار عظاماً نخرة، {وانظر إلى العظام كيف ننشزها}؛ أي: نرفع بعضها إلى بعض ونصل بعضها ببعض بعدما تفرقت وتمزقت {ثم نكسوها}؛ بعد الالتئام {لحماً}؛ ثم نعيد فيه الحياة {فلما تبين له}؛ رأيَ عين لا يقبل الريب بوجه من الوجوه {قال أعلم أن الله على كل شيء قدير}؛ فاعترف بقدرة الله على كل شيء وصار آية للناس، لأنهم قد عرفوا موته وموت حماره وعرفوا قضيته ثم شاهدوا هذه الآية الكبرى. هذا هو الصواب في هذا الرجل. وأما قول كثير من المفسرين: أن هذا الرجل مؤمن أو نبي من الأنبياء إما عزير أو غيره وأن قوله: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها}؛ يعني كيف تعمر هذه القرية بعد أن كانت خراباً، وأن الله أماته ليريه ما يعيد لهذه القرية من عمارتها بالخلق وأنها عمرت في هذه المدة وتراجع الناس إليها وصارت عامرة بعد أن كانت دامرة، فهذا لا يدل عليه اللفظ بل ينافيه، ولا يدل عليه المعنى، فأي آية وبرهان برجوع البلدان الدامرة إلى العمارة، وهذه لم تزل تشاهد تعمر قرى ومساكن، وتخرب أخرى، وإنما الآية العظيمة في إحيائه بعد موته وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه لم يتعفن ولم يتغير، ثم قوله: {فلما تبين له}؛ صريح في أنه لم يتبين له إلا بعدما شاهد هذه الحال الدالة على كمال قدرته عيانا.
# {260} وأما البرهان الآخر فإن إبراهيم قال طالباً من الله أن يريه كيف يحيي الموتى فقال الله له: {أو لم تؤمن}؛ ليزيل الشبهة عن خليله، {قال}؛ إبراهيم: {بلى}؛ يا رب قد آمنت أنك على كل شيء قدير وأنك تحيي الموتى وتجازي العباد، ولكن أريد أن يطمئن قلبي وأصل إلى درجة عين اليقين، فأجاب الله دعوته كرامة له ورحمة بالعباد، {قال فخذ أربعة من الطير}؛ ولم يبين أي الطيور هي فالآية حاصلة بأي نوع منها وهو المقصود، {فصرهن إليك}؛ أي: ضمهن واذبحهن ومزقهن {ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم}؛ ففعل ذلك وفرق أجزاءهن على الجبال التي حوله ودعاهن بأسمائهن فأقبلن إليه أي سريعات، لأن السعي السرعة، وليس المراد أنهن جئن على قوائمهن، وإنما جئن طائرات على أكمل ما يكون من الحياة، وخص الطيور بذلك لأن إحياءهن أكمل وأوضح من غيرهن، وأيضاً أزال في هذا كل وهم ربما يعرض للنفوس المبطلة، فجعلهن متعددات أربعة، ومزقهن جميعاً، وجعلهن على رؤوس الجبال، ليكون ذلك ظاهراً علناً يشاهد من قرب ومن بعد، وأنه نحاهن عنه كثيراً لئلا يظن أن يكون عاملاً حيلة من الحيل، وأيضاً أمره أن يدعوهن فجئن مسرعات، فصارت هذه الآية أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته. وفيه تنبيه على أن البعث فيه يظهر للعباد كمال عزة الله وحكمته وعظمته وسعة سلطانه وتمام عدله وفضله.
آية: 261 - 262 #
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}
# {261} هذا حث عظيم من الله لعباده في إنفاق أموالهم في سبيله، وهو طريقه الموصل إليه، فيدخل في هذا إنفاقه في ترقية العلوم النافعة، وفي الاستعداد للجهاد في سبيله، وفي تجهز المجاهدين وتجهيزهم، وفي جميع المشاريع الخيرية النافعة للمسلمين، ويلي ذلك الإنفاق على المحتاجين والفقراء والمساكين، وقد يجتمع الأمران فيكون في النفقة دفع الحاجات والإعانة على الخير والطاعات، فهذه النفقات مضاعفة هذه المضاعفة بسبعمائة إلى أضعاف أكثر من ذلك، ولهذا قال: {والله يضاعف لمن يشاء}؛ وذلك بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان والإخلاص التام وفي ثمرات نفقته ونفعها، فإن بعض طرق الخيرات يترتب على الإنفاق فيها منافع متسلسلة ومصالح متنوعة فكان الجزاء من جنس العمل.
# {262} ثم أيضاً ذكر ثواباً آخر للمنفقين أموالهم في سبيله نفقة صادرة مستوفية لشروطها منتفية موانعها، فلا يتبعون المنفق عليه، منًّا منهم عليه وتعداداً للنعم وأذية له قولية أو فعلية فهؤلاء {لهم أجرهم عند ربهم}؛ بحسب ما يعلمه منهم وبحسب نفقاتهم ونفعها وبفضله الذي لا تناله ولا تصل إليه صدقاتهم، {ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}؛ فنفى عنهم المكروه الماضي بنفي الحزن، والمستقبل بنفي الخوف عليهم فقد حصل لهم المحبوب واندفع عنهم المكروه.
آية: 263 #
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}
# {263} ذكر الله أربع مراتب للإحسان: المرتبة العليا: النفقة الصادرة عن نية صالحة ولم يتبعها المنفق منًّا ولا أذى. ثم يليها قول المعروف وهو الإحسان القولي بجميع وجوهه الذي فيه سرور المسلم، والاعتذار من السائل إذا لم يوافق عنده شيئاً، وغير ذلك من أقوال المعروف. والثالثة الإحسان بالعفو والمغفرة عمن أساء إليك بقول أو فعل. وهذان أفضل من الرابعة وخير منها وهي: التي يتبعها المتصدق الأذى للمعطي لأنه كدر إحسانه وفعل خيراً وشرًّا. فالخير المحض وإن كان مفضولاً خير من الخير الذي يخالطه شرٌّ وإن كان فاضلاً، وفي هذا التحذير العظيم لمن يؤذي من تصدق عليه كما يفعله أهل اللؤم والحمق والجهل، {والله}؛ تعالى {غني}؛ عن صدقاتهم وعن جميع عباده {حليم}؛ مع كمال غناه وسعة عطاياه يحلم عن العاصين، ولا يعاجلهم بالعقوبة بل يعافيهم، ويرزقهم، ويدر عليهم خيره، وهم مبارزون له بالمعاصي. ثم نهى أشد النهي عن المنِّ والأذى وضرب لذلك مثلاً:
آية: 264 - 266 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}
# {264 ـ 266} ضرب الله في هذه الآيات ثلاثة أمثلة: للمنفق ابتغاء وجهه ولم يتبع نفقته منًّا ولا أذى، ولمن أتبعها منًّا وأذى، وللمرائي. فأما الأول فإنه لما كانت نفقته مقبولة مضاعفة لصدورها عن الإيمان والإخلاص التام {ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم}؛ أي: ينفقون وهم ثابتون على وجه السماحة والصدق فمثل هذا العمل، {كمثل جنة بربوة}؛ وهو المكان المرتفع لأنه يتبين للرياح والشمس، والماء فيها غزير، فإن لم يصبها ذلك الوابل الغزير، حصل لها طلٌّ كافٍ لطيب منبتها وحسن أرضها وحصول جميع الأسباب الموفرة لنموها وازدهارها وإثمارها، ولهذا {آتت أكلها ضعفين}؛ أي: متضاعفاً، وهذه الجنة التي على هذا الوصف هي أعلى ما يطلبه الناس، فهذا العمل الفاضل بأعلى المنازل. وأما من أنفق لله ثم أتبع نفقته منًّا وأذى، أو عمل عملاً فأتى بمبطل لذلك العمل فهذا مثله مثال صاحب هذه الجنة، لكن سلط عليها {إعصار}؛ وهو الريح الشديدة {فيه نار فاحترقت}؛ وله ذرية ضعفاء وهو ضعيف قد أصابه الكبر، فهذه الحال من أفظع الأحوال، ولهذا صدَّر هذا المثل بقوله: {أيود أحدكم}؛ إلى آخرها بالاستفهام المتقرر عند المخاطبين فظاعته، فإن تَلَفَها دفعة واحدة بعد زهاء أشجارها وإيناع ثمارها مصيبة كبرى، ثم حصول هذه الفاجعة وصاحبها كبير قد ضعف عن العمل وله ذرية ضعفاء لا مساعدة منهم له ومؤنتهم عليه فاجعة أخرى، فصار صاحب هذا المثل الذي عمل لله ثم أبطل عمله بمنافٍ له يشبه حال صاحب الجنة التي جرى عليها ما جرى حين اشتدت ضرورته إليها. المثل الثالث الذي يرائي الناس وليس معه إيمان بالله ولا احتساب لثوابه حيث شبه قلبه بالصفوان وهو الحجر الأملس عليه تراب يظن الرائي أنه إذا أصابه المطر أنبت كما تنبت الأراضي الطيبة، ولكنه كالحجر الذي أصابه الوابل الشديد فأذهب ما عليه من التراب وتركه صلداً، وهذا مثل مطابق لقلب المرائي الذي ليس فيه إيمان بل هو قاسٍ لا يلين ولا يخشع، فهذا أعماله ونفقاته لا أصل لها تؤسس عليه ولا غاية لها تنتهي إليه، بل ما عمله فهو باطل لعدم شرطه. والذي قبله بطل بعد وجود الشرط لوجود المانع، والأول مقبول مضاعف لوجود شرطه الذي هو الإيمان والإخلاص والثبات وانتفاء الموانع المفسدة. وهذه الأمثال الثلاثة تنطبق على جميع العاملين، فليزن العبد نفسه وغيره بهذه الموازين العادلة والأمثال المطابقة {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.
آية: 267 - 268 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)}
# {267 ـ 268} يحث الباري عباده على الإنفاق مما كسبوا في التجارات، ومما أخرج لهم من الأرض من الحبوب والثمار، وهذا يشمل زكاة النقدين والعروض كلها المعدة للبيع والشراء والخارج من الأرض من الحبوب والثمار. ويدخل في عمومها الفرض والنفل، وأمر تعالى أن يقصدوا الطيب منها ولا يقصدوا الخبيث وهو الرديء الدون يجعلونه لله، ولو بذله لهم من لهم حق عليه لم يرتضوه، ولم يقبلوه إلا على وجه المغاضاة والإغماض، فالواجب إخراج الوسط من هذه الأشياء والكمال إخراج العالي، والممنوع إخراج الرديء فإن هذا لا يجزي عن الواجب، ولا يحصل فيه الثواب التام في المندوب. {واعلموا أن الله غني حميد}؛ فهو غني عن جميع المخلوقين، وهو الغني عن نفقات المنفقين وعن طاعات الطائعين، وإنما أمرهم بها وحثهم عليها لنفعهم ومحض فضله وكرمه عليهم، ومع كمال غناه وسعة عطاياه فهو الحميد فيما يشرعه لعباده من الأحكام الموصلة لهم إلى دار السلام، وحميد في أفعاله التي لا تخرج عن الفضل والعدل والحكمة، وحميد الأوصاف لأن أوصافه كلها محاسن وكمالات لا يبلغ العباد كنهها ولا يدركون وصفها. فلما حثهم على الإنفاق النافع نهاهم عن الإمساك الضار، وبين لهم أنهم بين داعيين: داعي الرحمن يدعوهم إلى الخير ويعدهم عليه الخير والفضل والثواب العاجل والآجل وإخلاف ما أنفقوا، وداعي الشيطان الذي يحثهم على الإمساك، ويخوفهم إن أنفقوا أن يفتقروا. فمن كان مجيباً لداعي الرحمن، وأنفق مما رزقه الله فليُبْشِر بمغفرة الذنوب وحصول كل مطلوب، ومن كان مجيباً لداعي الشيطان فإنه إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، فليختر العبد أي الأمرين أليق به. وختم الآية بأنه {واسع عليم}؛ أي واسع الصفات كثير الهبات عليم بمن يستحق المضاعفة من العاملين، وعليم بمن هو أهل فيوفقه لفعل الخيرات، وترك المنكرات.
آية: 269 #
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}
# {269} لما ذكر أحوال المنفقين للأموال، وأن الله أعطاهم، ومنَّ عليهم بالأموال التي يدركون بها النفقات في الطرق الخيرية، وينالون بها المقامات السنية، ذكر ما هو أفضل من ذلك وهو أنه يعطي الحكمة من يشاء من عباده، ومن أراد بهم خيراً من خلقه، والحكمة هي العلوم النافعة والمعارف الصائبة والعقول المسددة والألباب الرزينة وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وهذا أفضل العطايا وأجل الهبات، ولهذا قال: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}؛ لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها وحصول السداد، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم واستعد لنفع الخلق أعظم نفع في دينهم ودنياهم، وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء مواضعها وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام. ولكن ما يتذكر هذا الأمر العظيم وما يعرف قدر هذا العطاء الجسيم، {إلا أولو الألباب}؛ وهم أهل العقول الوافية والأحلام الكاملة، فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه والضار فيتركونه، وهذان الأمران وهما بذل النفقات المالية وبذل الحكمة العلمية أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله وأعلى ما وصلوا به إلى أجل الكرامات، وهما اللذان ذكرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يعلمها الناس».
آية: 270 - 271 #
{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
# {270 ـ 271} يخبر تعالى أنه مهما أنفق المنفقون أو تصدق المتصدقون أو نذر الناذرون فإن الله يعلم ذلك. ومضمون الإخبار بعلمه يدل على الجزاء وأن الله لا يضيع عنده مثقالُ ذرة، ويعلم ما صدرت عنه من نيات صالحة أو سيئة، وأن الظالمين الذين يمنعون ما أوجب الله عليهم، أو يقتحمون ما حرم عليهم، ليس لهم من دونه أنصار ينصرونهم ويمنعونهم. وأنه لا بد أن تقع بهم العقوبات، وأخبر أن الصدقة إن أبداها المتصدق فهي خير، وإن أخفاها وسلمها للفقير كان أفضل، لأن الإخفاء على الفقير إحسان آخر، وأيضاً فإنه يدل على قوة الإخلاص. وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله من تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وفي قوله: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}؛ فائدة لطيفة، وهو أن إخفاءها خير من إظهارها إذا أعطيت الفقير. فأما إذا صرفت في مشروع خيري لم يكن في الآية ما يدل على فضيلة إخفائها، بل هنا قواعد الشرع تدل على مراعاة المصلحة، فربما كان الإظهار خيراً لحصول الأسوة والاقتداء وتنشيط النفوس على أعمال الخير. وقوله: {ويكفر عنكم من سيئاتكم}؛ في هذا أن الصدقات يجتمع فيها الأمران: حصول الخير وهو كثرة الحسنات والثواب والأجر، ودفع الشرِّ والبلاء الدنيوي والأخروي بتكفير السيئات {والله بما تعملون خبير}؛ فيجازي كلا بعمله بحسب حكمته.
آية: 272 #
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)]}.
# {272} أي: إنما عليك أيها الرسول البلاغ وحث الناس على الخير وزجرهم عن الشرِّ، وأما الهداية فبيد الله تعالى. ويخبر عن المؤمنين حقاً أنهم لا ينفقون إلا لطلب مرضاة ربهم واحتساب ثوابه لأن إيمانهم يدعوهم إلى ذلك، فهذا خير وتزكية للمؤمنين، ويتضمن التذكير لهم بالإخلاص، وكرَّر علمه تعالى بنفقاتهم لإعلامهم أنه لا يضيع عنده مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجراً عظيماً.
آية: 273 - 274 #
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}
# {273} يعني أنه ينبغي أن تتحروا بصدقاتكم الفقراء الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله وعلى طاعته، وليس لهم إرادة في الاكتساب أو ليس لهم قدرة عليه وهم يتعففون إذا رآهم الجاهل ظن أنهم أغنياء {لا يسألون النّاس إلحافاً}؛ فهم لا يسألون بالكلية وإن سألوا اضطراراً لم يلحفوا في السؤال، فهذا الصنف من الفقراء أفضل ما وضعت فيهم النفقات لدفع حاجتهم وإعانة لهم على مقصدهم وطريق الخير وشكراً لهم على ما اتصفوا به من الصبر والنظر إلى الخالق لا إلى الخلق، ومع ذلك فالإنفاق في طرق الإحسان وعلى المحاويج حيثما كانوا فإنه خير وأجر وثواب عند الله ولهذا قال:
# {274} {الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}؛ فإن الله يظلهم بظله يوم لا ظل إلا ظله، وإن الله ينيلهم الخيرات ويدفع عنهم الأحزان والمخاوف والكريهات. وقوله: {فلهم أجرهم عند ربهم}؛ أي: كل أحد منهم بحسب حاله، وتخصيص ذلك بأنه عند ربهم يدل على شرف هذه الحال ووقوعها في الموقع الأكبر كما في الحديث الصحيح «إن العبد ليتصدق بالتمرة من كسب طيب فيتقبلها الجبار بيده فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فَلُوَّه حتى تكون مثل الجبل العظيم».
آية: 275 - 281 #
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}
# {275} لما ذكر الله حالة المنفقين وما لهم من الله من الخيرات وما يكفر عنهم من الذنوب والخطيئات ذكر الظالمين أهل الربا والمعاملات الخبيثة، وأخبر أنهم يجازون بحسب أعمالهم، فكما كانوا في الدنيا في طلب المكاسب الخبيثة كالمجانين عوقبوا في البرزخ والقيامة أنهم لا يقومون من قبورهم إلى يوم بعثهم ونشورهم {إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}؛ أي: من الجنون والصرع وذلك عقوبة وخزي وفضيحة لهم وجزاء لهم على مراباتهم ومجاهرتهم بقولهم: {إنما البيع مثل الربا}؛ فجمعوا ـ بجراءتهم ـ بين ما أحل الله وبين ما حرم الله واستباحوا بذلك الربا. ثم عرض تعالى التوبة على المرابين وغيرهم فقال: {فمن جاءه موعظة من ربه}؛ بيان مقرون به الوعد والوعيد {فانتهى}؛ عما كان يتعاطاه من الربا {فله ما سلف}؛ مما تجرأ عليه وتاب منه {وأمره إلى الله}؛ فيما يستقبل من زمانه فإن استمر على توبته، فالله لا يضيع أجر المحسنين. {ومن عاد}؛ بعد بيان الله وتذكيره وتوعده لأكل الربا {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}؛ في هذا أن الربا موجب لدخول النار والخلود فيها، وذلك لشناعته ما لم يمنع من الخلود مانع الإيمان، وهذا من جملة الأحكام التي تتوقف على وجود شروطها وانتفاء موانعها؛ وليس فيها حجة للخوارج كغيرها من آيات الوعيد، فالواجب أن تصدق جميع نصوص الكتاب والسنة فيؤمن العبد بما تواترت به النصوص من خروج من في قلبه أدنى مثقالِ حبة خردل من الإيمان من النار، ومن استحقاق هذه الموبقات لدخول النار إن لم يتب منها.
# {276} ثم أخبر تعالى أنه يمحق مكاسب المرابين ويربي صدقات المنفقين، عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق أن الإنفاق ينقص المال وأن الربا يزيده، فإن مادة الرزق وحصول ثمراته من الله تعالى، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره، فالمتجرئ على الربا يعاقبه بنقيض مقصوده، وهذا مشاهد بالتجربة ومن أصدق من الله قيلاً {والله لا يحب كل كفار أثيم}؛ وهو الذي كفر نعمة الله، وجحد منَّة ربه وأثم بإصراره على معاصيه. ومفهوم الآية أن الله يحب من كان شكوراً على النعماء تائباً من المآثم والذنوب. ثم أدخل هذه الآية بين آيات الربا وهي قوله:
# {277 ـ 279} {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة}؛ الآية لبيان أن أكبر الأسباب لاجتناب ما حرم الله من المكاسب الربوية تكميل الإيمان وحقوقه، خصوصاً إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة إحسان إلى الخلق ينافي تعاطي الربا الذي هو ظلم لهم وإساءة عليهم، ثم وجه الخطاب للمؤمنين وأمرهم أن يتقوه ويذروا ما بقي من معاملات الربا التي كانوا يتعاطونها قبل ذلك وأنهم إن لم يفعلوا ذلك فإنهم محارِبون لله ورسوله، وهذا من أعظم ما يدل على شناعة الربا حيث جعل المصرَّ عليه محارباً لله ورسوله، ثم قال: {وإن تبتم}؛ يعني من المعاملات الربوية {فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون}؛ الناس بأخذ الربا {ولا تظلمون}؛ ببخسكم رؤوس أموالكم، فكل من تاب من الربا فإن كانت معاملات سالفة فله ما سلف وأمره منظور فيه، وإن كانت معاملات موجودة وجب عليه أن يقتصر على رأس ماله، فإن أخذ زيادة فقد تجرأ على الربا. وفي هذه الآية بيان لحكمة الربا وأنه يتضمن الظلم للمحتاجين بأخذ الزيادة وتضاعف الربا عليهم وهو واجب إنظارهم، ولهذا قال:
# {280 ـ 281} {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة}؛ أي: وإن كان الذي عليه الدَّين معسراً لا يقدر على الوفاء وجب على غريمه أن يُنْظِره إلى ميسرة، وهو يجب عليه إذا حصل له وفاء بأي طريق مباح أن يوفي ما عليه، وإن تصدق عليه غريمه بإسقاط الدَّينِ كلِّه أو بعضه فهو خير له، ويهون على العبد التزام الأمور الشرعية واجتناب المعاملات الربوية والإحسان إلى المعسرين؛ عِلْمُه بأن له يوماً يرجع فيه إلى الله ويوفيه عمله ولا يظلمه مثقال ذرة. كما ختم هذه الآية بقوله: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}؛ ثم قال تعالى:
آية: 282 - 283 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}.
# {282} احتوت هذه الآيات على إرشاد الباري عباده في معاملاتهم إلى حفظ حقوقهم بالطرق النافعة والإصلاحات التي لا يقترح العقلاء أعلى ولا أكمل منها فإن فيها فوائد كثيرة: منها: جواز المعاملات في الديون سواء كانت ديون سلم أو شراء مؤجلاً ثمنه فكله جائز، لأن الله أخبر به عن المؤمنين، وما أخبر به عن المؤمنين فإنه من مقتضيات الإيمان وقد أقرهم عليه الملك الديان. ومنها: وجوب تسمية الأجل في جميع المداينات وحلول الإجارات. ومنها: أنه إذا كان الأجل مجهولاً فإنه لا يحل لأنه غرر وخطر فيدخل في الميسر. ومنها: أمره تعالى بكتابة الديون، وهذا الأمر قد يجب إذا وجب حفظ الحق كالذي للعبد عليه ولاية، كأموال اليتامى والأوقاف والوكلاء والأمناء، وقد يقارب الوجوب كما إذا كان الحق متمحضاً للعبد فقد يقوى الوجوب وقد يقوى الاستحباب، بحسب الأحوال المقتضية لذلك، وعلى كل حال فالكتابة من أعظم ما تحفظ به هذه المعاملات المؤجلة لكثرة النسيان ولوقوع المغالطات، وللاحتراز من الخونة الذين لا يخشون الله تعالى. ومنها: أمره تعالى للكاتب أن يكتب بين المتعاملين بالعدل فلا يميل مع أحدهما لقرابة ولا غيرها ولا على أحدهما لعداوة ونحوها. ومنها: أن الكتابة بين المتعاملين من أفضل الأعمال ومن الإحسان إليهما، وفيها حفظ حقوقهما وبراءة ذممهما كما أمره الله بذلك فليحتسب الكاتب بين الناس هذه الأمور ليحظى بثوابها. ومنها: أن الكاتب لا بد أن يكون عارفاً بالعدل معروفاً بالعدل، لأنه إذا لم يكن عارفاً بالعدل لم يتمكن منه، وإذا لم يكن معتبراً، عدلاً عند الناس، رضياً، لم تكن كتابته معتبرة، ولا حاصلاً بها المقصود الذي هو حفظ الحقوق. ومنها: أن من تمام الكتابة والعدل فيها أن يحسن الكاتب الإنشاء والألفاظ المعتبرة في كل معاملة بحسبها، وللعرف في هذا المقام اعتبار عظيم. ومنها: أن الكتابة من نعم الله على العباد التي لا تستقيم أمورهم الدينية ولا الدنيوية إلا بها، وأن من علَّمه الله الكتابة فقد تفضل عليه بفضل عظيم، فمن تمام شكره لنعمة الله تعالى أن يقضي بكتابته حاجات العباد ولا يمتنع من الكتابة ولهذا قال: {ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله}. ومنها: أن الذي يكتبه الكاتب هو اعتراف من عليه الحق إذا كان يحسن التعبير عن الحق الذي عليه، فإن كان لا يحسن ذلك لصغره أو سفهه أو جنونه أو خرسه أو عدم استطاعته، أملى عنه وليه، وقام وليه في ذلك مقامه. ومنها: أن الاعتراف من أعظم الطرق التي تُثبَت بها الحقوق حيث أمر الله تعالى أن يكتب الكاتب ما أملى عليه من عليه الحق. ومنها: ثبوت الولاية على القاصرين من الصغار والمجانين والسفهاء ونحوهم. ومنها: أن الولي يقوم مقام موليه في جميع اعترافاته المتعلقة بحقوقه. ومنها: أن من أمنته في معاملة وفوضته فيها فقوله في ذلك مقبول وهو نائب منابك، لأنه إذا كان الولي على القاصرين ينوب منابهم، فالذي وليته باختيارك وفوضت إليه الأمر أولى بالقبول واعتبار قوله وتقديمه على قولك عند الاختلاف. ومنها: أنه يجب على الذي عليه الحق إذا أملى على الكاتب أن يتقي الله ولا يبخس الحق الذي عليه فلا ينقصه في قدره ولا في وصفه ولا في شرط من شروطه أو قيد من قيوده، بل عليه أن يعترف بكل ما عليه من متعلقات الحق كما يجب ذلك إذا كان الحق على غيره له، فمن لم يفعل ذلك فهو من المطففين الباخسين. ومنها: وجوب الاعتراف بالحقوق الجلية والحقوق الخفية وأن ذلك من أعظم خصال التقوى، كما أن ترك الاعتراف بها من نواقض التقوى ونواقصها. ومنها: الإرشاد إلى الإشهاد في البيع فإن كانت في المداينات فحكمها حكم الكتابة كما تقدم، لأن الكتابة هي كتابة الشهادة، وإن كان البيع بيعاً حاضراً فينبغي الإشهاد فيه ولا حرج فيه بترك الكتابة لكثرته وحصول المشقة فيه. ومنها: الإرشاد إلى إشهاد رجلين عدلين فإن لم يمكن أو تعذر أو تعسر فرجل وامرأتان، وذلك شامل لجميع المعاملات، بيوع الإدارة وبيوع الديون وتوابعها من الشروط والوثائق وغيرها. وإذا قيل قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشاهد الواحد مع اليمين ، والآية الكريمة ليس فيها إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، قيل: الآية الكريمة فيها إرشاد الباري عباده إلى حفظ حقوقهم ولهذا أتى فيها بأكمل الطرق وأقواها، وليس فيها ما ينافي ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحكم بالشاهد واليمين، فباب حفظ الحقوق في ابتداء الأمر يرشد فيه العبد إلى الاحتراز والتحفظ التام، وباب الحكم بين المتنازعين ينظر فيه إلى المرجحات والبينات بحسب حالها. ومنها: أن شهادة المرأتين قائمة مقام الرجل الواحد في الحقوق الدنيوية وأما في الأمور الدينية كالرواية والفتوى فإن المرأة فيه تقوم مقام الرجل، والفرق ظاهر بين البابين. ومنها: الإرشاد إلى الحكمة في كون شهادة المرأتين عن شهادة الرجل وأنه لضعف ذاكرة المرأة غالباً وقوة حافظة الرجل. ومنها: أن الشاهد لو نسي شهادته فذكره الشاهد الآخر فذكر، أنه لا يضر ذلك النسيان إذا زال بالتذكير لقوله: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}؛ ومن باب أولى إذا نسي الشاهد ثم ذكر من دون تذكير، فإن الشهادة مدارها على العلم واليقين. ومنها: أن الشهادة لا بد أن تكون عن علم ويقين لا عن شكِّ، فمتى صار عند الشاهد ريب في شهادته ولو غلب على ظنه لم يحل له أن يشهد إلا بما يعلم. ومنها: أن الشاهد ليس له أن يمتنع إذا دعي للشهادة سواء دعي للتحمل أو للأداء وأن القيام بالشهادة من أفضل الأعمال الصالحة كما أمر الله بها وأخبر عن نفعها ومصالحها. ومنها: أنه لا يحل الإضرار بالكاتب ولا بالشهيد بأن يدعيا في وقت أو حالة تضرهما. وكما أنه نهي لأهل الحقوق والمتعاملين أن يضاروا الشهود والكتاب فإنه أيضاً نهي للكاتب والشهيد أن يضار المتعامليْن أو أحدهما. وفي هذا أيضاً أن الشاهد والكاتب إذا حصل عليهما ضرر في الكتابة والشهادة أنه يسقط عنهما الوجوب. وفيها: التنبيه على أن جميع المحسنين الفاعلين للمعروف لا يحل إضرارهم وتحميلهم ما لا يطيقون، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وكذلك على من أحسن وفعل معروفاً أن يتمم إحسانه بترك الإضرار القولي والفعلي بمن أوقع به المعروف، فإن الإحسان لا يتم إلا بذلك. ومنها: أنه لا يجوز أخذ الأجرة على الكتابة والشهادة حيث وجبت لأنه حق أوجبه الله على الكاتب والشهيد، ولأنه من مضارة المتعاملين. ومنها: التنبيه على المصالح والفوائد المترتبة على العمل بهذه الإرشادات الجليلة وأن فيها حفظ الحقوق والعدل وقطع التنازع والسلامة من النسيان والذهول ولهذا قال: {ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا}؛ وهذه مصالح ضرورية للعباد. ومنها: أن تعلم الكتابة من الأمور الدينية، لأنها وسيلة إلى حفظ الدين والدنيا وسبب للإحسان. ومنها: أن من خصه الله بنعمة من النعم يحتاج الناس إليها فمن تمام شكر هذه النعمة أن يعود بها على عباد الله وأن يقضي بها حاجاتهم لتعليل الله النهي عن الامتناع عن الكتابة بتذكير الكاتب بقوله: {كما علمه الله}؛ ومع هذا فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومنها: أن الإضرار بالشهود والكتاب فسوق بالإنسان، فإن الفسوق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته، وهو يزيد وينقص ويتبعض، ولهذا لم يقل فأنتم فساق أو فاسقون بل قال: {فإنه فسوق بكم}؛ فبقدر خروج العبد عن طاعة ربه فإنه يحصل به من الفسوق بحسب ذلك، واستدل بقوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله}؛ أن تقوى الله وسيلة إلى حصول العلم، وأوضح من هذا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً}؛ أي: علماً تفرقون به بين الحقائق والحق والباطل. ومنها: أنه كما أنه من العلم النافع تعليم الأمور الدينية المتعلقة بالعبادات فمنه أيضاً تعليم الأمور الدنيوية المتعلقة بالمعاملات، فإن الله تعالى حفظ على العباد أمور دينهم ودنياهم، وكتابه العظيم فيه تبيان كل شيء. ومنها: مشروعية الوثيقة بالحقوق وهي الرهون والضمانات التي تكفل للعبد حصول حقه سواء عامل برًّا أو فاجراً أميناً أو خائناً، فكم في الوثائق من حفظ حقوق وانقطاع منازعات. ومنها: أن تمام الوثيقة في الرهن أن يكون مقبوضاً، ولا يدل ذلك على أنه لا يصح الرهن إلا بالقبض بل التقييد بكون الرهن مقبوضاً يدل على أنه قد يكون مقبوضاً تحصل به الثقة التامة وقد لا يكون مقبوضاً فيكون ناقصاً. ومنها: أنه يستدل بقوله:
# {283} {فرهان مقبوضة}؛ أنه إذا اختلف الراهن والمرتهن في مقدار الدين الذي به الرهن أن القول قول المرتهن صاحب الحق لأن الله جعل الرهن وثيقة به فلولا أنه يقبل قوله في ذلك لم تحصل به الوثيقة لعدم الكتابة والشهود. ومنها: أنه يجوز التعامل بغير وثيقة ولا شهود لقوله: {فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي ائتمن أمانته}؛ ولكن في هذه الحال يحتاج إلى التقوى والخوف من الله وإلا فصاحب الحق مخاطر في حقه ولهذا أمر الله في هذه الحال من عليه الحق أن يتقي الله ويؤدي أمانته. ومنها: أن من ائتمنه معاملة فقد عمل معه معروفاً عظيماً ورضي بدينه وأمانته فيتأكد على من عليه الحق أداء الأمانة من الجهتين: أداء لحق الله وامتثالاً لأمره، ووفاء بحق صاحبه الذي رضي بأمانته ووثق به. ومنها: تحريم كتم الشهادة وأن كاتمها قد أثم قلبه الذي هو ملك الأعضاء، وذلك لأن كتمها كالشهادة بالباطل والزور فيها ضياع الحقوق وفساد المعاملات والإثم المتكرر في حقه وحق من عليه الحق. وأما تقييد الرهن بالسفر مع أنه يجوز حضراً وسفراً فللحاجة إليه لعدم الكاتب والشهيد. وختم الآية بأنه عليم بكل ما يعمله العباد كالترغيب لهم في المعاملات الحسنة والترهيب من المعاملات السيئة.
آية: 284 #
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}.
# {284} يخبر تعالى بعموم ملكه لأهل السماء والأرض وإحاطة علمه بما أبداه العباد وما أخفوه في أنفسهم، وأنه سيحاسبهم به {فيغفر لمن يشاء} وهو المنيب إلى ربه الأواب إليه، {إنه كان للأوابين غفوراً}؛ {ويعذب من يشاء} وهو المصر على المعاصي في باطنه وظاهره، وهذه الآية لا تنافي الأحاديث الواردة في العفو عما حدَّث به العبد نفسه ما لم يعمل أو يتكلم ، فتلك الخطرات التي تتحدث بها النفوس التي لا يتصف بها العبد ولا يصمم عليها، وأما هنا فهي العزائم المصممة والأوصاف الثابتة في النفوس، أوصاف الخير وأوصاف الشر، ولهذا قال: {ما في أنفسكم}؛ أي: استقر فيها وثبت من العزائم والأوصاف. وأخبر أنه {على كل شيء قدير}؛ فمن تمام قدرته محاسبة الخلائق وإيصال ما يستحقونه من الثواب والعقاب.
آية: 285 - 286 #
{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا {يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}.
# {285 ـ 286} ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن من قرأ هاتين الآيتين في ليلة كفتاه ؛ أي: من جميع الشرور، وذلك لما احتوتا عليه من المعاني الجليلة، فإن الله أمر في أول هذه السورة الناس بالإيمان بجميع أصوله في قوله: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا}؛ الآية، وأخبر في هذه الآية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين آمنوا بهذه الأصول العظيمة وبجميع الرسل وجميع الكتب، ولم يصنعوا صنيع من آمن ببعض وكفر ببعض كحالة المنحرفين من أهل الأديان المنحرفة. وفي قرن المؤمنين بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والإخبار عنهم جميعاً بخبر واحد شرف عظيم للمؤمنين، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - مشارك للأمة في توجه الخطاب الشرعي له وقيامه التام به وأنه فاق المؤمنين بل فاق جميع المرسلين في القيام بالإيمان وحقوقه. وقوله: {وقالوا سمعنا وأطعنا}؛ هذا التزام من المؤمنين عام لجميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة، وأنهم سمعوه سماع قبول وإذعان وانقياد. ومضمون ذلك تضرعهم إلى الله في طلب الإعانة على القيام به وأن الله يغفر لهم ما قصروا فيه من الواجبات وما ارتكبوه من المحرمات، وكذلك تضرعوا إلى الله في هذه الأدعية النافعة، والله تعالى قد أجاب دعاءهم على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: «قد فعلت». فهذه الدعوات مقبولة من مجموع المؤمنين قطعاً ومن أفرادهم إذا لم يمنع من ذلك مانع في الأفراد، وذلك أن الله رفع عنهم المؤاخذة في الخطأ والنسيان وأن الله سهل عليهم شرعه غاية التسهيل، ولم يحملهم من المشاق والآصار والأغلال ما حمله على من قبلهم، ولم يحملهم فوق طاقتهم، وقد غفر لهم ورحمهم ونصرهم على القوم الكافرين. فنسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته وبما منَّ به علينا من التزام دينه أن يحقق لنا ذلك وأن ينجز لنا ما وعدنا على لسان نبيه، وأن يصلح أحوال المؤمنين. ويؤخذ من هذا قاعدة التيسير ونفي الحرج في أمور الدين كلها، وقاعدة العفو عن النسيان والخطأ في العبادات وفي حقوق الله تعالى، وكذلك في حقوق الخلق من جهة رفع المأثم وتوجيه الذم، وأما وجوب ضمان المتلفات خطأً أو نسياناً في النفوس والأموال فإنه مرتب على الإتلاف بغير حق، وذلك شامل لحالة الخطأ والنسيان والعمد. تم تفسير سورة البقرة. ولله الحمد والثناء. وصلى الله على محمد وسلم.