تفسير سورة براءة ويقال سورة التوبة
تفسير سورة براءة ويقال سورة التوبة
وهي مدنية
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)}.
#
{1 ـ 2} أي: هذه
{براءةٌ من الله} ومن
{رسوله}: إلى جميع المشركين المعاهدين؛ أنَّ لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض على اختيارهم آمنين من المؤمنين، وبعد الأربعة الأشهر؛ فلا عهد لهم ولا ميثاق. وهذا لمن كان له عهدٌ مطلقٌ غير مقدَّر أو مقدرٌ بأربعة أشهر فأقل، أما من كان له عهد مقدَّر بزيادة على أربعة أشهر؛ فإنه يتعيَّن أن يتمَّم له عهده إذا لم يُخَفْ منه خيانة، ولم يبدأ بنقض العهد.
ثم أنذر المعاهَدين في مدة عهدهم أنَّهم وإن كانوا آمنين؛ فإنهم لن يعجِزوا الله ولن يفوتوه، وأنه من استمر منهم على شركه؛ فإنه لا بدَّ أن يخزيه، فكان هذا مما يجلبهم إلى الدخول في الإسلام إلا من عاند، وأصرَّ، ولم يبال بوعيد الله.
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)}.
#
{3} هذا ما وعد الله به المؤمنين من نصر دينه وإعلاء كلمته وخذلان أعدائهم من المشركين الذين أخرجوا الرسول ومَنْ معه من مكة من بيت الله الحرام وأجلَوْهم مما لهم التسلُّط عليه من أرض الحجاز؛ نصر اللهُ رسولَه والمؤمنين حتى افتتح مكة وأذلَّ المشركين وصار للمؤمنين الحكمُ والغَلَبَةُ على تلك الديار، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مؤذِّنه أن يؤذِّن يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر،
وقت اجتماع الناس مسلمهم وكافرهم من جميع جزيرة العرب: أن يؤذِّن بأنَّ الله بريءٌ ورسوله من المشركين؛ فليس لهم عنده عهدٌ وميثاقٌ؛ فأينما وُجِدوا قُتِلوا،
وقيل لهم: لا تقربوا المسجد الحرام بعد عامكم هذا! وكان ذلك سنة تسع من الهجرة، وحجَّ بالناس أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأذَّن ببراءة يوم النحر ابنُ عمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ثم رغَّب تعالى المشركين بالتوبة ورهَّبهم من الاستمرار على الشرك،
فقال: {فإن تُبْتُم فهو خيرٌ لكم وإن تولَّيْتم فاعلموا أنَّكم غير معجزي الله}؛
أي: فائتيه، بل أنتم في قبضته، قادر أن يسلط عليكم عباده المؤمنين.
{وبشر الذين كفروا بعذاب أليم}؛
أي: مؤلم مفظع في الدنيا بالقتل والأسر والجلاء وفي الآخرة بالنار وبئس القرار.
{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}.
#
{4} أي: هذه البراءة التامَّة المطلقة من جميع المشركين،
{إلَّا الذين عاهَدْتم من المشركين}: واستمرُّوا على عهدهم، ولم يجرِ منهم ما يوجبُ النقضَ؛ فلا نَقَصوكم شيئاً، ولا عاونوا عليكم أحداً؛ فهؤلاء أَتِمُّوا إليهم عهدهم إلى مدتهم قلَّت أو كثرت؛ لأنَّ الإسلام لا يأمر بالخيانة، وإنما يأمر بالوفاء.
{إنَّ الله يحبُّ المتَّقين}: الذين أدَّوْا ما أمروا به، واتَّقوا الشرك والخيانة وغير ذلك من المعاصي.
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.
#
{5} يقول تعالى:
{فإذا انسلخَ الأشهرُ الحُرُم}؛
أي: التي حُرِّم فيها قتال المشركين المعاهَدين، وهي أشهر التَّسْيير الأربعة، وتمام المدة لمن له مدة أكثر منها؛ فقد برِئَت منهم الذمة.
{فاقتُلوا المشركين حيث وجدتموهم}: في أيِّ مكان وزمان،
{وخذوهم}: أسرى،
{واحصُروهم}؛
أي: ضيِّقوا عليهم؛ فلا تَدَعوهم يتوسَّعون في بلاد الله وأرضه التي جعلها الله معبداً لعباده؛ فهؤلاء ليسوا أهلاً لسُكناها، ولا يستحقُّون منها شبراً؛ لأنَّ الأرض أرض الله، وهم أعداؤه المنابذون له ولرسله، المحاربون الذين يريدون أن تخلو الأرض من دينه، ويأبى الله إلاَّ أن يُتِمَّ نورَه ولو كره الكافرون.
{واقعُدوا لهم كلَّ مرصدٍ}؛
أي: كلَّ ثنيَّة وموضع يمرُّون عليه، ورابطوا في جهادهم، وابذلوا غاية مجهودكم في ذلك، ولا تزالوا على هذا الأمر حتى يتوبوا من شركهم.
ولهذا قال: {فإن تابوا}: من شركهم،
{وأقاموا الصَّلاة}؛
أي: أدَّوها بحقوقها،
{وآتوا الزكاةَ}: لمستحقيها،
{فَخلُّوا سبيلَهم}؛
أي: اتركوهم، وليكونوا مثلكم لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم.
{إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ}: يغفر الشرك فما دونه للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة ثم قبولها منهم.
وفي هذه الآية دليل على أن من امتنع من أداء الصلاة أو الزكاة؛ فإنه يقاتَل حتَّى يؤديها؛ كما استدلَّ بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)}.
#
{6} لما كان ما تقدَّم من قوله:
{فإذا انسلخ الأشهرُ الحُرُم فاقتُلوا المشركين حيث وجدتموهم وخُذوهم واحصُروهم واقعُدوا لهم كلَّ مرصد}: أمراً عامًّا في جميع الأحوال وفي كلِّ الأشخاص منهم؛ ذكر تعالى أن المصلحة إذا اقتضت تقريب بعضهم؛ جاز، بل وجب ذلك،
فقال: {وإنْ أحدٌ من المشركين استجارَكَ}؛
أي: طلب منك أن تجيره وتمنعه من الضَّرر لأجل أن يسمع كلام الله وينظر حالة الإسلام،
{فأجِرْه حتَّى يسمعَ كلام الله}: ثم إنْ أسلم؛ فذاك، وإلاَّ؛ فأبلِغْه مأمَنَه؛
أي: المحل الذي يأمن فيه.
والسبب في ذلك أن الكفار قومٌ لا يعلمون؛ فربَّما كان استمرارُهم على كفرهم لجهل منهم إذا زال اختاروا عليه الإسلام؛ فلذلك أمر الله رسوله. وأمَّتُه أسوتُه في الأحكام أن يجيروا من طَلَبَ أن يسمع كلام الله.
وفي هذا حجةُ صريحةٌ لمذهب أهل السنة والجماعة، القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ لأنَّه تعالى هو المتكلِّم به، وأضافه إلى نفسه إضافة الصفة إلى موصوفها، وبطلان مذهب المعتزلة ومن أخذ بقولهم أنَّ القرآن مخلوقٌ، وكم من الأدلَّة الدالَّة على بطلان هذا القول، ليس هذا محل ذكرها!
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}.
#
{7} هذا بيانٌ للحكمة الموجبة لأن يتبرَّأ الله ورسوله من المشركين،
فقال: {كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله}: هل قاموا بواجب الإيمان؟ أم تركوا رسول الله والمؤمنين من أذيتهم؟ أَمَا حاربوا الحقَّ ونصروا الباطل؟! أَمَا سَعَوْا في الأرض فساداً؟! فيحقُّ لهم أن يتبرَّأ الله منهم، وأن لا يكون لهم عهدٌ عنده ولا عند رسوله.
{إلَّا الذين عاهدتم}: من المشركين
{عند المسجد الحرام}: فإنَّ لهم في العهد ـ وخصوصاً في هذا المكان الفاضل ـ حرمة أوجب أن يراعوا فيها،
{فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحبُ المتَّقين}.
ولهذا قال:
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}.
#
{8} أي:
{كيف}: يكون للمشركين عند الله عهدٌ وميثاقٌ.
{و}: الحال أنَّهم
{إن يظهروا عليكم}: بالقدرة والسلطة لا يرحموكم. و
{لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذِمَّة}؛
أي: لا ذمة ولا قرابة، ولا يخافون الله فيكم، بل يسومونكم سوء العذاب؛ فهذه حالكم معهم لو ظهروا، ولا يغرَّنَّكم منهم ما يعاملونكم به وقت الخوف منكم؛ فإنهم
{يُرضونكم بأفواهِهِم وتأبى قلوبُهم}: الميل والمحبَّة لكم، بل هم الأعداء حقًّا، المبغضون لكم صدقاً.
{وأكثرهم فاسقون}: لا ديانة لهم ولا مروءة.
#
{9} {اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً}؛
أي: اختاروا الحظَّ العاجل الخسيس في الدنيا على الإيمان بالله ورسوله والانقياد لآيات الله،
{فصدُّوا}: بأنفسهم وصدُّوا غيرهم
{عن سبيله إنَّهم ساء ما كانوا يعملون}.
#
{10} {لا يَرْقُبون في مؤمن إلا ولا ذمَّةً}؛
أي: لأجل عداوتهم للإيمان وأهله؛ فالوصف الذي جعلهم يعادونكم لأجله ويبغضونكم هو الإيمان.
#
{11} فَذُبُّوْا عن دينكم وانصُروه واتَّخذوا مَن عاداه عدوًّا ومَن نَصَره لكم وليًّا واجعلوا الحكم يدور معه وجوداً وعدماً، لا تجعلوا الولاية والعداوة طَبْعِيَّةً تميلون بهما حيثما مال الهوى وتتَّبعون فيها النفس الأمَّارة بالسوء، ولهذا
[إنْ] {تابوا}: عن شركهم ورجعوا إلى الإيمان،
{وأقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}: وتناسَوْا تلك العداوة إذ كانوا مشركين؛ لتكونوا عباد الله المخلصين، وبهذا يكون العبد عبداً حقيقةً. لمَّا بيَّن من أحكامه العظيمة ما بيَّن، ووضَّح منها ما وضَّح أحكاماً وحكَماً وحُكْماً وحِكمةً؛
قال: {ونفصِّل الآيات}؛
أي: نوضحها ونميزها
{لقوم يعلمون}: فإليهم سياق الكلام، وبهم تُعرف الآيات والأحكام، وبهم عُرف دين الإسلام وشرائع الدين. اللهمَّ اجعلنا من القوم الذين يعلمون ويعملون بما يعلمون برحمتك وجودك وكرمك وإحسانك يا رب العالمين!
{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}.
#
{12} يقول تعالى بعدما ذكر أنَّ المعاهدين من المشركين إن استقاموا على عهدهم فاستقيموا لهم على الوفاء:
{وإن نَكَثوا أيمانَهم من بعد عهِدهم}؛
أي: نقضوها وحلُّوها؛ فقاتلوكم أو أعانوا على قتالكم أو نقصوكم،
{وطعنوا في دينكم}؛
أي: عابوه وسخروا منه، ويدخُل في هذا جميع أنواع الطعن الموجَّهة إلى الدين أو إلى القرآن،
{فقاتِلوا أئمَّة الكفر}؛
أي: القادة فيه، الرؤساء الطاعنين في دين الرحمن، الناصرين لدين الشيطان. وخصَّهم بالذكر لعظم جنايتهم ولأنَّ غيرهم تَبَعٌ لهم، وليدلَّ على أن مَن طَعَنَ في الدين، وتصدَّى للردِّ عليه فإنه من أئمة الكفر.
{إنهم لا أيْمانَ لهم}؛
أي: لا عهود ولا مواثيق يلازمون على الوفاء بها، بل لا يزالون خائنين ناكثين للعهد لا يوثق منهم.
{لعلَّهم}: في قتالكم إياهم
{ينتهونَ}: عن الطعن في دينكم، وربما دخلوا فيه.
#
{13} ثم حثَّ على قتالهم وهيَّج المؤمنين بذكر الأوصاف التي صدرت من هؤلاء الأعداء، والتي هم موصوفون بها، المقتضية لقتالهم،
فقال: {ألا تقاتلون قوماً نَكَثوا أيْمانهم وهَمُّوا بإخراج الرسول}: الذي يجب احترامه وتوقيره وتعظيمه، وهمُّوا أن يجلوه ويخرجوه من وطنه، وسعوا في ذلك ما أمكنهم،
{وهم بدؤوكم أول مرة}: حيث نقضوا العهود، وأعانوا عليكم وذلك حيث أعانت قريش وهم معاهدون بني بكرٍ حلفاءهم على خزاعة حلفاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقاتلوا معهم كما هو مذكورٌ مبسوطٌ في السيرة.
{أتخشَوْنَهم}: في ترك قتالهم؟
{فالله أحقُّ أن تَخْشَوْه إن كنتم مؤمنين}: فالله أمركم بقتالهم، وأكَّد ذلك عليكم غاية التأكيد؛ فإن كنتم مؤمنين؛ فامتثلوا لأمر الله، ولا تخشوهم فتتركوا أمر الله.
#
{14} ثم أمر بقتالهم،
وذكر ما يترتب على قتالهم من الفوائد وكل هذا حثٌّ وإنهاضٌ للمؤمنين على قتالهم فقال: {قاتلوهم يعذِّبْهم اللهُ بأيديكم}: بالقتل،
{ويُخْزِهِم}: إذا نصركم الله عليهم، وهم الأعداء الذين يطلب خزيهم ويحرص عليه،
{ويَنصُرْكم عليهم}: هذا وعدٌ من الله وبشارةٌ قد أنجزها،
{ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين}.
#
{15} {ويُذْهِبْ غيظَ قلوبِهم}: فإنَّ في قلوبهم من الحنق والغيظ عليهم ما يكون قتالهم وقتلُهم شفاءً لما في قلوب المؤمنين من الغمِّ والهمِّ؛ إذ يَرَوْن هؤلاء الأعداء محاربين لله ولرسوله، ساعين في إطفاء نور الله، وزوالاً للغيظ الذي في قلوبكم. وهذا يدلُّ على محبة الله للمؤمنين ، واعتنائه بأحوالهم، حتى إنه جعل من جملة المقاصد الشرعيَّة شفاء ما في صدورهم وذهاب غيظهم.
ثم قال: {ويتوبُ الله على مَن يشاء}: من هؤلاء المحاربين؛ بأن يوفِّقهم للدخول في الإسلام ويزيِّنه في قلوبهم ويكرِّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
{والله عليمٌ حكيمٌ}: يضع الأشياء مواضعها، ويعلم من يصلُحُ للإيمان فيهديه، ومن لا يصلُحُ فيبقيه في غيِّه وطغيانه.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}.
#
{16} يقول تعالى لعباده المؤمنين بعدما أمرهم بالجهاد:
{أم حسبتُم أن تُتْرَكوا}: من دون ابتلاء وامتحان وأمر بما يَبينُ به الصادقُ والكاذب،
{ولما يَعْلَمِ اللهُ الذين جاهدوا منكم}؛
أي: علماً يظهر مما في القوة إلى الخارج؛ ليترتَّب عليه الثواب والعقاب، فيعلم الذين يجاهدون في سبيله لإعلاء كلمته،
{ولم يتَّخذوا من دون الله ولا رسولِهِ ولا المؤمنينَ وَليجةً}؛
أي: وليًّا من الكافرين، بل يتَّخذون الله ورسوله والمؤمنين أولياء. فشرع الله الجهادَ ليحصُلَ به هذا المقصود الأعظم، وهو أن يتميَّزَ الصادقون الذين لا يتحيَّزون إلاَّ لدين الله من الكاذبين الذين يزعمون الإيمان وهم يتَّخذون الولائج والأولياء من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين.
{والله خبيرٌ بما تعملون}؛
أي: يعلم ما يصير منكم ويصدر، فيبتليكم بما يظهر به حقيقة ما أنتم عليه، ويجازيكم على أعمالكم خيرها وشرِّها.
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}.
#
{17} يقول تعالى:
{ما كان}؛
أي: ما ينبغي، ولا يليق
{للمشركين أن يَعْمُروا مساجد الله}: بالعبادة والصلاة وغيرها من أنواع الطاعات، والحالُ أنهم شاهدون ومقرُّون على أنفسهم بالكفر بشهادة حالهم وفِطرهم وعِلْمِ كثيرٍ منهم أنهم على الكفر والباطل؛ فإذا كانوا
{شاهدين على أنفسهم بالكفر} وعدم الإيمان الذي هو شرط لقَبول الأعمال؛ فكيف يزعُمون أنهم عمارُ مساجد الله؛ والأصل منهم مفقودٌ والأعمال منهم باطلةٌ؟
! ولهذا قال: {أولئك حَبِطَتْ أعمالهم}؛
أي: بطلت وضلت.
{وفي النار هم خالدون}.
#
{18} ثم ذكر من هم عُمَّار مساجد الله،
فقال: {إنَّما يَعْمُرُ مساجدَ الله مَن آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة}: الواجبة والمستحبَّة بالقيام بالظَّاهر منها والباطن،
{وآتى الزكاة}: لأهلها،
{ولم يَخْشَ إلا الله}؛
أي: قَصَرَ خشيته على ربِّه، فكفَّ عن ما حرَّم الله، ولم يقصِّر بحقوق الله الواجبة؛ فوصفهم بالإيمان النافع، وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة، وبخشية الله التي هي أصل كلِّ خير؛ فهؤلاء عُمَّار المساجد على الحقيقة وأهلُها الذين هم أهلها.
{فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}: و
{عسى} من الله واجبةٌ، وأما مَن لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا عنده خشيةٌ لله؛ فهذا ليس من عمار مساجد الله ولا من أهلها الذين هم أهلُها، وإن زعم ذلك وادَّعاه.
{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}.
#
{19} لما اختلف بعضُ المسلمين أو بعضُ المسلمين وبعضُ المشركين في تفضيل عِمارة المسجد الحرام بالبناء والصلاة والعبادة فيه وسقاية الحاجِّ على الإيمان بالله والجهاد في سبيله؛ أخبر الله تعالى بالتفاوتِ بينهما،
فقال: {أجعلتُم سِقايةَ الحاجِّ}؛
أي: سقيهم الماء من زمزم؛ كما هو المعروف إذا أطلق هذا الاسم أنه المراد،
{وعِمارةَ المسجدِ الحرام كمن آمَنَ بالله واليوم الآخر وجاهَدَ في سبيل الله لا يستوون عند الله}: فالجهادُ والإيمان بالله أفضلُ من سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام بدرجاتٍ كثيرةٍ؛ لأنَّ الإيمان أصلُ الدين وبه تُقبل الأعمال وتزكو الخصال، وأمَّا الجهاد في سبيل الله؛ فهو ذروة سنام الدين،
[الذي] به يُحفظ الدين الإسلامي ويتَّسع، ويُنْصَر الحقُّ ويُخْذَل الباطل، وأمَّا عِمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجِّ؛ فهي، وإن كانت أعمالاً صالحةً؛ فهي متوقِّفة على الإيمان، وليس فيها من المصالح ما في الإيمان والجهاد؛
فلذلك قال: {لا يستوونَ عند الله واللهُ لا يَهْدي القوم الظالمين}؛
أي: الذين وَصْفُهُمُ الظلمُ، الذين لا يَصْلُحون لقبول شيء من الخير، بل لا يليق بهم إلا الشرُّ.
#
{20} ثم صرح بالفضل فقال:
{الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم}: بالنفقة في الجهاد وتجهيز الغزاة،
{وأنفسهم}: بالخروج بالنفس،
{أعظمُ درجةً عند الله وأولئك هم الفائزون}؛
أي: لا يفوز بالمطلوب، ولا ينجو من المرهوب إلاَّ مَنْ اتَّصف بصفاتهم، وتخلَّق بأخلاقهم.
#
{21} {يبشِّرُهم ربُّهم}: رحمةً منه وكرماً وبرًّا بهم واعتناء ومحبة لهم،
{برحمة منه}: أزال بها عنهم الشرور، وأوصل إليهم بها كلَّ خير،
{ورضوانٍ}: منه تعالى عليهم، الذي هو أكبر نعيم الجنة وأجلُّه، فيُحِلُّ عليهم رضوانه؛ فلا يسخط عليهم أبداً،
{وجناتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيمٌ}: من كلِّ ما اشتهته الأنفس وتَلَذُّ الأعين مما لا يَعْلَمُ وصفَه ومقداره إلا الله تعالى، الذي منه أنَّ الله أعدَّ للمجاهدين في سبيله مائة درجةٍ، ما بين كلِّ درجتين كما بين السماء والأرض، ولو اجتمع الخلقُ في درجةٍ واحدةٍ منها؛ لَوَسِعَتْهم.
#
{22} {خالدين فيها أبداً}: لا ينتقلون عنها ولا يبغون عنها حِوَلاً.
{إنَّ الله عندَه أجرٌ عظيمٌ}: لا تُستغرب كثرتُه على فضل الله، ولا يُتَعَجَّب من عظمه وحسنه على من يقول للشيء كن فيكون.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}.
#
{23} يقول تعالى:
{يا أيُّها الذين آمنوا}: اعملوا بمقتضى الإيمان؛ بأن توالوا من قام به وتعادوا من لم يَقُم به. و
{لا تتَّخذوا آباءكم وإخوانكم}: الذين هم أقرب الناس إليكم، وغيرهم من باب أولى وأحرى؛ فلا تتَّخذوهم
{أولياء إن استحبُّوا}؛
أي: اختاروا على وجه الرِّضا والمحبَّة،
{الكفر على الإيمان ومَن يتولَّهم منكم فأولئك هم الظالمون}: لأنَّهم تجرَّؤوا على معاصي الله، واتَّخذوا أعداء الله أولياء، وأصلُ الولاية المحبَّة والنُّصرة، وذلك أنَّ اتِّخاذهم أولياء موجب لتقديم طاعتهم على طاعة الله ومحبتهم على محبة الله ورسوله.
#
{24} ولهذا ذكر السبب الموجب لذلك، وهو أن محبَّة الله ورسوله يتعيَّن تقديمهُما على محبَّة كلِّ شيء، وجعلُ جميع الأشياء تابعةً لهما،
فقال: {قلْ إن كان آباؤكم}: ومثلهم الأمهات،
{وإخوانُكم}: في النسب والعشرة،
{وأزواجكم وعشيرتكم}؛
أي: قراباتكم عموماً،
{وأموالٌ اقْتَرَفْتُموها}؛
أي: اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها، خصَّها بالذِّكر لأنها أرغب عند أهلها، وصاحبها أشدُّ حرصاً عليها ممَّن تأتيه الأموال من غير تعبٍ ولا كدٍّ.
{وتجارةٌ تخشَوْن كسادها}؛
أي: رخصها ونقصها، وهذا شاملٌ لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات من الأثمان والأواني والأسلحة والأمتعة والحبوب والحروث والأنعام وغير ذلك.
{ومساكنُ ترضَوْنَها}: من حُسِنها وزخرفتها وموافقتها لأهوائكم؛ فإن كانت هذه الأشياء
{أحبَّ إليكم من الله ورسولِهِ وجهادٍ في سبيله}: فأنتم فَسَقَةٌ ظَلَمَةٌ،
{فتربَّصوا}؛
أي: انتظروا ما يَحِلُّ بكم من العقاب،
{حتَّى يأتيَ الله بأمره}: الذي لا مَرَدَّ له.
{والله لا يهدي القوم الفاسقين}؛
أي: الخارجين عن طاعة الله، المقدِّمين على محبَّة الله شيئاً من المذكورات.
وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبَّة الله ورسوله، وعلى تقديمهما على محبَّة كلِّ شيء، وعلى الوعيد الشديد والمَقت الأكيد على مَنْ كان شيءٌ من
[هذه] المذكورات أحبَّ إليه من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله،
وعلامة ذلك أنَّه إذا عرض عليه أمران: أحدُهما يحبُّه الله ورسوله وليس لنفسه فيه هوىً. والآخرُ تحبُّه نفسه وتشتهيه ولكنَّه يفوِّت عليه محبوباً لله ورسوله أو ينقصه؛ فإنَّه إن قدم ما تهواه نفسه على ما يحبُّه الله؛ دلَّ على أنه ظالمٌ تاركٌ لما يجب عليه.
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)}.
يمتنُّ تعالى على عباده المؤمنين بنصره إياهم في مواطن كثيرةٍ من مواطن اللقاء ومواضع الحروب والهيجاء، حتى في يوم حُنين الذي اشتدَّت عليهم فيه الأزمةُ ورأوا من التخاذل والفرار ما ضاقتْ عليهم به الأرضُ على رُحْبها وسَعَتها، وذلك أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة؛ سمع أنَّ هوازِنَ اجتمعوا لحربِهِ، فسار إليهم - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه الذين فتحوا مكة وبمَنْ أسلم من الطُّلقاء أهل مكة، فكانوا اثني عشر ألفاً، والمشركون أربعة آلاف، فأُعْجِبَ بعض المسلمين بكثرتهم، وقال بعضهم: لن نغلبَ اليوم من قلَّة، فلما التَقَوْا هم وهوازن؛ حملوا على المسلمين حملةً واحدةً، فانهزموا لا يلوي أحدٌ على أحدٍ، ولم يبقَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نحو مائة رجل ثبتوا معه، وجعلوا يقاتلون المشركين، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يُرَكِّضُ بغلته نحو المشركين ويقول: «أنا النبيُّ لا كَذِبْ أنا ابن عبد المطَّلِبْ». ولما رأى من المسلمين ما رأى؛ أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار وبقيَّة المسلمين، وكان رفيعَ الصوت، فناداهم: يا أصحابَ السَّمُرة! يا أهل سورةِ البقرة! فلما سمعوا صوتَه؛ عطفوا عطفة رجل واحدٍ، فاجتلدوا مع المشركين، فهزم الله المشركين هزيمةً شنيعةً، واستولَوْا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم.
#
{25} وذلك قوله تعالى:
{لقد نَصَرَكم الله في مواطنَ كثيرةٍ ويومَ حنينٍ}: وهو اسمٌ للمكان الذي كانت فيه الوقعة بين مكة والطائف،
{إذ أعجبتْكم كثرتُكم فلم تُغْنِ عنكم شيئاً}؛
أي: لم تفِدْكم شيئاً قليلاً ولا كثيراً،
{وضاقت عليكم الأرض}: ـ بما أصابكم من الهمِّ والغمِّ حين انهزمتم ـ
{بما رَحُبَتْ}؛
أي: على رُحْبها وسَعَتها،
{ثم ولَّيْتم مدبرينَ}؛
أي: منهزمين.
#
{26} {ثم أنزل الله سكينَتَه على رسوله وعلى المؤمنين}: والسكينةُ: ما يجعله الله في القلوب وقتَ القلاقل والزلازل والمُفْظِعات مما يثبِّتها ويسكِّنها ويجعلها مطمئنةً، وهي من نعم الله العظيمة على العباد،
{وأنزل جنوداً لم تَرَوْها}: وهم الملائكةُ، أنزلهم الله معونةً للمسلمين يوم حنين يثبِّتونهم ويبشِّرونهم بالنصر،
{وعذَّب الذين كفروا}: بالهزيمة والقتل واستيلاء المسلمين على نسائهم وأولادهم وأموالهم.
{وذلك جزاء الكافرين}: يعذِّبهم الله في الدنيا، ثم يردُّهم في الآخرة إلى عذاب غليظ.
#
{27} {ثم يتوبُ الله من بعد ذلك على من يشاءُ}: فتاب الله على كثيرٍ ممَّن كانت الوقعة عليهم، وأتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلمين تائبين، فردَّ عليهم نساءهم وأولادهم.
{والله غفورٌ رحيمٌ}؛
أي: ذو مغفرةٍ واسعةٍ ورحمةٍ عامةٍ، يعفو عن الذنوب العظيمة للتائبين، ويرحمهم بتوفيقهم للتوبة والطاعة والصفح عن جرائمهم وقَبول توباتهم، فلا ييأسنَّ أحدٌ من رحمته ومغفرته، ولو فعل من الذنوب والإجرام ما فعل.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}.
#
{28} يقول تعالى:
{يا أيُّها الذين آمنوا إنما المشركون}: بالله، الذين عبدوا معه غيره
{نَجَسٌ}؛
أي: خبثاء في عقائدهم وأعمالهم، وأيُّ نجاسة أبلغُ ممَّن كان يعبد مع الله آلهةً لا تنفع ولا تضرُّ ولا تغني عنه شيئاً، وأعمالهم ما بين محاربةٍ لله وصدٍّ عن سبيل الله ونصرٍ للباطل وردٍّ للحق وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح؟! فعليكم أن تطهِّروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم؛
{فلا يقرَبوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}: وهو سنة تسع من الهجرة، حين حجَّ بالناس أبو بكر الصديق، وبعث النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابن عمه عليًّا أن يؤذِّن يوم الحجِّ الأكبر ببراءة، فنادى أن لا يحجَّ بعد العام مشركٌ ولا يطوف بالبيت عُريانٌ. وليس المراد هنا نجاسةَ البدن؛ فإن الكافر كغيره طاهر البدن؛ بدليل أن الله تعالى أباح وطء الكتابيَّة ومباشرتها، ولم يأمر بغسل ما أصاب منها ، والمسلمون ما زالوا يباشرون أبدان الكفَّار، ولم يُنْقَل عنهم أنهم تقذَّروا منها تقذُّرهم من النجاسات، وإنما المراد كما تقدَّم نجاستهم المعنويَّة بالشرك؛ فكما أن التوحيد والإيمان طهارةٌ؛ فالشرك نجاسةٌ.
وقوله: {وإن خِفْتُم}: أيُّها المسلمون،
{عَيْلَةً}؛
أي: فقراً وحاجة من منع المشركين من قُربان المسجد الحرام؛ بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من الأمور الدنيويَّة،
{فسوف يُغنيكم الله من فضله}: فليس الرزق مقصوراً على باب واحد ومحلٍّ واحد، بل لا ينغلق بابٌ؛ إلاَّ وفُتِحَ غيرُه أبوابٌ كثيرة؛ فإن فضل الله واسع، وجوده عظيم، خصوصاً لمن ترك شيئاً لوجه الكريم؛ فإنَّ الله أكرم الأكرمين، وقد أنجز الله وعده؛ فإنَّ الله أغنى المسلمين من فضله، وبَسَطَ لهم من الأرزاق ما كانوا من أكبر الأغنياء والملوك.
وقوله: {إن شاء}: تعليقُ للإغناء بالمشيئة؛ لأن الغنى في الدنيا ليس من لوازم الإيمان، ولا يدلُّ على محبَّة الله؛ فلهذا علَّقه الله بالمشيئة؛ فإنَّ الله يعطي الدنيا من يحبُّ ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والدين إلا من يحبُّ.
{إنَّ الله عليمٌ حكيمٌ}؛
أي: علمه واسعٌ، يعلم مَن يَليق به الغنى ومَن لا يَليق، ويضع الأشياء مواضعها، وينزِلها منازلها.
وتدلُّ الآية الكريمة ـ وهي قوله: {فلا يَقْرَبوا المسجدَ الحرام بعد عامهم هذا} ـ أنَّ المشركين بعدما كانوا هم الملوك والرؤساء بالبيت، ثم صار بعد الفتح الحكم لرسول الله والمؤمنين مع إقامتهم في البيت ومكة المكرمة، ثم نزلت هذه الآية، ولما مات النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ أمر أن يُجْلَوا من الحجاز؛ فلا يبقى فيها دينان، وكل هذا لأجل بُعْدِ كلِّ كافر عن المسجد الحرام،
فيدخل في قوله: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}.
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}.
#
{29} هذه الآية أمرٌ بقتال الكفار من اليهود والنصارى من
{الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}: إيماناً صحيحاً يصدِّقونه بأفعالهم وأعمالهم،
{ولا يحرِّمون ما حرَّم الله}: فلا يتَّبعون شرعه في تحريم المحرمات،
{ولا يَدينون دين الحقِّ}؛
أي: لا يدينون بالدين الصحيح، وإن زعموا أنهم على دين؛ فإنه دينُ غير الحق؛ لأنه إما دين مبدَّل وهو الذي لم يشرعه الله أصلاً، وإمَّا دينٌ منسوخٌ قد شرعه الله ثم غيَّره بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيبقى التمسُّك به بعد النسخ غير جائز. فأمَرَهُ بقتال هؤلاء وحثَّ على ذلك لأنَّهم يدعون إلى ما هم عليه، ويحصل الضرر الكثير منهم للناس، بسبب أنهم أهل كتاب.
وغَيَّا ذلك القتال: {حتى يُعطوا الجزيةَ}؛
أي: المال الذي يكون جزاءً لترك المسلمين قتالهم وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم بين أظهر المسلمين، يؤخذ منهم كلَّ عام كلٌّ على حسب حاله من غني وفقير ومتوسط؛ كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره من أمراء المؤمنين.
وقوله: {عن يدٍ}؛
أي: حتى يبذلوها في حال ذُلِّهم، وعدم اقتدارهم، ويعطوها بأيديهم، فلا يرسلون بها خادماً، ولا غيره، بل لا تُقبل إلاَّ من أيديهم.
{وهم صاغرونَ}: فإذا كانوا بهذه الحال، وسألوا المسلمين أن يُقِرُّوهم بالجزية وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم، وحال الأمن من شرِّهم وفتنتهم، واستسلموا للشروط التي أجراها عليهم المسلمون، مما ينفي عزَّهم وتكبُّرَهم وتوجب ذلَّهم وصَغارهم؛ وجب على الإمام أو نائبه أن يعقدَها لهم، وإلاَّ؛ بأن لم يفوا ولم يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون؛ لم يَجُزْ إقرارهم بالجزية، بل يقاتَلون حتى يُسْلِموا.
واستدل بهذه الآية الجمهور الذين يقولون: لا تؤخذ الجزية إلاَّ من أهل الكتاب؛ لأنَّ الله لم يذكر أخذ الجزية إلاَّ منهم، وأمَّا غيرهم؛ فلم يذكر إلا قتالهم حتى يسلموا. وأُلْحِق بأهل الكتاب في أخذ الجزية وإقرارهم في ديار المسلمين المجوس؛ فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هَجَرَ، ثم أخذها أمير المؤمنين عمر من الفرس المجوس.
وقيل: إن الجزية تُؤخذ من سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم؛ لأنَّ هذه الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم، فيكون هذا القيد إخباراً بالواقع لا مفهوم له، ويدلُّ على هذا أن المجوس أخذت منهم الجزية وليسوا أهل كتاب،
ولأنَّه قد تواتر عن المسلمين من الصحابة ومَنْ بعدهم أنهم يَدْعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث: إمَّا الإسلام، أو أداء الجزية، أو السيف؛ من غير فرق بين كتابيٍّ وغيره.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}.
#
{30} لما أمر تعالى بقتال أهل الكتاب ذكر من أقوالهم الخبيثة ما يهيج المؤمنين الذين يغارون لربهم ولدينه على قتالهم والاجتهاد وبذل الوسع فيه،
فقال: {وقالتِ اليهود عزيرٌ ابن الله}: وهذه المقالة وإن لم تكن مقالة لعامَّتهم؛ فقد قالها فرقةٌ منهم، فيدلُّ ذلك على أنَّ في اليهود من الخبث والشرِّ ما أوصلهم إلى أن قالوا هذه المقالة التي تجرؤوا فيها على الله وتنقَّصوا عظمته وجلاله.
وقد قيل: إن سبب ادِّعائهم في عزير أنه ابن الله: أنه لما تسلَّط الملوك على بني إسرائيل ومزَّقوهم كلَّ ممزَّق وقتلوا حَمَلَةَ التوراة؛ وَجَدوا عُزيراً بعد ذلك حافظاً لها أو أكثرها ، فأملاها عليهم من حفظِهِ، واستنسَخوها. فادَّعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة.
وقالت النصارى: عيسى ابن مريم
{ابنُ الله}،
قال الله تعالى: {ذلك}: القول الذي قالوه،
{قولُهم بأفواهِهِم}: لم يقيموا عليه حجَّة ولا برهاناً، ومَنْ كان لا يُبالي بما يقول لا يُسْتَغْرَبُ عليه أي قول يقوله؛ فإنه لا دين ولا عقل يحجُزُه عما يريد من الكلام،
ولهذا قال: {يضاهِئون}؛
أي: يشابهون في قولهم هذا
{قولَ الذين كفروا من قبلُ}؛
أي: قول المشركين الذين يقولون الملائكة بنات الله، تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم في البطلان.
{قاتلهم الله أنَّى يُؤفكَونَ}؛
أي: كيف يُصرفون عن الحقِّ الصرف الواضح المبين إلى القول الباطل المبين؟!
#
{31} وهذا وإن كان يُستغرب على أمةٍ كبيرةٍ كثيرة أن تتَّفق على قول يدلُّ على بطلانه أدنى تفكُّر وتسليطٍ للعقل عليه؛ فإن لذلك سبباً، وهو أنهم
{اتَّخذوا أحبارهم}: وهم علماؤهم،
{ورهبانَهم}؛
أي: العباد المتجردين للعبادة،
{أرباباً من دون الله}: يُحِلُّون لهم ما حرَّم الله فيُحِلُّونه، ويحرِّمون لهم ما أحلَّ الله فيحرِّمونه، ويَشْرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل، فيتَّبعونهم عليها، وكانوا أيضاً يغلون في مشايخهم وعُبادهم، ويعظِّمونهم، ويتَّخذون قبورهم أوثاناً تُعبد من دون الله، وتُقصد بالذبائح والدُّعاء والاستغاثة.
{والمسيحَ ابن مريم}: اتَّخذوه إلهاً من دون الله، والحال أنَّهم خالفوا في ذلك أمر الله لهم على ألسنة رسله، فما
{أُمِروا إلا لِيَعْبُدوا إلهاً واحداً لا إله إلَّا هو}: فيُخلصون له العبادة والطاعة ويخصُّونه بالمحبَّة والدُّعاء، فنبذوا أمر الله، وأشركوا به ما لم يُنَزِّلْ به سلطاناً.
{سبحانه}: وتعالى
{عمَّا يُشركون}؛
أي: تنزَّه وتقدَّس وتعالت عظمتُه عن شركهم وافترائهم؛ فإنَّهم ينتقِصونه في ذلك ويصِفونه بما لا يَليق بجلاله، والله تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن كل ما نُسِبَ إليه مما يُنافي كماله المقدَّس.
#
{32} فلما تبيَّن أنه لا حُجَّة لهم على ما قالوه ولا برهاناً لما أصَّلوه، وإنَّما هو مجرَّد قول قالوه وافتراء افتروه؛ أخبر أنَّهم
{يريدون} بهذا
{أن يُطفئوا نور الله بأفواههم}: ونورُ الله دينُه الذي أرسل به الرسل وأنزل به الكتب، وسمَّاه الله نوراً لأنَّه يُستنار به في ظلمات الجهل والأديان الباطلة؛ فإنَّه علمٌ بالحقِّ وعملٌ بالحقِّ، وما عداه فإنه بضدِّه؛ فهؤلاء اليهود والنصارى ومَنْ ضاهاهم من المشركين، يريدون أن يطفِئوا نور الله بمجرَد أقوالهم التي ليس عليها دليلٌ أصلاً.
{ويأبى اللهُ إلَّا أن يُتِمَّ نوره}: لأنه النور الباهر، الذي لا يمكن لجميع الخلق لو اجتمعوا على إطفائِهِ أن يطفئوه، والذي أنزله جميع نواصي العباد بيده، وقد تكفَّل بحفظه مِن كلِّ مَن يريده بسوء،
ولهذا قال: {ويأبى الله إلا أن يُتِمَّ نوره ولو كره الكافرون}: وسَعَوا ما أمكنهم في ردِّه وإبطاله؛ فإنَّ سعيهم لا يضرُّ الحقَّ شيئاً.
#
{33} ثم بيَّن تعالى هذا النور الذي قد تكفَّل بإتمامه وحفظه،
فقال: {هو الذي أرسلَ رسولَه بالهدى}: الذي هو العلم النافع،
{ودينِ الحقِّ} الذي هو العمل الصالح، فكان ما بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - مشتملاً على بيان الحقِّ من الباطل في أسماء الله وأوصافه وأفعاله، وفي أحكامه وأخباره، والأمر بكلِّ مصلحةٍ نافعة للقلوب والأرواح والأبدان؛ من إخلاص الدين لله وحده، ومحبة الله وعبادته، والأمر بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم والأعمال الصالحة والآداب النافعة، والنهي عن كلِّ ما يضادُّ ذلك ويناقضه من الأخلاق والأعمال السيِّئة المضرَّة للقلوب والأبدان والدنيا والآخرة، فأرسله الله بالهدى ودين الحقِّ؛
{لِيُظْهِرَهُ على الدين كلِّه ولو كره المشركون}؛
أي: ليعليه على سائر الأديان؛ بالحجة والبرهان، والسيف والسنان، وإن كره المشركون ذلك، وبَغَوا له الغوائل، ومكروا مكرهم؛ فإنَّ المكر السيئ لا يضرُّ إلا صاحبه؛ فَوَعْدُ اللهِ لا بدَّ أن ينجِزَه وما ضَمِنَهُ لا بدَّ أن يقوم به.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}.
#
{34} هذا تحذيرٌ من الله تعالى لعباده المؤمنين عن كثيرٍ من الأحبار والرُّهبان؛
أي: العلماء والعباد الذين يأكلون أموال الناس بالباطل؛
أي: بغير حقٍّ ويصدُّون عن سبيل الله؛ فإنَّهم إذا كانت لهم رواتب من أموال الناس، أو بَذَلَ الناس لهم من أموالهم؛ فإنه لأجل علمهم وعبادتهم ولأجل هُداهم وهدايتهم، وهؤلاء يأخذونها ويصدُّون الناس عن سبيل الله، فيكون أخذهم لها على هذا الوجه سُحتاً وظُلماً؛ فإنَّ الناس ما بذلوا لهم من أموالهم إلا ليدُلُّوهم على الطريق المستقيم، ومن أخذهم لأموال الناس بغير حقٍّ أن يُعطوهم ليفْتوهم، أو يحكموا لهم بغير ما أنزل الله؛
فهؤلاء الأحبار والرُّهبان لِيُحْذَرْ منهم هاتان الحالتان: أخذهم لأموال الناس بغير حقٍّ، وصدُّهم الناس عن سبيل الله.
{والذين يكنِزون الذَّهب والفضَّة}؛
أي: يمسكونهما،
{ولا يُنفقونها في سبيل الله}؛
أي: طرق الخير الموصلة إلى الله،
وهذا هو الكنز المحرَّم: أن يمسِكَها عن النفقة الواجبة، كأن يمنع منها الزكاة أو النفقات الواجبة للزوجات أو الأقارب أو النفقة في سبيل الله إذا وجبت؛
{فبشِّرْهم بعذابٍ أليم}.
#
{35} ثم فسَّره بقوله:
{يومَ يُحمى عليها}؛
أي: على أموالهم
{في نار جهنَّم}: فيُحمى كل دينار أو درهم على حدته،
{فتُكوى بها جباهُهم وجنوبُهم وظهورُهم}: في يوم القيامة، كلما بردت؛ أعيدتْ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة،
ويقال لهم توبيخاً ولوماً: {هذا ما كنزتُم لأنفسِكم فذوقوا ما كنتُم تكنِزونَ}: فما ظلمكم، ولكنَّكم ظلمتُم أنفسَكم، وعذَّبتموها بهذا الكنز.
وذكر الله في هاتين الآيتين انحراف الإنسان في ماله،
وذلك بأحد أمرين: إما أن ينفِقَه في الباطل الذي لا يُجدي عليه نفعاً، بل لا ينالُه منه إلا الضرر المحض، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشَّهوات التي لا تُعين على طاعة الله، وإخراجها للصدِّ عن سبيل الله. وإما أن يمسِكَ ماله عن إخراجِهِ في الواجبات، والنهي عن الشيء أمرٌ بضدِّه.
وقوله:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}.
#
{36} يقول تعالى:
{إنَّ عدة الشهور عند الله}؛
أي: في قضاء الله وقدره
{اثنا عشر شهراً}: وهي هذه الشهور المعروفة
{في كتاب الله}؛
أي: في حكمه القدريِّ،
{يوم خَلَقَ السموات والأرض}: وأجرى ليلها ونهارها، وقدَّر أوقاتها، فقسمها على هذه الشهور الاثني عشر شهراً.
{منها أربعةٌ حُرُم}: وهي رجب الفرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وسميتْ حُرُماً لزيادة حرمتها وتحريم القتال فيها.
{فلا تظلِموا فيهنَّ أنفسكم}: يُحتمل أن الضمير يعود إلى الاثني عشر شهراً، وأن الله تعالى بيَّن أنه جعلها مقادير للعباد، وأن تُعْمَرَ بطاعته، ويُشْكَرَ الله تعالى على منَّته بها، وتقييضها لمصالح العباد، فلْتَحْذروا من ظلم أنفسكم فيها. ويُحتمل أنَّ الضمير يعود إلى الأربعة الحرم، وأنَّ هذا نهي لهم عن الظُّلم فيها خصوصاً، مع النهي عن الظلم كلَّ وقت؛ لزيادة تحريمها وكون الظُّلم فيها أشدَّ منه في غيرها،
ومن ذلك النهي عن القتال فيها على قول من قال: إن القتال في الأشهر الحرم لم يُنسخ تحريمهُ؛ عملاً بالنصوص العامة في تحريم القتال فيها،
ومنهم من قال: إن تحريم القتال فيها منسوخ أخذاً بعموم نحو قوله:
{وقاتلوا المشركينَ كافَّةً كما يقاتلونَكم كافَّةً}؛
أي: قاتلوا جميع أنواع المشركين والكافرين بربِّ العالمين، ولا تخصُّوا أحداً منهم بالقتال دون أحدٍ، بل اجعلوهم كلَّهم لكم أعداءً كما كانوا هم معكم كذلك قد اتَّخذوا أهل الإيمان أعداءً لهم لا يألونهم من الشرِّ شيئاً، ويحتمل أن
{كافَّةً} حالٌ من الواو،
فيكون معنى هذا: وقاتلوا جميعكم المشركين، فيكون فيها وجوب النفير على جميع المؤمنين،
وقد نُسخت على هذا الاحتمال بقوله: {وما كان المؤمنون لِيَنفِروا كافة ... } الآية.
{واعلموا أن الله مع المتقين}: بعونه ونصره وتأييده، فلتحرصوا على استعمال تقوى الله في سرِّكم وعلنكم والقيام بطاعته، خصوصاً عند قتال الكفار؛ فإنه في هذه الحال ربَّما ترك المؤمن العمل بالتقوى في معاملة الكفار الأعداء المحاربين.
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}.
#
{37} النسيء هو ما كان أهلُ الجاهلية يستعملونه في الأشهر الحرم، وكان من جملة بدعهم الباطلة أنهم لما رأوا احتياجهم للقتال في بعض أوقات الأشهر الحرم؛ رأوا بآرائهم الفاسدة أن يحافظوا على عدَّة الأشهر الحرم التي حرَّم الله القتال فيها، وأن يؤخِّروا بعض الأشهر الحرم أو يقدِّموه ويجعلوا مكانه من أشهر الحلِّ ما أرادوا؛ فإذا جعلوه مكانه؛ أحلُّوا القتال فيه، وجعلوا الشهر الحلال حراماً؛ فهذا كما أخبر الله عنهم أنه زيادةٌ في كفرهم وضلالهم؛
لما فيه من المحاذير:
منها: أنَّهم ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، وجعلوه بمنزلة شرع الله ودينه، والله ورسوله بريئان منه.
ومنها: أنهم قلبوا الدين، فجعلوا الحلال حراماً والحرام حلالاً.
ومنها: أنهم موَّهوا على الله بزعمهم وعلى عباده، ولَبَسوا عليهم دينهم، واستعملوا الخداع والحيلة في دين الله.
ومنها: أن العوائد المخالفة للشرع مع الاستمرار عليها يزول قبحها عن النفوس، وربَّما ظُنَّ أنها عوائد حسنة، فحصل من الغلط والضلال ما حصل.
ولهذا قال: {يُضَلُّ به الذين كفروا يُحِلُّونه عامًا ويحرِّمونه عامًا لِيواطئوا عدَّةَ ما حرَّمَ الله}؛
أي: ليوافقوها في العدد،
{فيُحِلُّوا ما حرَّم الله. زُيِّنَ لهم سوءُ أعمالهم}؛
أي: زينت لهم الشياطين الأعمال السيئة، فرأوها حسنة بسبب العقيدة المزيَّنة في قلوبهم.
{والله لا يهدي القوم الكافرين}؛
أي: الذين انصبغ الكفر والتكذيب في قلوبهم، فلو جاءتهم كلُّ آية لم يؤمنوا.
ثم قال تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}.
#
{38} اعلم أنَّ كثيراً من هذه السورة الكريمة نزلت في غزوة تبوك، إذ ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمين إلى غزو الروم، وكان الوقت حارًّا والزاد قليلاً والمعيشة عَسِرة ، فحصل من بعض المسلمين من التثاقل ما أوجب أن يعاتِبَهم الله تعالى عليه ويستنهِضَهم،
فقال تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا}: ألا تعملون بمقتضى الإيمان ودواعي اليقين من المبادرة لأمر الله والمسارعة إلى رضاه وجهاد أعدائه والنصرة لدينكم؛ فما
{لكم إذا قيلَ لكم انفِروا في سبيل الله اثَّاقَلْتُم إلى الأرض}؛
أي: تكاسلتم وملتم إلى الأرض والدَّعة والسكون فيها.
{أرَضيتم بالحياة الدُّنيا من الآخرة}؛
أي: ما حالُكم إلاَّ حال مَن رضي بالدنيا وسعى لها ولم يبال بالآخرة؛ فكأنه ما آمن بها.
{فما متاعُ الحياة الدنيا}: التي مالت بكم وقدَّمتموها على الآخرة
{إلَّا قليلٌ}: أفليس قد جعل الله لكم عقولاً تزنون بها الأمور؟ وأيُّها أحقُّ بالإيثار؟! أفليست الدنيا من أولها إلى آخرها لا نسبة لها في الآخرة؟! فما مقدار عمر الإنسان القصير جدًّا من الدنيا حتى يجعله الغاية التي لا غاية وراءها فيجعلَ سعيَهُ وكدَّه وهمَّه وإرادته لا يتعدَّى الحياة الدُّنيا القصيرة المملوءة بالأكدار المشحونة بالأخطار؟! فبأيِّ رأي رأيتم إيثارها على الدار الآخرة، الجامعة لكلِّ نعيم، التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعين وأنتم فيها خالدون؟! فوالله ما آثر الدُّنيا على الآخرة من وَقَرَ الإيمان في قلبه، ولا مَنْ جزل رأيه، ولا من عُدَّ من أولي الألباب.
#
{39} ثم توعدهم على عدم النفير،
فقال: {إلَّا تَنفِروا يعذِّبكم عذاباً أليماً}: في الدُّنيا والآخرة؛ فإن عدم النفير في حال الاستنفار من كبائر الذُّنوب الموجبة لأشدِّ العقاب؛ لما فيها من المضارِّ الشديدة؛ فإنَّ المتخلِّف قد عصى الله تعالى، وارتكب لنهيه، ولم يساعد على نصر دين الله، ولا ذبَّ عن كتاب الله وشرعه، ولا أعان إخوانه المسلمين على عدوِّهم الذي يريد أن يستأصلهم ويمحقَ دينهم، وربما اقتدى به غيره من ضعفاء الإيمان، بل ربما فتَّ في أعضاد من قاموا بجهاد أعداء الله؛ فحقيقٌ بمن هذا حاله أن يتوعَّده الله بالوعيد الشديد،
فقال: {إلَّا تَنفِروا يعذِّبْكم عذاباً أليماً ويستبدلْ قوماً غيركم}: ثم لا يكونوا أمثالكم،
{ولا تضرُّوه شيئاً}؛ فإنه تعالى متكفِّل بنصر دينه وإعلاء كلمته؛ فسواءٌ امتثلتم لأمر الله أو ألقيتموه وراءكم ظِهْرِيًّا.
{والله على كل شيء قديرٌ}: لا يعجِزُه شيء أراده ولا يغالبه أحدٌ.
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}.
#
{40} أي: إلا تنصروا رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم -؛ فالله غنيٌّ عنكم، لا تضرُّونه شيئاً؛ فقد نصره في أقلِّ ما يكون وَأَذَلِّهِ
{إذ أخرجه الذين كفروا}: من مكة، لما همُّوا بقتله وسَعَوا في ذلك وحرصوا أشدَّ الحرص فألجؤوه إلى أن يخرج.
{ثاني اثنينِ}؛
أي: هو وأبو بكر الصديق رضي الله عنه.
{إذ هما في الغار}؛
أي: لما هربا من مكة؛ لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب؛ فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقَّة حين انتشر الأعداء من كلِّ جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل الله عليهما من نصره ما لا يخطُر على البال.
{إذ يقولُ}: النبي - صلى الله عليه وسلم -
{لصاحبِهِ}: أبي بكر لما حزن واشتدَّ قلقُه:
{لا تحزنْ إنَّ الله معنا}: بعونه ونصره وتأييده،
{فأنزل الله سكينَتَه عليه}؛
أي: الثبات والطمأنينة والسكون المثبِّتة للفؤاد، ولهذا لما قلق صاحبه؛
سكَّنه وقال: لا تحزنْ إنَّ الله معنا.
{وأيَّده بجنودٍ لم تَرَوْها}: وهي الملائكة الكرام، الذين جعلهم الله حرساً له.
{وجعل كلمةَ الذين كفروا السفلى}؛
أي: الساقطة المخذولة؛ فإنَّ الذين كفروا
[قد] كانوا على حَرْدٍ قادرين في ظنِّهم على قتل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخذه حنقين عليه، فعملوا غاية مجهودهم في ذلك، فخذلهم الله ولم يُتِمَّ لهم مقصودَهم، بل ولا أدركوا شيئاً منه، ونصر الله رسوله بدفعه عنه، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع؛
فإنَّ النصر على قسمين: نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوِّهم بأن يُتِمَّ اللهُ لهم ما طلبوا وقصدوا ويستولوا على عدوِّهم ويظهروا عليهم.
والثاني: نصر المستضعَف الذي طمع فيه عدوُّه القادر، فنصْرُ اللهِ إياه أن يردَّ عنه عدوَّه، ويدافع عنه، ولعل هذا النصر أنفع النصرين، ونَصْرُ اللَّهِ رسولَه إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع.
وقوله: {وكلمةُ اللهِ هي العليا}؛
أي: كلماته القدريَّة وكلماته الدينيَّة هي العالية على كلمة غيره،
التي من جملتها قوله: {وكان حقًّا علينا نَصْرُ المؤمنين}،
{إنَّا لننصُرُ رسلَنا والذين آمنوا في الحياة الدُّنيا ويوم يقومُ الأشهادُ}،
{وإنَّ جندَنا لهم الغالبون}؛ فدين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان بالحجج الواضحة والآيات الباهرة والسلطان الناصر.
{والله عزيزٌ}: لا يغالبه مغالبٌ ولا يفوته هاربٌ،
{حكيم}: يضعُ الأشياء مواضعها، ويؤخِّرُ نصرَ حزبه إلى وقتٍ آخر اقتضته الحكمة الإلهية.
وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة والصحبة الجميلة، وقد أجمع المسلمون على أنَّه هو المراد بهذه الآية الكريمة، ولهذا عدُّوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - كافراً؛ لأنَّه منكر للقرآن الذي صرَّح بها. وفيها فضيلةُ السكينة، وأنها من تمام نعمة الله على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش لها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربِّه وثقته بوعدِهِ الصادق وبحسب إيمانه وشجاعتِهِ. وفيها أنَّ الحزن قد يعرض لخواصِّ عباد الله الصديقين، مع أنَّ الأولى إذا نزل بالعبد أن يسعى في ذهابه عنه؛ فإنه مضعِفٌ للقلب موهِنٌ للعزيمة.
{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}.
#
{41} يقول تعالى لعباده المؤمنين مهيِّجاً لهم على النفير في سبيله،
فقال: {انفِروا خفافاً وثقالاً}: في العسر واليسر، والمنشط والمكره، والحرِّ والبرد، وفي جميع الأحوال،
{وجاهدوا بأموالكم وأنفسِكم في سبيل الله}؛
أي: ابذلوا جهدكم في ذلك، واستفرغوا وُسْعَكم في المال والنفس. وفي هذا دليلٌ على أنه كما يجب الجهادُ في النفس يجب
[الجهادُ] في المال حيث اقتضت الحاجة ودعت لذلك.
ثم قال: {ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمونَ}؛
أي: الجهاد في النفس والمال خيرٌ لكم من التقاعد عن ذلك؛ لأنَّ فيه رضا الله تعالى والفوز بالدرجات العاليات عنده والنصر لدين الله والدُّخول في جملة جنده وحزبه.
#
{42} {لو كان}: خروجُهم لطلب عرض قريبٍ أو منفعةٍ دنيويَّة سهلة التناول. أو كان السفرُ
{سفراً قاصداً}؛
أي: قريباً سهلاً
{لاتَّبعوك}: لعدم المشقَّة الكثيرة،
{ولكن بَعُدَتْ عليهم الشُّقَّةُ}؛
أي: طالت عليهم المسافة، وصعب عليهم السفر؛ فلذلك تثاقلوا عنك، وليس هذا من أمارات العبوديَّة، بل العبد حقيقةً المتعبِّدُ لربِّه في كلِّ حال، القائم بالعبادة السهلة والشاقَّة؛ فهذا العبد لله على كلِّ حال.
{وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم}؛
أي: سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أنَّ لهم عذراً، وأنهم لا يستطيعون ذلك،
{يُهْلِكون أنفسَهم}: بالقعود والكذب والإخبار بغير الواقع.
{والله يعلم إنَّهم لكاذبونَ}.
وهذا العتاب إنما هو للمنافقين، الذين تخلَّفوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، وأبدوا من الأعذار الكاذبة ما أبدوا، فعفا النبي - صلى الله عليه وسلم - عنهم بمجرَّد اعتذارهم، من غير أن يمتَحِنهم فيتبيَّن له الصادق من الكاذب، ولهذا عاتبه الله على هذه المسارعة إلى عذرهم،
فقال:
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}.
#
{43} يقول تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -:
{عفا الله عنك}؛
أي: سامحك وغفر لك ما أجريت.
{لم أذنتَ لهم}: في التخلُّف،
{حتَّى يتبيَّن لك الذين صَدَقوا وتعلمَ الكاذبين}: بأن تمتَحِنهم ليتبيَّن لك الصادق من الكاذب، فتعذر من يستحقُّ العذر ممَّن لا يستحقُّ ذلك.
#
{44} ثم أخبر أن المؤمنين بالله واليوم الآخر لا يستأذنون في ترك الجهاد بأموالهم وأنفسهم؛ لأن ما معهم من الرغبة في الخير والإيمان يحملهم على الجهاد من غير أن يحثَّهم عليه حاثٌّ فضلاً عن كونهم يستأذنون في تركِهِ من غير عذرٍ.
{والله عليمٌ بالمتَّقين}: فيجازيهم على ما قاموا به من تقواه، ومن علمه بالمتَّقين أنه أخبر أنَّ من علاماتهم أنهم لا يستأذنون في ترك الجهاد.
#
{45} {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابتْ قلوبُهم}؛
أي: ليس لهم إيمانٌ تامٌّ ولا يقينٌ صادقٌ؛ فلذلك قلَّت رغبتُهم في الخير، وجبنوا عن القتال، واحتاجوا أن يستأذنوا في ترك القتال.
{فهم في رَيْبِهم يتردَّدون}؛
أي: لا يزالون في الشكِّ والحيرة.
{وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}.
#
{46} يقول تعالى مبيِّناً أن المتخلِّفين من المنافقين قد ظهر منهم من القرائن ما يبيِّن أنهم ما قصدوا الخروج بالكُلِّية، وأنَّ أعذارهم التي اعتذروها باطلةٌ؛ فإنَّ العذر هو المانعُ الذي يمنع إذا بَذَلَ العبدُ وُسْعَه وسعى في أسباب الخروج ثم منعه مانعٌ شرعيٌّ؛ فهذا الذي يُعذر،
{و} أما هؤلاء المنافقون، فلو
{أرادوا الخروجَ لأعدُّوا له عُدَّةً}؛
أي: لاستعدُّوا وعملوا ما يمكنهم من الأسباب، ولكن لما لم يُعِدُّوا له عُدَّةً؛ علم أنهم ما أرادوا الخروج،
{ولكن كَرِهَ الله انبعاثَهم}: معكم في الخروج للغزو،
{فثبَّطهم}: قدراً وقضاءً وإن كان قد أمرهم وحثَّهم على الخروج وجعلهم مقتدرين عليه، ولكن بحكمتِهِ ما أراد إعانتهم، بل خَذَلهم وثبَّطهم،
{وقيلَ اقعُدوا مع القاعِدينَ}: من النساء والمعذورين.
#
{47} ثم ذكر الحكمة في ذلك،
فقال: {لو خَرَجوا فيكم ما زادوكم إلَّا خبالاً}؛
أي: نقصاً،
{ولأوْضَعوا خِلالكم}؛
أي: ولسَعَوا في الفتنة والشرِّ بينكم وفرَّقوا جماعتكم المجتمعين.
{يبغونَكُم الفتنةَ}؛
أي: هم حريصون على فتنتكم وإلقاء العداوة بينكم،
{وفيكم}: أناسٌ ضعفاء العقول،
{سمَّاعون لهم}؛
أي: مستجيبون لدعوتهم، يغترُّون بهم؛ فإذا كانوا حريصين على خذلانكم وإلقاء الشرِّ بينكم وتثبيطكم عن أعدائكم وفيكم مَنْ يَقْبَلُ منهم ويستنصِحُهم؛ فما ظنُّك بالشرِّ الحاصل من خروجِهم مع المؤمنين والنقص الكثير منهم؟! فللَّه أتمُّ الحكمة حيث ثبَّطهم، ومنعهم من الخروج مع عباده المؤمنين رحمةً بهم، ولطفاً من أن يُداخِلَهم ما لا ينفعهم بل يضرُّهم.
{والله عليمٌ بالظالمين}: فيُعلِّم عبادَه كيف يحذرونهم، ويبيِّن لهم من المفاسد الناشئة من مخالطتهم.
#
{48} ثم ذكر أنه قد سبق لهم سوابق في الشرِّ،
فقال: {لقد ابتَغَوُا الفتنة من قبلُ}؛
أي: حين هاجرتم إلى المدينة، بذلوا الجهد،
{وقَلَّبوا لك الأمورَ}؛
أي: أداروا الأفكار، وأعملوا الحيل في إبطال دعوتِكم وخِذْلانِ دينِكم، ولم يُقَصِّروا في ذلك.
{حتى جاء الحقُّ وظهر أمرُ الله وهم كارهون}: فبَطَلَ كيدُهم، واضمحلَّ باطلُهم؛ فحقيقٌ بمثلِ هؤلاء أن يحذِّر الله عبادَه المؤمنين منهم، وأن لا يبالي المؤمنونَ بتخلُّفهم عنهم.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}.
#
{49} أي: ومن هؤلاء المنافقين من يستأذن في التخلُّف ويعتذر بعذرٍ آخر عجيب،
فيقول: {ائذن لي}: في التخلُّف،
{ولا تَفْتِنِّي}: في الخروج؛ فإني إذا خرجت فرأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن؛ كما قال ذلك الجدُّ بن قيس، ومقصوده قبَّحه الله الرياء والنفاق؛ بأن مقصودي مقصودٌ حسن؛ فإنَّ في خروجي فتنةً، وتعرضاً للشرِّ، وفي عدم خروجي عافيةً وكفًّا عن الشرِّ.
قال الله تعالى مبيِّناً كذب هذا القول: {ألا في الفتنةِ سَقَطوا}: فإنه على تقدير صدق هذا القائل في قصدِهِ؛ في التخلُّف مفسدةٌ كبرى وفتنةٌ عظمى محقَّقة، وهي معصية الله ومعصية رسوله والتجرِّي على الإثم الكبير والوزر العظيم، وأما الخروجُ؛ فمفسدةٌ قليلة بالنسبة للتخلُّف، وهي متوهَّمة، مع أنَّ هذا القائل قصده التخلُّف لا غير،
ولهذا توعَّدهم الله بقوله: {وإنَّ جهنَّم لمحيطةٌ بالكافرين}: ليس لهم عنها مَفَرٌّ ولا مناصٌ ولا فكاكٌ ولا خلاصٌ.
{إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)}.
#
{50} يقول تعالى مبيناً أن المنافقين هم الأعداء حقًّا المبغضون للدين صرفاً:
{إن تُصِبْكَ حسنةٌ}: كنصر وإدالة على العدو
{تَسُؤْهم}؛
أي: تحزنهم وتغمهم،
{وإن تُصِبْكَ مصيبةٌ}: كإدالة العدو عليك
{يقولوا}: متبجِّحين بسلامتهم من الحضور معك:
{قد أخَذْنا أمرنا من قبلُ}؛
أي: قد حذرنا وعملنا بما يُنجينا من الوقوع في مثل هذه المصيبة،
{ويتولَّوْا وهم فرحون}: بمصيبتك وبعدم مشاركتهم إياك فيها.
#
{51} قال تعالى رادًّا عليهم في ذلك:
{قل لن يُصيَبنا إلَّا ما كَتَبَ الله لنا}؛
أي: قدَّره وأجراه في اللوح المحفوظ.
{هو مولانا}؛
أي: متولي أمورنا الدينيَّة والدنيويَّة؛ فعلينا الرِّضا بأقداره، وليس في أيدينا من الأمر شيء.
{وعلى الله}: وحده
{فليتوكَّل المؤمنون}؛
أي: يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم ودفع المضارِّ عنهم ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم؛ فلا خاب من توكَّل عليه، وأما من توكَّل على غيره؛ فإنه مخذول غير مدرك لما أمل.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)}.
#
{52} أي: قل للمنافقين الذين يتربَّصون بكم الدوائر: أيَّ شيء تربَّصون بنا؟ فإنكم لا تربَّصون بنا إلا أمراً فيه غاية نفعنا،
وهو إحدى الحسنيين: إما الظَّفَر بالأعداء والنصر عليهم ونيل الثواب الأخروي والدنيوي، وإما الشهادة التي هي من أعلى درجات الخَلْق وأرفع المنازل عند الله. وأما تربُّصنا بكم يا معشر المنافقين؛ فنحن
{نتربَّص بكم أن يصيبَكم الله بعذابٍ من عنده} لا سبب لنا فيه
{أو بأيدينا}؛ بأن يسلِّطنا عليكم فنقتلكم،
{فتربَّصوا}: بنا الخير،
{إنا معكم متربِّصون}: بكم الشرَّ.
{قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)}.
#
{53} يقول تعالى مبيِّناً بطلان نفقات المنافقين وذاكراً السبب في ذلك،
{قل} لهم:
{أنفقوا طوعاً}: من أنفسكم،
{أو كرهاً}: على ذلك بغير اختياركم.
{لن يُتَقَبَّل منكم}: شيء من أعمالكم، لأنّكم
{كنتم قوماً فاسقين}: خارجين عن طاعة الله.
#
{54} ثم بيَّن صفة فسقهم وأعمالهم
[فقال]:
{وما مَنَعَهم أن تُقْبَلَ منهم نفقاتُهم إلَّا أنَّهم كفروا بالله وبرسوله}: والأعمال كلُّها شرطُ قبولها الإيمان؛ فهؤلاء لا إيمان لهم ولا عمل صالح، حتى إنَّ الصلاة التي هي أفضل أعمال البدن إذا قاموا إليها قاموا كسالى؛
قال: {ولا يأتون الصلاة إلَّا وهم كُسالى}؛
أي: متثاقلون لا يكادون يفعلونها من ثقلها عليهم.
{ولا يُنفقون إلا وهم كارهونَ}: من غير انشراح صدر وثبات نفس؛ ففي هذا غاية الذمِّ لمن فعل مثل فعلهم، وأنه ينبغي للعبد أن لا يأتي الصلاة إلا وهو نشيطُ البدن والقلب إليها، ولا ينفق إلا وهو منشرح الصدر ثابت القلب يرجو ذُخرها وثوابها من الله وحده، ولا يتشبَّه بالمنافقين.
{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}.
#
{55} يقول تعالى: فلا تعجبْك أموالُ هؤلاء المنافقين ولا أولادُهم؛ فإنه لا غبطة فيها، وأول بركاتها عليهم أن قدَّموها على مراضي ربِّهم وعصوا الله لأجلها.
{إنَّما يريد الله ليعذِّبَهم بها في الحياة الدُّنيا}: والمراد بالعذاب هنا ما ينالهم من المشقَّة في تحصيلها والسعي الشديد في ذلك وهمِّ القلب فيها وتعب البدن؛ فلو قابلت لَذَّاتهم فيها بمشقَّاتهم؛ لم يكن لها نسبة إليها؛ فهي لَمَّا ألهتهم عن الله وذكره؛ صارت وبالاً عليهم حتى في الدنيا، ومن وبالها العظيم الخطر أنَّ قلوبهم تتعلَّق بها وإراداتهم لا تتعداها، فتكون منتهى مطلوبِهم وغاية مرغوبِهم، ولا يبقى في قلوبهم للآخرة نصيبٌ، فيوجب ذلك أن ينتقلوا من الدنيا،
{وَتَزْهَقَ أنفسُهُم وهم كافرون}؛ فأي عقوبة أعظم من هذه العقوبة الموجبة للشَّقاء الدائم والحسرة الملازمة؟!
#
{56} {ويحلفون بالله إنَّهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم}: قصدهم في حلفهم هذا أنهم
{قومٌ يَفْرَقون}؛
أي: يخافون الدوائر، وليس في قلوبهم شجاعة تحملهم على أن يبيِّنوا أحوالهم، فيخافون إن أظهروا حالهم منكم ويخافون أن تتبرَّؤوا منهم فيتخطَّفهم الأعداء من كل جانب، وأما حال قويِّ القلب ثابت الجنان؛ فإنه يحمله ذلك على بيان حاله حسنةً كانت أو سيئةً، ولكن المنافقين خُلِعَ عليهم خِلْعةُ الجبن، وحُلُّوا بحِلْيَةِ الكذب.
#
{57} ثم ذكر شدَّة جبنهم،
فقال: {لو يجدون ملجأ}: يلجؤون إليه عندما تنزل بهم الشدائد،
{أو مغاراتٍ}: يدخلونها فيستقرُّون فيها،
{أو مدخلاً}؛
أي: محلاًّ يدخلونه فيتحصَّنون فيه،
{لَوَلَّوا إليه وهم يَجْمحون}؛
أي: يسرعون ويُهْرَعون؛ فليس لهم مَلَكة يقتدرون بها على الثبات.
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)}.
#
{58} أي: ومن هؤلاء المنافقين مَن يَعيبك في قسمة الصَّدقات وينتقد عليك فيها، وليس انتقادُهم فيها وعيبُهم لقصدٍ صحيح ولا لرأي رجيح، وإنَّما مقصودُهم أن يُعْطَوا منها.
{فإنْ أُعْطوا منها رَضُوا وإن لم يُعْطَوْا منها إذا هم يسخطونَ}: وهذه حالةٌ لا تنبغي للعبد أن يكون رضاه وغضبه تابعاً لهوى نفسه الدنيويِّ وغرضه الفاسد، بل الذي ينبغي أن يكون
[هواه تبعاً] لمرضاة ربِّه؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
«لا يؤمن أحدُكم حتَّى يكون هواهُ تَبَعاً لما جئت به».
#
{59} وقال هنا:
{ولو أنَّهم رَضوا ما آتاهم الله ورسولُه}؛
أي: أعطاهم من قليل وكثيرٍ،
{وقالوا حسبُنا الله}؛
أي: كافينا الله فنرضى بما قَسَمه لنا،
وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن يقولوا: {سيؤتينا الله من فضلِهِ ورسولُهُ إنَّا إلى الله راغبون}؛
أي: متضرِّعون في جلب منافعنا ودفع مضارِّنا؛
[لسلموا من النفاق، ولهدوا إلى الإيمانِ والأحوالِ العاليةِ].
ثم بيَّن تعالى كيفيَّة قسمة الصدقات الواجبة فقال:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}.
#
{60} يقول تعالى:
{إنَّما الصدقات}؛
أي: الزكوات الواجبة، بدليل أن الصَّدقة المستحبَّة لكل أحدٍ لا يخصُّ بها أحدٌ دون أحدٍ؛
[أي]:
{إنَّما الصَّدقات}: لهؤلاء المذكورين دون مَنْ عداهم؛ لأنه حصرها فيهم،
وهم ثمانية أصناف:
الأول والثاني: الفقراء والمساكين، وهم في هذا الموضع صنفان متفاوتان؛ فالفقير أشدُّ حاجةً من المسكين؛ لأنَّ الله بدأ بهم، ولا يُبدأ إلا بالأهمِّ فالأهمِّ؛ فَفُسِّرَ الفقير بأنه الذي لا يجد شيئاً أو يجد بعض كفايته دون نصفها، والمسكين الذي يجد نصفها فأكثر، ولا يجد تمام كفايته؛ لأنَه لو وجدها؛ لكان غنيًّا، فيعطَون من الزكاة ما يزول به فقرهم ومسكنتهم.
والثالث: العاملون على الزكاة، وهم كلُّ من له عملٌ وشغل فيها من حافظٍ لها و جابٍ لها من أهلها أو راعٍ أو حاملٍ لها أو كاتبٍ أو نحو ذلك، فيعطَوْن لأجل عمالتهم، وهي أجرة لأعمالهم فيها.
والرابع: المؤلَّفة قلوبهم، والمؤلَّف قلبُه هو السيد المطاع في قومه ممَّن يُرجَى إسلامه أو يُخشى شرُّه أو يُرجى بعطيَّته قوة إيمانه أو إسلام نظيرِهِ أو جبايتها ممَّن لا يعطيها، فيُعطى ما يحصُلُ به التأليف والمصلحة.
الخامس: الرقاب، وهم المكاتَبون الذين قد اشتروا أنفسَهم من ساداتهم؛ فهم يسعَوْن في تحصيل ما يفكُّ رقابَهم، فيعانون على ذلك من الزكاة. وفكُّ الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار داخلٌ في هذا، بل أولى. ويدخل في هذا أنَّه يجوز أن يعتق
[منها] الرقاب استقلالاً؛
لدخوله في قوله: {وفي الرِّقاب}.
السادس: الغارمون،
وهم قسمان: أحدهما: الغارمون لإصلاح ذات البين، وهو أن يكون بين طائفتين من الناس شرٌّ وفتنةٌ، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم بمال يبذُلُه لأحدهم أو لهم كلّهم، فُجِعلَ له نصيبٌ من الزكاة؛ ليكون أنشط له وأقوى لعزمِهِ، فيُعْطى ولو كان غنيًّا.
والثاني: من غَرِمَ لنفسه ثم أعسر؛ فإنَّه يُعطى ما يُوفي به دينَه.
والسابع: الغازي في سبيل الله، وهم الغزاة المتطوِّعة الذين لا ديوان لهم، فيُعْطَوْن من الزكاة ما يُعينهم على غزوهم من ثمن سلاح أو دابَّةٍ أو نفقة له ولعياله؛ ليتوفَّر على الجهاد ويطمئنَّ قلبُه،
وقال كثير من الفقهاء: إن تفرَّغ القادر على الكسب لطلب العلم؛ أعطي من الزكاة؛ لأنَّ العلم داخلٌ في الجهاد في سبيل الله.
وقالوا أيضاً: يجوز أن يُعطى منها الفقير لحجِّ فرضِهِ. وفيه نظر.
والثامن: ابن السبيل، وهو الغريب المنقطَعُ به في غير بلده، فيُعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده. فهؤلاء الأصناف الثمانية الذين تُدفع إليهم الزكاة وحدهم.
{فريضةً من الله}: فرضها وقدَّرها تابعةً لعلمه وحكمه،
{والله عليمٌ حكيمٌ}.
واعلم أن هذه الأصناف الثمانية ترجع إلى أمرين: أحدهما: مَنْ يُعطى لحاجته ونفعه؛ كالفقير والمسكين ونحوهما.
والثاني: من يعطى للحاجة إليه وانتفاع الإسلام به.
فأوجب الله هذه الحصَّة في أموال الأغنياء لسدِّ الحاجات الخاصَّة والعامَّة للإسلام والمسلمين، فلو أعطى الأغنياء زكاة أموالهم على الوجه الشرعيِّ؛ لم يبقَ فقيرٌ من المسلمين، ولحصلَ من الأموال ما يسدُّ الثغور، ويجاهَدُ به الكفارُ، وتحصُلُ به جميع المصالح الدينية.
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)}.
#
{61} أي: ومن هؤلاء المنافقين،
{الذين يُؤْذونَ النبي}: بالأقوال الرديَّة والعَيْب له ولدينه،
{ويقولون هو أذُنٌ}؛
أي: لا يبالون بما يقولون من الأذيَّة للنبيِّ،
ويقولون: إذا بلغه عنَّا بعض ذلك؛ جئنا نعتذر إليه، فيقبلُ منَّا؛ لأنه أذُنٌ؛
أي: يقبل كلَّ ما يُقال له، لا يُمَيِّزُ بين صادقٍ وكاذب، وقصدهم ـ قبَّحهم الله ـ فيما بينهم أنهم غير مكترثين بذلك ولا مهتمِّين به؛ لأنه إذا لم يبلُغْه؛ فهذا مطلوبهم، وإن بلغه؛ اكتفَوْا بمجرَّد الاعتذار الباطل،
فأساؤوا كلَّ الإساءة من أوجه كثيرةٍ:
أعظمها: أذيَّة نبيِّهم الذي جاء لهدايتهم وإخراجهم من الشَّقاء والهلاك إلى الهدى والسعادة.
ومنها: عدم اهتمامهم أيضاً بذلك، وهو قدر زائدٌ على مجرَّد الأذيَّة.
ومنها: قدحُهم في عقل النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعدم إدراكه وتفريقه بين الصادق والكاذب، وهو أكملُ الخلق عقلاً وأتمُّهم إدراكاً وأثقبُهم رأياً وبصيرةً،
ولهذا قال تعالى: {قُلْ أذُنُ خيرٍ لكم}؛
أي: يقبلُ مَن قال له خيراً وصدقاً، وأما إعراضُه وعدم تعنيفه لكثير من المنافقين المعتذرين بالأعذار الكذب؛
فلِسَعَة خُلُقه وعدم اهتمامه بشأنهم وامتثاله لأمر الله في قوله: {سيحلِفون بالله لكم إذا انقلبتُم إليهم لِتُعْرِضوا عنهم فأعِرضوا عنُهم إنَّهم رِجْسٌ}، وأما حقيقة ما في قلبه ورأيه؛
فقال عنه: {يؤمِنُ بالله ويؤمِنُ للمؤمنين}: الصادقين المصدِّقين، ويعلم الصادق من الكاذب، وإن كان كثيراً يُعْرِضُ عن الذين يَعْرِفُ كذِبَهم وعدم صدقِهِم،
{ورحمةٌ للذين آمنوا منكم}: فإنَّهم به يهتدون وبأخلاقِهِ يقتدون، وأما غير المؤمنين؛ فإنَّهم لم يقبلوا هذه الرحمة، بل ردُّوها فخسروا دنياهم وآخرتهم.
{والذين يؤذون رسولَ الله}: بالقول والفعل
{لهم عذابٌ أليم}: في الدُّنيا والآخرة، ومن العذاب الأليم أنه يتحتَّم قتلُ مؤذيه وشاتمه.
#
{62} {يحلفون بالله لكم لِيُرْضوكم}: فيتبرؤوا مما صدر منهم من الأذيَّة وغيرها، فغايتهم أن ترضَوْا عليهم.
{والله ورسوله أحقُّ أن يُرْضوه إن كانوا مؤمنين}: لأنَّ المؤمن لا يقدِّم شيئاً على رضا ربِّه
[ورضا رسوله]، فدلَّ هذا على انتفاء إيمانهم؛ حيث قدَّموا رضا غير الله ورسوله.
#
{63} وهذا محادَّة لله ومشاقَّة له،
وقد توعَّد من حادَّه بقوله: {ألم يعلَموا أنَّه مَن يحاددِ اللهَ ورسولَه}: بأن يكون في حدٍّ وشِقٍّ مبعدٍ عن الله ورسوله؛ بأن تهاون بأوامر الله وتجرَّأ على محارمه،
{فأنَّ له نارَ جهنَّم خالداً فيها} و
{ذلك الخزيُ العظيم}: الذي لا خزيَ أشنعُ ولا أفظعُ منه، حيث فاتهم النعيم المقيم، وحصلوا على عذاب الجحيم؛ عياذاً بالله من حالهم.
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)}.
#
{64} كانت هذه السورة الكريمة تسمى الفاضحة؛ لأنها بيَّنت أسرار المنافقين وهتكت أستارهم؛
فما زال الله يقول: ومنهم، ومنهم ... ويذكر أوصافهم؛
إلاَّ أنه لم يعيِّن أشخاصهم لفائدتين:
إحداهما: أن الله سِتِّيرٌ يحبُّ الستر على عباده.
والثانية: أن الذَّمَّ على مَن اتَّصف بذلك الوصف من المنافقين الذين توجَه إليهم الخطاب وغيرهم إلى يوم القيامة، فكان ذكر الوصف أعمَّ وأنسبَ، حتى خافوا غاية الخوف؛
قال الله تعالى: {لئن لم يَنتَهِ المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ والمرجِفونَ في المدينةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بهم ثم لا يجاوِرونَكَ فيها إلاَّ قليلاً. ملعونينَ أينما ثُقِفوا أُخِذوا وَقُتِّلوا تَقْتيلاً}.
وقال هنا: {يَحْذَرُ المنافقون أن تنزل عليهم سورةٌ تنبِّئهم بما في قلوبهم}؛
أي: تخبرهم وتفضحهم وتبيِّن أسرارهم، حتى تكون علانيةً لعباده، ويكونوا عبرة للمعتبرين.
{قل استهزِئوا}؛
أي: استمرُّوا على ما أنتم عليه من الاستهزاء والسُّخرية.
{إنَّ الله مخرجٌ ما تحذرونَ}: وقد وفى تعالى بوعدِهِ، فأنزل هذه السورة التي بيَّنتهم، وفضحتهم، وهتكت أستارهم.
#
{65 ـ 66} {ولئن سألتَهم}: عما قالوه من الطعن في المسلمين وفي دينهم،
يقولُ طائفةٌ منهم في غزوة تبوك: ما رأينا مثلَ قُرَّائنا هؤلاء ـ يعنون: النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ـ أرغب بطوناً وأكذب ألسناً وأجبن عند اللقاء ... ونحو ذلك ، لما بلغهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد علم بكلامهم؛
جاؤوا يعتذرون إليه ويقولون: {إنَّما كُنَّا نخوضُ ونلعبُ}؛
أي: نتكلَّم بكلام لا قصدَ لنا به ولا قَصَدْنا الطعن والعيب،
قال الله تعالى مبيِّناً عدم عذرهم وكذبهم في ذلك: {قل} لهم:
{أبالله وآياتِهِ ورسوله كنتم تستهزئون. لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم}؛ فإنَّ الاستهزاء بالله ورسوله كفرٌ مخرجٌ عن الدين؛ لأنَّ أصل الدين مبنيٌّ على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك منافٍ لهذا الأصل ومناقضٌ له أشدَّ المناقضة، ولهذا؛ لما جاؤوا إلى الرسول يعتذرون بهذه المقالة،
والرسول لا يزيدهم على قوله: {أبالله وآياتِهِ ورسوله كنتُم تستهزِئون. لا تعتَذِروا قد كفرتُم بعد إيمانِكم}.
وقوله: {إن نعفُ عن طائفةٍ منكم}: لتوبتهم واستغفارهم وندمهم،
{نعذِّبْ طائفةً}: منكم بسبب أنهم
{كانوا مجرمين}: مقيمين على كفرِهم ونفاقهم.
وفي هذه الآيات دليلٌ على أن من أسرَّ سريرة، خصوصاً السريرة التي يمكر فيها بدينه ويستهزئ به وبآياته ورسوله؛ فإنَّ الله تعالى يظهرها ويفضح صاحبها ويعاقبُهُ أشدَّ العقوبة. وأنَّ مَن استهزأ بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله الثابتة عنه أو سَخِرَ بذلك أو تنقَّصه أو استهزأ بالرسول أو تنقَّصه؛ فإنَّه كافرٌ بالله العظيم. وأنَّ التوبة مقبولةٌ من كلِّ ذنبٍ وإن كان عظيماً.
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)}.
#
{67} يقول تعالى:
{المنافقون والمنافقات بعضُهم من بعض}: لأنهم اشتركوا في النفاق، فاشتركوا في تولِّي بعضهم بعضاً، وفي هذا قطعٌ للمؤمنين من ولايتهم. ثم ذكر وصف المنافقين العام الذي لا يخرُجُ منه صغيرٌ منهم ولا كبيرٌ،
فقال: {يأمرون بالمنكر}: وهو الكفر والفسوق والعصيان،
{وينهَوْن عن المعروف}: وهو الإيمان والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة والآداب الحسنة،
{ويَقْبِضون أيدِيَهم}: عن الصدقة وطرق الإحسان؛ فوصْفُهم البخلُ.
{نَسوا الله}: فلا يذكُرونه إلا قليلاً،
{فنَسِيَهم}: من رحمته؛ فلا يوفِّقهم لخيرٍ ولا يدخِلُهم الجنة، بل يترُكهم في الدرك الأسفل من النار خالدين فيها مخلَّدين.
{إنَّ المنافقين هم الفاسقون}: حصر الفسقَ فيهم؛ لأنَّ فسقهم أعظم من فسق غيرهم؛ بدليل أن عذابهم أشدُّ من عذاب غيرهم، وأن المؤمنين قد ابتُلوا بهم إذ كانوا بين أظهرهم، والاحتراز منهم شديدٌ.
#
{68} {وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذابٌ مقيمٌ}: جمع المنافقين والكفار في نار جهنَّم واللعنةِ والخلودِ في ذلك لاجتماعهم في الدُّنيا على الكفر والمعاداة لله ورسوله والكفر بآياته.
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)}.
#
{69 ـ 70} يقول تعالى محذِّراً للمنافقين أن يُصيبَهم ما أصابَ مَنْ قبلَهم من الأمم المكذِّبة؛
{قوم نوح وعادٍ وثمودَ وقوم إبراهيمَ وأصحاب مَدْيَنَ والمؤتفكاتِ}؛
أي: قرى قوم لوطٍ؛ فكلُّهم
{أتتهم رسلهم بالبيِّنات}؛
أي: بالحق الواضح الجليِّ المبيِّن لحقائق الأشياء، فكذَّبوا بها، فجرى عليهم ما قصَّ الله علينا؛ فأنتُم أعمالُكم شبيهةٌ بأعمالهم.
{استمتعتُم بخَلاقكم}؛
أي: بنصيبكم من الدنيا، فتناوَلْتموه على وجه اللَّذَّة والشهوة، معرضين عن المراد منه، واستعنتم به على معاصي الله، ولم تتعدَّ همَّتُكم وإرادتكم ما خُوِّلتم من النعم كما فعل الذين من قبلكم.
{وخضتُم كالذي خاضوا}؛
أي: وخضتم بالباطل والزُّور وجادلتم بالباطل لِتُدْحِضوا به الحقَّ؛
فهذه أعمالُهم وعلومهم: استمتاعٌ بالخَلاق، وخوضٌ بالباطل؛ فاستحقُّوا من العقوبة والإهلاك ما استحقَّ من قبلهم مِمَّن فعلوا كفعلهم، وأما المؤمنون فهم وإن استمتعوا بنصيبهم وما خُوِّلوا من الدُّنيا؛ فإنَّه على وجه الاستعانة به على طاعة الله، وأما علومهم؛ فهي علوم الرسل،
وهي: الوصول إلى اليقين في جميع المطالب العالية، والمجادلة بالحقِّ لإدحاض الباطل.
قوله: {فما كان اللهُ لِيَظْلِمَهم}: إذا وقع بهم من عقوبته ما أوقع،
{ولكن كانوا أنفسَهم يظلمِون}: حيث تجرؤوا على معاصيه، وعَصَوا رسلهم، واتبعوا أمر كل جبار عنيد.
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}.
#
{71} لما ذكر أنَّ المنافقين بعضهم من بعض ؛ ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ووصفهم بضدِّ ما وصف به المنافقين،
فقال: {والمؤمنون والمؤمناتُ}؛
أي: ذكورهم وإناثهم،
{بعضُهم أولياءُ بعضٍ}: في المحبَّة والموالاة والانتماء والنُّصرة.
{يأمرون بالمعروف}: وهو اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما عُرِف حسنه من العقائد الحسنة والأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة، وأول مَن يدخُلُ في أمرهم أنفسُهم.
{وينهَوْن عن المنكر}: وهو كلُّ ما خالف المعروف، وناقَضَه من العقائد الباطلة والأعمال الخبيثة والأخلاق الرذيلة،
{ويطيعونَ الله ورسوله}؛
أي: لا يزالون ملازمين لطاعة الله ورسوله على الدوام.
{أولئك سيرحمُهُم الله}؛
أي: يدخلهم في رحمته ويشمَلُهم بإحسانه.
{إنَّ الله عزيزٌ حكيمٌ}؛
أي: قويٌّ قاهرٌ، ومع قوته؛ فهو حكيمٌ يضع كل شيء موضعَه اللائق به الذي يُحمد على ما خلقه وأمر به.
#
{72} ثم ذكر ما أعد الله لهم من الثواب،
فقال: {وعد الله المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار}: جامعةٍ لكلِّ نعيم وفرح، خاليةٍ من كلِّ أذىً وتَرَح، تجري من تحت قصورها ودورها وأشجارها الأنهار الغزيرة المروية للبساتين الأنيقة التي لا يعلم ما فيها من الخيرات والبركات إلا الله تعالى.
{خالدين فيها}: لا يبغون عنها حِوَلاً.
{ومساكنَ طيبة في جنات عدن}: قد زخرفت وحسنت وأعِدَّت لعباد الله المتَّقين، قد طاب مرآها وطاب منزِلُها ومَقيلها، وجمعت من آلات المساكن العالية ما لا يتمنى فوقه المتمنُّون، حتى إن الله تعالى قد أعدَّ لهم غرفاً في غاية الصفاء والحسن، يُرى ظاهِرُها من باطنها، وباطِنُها من ظاهرها؛ فهذه المساكن الأنيقة التي حقيقٌ بأن تَسْكُنَ إليها النفوس وتنزِعَ إليها القلوب وتشتاقَ لها الأرواح؛ لأنَّها
{في جنات عدنٍ}؛
أي: إقامة، لا يظعنون عنها ولا يتحوَّلون منها.
{ورضوانٌ من الله}: يُحِلُّه على أهل الجنة
{أكبر}: مما هم فيه من النعيم؛ فإنَّ نعيمهم لم يَطِبْ إلا برؤية ربِّهم ورضوانه عليهم، ولأنَّه الغاية التي أمَّها العابدون، والنهاية التي سعى نحوها المحبُّون؛ فرضا ربِّ الأرض والسماوات أكبرُ من نعيم الجنات.
{ذلك هو الفوزُ العظيم}: حيث حَصلوا على كلِّ مطلوب، وانتفى عنهم كلُّ محذور، وحسنتْ وطابت منهم جميع الأمور، فنسأل الله أن يجعلنا معهم بجودِهِ.
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}.
#
{73} يقول تعالى لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -:
{يا أيُّها النبيُّ جاهد الكفار والمنافقين}؛
أي: بالغ في جهادهم، والغلظة عليهم حيث اقتضت الحال الغِلْظة عليهم، وهذا الجهاد يدخل فيه الجهاد باليد والجهاد بالحجة واللسان؛ فمن بارز منهم بالمحاربة؛ فيجاهَد باليد واللسان والسيف والسنان ، ومن كان مذعناً للإسلام بذمَّة أو عهدٍ؛ فإنه يجاهَدُ بالحجة والبرهان، ويبيَّن له محاسن الإسلام ومساوئ الشرك والكفران ؛ فهذا ما لهم في الدنيا،
{و} أما في الآخرة؛ فَمَأواهم
{جهنم}؛
أي: مقرُّهم الذي لا يخرجون منها،
{وبئس المصير}.
#
{74} {يحلفونَ بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمةَ الكفرِ}؛
أي: إذا قالوا قولاً كقول من قال منهم:
{لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ}، والكلام الذي يتكلَّم به الواحد بعد الواحد في الاستهزاء بالدين وبالرسول؛ فإذا بلغهم أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد بلغه شيء من ذلك؛ جاؤوا إليه يحلفون بالله ما قالوا،
قال تعالى مكذِّباً لهم: {ولقد قالوا كلمةَ الكفر وكفروا بعد إسلامهم}: فإسلامهم السابق، وإن كان ظاهره أنه أخرجهم من دائرة الكفر؛ فكلامُهم الأخير ينقُضُ إسلامهم ويدخِلُهم بالكفر.
{وهمُّوا بما لم ينالوا}: وذلك حين همُّوا بالفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك، فقصَّ الله عليه نبأهم، فأمر من يصدُّهم عن قصدهم.
{و} الحال أنهم
{ما نقموا} وعابوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
{إلَّا أنْ أغناهم اللهُ ورسولُه من فضله}: بعد أن كانوا فقراء معوزين،
وهذا من أعجب الأشياء: أن يستهينوا بمن كان سبباً لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ومغنياً لهم بعد الفقر! وهل حقُّه عليهم إلا أن يعظِّموه ويؤمنوا به ويُجِلُّوه؟!
[فاجتمع الدَّاعي الديني وداعي المروءة الإنسانية]. ثم عرض عليهم التوبة،
فقال: {فإن يتوبوا يكُ خيراً لهم}؛ لأن التوبة أصلٌ لسعادة الدُّنيا والآخرة،
{وإن يَتَوَلَّوا}: عن التوبة والإنابة
{يعذِّبْهم الله عذاباً أليماً في الدُّنيا والآخرة}: في الدنيا بما ينالهم من الهم والغم والحزن على نصرة الله لدينه وإعزاز نبيِّه وعدم حصولهم على مطلوبهم، وفي الآخرة في عذاب السعير.
{وما لهم في الأرض من وليٍّ}: يتولَّى أمورهم ويُحَصِّلُ لهم المطلوب،
{ولا نصيرٍ}: يدفع عنهم المكروه، وإذا انقطعوا من ولاية الله تعالى؛ فثمَّ أصناف الشرِّ والخسران والشقاء والحرمان.
{وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)}.
#
{75} أي: ومن هؤلاء المنافقين من أعطى الله عهدَهُ وميثاقَهُ،
{لئن آتانا من فضلِهِ}: من الدنيا فبسطها لنا ووسَّعها،
{لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنكونَنَّ من الصالحين}: فنصل الرحم ونُقري الضيف، ونعينُ على نوائب الحقِّ، ونفعل الأفعال الحسنة الصالحة.
#
{76} {فلما آتاهُم من فضلِهِ}: لم يفوا بما قالوا، بل
{بَخِلوا} و
{وتولَّوْا}: عن الطاعة والانقياد،
{وهم معرضون}؛
أي: غير ملتفتين إلى الخير.
#
{77} فلما لم يفوا بما عاهدوا الله عليه؛ عاقبهم و
{أعقبهم نفاقاً في قلوبهم}: مستمر
{إلى يوم يَلْقَوْنَهُ بما أخلفوا اللهَ ما وعدوه وبما كانوا يكذبون}: فليحذر المؤمنُ من هذا الوصف الشنيع أن يعاهد ربَّه إن حصل مقصودُهُ الفلانيُّ؛ ليفعلنَّ كذا وكذا، ثم لا يفي بذلك؛ فإنَّه ربما عاقبه الله بالنفاق كما عاقب هؤلاء، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثابت في
«الصحيحين»:
«آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّثَ كَذَبَ، وإذا عاهد غَدَرَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ»؛ فهذا المنافق الذي وعد الله وعاهده لئن أعطاه الله من فضله؛
ليصَّدَّقن وليكوننَّ من الصالحين: حدَّث فكذب، وعاهد
[فغدر] ، ووعد فأخلف.
#
{78} ولهذا توعَّد من صدر منهم هذا الصنيع بقوله:
{ألم يعلموا أنَّ الله يعلم سرَّهم ونجواهم وأنَّ الله علام الغيوب}: وسيجازيهم على ما عملوا من الأعمال التي يعلمها الله تعالى.
وهذه الآيات نزلت في رجل من المنافقين يقال له ثعلبة، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسأله أن يدعوَ الله له أن يعطِيَه الله من فضله، وأنه إن أعطاه ليتصدقنَّ ويصل الرحم ويعين على نوائب الحقِّ، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - له، فكان له غنم، فلم تزل تتنامى حتى خرج بها عن المدينة، فكان لا يحضر إلاَّ بعض الصلوات الخمس، ثم أبعد فكان لا يحضر إلا صلاة الجمعة، ثم كثرت فأبعدها فكان لا يحضر جمعة ولا جماعة، ففقده النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخبر بحاله، فبعث من يأخذ الصدقات من أهلها، فمروا على ثعلبة،
فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية. فلما لم يعطهم؛ جاؤوا فأخبروا بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -،
فقال: «يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة!» ثلاثاً. فلما نزلت هذه الآية فيه وفي أمثاله؛ ذهب بها بعض أهله، فبلَّغه إيَّاها، فجاء بزكاته، فلم يقبلْها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاء بها إلى أبي بكر بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يقبلها، ثم جاء بها بعد أبي بكر إلى عمر، فلم يقبلها،
فيقال: إنه هلك في زمن عثمان.
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)}.
#
{79} وهذا أيضاً من مخازي المنافقين، فكانوا قبَّحهم الله لا يدعون شيئاً من أمور الإسلام والمسلمين يرون لهم مقالاً؛ إلا قالوا وطعنوا بغياً وعدواناً، فلما حثَّ الله ورسوله على الصدقة؛ بادر المسلمون إلى ذلك، وبذلوا من أموالهم كل على حسب حاله، منهم المكثر ومنهم المقل، فيلمزون المكثر منهم بأنَّ قصدَه بنفقته الرياء والسمعة،
وقالوا للمقلِّ الفقير: إنَّ الله غنيٌّ عن صدقة هذا،
فأنزل الله تعالى: {الذين يَلْمِزون}؛
أي: يعيبون ويطعنون
{المُطَّوِّعين من المؤمنين في الصدقات}: فيقولون: مراؤون قصدُهم الفخر والرياء
{و} يلمزون
{الذين لا يَجِدون إلا جُهْدَهم}: فيخرِجون ما استطاعوا ويقولون: الله غنيٌّ عن صدقاتهم،
{فيسخرون منهم}، فقابلهم الله على صنيعهم بأن سَخِرَ منهم،
{ولهم عذابٌ أليم}؛
فإنَّهم جمعوا في كلامهم هذا بين عدة محاذير:
منها: تتبُّعهم لأحوال المؤمنين وحرصهم على أن يجدوا مقالاً يقولونه فيهم،
والله يقول: {إنَّ الذين يحبُّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ}.
ومنها: طعنهم بالمؤمنين لأجل إيمانهم كفراً بالله تعالى وبغضاً للدين.
ومنها: أن اللَّمز محرمٌ، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا، وأما اللَّمز في أمر الطاعة؛ فأقبحُ وأقبح.
ومنها: أنَّ من أطاع الله وتطوَّع بخَصْلةٍ من خصال الخير؛ فإنَّ الذي ينبغي إعانته وتنشيطه على عمله، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم، وعابوهم عليه.
ومنها: أنَّ حكمهم على من أنفق مالاً كثيراً بأنه مراءٍ غلطٌ فاحشٌ وحكم على الغيب ورجمٌ بالظن، وأيُّ شرٍّ أكبر من هذا؟
!
ومنها: أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة: اللهُ غنيٌّ عن صدقة هذا! كلامٌ مقصوده باطلٌ؛ فإنَّ الله غنيٌ عن صدقة المتصدِّق بالقليل والكثير، بل وغني عن أهل السماوات والأرض، ولكنه تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون إليه؛ فالله وإن كان غنيًّا عنه؛ فهم فقراء إليه؛
{فمن يعملْ مثقال ذرَّةٍ خيراً يره}، وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهرٌ بيّن، ولهذا كان جزاؤهم أن يسخر الله منهم،
{ولهم عذابٌ أليمٌ}.
#
{80} {استغفرْ لهم أو لا تستغفرْ لهم إن تستغفرْ لهم سبعين مرَّةً}: على وجه المبالغة، وإلاَّ؛ فلا مفهوم لها،
{فلن يغفرَ الله لهم}؛
كما قال في الآية الأخرى: {سواءٌ عليهم أسْتَغْفَرْتَ لهم أم لم تستغفِرْ لهم لن يَغْفِرَ الله لهم}. ثم ذكر السبب المانع لمغفرة الله لهم،
فقال: {ذلك بأنَّهم كفروا بالله ورسوله}: والكافر لا ينفعه الاستغفار ولا العمل ما دام كافراً.
{والله لا يهدي القوم الفاسقين}؛
أي: الذين صار الفسقُ لهم وصفاً؛ بحيث لا يختارون عليه سواه، ولا يبغون به بدلاً، يأتيهم الحقُّ الواضح فيردُّونه فيعاقبهم الله تعالى بأنْ لا يوفِّقهم له بعد ذلك.
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)}.
#
{81} يقول تعالى مبيناً تبجُّح المنافقين بتخلُّفهم وعدم مبالاتهم بذلك الدالِّ على عدم الإيمان واختيار الكفر على الإيمان:
{فرِحَ المخلَّفون بمَقْعَدِهم خلافَ رسول الله}: وهذا قدر زائد على مجرَّد التخلُّف؛ فإنَّ هذا تخلُّفٌ محرَّمٌ، وزيادةُ رضا بفعل المعصية وتبجحٍ به.
{وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله}: وهذا بخلاف المؤمنين، الذين إذا تخلَّفوا ولو لعذرٍ؛ حزنوا على تخلُّفهم، وتأسَّفوا غاية الأسف، ويحبُّون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله؛ لما في قلوبهم من الإيمان، ويرجون من فضل الله وإحسانه وبره وامتنانه.
{وقالوا}؛
أي: المنافقون:
{لا تنفِروا في الحرِّ}؛
أي: قالوا: إنَّ النفير مشقَّةٌ علينا بسبب الحرِّ فقدموا راحة قصيرة منقضية على الراحة الأبدية التامة، وحذروا من الحرِّ الذي يقي منه الظلال ويُذْهِبُه البكر والآصال على الحرِّ الشديد الذي لا يُقادَرُ قدره، وهو النار الحامية،
ولهذا قال: {قل نارُ جهنَّم أشدُّ حرًّا لو كانوا يفقهون}.
#
{82} لَمَّا آثروا ما يفنى على ما يبقى، ولَمَّا فرُّوا من المشقَّة الخفيفة المنقضية إلى المشقَّة الشديدة الدائمة؛
قال تعالى: {فَلْيَضْحكوا قليلاً ولْيَبْكوا كثيراً}؛
أي: فليتمتَّعوا في هذه الدار المنقضية، ويفرحوا بلذَّاتها، ويَلْهوا بلعبها، فسيبكون كثيراً في عذاب أليم.
{جزاءً بما كانوا يكسِبونَ}: من الكفر والنفاق وعدم الانقياد لأوامر ربِّهم.
#
{83} {فإن رَجَعَكَ الله إلى طائفةٍ منهم}: وهم الذين تخلَّفوا من غير عذرٍ ولم يحزنوا على تخلُّفهم.
{فاستأذنوك للخروج}: لغير هذه الغزوة إذا رأوا السهولة،
{فقل} لهم عقوبةً:
{لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوًا}: فسيُغني الله عنكم،
{إنَّكم رضيتُم بالقعود أولَ مرَّةٍ فاقعُدوا مع الخالفين}: وهذا كما قال تعالى:
{ونُقَلِّبُ أفئِدَتَهم وأبصارَهم كما لم يؤمِنوا به أولَ مرَّةٍ}؛ فإنَّ المتثاقل المتخلِّف عن المأمور به عند انتهازِ الفرصة لن يوفَّق له بعد ذلك ويُحال بينه وبينه، وفيه أيضاً تعزيرٌ لهم؛ فإنَّه إذا تقرَّر عند المسلمين أنَّ هؤلاء من الممنوعين من الخروج إلى الجهاد لمعصيتهم؛ كان ذلك توبيخاً لهم وعاراً عليهم ونَكالاً أن يفعلَ أحدٌ كفعلِهم.
{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)}.
#
{84} يقول تعالى:
{ولا تصلِّ على أحدٍ منهم مات}: من المنافقين،
{ولا تَقُمْ على قبرِهِ}: بعد الدفن لتدعو له؛ فإنَّ صلاته ووقوفه على قبورهم شفاعةٌ منه لهم، وهم لا تنفع فيهم الشفاعة،
{إنَّهم كفروا بالله ورسولِهِ وماتوا وهم فاسقون}: ومن كان كافراً ومات على ذلك؛ فما تنفعُه شفاعةُ الشافعين، وفي ذلك عبرةٌ لغيرهم وزجرٌ ونَكالٌ لهم، وهكذا كلُّ من عُلم منه الكفر والنِّفاق؛ فإنَّه لا يصلَّى عليه.
وفي هذه الآية دليلٌ على مشروعيَّة الصلاة على المؤمنين والوقوف عند قبورِهم للدُّعاء لهم كما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك في المؤمنين؛ فإنَّ تقييد النهي بالمنافقين يدلُّ على أنه قد كان متقرراً في المؤمنين.
{وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)}.
#
{85} أي: لا تغترَّ بما أعطاهم الله في الدُّنيا من الأموال والأولاد؛ فليس ذلك لكرامتهم عليه، وإنَّما ذلك إهانة منه لهم.
{يريد الله أن يعذِّبهم بها في الدنيا}: فيتعبون في تحصيلها، ويخافون من زوالها، ولا يتهنَّون بها، بل لا يزالون يعانون الشدائد والمشاقَّ فيها، وتُلهيهم عن الله والدار الآخرة، حتى ينتقلوا من الدنيا،
{وتزهقَ أنفسُهم وهم كافرون}: قد سَلَبَهم حبُّها عن كلِّ شيء، فماتوا وقلوبهم بها متعلِّقة وأفئدتهم عليها متحرِّقة.
{وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)}.
#
{86} يقول تعالى في بيان استمرار المنافقين على التثاقل عن الطاعات وأنها لا تؤثِّر فيهم السور والآيات:
{وإذا أنزِلَتْ سورةٌ}: يؤمرون فيها بالإيمان بالله والجهاد في سبيل الله،
{استأذَنَكَ أولو الطَّوْل منهم}؛
يعني: أولي الغنى والأموال الذين لا عُذْرَ لهم، وقد أمدَّهم الله بأموال وبنين، أفلا يشكرون الله ويَحْمَدونه ويقومون بما أوجبه عليهم وسهل عليهم أمره؟! ولكن أبوا إلا التكاسل والاستئذان في القعود،
{وقالوا ذَرْنا نَكُن مع القاعدين}.
#
{87} قال تعالى:
{رَضوا بأن يكونوا مع الخوالف}؛
أي: كيف رضوا لأنفسهم أن يكونوا مع النساء المتخلِّفات عن الجهاد؟! هل معهم فقهٌ أو عقلٌ دلَّهم على ذلك أم
{طَبَعَ الله على قلوبهم}؟! فلا تعي الخير ولا يكونُ فيها إرادةٌ لفعل ما فيه الخير والفلاح؛ فهم لا يفقهون مصالحهم؛ فلو فقهوا حقيقة الفقه؛ لم يرضَوْا لأنفُسِهم بهذه الحال التي تحطُّهم عن منازل الرجال.
{لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}.
#
{88} يقول تعالى: إذا تخلَّف هؤلاء المنافقون عن الجهاد؛ فالله سيُغْني عنهم، ولله عبادٌ وخواصٌّ من خلقِهِ اختصَّهم بفضله يقومون بهذا الأمر، وهم
{الرسول}: محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -،
{والذين آمنوا معه} يجاهدون
{بأموالهم وأنفسهم}: غير متثاقلين ولا كَسِلين، بل هم فرحون مستبشرون، فأولئك
{لهم الخيراتُ}: الكثيرةُ في الدُّنيا والآخرة. فأولئك
{هم المفلحون}: الذين ظَفِروا بأعلى المطالب وأكمل الرغائب.
#
{89} {أعدَّ الله لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ذلك الفوزُ العظيمُ}: فتبًّا لمن لم يرغبْ بما رغبوا فيه وخَسِرَ دينه ودنياه وأخراه،
وهذا نظيرُ قوله تعالى: {قل آمِنوا به أو لا تؤمنوا إنَّ الذين أوتوا العلمَ من قبلِهِ إذا يُتلى عليهم يَخِرَّون للأذقانِ سُجَّداً}،
وقوله: {فإن يَكْفُرْ بها هؤلاءِ فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرينَ}.
{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)}.
#
{90} يقول تعالى:
{وجاء المعذِّرونَ من الأعراب لِيُؤْذَنَ لهم}؛
أي: جاء الذين تهاونوا وقصَّروا منهم في الخروج لأجل أن يؤذنَ لهم في ترك الجهاد؛ غيرَ مبالين في الاعتذار لجفائهم وعدم حيائهم وإتيانهم بسبب ما معهم من الإيمان الضعيف، وأما الذين كذبوا الله ورسوله منهم؛ فقعدوا وتركوا الاعتذار بالكلِّيَّة.
ويُحتمل أنَّ معنى قوله: {المعذِّرون}؛
أي: الذين لهم عذرٌ أتوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لِيَعْذِرَهم، ومن عادته أن يَعْذِرَ مَن له عذرٌ،
{وَقَعَدَ الذين كَذَبوا الله ورسوله}: في دعواهم الإيمان المقتضي للخروج وعدم عملهم بذلك.
ثم توعدهم بقوله: {سيُصيب الذين كفروا منهم عذابٌ أليمٌ}: في الدُّنيا والآخرة.
#
{91} لما ذكر المعتذرين،
وكانوا على قسمين: قسم معذور في الشرع، وقسم غير معذورٍ؛
ذَكَرَ ذلك بقوله: {ليس على الضُّعفاء}: في أبدانهم وأبصارهم، الذين لا قوَّة لهم على الخروج والقتال،
{ولا على المرضى}: وهذا شاملٌ لجميع أنواع المرض، التي لا يقدر صاحبُهُ على الخروج والجهاد من عَرَج وعمىً وحُمَّى وذات الجنب والفالج وغير ذلك.
{ولا على الذين لا يَجِدونَ ما يُنفقون}؛
أي: لا يجدون زاداً ولا راحلةً يتبلَّغون بها في سفرهم؛ فهؤلاء ليس عليهم حَرَجٌ، بشرط أن ينصحوا لله ورسوله؛ بأن يكونوا صادقي الإيمان، وأن يكون من نيَّتهم وعزمهم أنهم لو قدروا لجاهدوا، وأن يفعلوا ما يقدِرون عليه من الحثِّ والترغيب والتَّشجيع على الجهاد.
{ما على المحسنين من سبيل}؛
أي: من سبيل يكونُ عليهم فيه تَبِعَةٌ؛ فإنهم بإحسانهم فيما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد أسقطوا توجُّه اللوم عليهم، وإذا أحسن العبدُ فيما يقدِرُ عليه؛ سقط عنه ما لا يقدرُ عليه.
ويُستدلُّ بهذه الآية على قاعدة، وهي أنَّ مَن أحسن على غيره في نفسه أو في ماله ونحو ذلك،
ثم ترتَّب على إحسانه نقصٌ أو تلفٌ: أنَّه غير ضامن؛ لأنه محسنٌ، ولا سبيل على المحسنين؛ كما أنه يدلُّ على أن غير المحسن، وهو المسيء؛ كالمفرط؛ أن عليه الضمان.
{والله غفورٌ رحيم}: من مغفرته ورحمته عفا عن العاجزين، وأثابهم بنيَّتهم الجازمة ثوابَ القادرين الفاعلين.
#
{92} {ولا على الذين إذا ما أتَوْكَ لِتَحْمِلَهم}: فلم يصادفوا عندك شيئاً.
{قلتَ}: لهم معتذراً:
{لا أجِدُ ما أحمِلُكم عليه تَوَلَّوْا وأعينُهم تفيضُ من الدمع حَزَناً أن لا يجدوا ما ينفقون}: فإنهم عاجزون باذلون لأنفسهم، وقد صدر منهم من الحزن والمشقَّة ما ذكره الله عنهم؛ فهؤلاء لا حَرَجَ عليهم، وإذا سقط الحرجُ عنهم؛ عاد الأمر إلى أصله، وهو أنَّ مَن نوى الخير واقترن بنيَّته الجازمة سَعْيٌ فيما يقدِرُ عليه ثم لم يقدِرْ؛ فإنَّه ينزَّلُ منزلة الفاعل التامِّ.
#
{93} {إنَّما السبيل}: يتوجَّه واللوم يتناول
{الذين يستأذِنونك وهم أغنياءٌ}: قادرون على الخروج لا عذرَ لهم؛ فهؤلاء
{رضوا} لأنفسهم، ومن دينهم
{أن يكونوا مع الخَوالِفِ}؛ كالنساء والأطفال ونحوهم.
{و} إنَّما رضوا بهذه الحال لأنَّ الله طَبَعَ
{على قلوبهم}؛
أي: خَتَمَ عليها؛ فلا يدخُلها خيرٌ، ولا يحسُّون بمصالحهم الدينيَّة والدنيويَّة،
{فهم لا يعلمون}: عقوبةً لهم على ما اقترفوا.
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)}.
#
{94} لما ذكر تخلُّف المنافقين الأغنياء، وأنه لا عذر لهم؛ أخبر أنهم سيعتذرون
{إليكم إذا رجعتُم إليهم}: من غزاتكم،
{قُلْ} لهم:
{لا تعتِذروا لن نؤمنَ لكم}؛
أي: لن نصدِّقَكم في اعتذاركم الكاذب،
{قد نبَّأنا الله من أخبارِكم}: وهو الصادق في قيله، فلم يبقَ للاعتذار فائدةٌ؛ لأنهم يعتذِرون بخلاف ما أخبر الله عنهم، ومحالٌ أن يكونوا صادقين فيما يخالِفُ خَبَرَ الله الذي هو أعلى مراتب الصدق.
{وسيرى اللهُ عمَلَكم ورسولُه}: في الدُّنيا؛ لأنَّ العمل هو ميزان الصدق من الكذب، وأما مجرَّد الأقوال؛ فلا دلالة فيها على شيء من ذلك،
{ثم تُرَدُّون إلى عالم الغيبِ والشهادة}: الذي لا يخفى عليه خافيةٌ،
{فينبِّئُكم بما كنتُم تعملون}: من خيرٍ وشرٍّ، ويجازيكم بعدله أو بفضله؛ من غير أن يظلِمَكم مثقالَ ذرَّةٍ.
#
{95} واعلم أن المسيء المذنب له ثلاثُ حالاتٍ: إما يُقْبَلُ قولُه وعذرُه ظاهراً وباطناً ويُعفى عنه بحيث يبقى كأنه لم يذنبْ.
[فهذه الحالة هي المذكورة هنا في حق المنافقين أن عذرهم غير مقبول، وأنه قد تقررت أحوالهم الخبيثة وأعمالهم السيئة]. وإما أن يُعاقبوا بالعقوبة والتَّعزير الفعليِّ على ذنبهم. وإما أن يُعْرَضَ عنهم، ولا يقابَلوا بما فعلوا بالعقوبة الفعليَّة. وهذه الحال الثالثة هي التي أمر الله بها في حقِّ المنافقين،
ولهذا قال: {سيحلفون باللهِ لكم إذا انقلبتُم إليهم لتُعْرِضوا عنهم فأعرِضوا عنهم}؛
أي: لا توبِّخوهم ولا تجلِدوهم أو تقتُلوهم.
{إنَّهم رجسٌ}؛
أي: إنهم قذرٌ خبثاء، ليسوا بأهل لأن يُبالى بهم، وليس التوبيخ والعقوبة مفيداً فيهم.
{و} تكفيهم عقوبة
{جهنَّم جزاءً بما كانوا يكسِبون}.
#
{96} وقوله:
{يحلفون لكم لترضَوْا عنهم}؛
أي: ولهم أيضاً هذا المقصد الآخر منكم غير مجرَّد الإعراض، بل يحبُّون أن ترضَوْا عنهم كأنَّهم ما فعلوا شيئاً.
{فإن ترضَوْا عنهم فإنَّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقينَ}؛
أي: فلا ينبغي لكم أيُّها المؤمنون أن ترضَوْا عن من لم يرضَ اللهُ عنه، بل عليكم أن توافقوا ربَّكم في رضاه وغضبه.
وتأمَّلْ كيف قال: {فإنَّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين}،
ولم يقلْ: فإنَّ الله لا يرضى عنهم؛ ليدلَّ ذلك على أن باب التوبة مفتوح، وأنهم مهما تابوا هم أو غيرهم؛ فإنَّ الله يتوب عليهم ويرضى عنهم، وأما ما داموا فاسقين؛ فإنَّ الله لا يرضى عليهم؛ لوجود المانع من رضاه، وهو خروجهم عن ما رضيه الله لهم من الإيمان والطاعة إلى ما يُغْضِبُه من الشرك والنفاق والمعاصي.
وحاصل ما ذكره الله أنَّ المنافقين المتخلِّفين عن الجهاد من غير عذر إذا اعتذروا للمؤمنين وزعموا أن لهم أعذاراً في تخلُّفهم؛
فإنَّ المنافقين يريدون بذلك أن تُعْرِضوا عنهم وتَرْضَوْا وتقبلوا عذرَهم: فأمَّا قَبولُ العذر منهم والرضا عنهم؛ فلا حبًّا ولا كرامةً لهم. وأمَّا الإعراض عنهم؛ فيعرِض المؤمنون عنهم إعراضَهم عن الأمور الرديَّة الرجس.
وفي هذه الآيات إثباتُ الكلام لله تعالى في قوله.
{قد نبَّأنا الله من أخباركم}،
وإثبات الأفعال الاختياريَّة لله الواقعة بمشيئته وقدرته في هذا وفي قوله: {وسيرى الله عَمَلَكُم ورسولُه}؛ أخبر أنه سيراه بعد وقوعه. وفيها إثبات الرِّضا لله عن المحسنين والغضب والسخط على الفاسقين.
{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}.
#
{97} يقول تعالى:
{الأعرابُ}: وهم سكان البادية والبراري،
{أشدُّ كفراً ونفاقاً}: من الحاضرة الذين فيهم كفرٌ ونفاقٌ، وذلك لأسبابٍ كثيرة؛
منها: أنهم بعيدون عن معرفة الشرائع الدينيَّة والأعمال والأحكام؛ فهم أحرى
{وأجدرُ أن لا يعلموا حدودَ ما أنزلَ الله على رسوله}: من أصول الإيمان وأحكام الأوامر والنواهي؛ بخلاف الحاضرة؛ فإنَّهم أقرب لأن يعلموا حدود ما أنزل الله على رسولِهِ، فيحدُثُ لهم بسبب هذا العلم تصوُّرات حسنة وإرادات للخير الذي يعلمون ما لا يكون في البادية. وفيهم من لطافة الطبع والانقياد للدَّاعي ما ليس في البادية. ويجالسون أهل الإيمان، ويخالطونهم أكثر من أهل البادية؛ فلذلك كانوا أحرى للخير من أهل البادية، وإن كان في البادية والحاضرة كفارٌ ومنافقون؛ ففي البادية أشدُّ وأغلظ مما في الحاضرة.
#
{98} ومن ذلك أنَّ الأعراب أحرصُ على الأموال وأشحُّ فيها؛ فمنهم
{من يتَّخذُ ما ينفِقُ}: من الزكاة والنفقة في سبيل الله وغير ذلك،
{مغرماً}؛
أي: يراها خسارة ونقصاً، لا يحتسب فيها، ولا يريد بها وجه الله، ولا يكادُ يؤدِّيها إلا كرهاً،
{ويتربَّص بكم الدوائرَ}؛
أي: من عداوتهم للمؤمنين وبُغضهم لهم أنهم يودُّون وينتظرون فيهم دوائر الدَّهر وفجائع الزمان، وهذا سينعكس عليهم. فعليهم
{دائرةُ السَّوْء}، أما المؤمنون؛ فلهم الدائرةُ الحسنةُ على أعدائهم، ولهم العُقبى الحسنة.
{والله سميعٌ عليمٌ}: يعلم نيات العباد وما صدرت منه الأعمال من إخلاص وغيره.
#
{99} وليس الأعراب كلُّهم مذمومين، بل منهم
{مَن يؤمنُ بالله واليوم الآخر}: فيسلم بذلك من الكفر والنفاق، ويعمل بمقتضى الإيمان،
{ويتَّخِذُ ما ينفِقُ قُرُباتٍ عند الله}؛
أي: يحتسب نفقته ويقصد بها وجهَ الله تعالى والقربَ منه،
{و} يجعَلُها وسيلةً لِصَلَواتِ
{الرسول}؛
أي: دعائه لهم وتبريكه عليهم.
قال تعالى مبيِّناً لنفع صلوات الرسول: {ألا إنَّها قُربةٌ لهم}: تقرِّبهم إلى الله، وتُنمي أموالهم، وتُحِلُّ فيها البركة.
{سيدخِلُهم الله في رحمته}: في جملة عباده الصالحين. إنَّه
{غفورٌ رحيمٌ}: فيغفر السيئاتِ العظيمةَ لمن تاب إليه، ويَعُمُّ عباده برحمتِهِ التي وسعت كلَّ شيء، ويخصُّ عباده المؤمنين برحمةٍ يوفِّقهم فيها إلى الخيرات، ويحميهم فيها من المخالفات، ويجزِلُ لهم فيها أنواع المثوبات.
وفي هذه الآية دليلٌ على أنَّ الأعراب كأهل الحاضرة؛ منهم الممدوح ومنهم المذموم، فلم يذمُّهم الله على مجرَّد تعرُّبهم وباديتهم، إنَّما ذمَّهم على ترك أوامر الله، وأنهم في مظنة ذلك.
ومنها: أنَّ الكفر والنفاق يزيد وينقص ويغلُظُ، ويخِفُّ بحسب الأحوال.
ومنها: فضيلة العلم، وأنَّ فاقِدَه أقرب إلى الشرِّ ممَّن يعرفه؛ لأنَّ الله ذمَّ الأعراب، وأخبر أنهم أشدُّ كفراً ونفاقاً، وذكر السبب الموجب لذلك، وأنَّهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله.
ومنها: أن العلم النافع الذي هو أنفع العلوم معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله من أصول الدين وفروعه؛ كمعرفة حدود الإيمان والإسلام والإحسان والتقوى والفلاح والطاعة والبرِّ والصِّلة والإحسان والكفر والنفاق والفسوق والعصيان والزنا والخمر والربا ونحو ذلك؛ فإن في معرفتها يُتَمَكَّن من فعلها إن كانت مأموراً بها أو تركها إن كانت محظورة، ومن الأمر بها أو النهي عنها.
ومنها: أنه ينبغي للمؤمن أن يؤدي ما عليه من الحقوق، منشرح الصدر، مطمئن النفس، ويحرص أن تكون مغنماً ولا تكون مغرماً.
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}.
#
{100} السابقون هم الذين سبقوا هذه الأمة وبَدَروها إلى الإيمان والهجرة والجهاد وإقامة دين الله،
{من المهاجرين}:
{الذين أُخْرِجوا من ديارهم وأموالهم يبتغونَ فضلاً من الله ورضواناً وينصُرون الله ورسولَه أولئك هم الصادقون}.
{و} من
{الأنصار}:
{الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلِهِم يحبُّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورِهم حاجةً مما أوتوا ويؤثِرون على أنفسِهم ولو كان بهم خَصاصَةٌ}.
{والذين اتَّبَعوهم بإحسانٍ}: بالاعتقادات والأقوال والأعمال؛ فهؤلاء هم الذين سَلِموا من الذَّمِّ وحصل لهم نهاية المدح وأفضلُ الكرامات من الله.
{رضي الله عنهم}: ورضاه تعالى أكبرُ من نعيم الجنة،
{ورَضوا عنه وأعدَّ لهم جناتٍ تجري تحتَها الأنهار}: الجارية التي تُساق إلى سقي الجنان والحدائق الزاهية الزاهرة والرياض الناضرة.
{خالدين فيها أبداً}: لا يبغون عنها حِوَلاً ولا يطلبون منها بدلاً؛ لأنَّهم مهما تمنَّوه أدركوه، ومهما أرادوه وجدوه.
{ذلك الفوز العظيم}: الذي حصل لهم فيه كلُّ محبوبٍ للنفوس ولذَّة للأرواح ونعيم للقلوب وشهوة للأبدان، واندفع عنهم كلُّ محذور.
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)}.
#
{101} يقول تعالى:
{وممَّن حولَكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة}: أيضاً منافقون،
{مَرَدُوا على النِّفاق}؛
أي: تمرَّنوا عليه
[واستمرّوا] وازدادوا فيه طغياناً،
{لا تعلَمُهم}: بأعيانهم فتعاقبهم أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم؛ لما لله في ذلك من الحكمة الباهرة.
{نحن نعلمُهم سنعذِّبهم مرتينِ}: يُحتمل أن التثنية على بابها، وأنَّ عذابَهم عذابٌ في الدنيا وعذابٌ في الآخرة؛ ففي الدُّنيا ما ينالهم من الهمِّ والغمِّ والكراهة لما يصيب المؤمنين من الفتح والنصر، وفي الآخرة عذابُ النار وبئس القرار، ويُحتمل أنَّ المراد سنغلِّظُ عليهم العذاب، ونضاعفه عليهم، ونكرِّره.
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}.
#
{102} يقول تعالى:
{وآخرون}: ممَّن بالمدينة ومَنْ حولها، بل ومن سائر البلاد الإسلاميَّة،
{اعترفوا بذنوبهم}؛
أي: أقرُّوا بها وندموا عليها وسعوا في التوبة منها والتطهُّر من أدرانها،
{خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيِّئاً}: ولا يكون العمل صالحاً إلا إذا كان مع العبد أصلُ التوحيد والإيمان المخرِجُ عن الكفر والشرك الذي هو شرطٌ لكلِّ عمل صالح؛ فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة من التجرِّي على بعض المحرَّمات والتقصير في بعض الواجبات مع الاعتراف بذلك والرجاء بأن يغفر الله لهم؛ فهؤلاء
{عسى اللهُ أن يتوبَ عليهم}: وتوبتُه على عبده نوعان: الأولُ: التوفيقُ للتوبة.
والثاني: قبولُها بعد وقوعها منهم.
{إنَّ الله غفورٌ رحيم}؛
أي: وصفه المغفرة والرحمة اللتان لا يخلو مخلوقٌ منهما، بل لا بقاء للعالم العلويِّ والسفليِّ إلا بهما؛ فلوْ يؤاخِذُ اللهُ الناسَ بظُلْمهم ما ترك على ظهرها من دابَّةٍ،
{إنَّ الله يمسك السمواتِ والأرضَ أن تزولا ولئن زالتا إنْ أمَسكَهما من أحدٍ من بعدِهِ إنَّه كان حليماً غفوراً}، ومن مغفرته أن المسرفين على أنفسهم الذين قطعوا أعمارهم بالأعمال السيئة إذا تابوا إليه وأنابوا، ولو قُبيل موتهم بأقلِّ القليل؛ فإنَّه يعفو عنهم ويتجاوزُ عن سيئاتهم. فهذه الآية دالةٌ على أن المخلِّط المعترف النادم الذي لم يتب توبةً نصوحاً؛ أنه تحت الخوف والرجاء، وهو إلى السلامة أقرب، وأما المخلِّط الذي لم يعترفْ، ولم يندم على ما مضى منه، بل لا يزال مصرًّا على الذُّنوب؛ فإنه يخاف عليه أشدُّ الخوف.
#
{103} قال تعالى لرسوله ومَنْ قام مقامه آمراً له بما يطهِّر المؤمنين ويتمِّم إيمانهم:
{خُذْ من أموالهم صدقةً}: وهي الزكاة المفروضة،
{تطهِّرُهم وتزكِّيهم بها}؛
أي: تطهِّرهم من الذُّنوب والأخلاق الرذيلة،
{وتزكِّيهم}؛
أي: تنميهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي أموالهم،
{وصَلِّ عليهم}؛
أي: ادع لهم؛
أي: للمؤمنين عموماً وخصوصاً عندما يدفعون إليك زكاة أموالهم.
{إنَّ صلاتَك سَكَنٌ لهم}؛
أي: طُمَأنينة لقلوبهم واستبشار لهم.
{والله سميع}: لدعائك سمعَ إجابة وقَبول.
{عليمٌ}: بأحوال العباد ونيَّاتهم، فيجازي كلَّ عامل بعمله وعلى قدر نيته. فكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يمتثِلُ لأمر الله، ويأمُرُهم بالصدقة، ويبعثُ عمَّاله لجبايتها؛ فإذا أتاه أحدٌ بصدقته؛ دعا له وبرَّك.
ففي هذه الآية دلالةٌ على وجوب الزكاة في جميع الأموال، وهذا إذا كانت للتجارة ظاهرة؛ فإنَّها أموالٌ تنمى ويُكتسب بها؛ فمن العدل أن يواسي منها الفقراء بأداء ما أوجب الله فيها من الزكاة. وما عدا أموال التجارة؛ فإن كان المال ينمى كالحبوب والثمار والماشية المتَخذة للنماء والدرِّ والنسل؛ فإنَّها تجب فيها الزكاة، وإلاَّ؛ لم تجبْ فيها؛ لأنَّها إذا كانت للقُنْية؛ لم تكن بمنزلة الأموال التي يتَّخذها الإنسان في العادة مالاً يُتَمَوَّل ويُطلب منه المقاصد المالية، وإنَّما صرف عن المالية بالقُنية ونحوها.
وفيها: أن العبد لا يمكنه أن يتطهَّر، ويتزكَّى حتى يخرِجَ زكاة مالِهِ، وأنَّه لا يكفِّرها شيءٌ سوى أدائها؛ لأنَّ الزكاة والتطهير متوقِّف على إخراجها.
وفيها: استحباب الدُّعاء من الإمام أو نائبه لمن أدَّى زكاته بالبركة، وأن ذلك ينبغي أن يكون جهراً؛ بحيث يسمعه المتصدِّق فيسكنُ إليه.
ويؤخذ من المعنى أنه ينبغي إدخالُ السرور على المؤمن بالكلام الليِّن والدعاء له ونحو ذلك مما يكون فيه طمأنينة وسكونٌ لقلبِهِ.
[وأنه ينبغي تنشيط من أنفق نفقةً، وعمل عملاً صالحاً بالدِّعاء له والثناء ونحو ذلك].
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}.
#
{104} أي: أما علموا سَعَةَ رحمة الله وعمومَ كرمه، وأنه
{يقبلُ التوبةَ عن عبادِهِ}: التائبين من أيِّ ذنبٍ كان، بل يفرحُ تعالى بتوبة عبده إذا تاب أعظم فرحٍ يقدَّر،
{ويأخُذُ الصدقاتِ}: منهم؛
أي: يقبلها ويأخُذُها بيمينه، فيُرَبِّيها لأحدهم كما يُربِّي الرجل فَلُوَّهُ، حتى تكون التمرةُ الواحدة كالجبل العظيم؛ فكيف بما هو أكبر وأكثر من ذلك.
{وأنَّ الله هو التوابُ الرحيمُ}؛
أي: كثير التوبة على التائبين؛ فمنْ تاب إليه؛ تاب عليه، ولو تكررتْ منه المعصيةُ مراراً، ولا يَمَلُّ الله من التوبة على عباده حتى يَمَلُّوا هم، ويأبوا إلا النَّفارَ والشُّرودَ عن بابه وموالاتَهم عدوَّهم.
{الرحيم}: الذي وسعت رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، وكَتَبَها للذين يتَّقون، ويؤتون الزكاة، ويؤمنون بآياته، ويتَّبعون رسوله.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}.
#
{105} يقول تعالى:
{وقُلْ} لهؤلاء المنافقين:
{اعمَلوا}: ما ترون من الأعمال، واستمرُّوا على باطلكم؛ فلا تحسَبوا أنَّ ذلك سيخفى،
{فسيرى اللهُ عَمَلَكم ورسولُه والمؤمنونَ}؛
أي: لا بدَّ أن يتبيَّن عملكم ويتَّضح،
{وستردُّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبِّئكم بما كنتُم تعملون}: من خيرٍ وشرٍّ ففي هذا التهديد والوعيد الشديد على مَن استمرَّ على باطله وطغيانه وغيِّه وعصيانه.
ويُحتمل أنَّ المعنى: إنَّكم مهما عملتُم من خيرٍ أو شرٍّ؛ فإنَّ الله مطَّلعٌ عليكم، وسَيُطْلِعُ رسولَه وعباده المؤمنين على أعمالكم ولو كانت باطنةً.
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}.
#
{106} أي:
{وآخرون}: من المخلَّفين مؤخَّرون
{لأمرِ الله إمَّا يعذِّبُهم وإمَّا يتوبُ عليهم}: ففي هذا التخويف الشديد للمتخلِّفين والحث لهم على التوبة والندم.
{واللهُ عليمٌ}: بأحوال العباد ونياتهم،
{حكيمٌ}: يضع الأشياء مواضعها، وينزِلُها منازلَها؛ فإذا اقتضت حكمتُه أن يغفر لهم ويتوب عليهم؛ غفر لهم وتاب عليهم. وإن اقتضت حكمتُه أن يخذُلَهم ولا يوفِّقهم للتوبة؛ فعل ذلك.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}.
#
{107} كان أناسٌ من المنافقين من أهل قُباء اتَّخذوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء يريدون به المضارَّة والمشاقَّة بين المؤمنين، ويُعِدُّونه لمن يرجونه من المحاربين لله ورسوله؛ يكون لهم حصناً عند الاحتياج إليه، فبيَّن تعالى خِزْيَهم، وأظهر سِرَّهم،
فقال: {والذين اتَّخذوا مسجداً ضراراً}؛
أي: مضارَّة للمؤمنين ولمسجدهم الذي يجتمعون فيه،
{وكفراً}؛
أي: مقصدهم فيه الكفر إذا قصد غيرهم الإيمان،
{وتفريقاً بين المؤمنين}؛
أي: ليتشعبوا ويتفرَّقوا ويختلفوا،
{وإرصاداً}؛
أي: إعداداً
{لمن حارب الله ورسوله مِن قبلُ}؛
أي: إعانة للمحاربين لله ورسوله، الذين تقدَّم حرابهم واشتدَّت عداوتهم، وذلك كأبي عامر الراهب، الذي كان من أهل المدينة، فلما قدم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهاجر إلى المدينة؛ كفر به، وكان متعبِّداً في الجاهلية، فذهب إلى المشركين يستعين بهم على حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما لم يدرك مطلوبه عندهم؛ ذهب إلى قيصر بزعمه أنه ينصره، فهلك اللعين في الطريق، وكان على وعدٍ وممالئة هو والمنافقون، فكان مما أعدُّوا له مسجد الضِّرار، فنزل الوحي بذلك، فبعث إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من يهدمه ويحرقه ، فهُدم، وحُرق، وصار بعد ذلك مزبلةً.
قال تعالى بعد ما بيَّن من مقاصدهم الفاسدة في ذلك المسجد: {ولَيَحْلِفُنَّ إن أردْنا} في بنائنا إيَّاه
{إلا الحسنى}؛
أي: الإحسان إلى الضعيف والعاجز والضرير.
{والله يشهدُ إنَّهم لكاذبونَ}: فشهادة الله عليهم أصدق من حلفهم.
#
{108} {لا تقم فيه أبداً}؛
أي: لا تصلِّ في ذلك المسجد الذي بُني ضراراً أبداً؛ فالله يُغنيك عنه، ولست بمضطرٍّ إليه.
{لمسجدٌ أسِّس على التَّقوى من أول يوم}: ظهر فيه الإسلام في قُباء، وهو مسجد قُباء أسِّس على إخلاص الدين لله وإقامة ذكره وشعائر دينه، وكان قديماً في هذا عريقاً فيه؛ فهذا المسجد الفاضل
{أحقُّ أن تقومَ فيه}: وتتعبَّد وتذكر الله تعالى؛ فهو فاضل وأهله فضلاء،
ولهذا مدحهم الله بقوله: {فيه رجالٌ يحبُّون أن يتطهَّروا}: من الذُّنوب، ويتطهَّروا من الأوساخ والنجاسات والأحداث، ومن المعلوم أنَّ مَن أحبَّ شيئاً؛ لا بدَّ أن يسعى له ويجتهد فيما يحبُّ؛ فلا بدَّ أنهم كانوا حريصين على التطهُّر من الذُّنوب والأوساخ والأحداث، ولهذا كانوا ممَّن سبق إسلامه، وكانوا مقيمين للصلاة، محافظين على الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإقامة شرائع الدين، وممَّن كانوا يتحرَّزون من مخالفة الله ورسوله.
وسألهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بعدما نزلت هذه الآية في مدحهم عن طهارتهم؟ فأخبروه أنَّهم يُتْبِعون الحجارة الماء، فحمدهم على صنيعهم.
{والله يحبُّ المطَّهِّرين}: الطهارة المعنوية كالتنزُّه من الشرك والأخلاق الرذيلة، والطهارة الحسيَّة كإزالة الأنجاس ورفع الأحداث.
#
{109} ثم فاضَلَ بين المساجد بحسب مقاصد أهلها وموافقتها لرضاه،
فقال: {أفمن أسَّس بنيانَه على تقوى من الله}؛
أي: على نيَّة صالحة وإخلاص،
{ورضوانٍ}: بأن كان موافقاً لأمره، فجمع في عمله بين الإخلاص والمتابعة.
{خيرٌ أم منْ أسَّس بنيانَه على شفا}؛
أي: على طرف؛
{جُرُفٍ هارٍ}؛
أي: بالٍ، قد تداعى للانهدام،
{فانهار به في نارِ جهنَّم واللهُ لا يهدي القوم الظالمين}: لما فيه مصالح دينهم ودنياهم.
#
{110} {لا يزالُ بنيانُهم الذي بَنَوْا رِيبةً في قلوبِهِم}؛
أي: شكًّا وريباً ماكثاً في قلوبهم،
{إلَّا أن تَقَطَّعَ قلوبُهم}: بأن يندموا غاية الندم، ويتوبوا إلى ربِّهم، ويخافوه غاية الخوف؛ فبذلك يعفو الله عنهم، وإلاَّ؛ فبنيانُهم لا يزيدهم إلا ريباً إلى ريبهم، ونفاقاً إلى نفاقهم.
{والله عليمٌ}: بجميع الأشياء؛ ظاهرها وباطنها، خفيِّها وجليِّها، وبما أسرَّه العباد وأعلنوه،
{حكيمٌ}: لا يفعل ولا يخلُقُ ولا يأمر ولا ينهى إلاَّ ما اقتضته الحكمة وأمر به؛ فلله الحمد.
وفي هذه الآيات عدة فوائد:
منها: أنَّ اتِّخاذ المسجد الذي يقصد به الضِّرار لمسجدٍ آخر بقربه أنه محرَّم، وأنه يجب هدمُ مسجد الضرار الذي اطُّلع على مقصود أصحابه.
ومنها: أن العمل، وإن كان فاضلاً، تغيِّره النية، فينقلب منهيًّا عنه؛ كما قَلَبَتْ نيةُ أصحاب مسجد الضرار عملَهم إلى ما ترى.
ومنها: أنَّ كل حالة يحصُلُ بها التفريق بين المؤمنين؛ فإنها من المعاصي التي يتعيَّن تركُها وإزالتها؛ كما أنَّ كل حالة يحصُلُ بها جمع المؤمنين وائتلافهم يتعيَّن اتِّباعها والأمرُ بها والحثُّ عليها؛ لأنَّ الله علَّل اتِّخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة لله ورسوله.
ومنها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية والبعد عنها وعن قربها.
ومنها: أن المعصية تؤثر في البقاع كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار ونُهي عن القيام فيه، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد قُباء،
حتى قال الله فيه: {لَمَسْجِدٌ أسِّس على التقوى من أول يوم أحقُّ أن تقومَ فيه}: ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره، حتى كان - صلى الله عليه وسلم - يزور قُباء كلَّ سبتٍ يصلي فيه ، وحثَّ على الصلاة فيه.
ومنها: أنه يُستفادُ من هذه التعاليل المذكورة في الآية أربعُ قواعدَ مهمَّة،
وهي: كل عمل فيه مضارَّة لمسلم، أو فيه معصيةٌ لله؛ فإن المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريقٌ بين المؤمنين، أو فيه معاونةٌ لمن عادى الله ورسوله؛ فإنه محرَّم ممنوع منه، وعكسه بعكسه.
[ومنها: أن الأعمال الحسيّة الناشئة عن معصية الله، لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله، بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوبَ منها توبةً تامَّةً؛ بحيث يتقطع قلبُه من الندم والحسرات].
ومنها: أنه إذا كان مسجدُ قُباء مسجداً أسِّس على التقوى؛ فمسجد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي أسَّسه بيده المباركة، وعمل فيه، واختاره الله له من باب أولى وأحرى.
ومنها: أن العمل المبنيَّ على الإخلاص والمتابعة هو العمل المؤسَّس على التَّقوى الموصل لعاملِهِ إلى جنات النعيم، والعمل المبنيَّ على سوء القصد وعلى البِدَع والضَّلال هو العمل المؤسَّس على شفا جُرُفٍ هارٍ، فانهار به في نارِ جهنَّم. والله لا يهدي القوم الظالمين.
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}.
#
{111} يخبر تعالى خبراً صدقاً ويعدُ وعداً حقًّا بمبايعةٍ عظيمةٍ ومعاوضةٍ جسيمةٍ، وهو أنه
{اشترى}: بنفسه الكريمة
{من المؤمنين أنفسهم وأموالهم}: فهي الثَّمن والسلعة المَبيعة،
{بأنَّ لهم الجنة}: التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتَلَذُّ الأعين من أنواع اللَّذَّات والأفراح والمسرَّات والحور الحسان والمنازل الأنيقات، وصفة العقد والمبايعة بأن يبذُلوا لله نفوسَهم وأموالَهم في جهاد أعدائه؛ لإعلاء كلمتِهِ وإظهار دينه. فيقاتلون
{في سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتَلونَ}: فهذا العقد والمبايعة قد صدرت من الله مؤكَّدة بأنواع التأكيدات.
{وعداً عليه حقًّا في التوراة والإنجيل والقرآن}: التي هي أشرفُ الكتب التي طرقَتِ العالم وأعلاها وأكملها، وجاء بها أكملُ الرسل أولو العزم، وكلُّها اتَّفقت على هذا الوعد الصادق.
{ومن أوفى بعهدِهِ من الله فاستَبْشِروا}: أيُّها المؤمنون، القائمون بما وعدكم الله
{ببيعِكُمُ الذي بايَعْتُم به}؛
أي: لتفرحوا بذلك وليبشِّر بعضُكم بعضاً ويحثَّ بعضُكم بعضاً.
{وذلك هو الفوز العظيم}: الذي لا فوز أكبرُ منه ولا أجلُّ؛ لأنه يتضمَّن السعادةَ الأبديَّة والنعيم المقيم، والرِّضا من الله الذي هو أكبر من نعيم الجنات.
وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة؛ فانظُرْ إلى المشتري؛ مَنْ هو؟ وهو الله جلَّ جلاله، وإلى العِوَضِ، وهو أكبر الأعواض وأجلُّها؛ جنات النعيم، وإلى الثمن المبذول فيها، وهو النفس والمال، الذي هو أحبُّ الأشياء للإنسان، وإلى مَن جرى على يديه عقدُ هذا التبايُع، وهو أشرف الرسل، وبأيِّ كتاب رُقِمَ؟ وهي كتب الله الكبار المنزلة على أفضل الخلق.
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}.
#
{112} كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارةُ من الله بدخول الجنات ونَيْل الكرامات؟
فقال: هم:
{التائبون}؛
أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات عن جميع السيئات.
{العابدونَ}؛
أي: المتَّصفون بالعبوديَّة لله والاستمرار على طاعته من أداء الواجبات والمستحبَّات في كل وقتٍ؛ فبذلك يكون العبد من العابدين.
{الحامدون}: لله في السرَّاء والضرَّاء واليسر والعسر، المعترفون بما لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على الله بذكرها وبذكره في آناء الليل وآناء النهار.
{السائحون}: فسِّرت السياحة بالصيام، أو السياحة في طلب العلم، وفسِّرت بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته والإنابة إليه على الدوام، والصحيح أنَّ المرادَ بالسياحة السفرُ في القُرُبات؛ كالحجِّ والعمرة والجهاد وطلب العلم وصلة الأقارب ونحو ذلك.
{الراكعون الساجدون}؛
أي: المكثرون من الصلاة، المشتملة على الركوع والسجود.
{الآمرون بالمعروف}: ويدخل فيه جميع الواجباتِ والمستحبَّات.
{والناهون عن المنكر}: وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه.
{والحافظون لحدود الله}: بتعلُّمهم حدودَ ما أنزل الله على رسوله، وما يدخُلُ في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلاً وتركاً.
{وبشِّر المؤمنين}: لم يذكُرْ ما يبشِّرهم به؛ ليعمَّ جميع ما رتَّب على الإيمان من ثواب الدُّنيا والدين والآخرة؛ فالبشارةُ متناولةٌ لكلِّ مؤمن، وأما مقدارُها وصفتُها؛ فإنَّها بحسب حال المؤمنين وإيمانهم قوةً وضعفاً وعملاً بمقتضاه.
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}.
#
{113} يعني: ما يليق ولا يَحْسُنُ للنبيِّ وللمؤمنين به،
{أن يستغفِروا للمشركين}؛
أي: لمن كفر به وعبد معه غيره،
{ولو كانوا أولي قُربى من بعدِ ما تبيَّن لهم أنهم أصحابُ الجحيم}: فإنَّ الاستغفار لهم في هذه الحال غلطٌ غير مفيد؛ فلا يليقُ بالنبيِّ والمؤمنين؛ لأنَّهم إذا ماتوا على الشرك أو عُلِمَ أنهم يموتون عليه؛ فقد حقَّت عليهم كلمة العذاب، ووجب عليهم الخلودُ في النار، ولم تنفعْ فيهم شفاعةُ الشافعين ولا استغفارُ المستغفرين. وأيضاً؛ فإنَّ النبيَّ والذين آمنوا معه عليهم أن يوافقوا ربَّهم في رضاه وغضبه، ويوالوا مَنْ والاه الله، ويُعادوا من عاداه الله، والاستغفار منهم لمن تبيَّن أنه من أصحاب النار منافٍ لذلك مناقضٌ له.
#
{114} ولئن وُجِدَ الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لأبيه؛ فإنه
{عن موعدةٍ وَعَدَها إيَّاه}: في قوله:
{سأستغفِر لك ربِّي إنه كان بي حَفِيًّا}: وذلك قبل أن يعلم عاقبةَ أبيه،
{فلما تبيَّن}: لإبراهيم أن أباه
{عدوٌّ لله}: سيموت على الكفر، ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير؛
{تبرَّأ منه}: موافقةً لربِّه وتأدباً معه.
{إنَّ إبراهيم لأوَّاهٌ}؛
أي: رجَّاعٌ إلى الله في جميع الأمور، كثير الذِّكر والدُّعاء والاستغفار والإنابة إلى ربِّه.
{حليمٌ}؛
أي: ذو رحمة بالخلق، وصفح عما يصدُرُ منهم إليه من الزلاَّت، لا يستفزُّه جهلُ الجاهلين، ولا يقابل الجاني عليه بجُرْمِهِ،
فأبوه قال له: {لأرْجُمنَّكَ}،
وهو يقول له: {سلامٌ عليك سأستغفرُ لك ربِّي}؛
فعليكم أن تقتدوا وتتَّبعوا مِلَّةَ إبراهيم في كلِّ شيء إلا قول إبراهيم لأبيه: {لأستغفرنَّ لك}؛ كما نبَّهكم الله عليها وعلى غيرها.
ولهذا قال:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)}.
#
{115} يعني: أن الله تعالى إذا مَنَّ على قوم بالهداية وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم؛ فإنه تعالى يتمِّم عليهم إحسانه، ويبيِّن لهم جميع ما يحتاجون إليه وتدعو إليه ضرورتُهم؛ فلا يتركُهم ضالِّين جاهلين بأمور دينهم. ففي هذا دليلٌ على كمال رحمته، وأن شريعته وافيةٌ بجميع ما يحتاجُه العبادُ في أصول الدين وفروعه.
ويُحتمل أنَّ المراد بذلك: {وما كان الله لِيُضِلَّ قوماً بعد إذ هَداهم حتَّى يُبَيِّنَ لهم ما يتَّقونَ}: فإذا بيَّن لهم ما يتَّقون، فلم ينقادوا له؛ عاقبهم بالإضلال جزاءً لهم على ردِّهم الحقَّ المبينَ، والأول أولى.
{إنَّ الله بكلِّ شيءٍ عليم}: فلكمال علمِهِ وعمومه علَّمكم ما لم تكونوا تعلمونَ، وبيَّن لكم ما به تنتفعون.
#
{116} {إنَّ الله له ملك السمواتِ والأرض يُحيي ويُميتُ}؛
أي: هو المالك لذلك، المدبِّر لعباده بالإحياء والإماتة وأنواع التدابير الإلهيَّة؛ فإذا كان لا يُخِلُّ بتدبيره القدريِّ؛ فكيف يُخِلُّ بتدبيره الدينيِّ المتعلِّق بإلهيَّته ويترك عبادَه سدى مهمَلين أو يدعُهم ضالِّين جاهلين وهو أعظم تولِّيه لعبادِهِ؟
! فلهذا قال: {وما لَكُم من دونِ الله من وليٍّ ولا نصيرٍ}؛
أي: وليٍّ يتولاَّكم بجلب المنافع لكم أو نصيرٍ يدفع عنكم المضارَّ.
{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}.
#
{117} يخبر تعالى أنه من لطفه وإحسانه
{تاب على النبيِّ}: محمد - صلى الله عليه وسلم -،
{والمهاجرين والأنصار}: فغفر لهم الزَّلاَّت ووفَّر لهم الحسنات ورقَّاهم إلى أعلى الدرجات، وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقَّات،
ولهذا قال: {الذين اتَّبعوه في ساعةِ العُسْرَةِ}؛
أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في غزوة تبوك ، وكانت في حرٍّ شديد وضيق من الزاد والركوب وكثرة عدوٍ مما يدعو إلى التخلُّف، فاستعانوا الله تعالى، وقاموا بذلك
{من بعدِ ما كاد يَزيغُ قلوبُ فريق منهم}؛
أي: تنقلب قلوبهم ويميلوا إلى الدَّعة والسكون، ولكنَّ الله ثبَّتهم وأيَّدهم وقوَّاهم.
وزيغُ القلب هو انحرافُه عن الصراط المستقيم؛ فإن كان الانحراف في أصل الدين؛ كان كفراً، وإنْ كان في شرائعِهِ؛
كان بحسب تلك الشريعة التي زاغَ عنها: إما قصَّر عن فعلها، أو فَعَلَها على غير الوجه الشرعيِّ.
وقوله: {ثمَّ تاب عليهم}؛
أي: قبل توبتهم.
{إنَّه بهم رءوفٌ رحيمٌ}: ومن رأفته ورحمته أنْ مَنَّ عليهم بالتوبة وقبلها منهم، وثبَّتهم عليها.
#
{118} {و} كذلك لقد تاب
[اللهُ] {على الثلاثة الذين خُلِّفوا}: عن الخروج مع المسلمين في تلك الغزوة، وهم كعبُ بن مالك وصاحباه، وقصَّتُهم مشهورةٌ معروفةٌ في الصحاح والسنن.
{حتى إذا}: حزنوا حزناً عظيماً، و
{ضاقتْ عليهم الأرضُ بما رَحُبَتْ}؛
أي: على سعتها ورحبها،
{وضاقت عليهم أنفسُهُم}: التي هي أحبُّ إليهم من كلِّ شيءٍ، فضاق عليهم الفضاء الواسع والمحبوبُ الذي لم تجرِ العادة بالضيق منه، وذلك لا يكون إلا من أمرٍ مزعج بَلَغَ من الشدَّة والمشقَّة ما لا يمكن التعبيرُ عنه، وذلك لأنهم قدَّموا رضا الله ورضا رسوله على كلِّ شيءٍ.
{وظنُّوا أن لا مَلْجَأ من الله إلا إليه}؛
أي: تيقَّنوا وعرفوا بحالهم أنه لا يُنْجي من الشدائد ويُلْجَأ إليه إلاَّ الله وحده لا شريك له، فانقطع تعلُّقهم بالمخلوقين، وتعلَّقوا بالله ربِّهم، وفرُّوا منه إليه، فمكثوا بهذه الشدَّة نحو خمسين ليلةً.
{ثمَّ تاب عليهم}؛
أي: أذن في توبتهم ووفَّقهم لها،
{لِيَتوبوا}؛
أي: لتقعَ منهم فيتوبَ الله عليهم.
{إنَّ الله هو التوَّابُ}؛
أي: كثير التوبة والعفو والغفران عن الزلاَّت والنُّقصان ،
{الرحيمُ}: وَصْفُهُ الرحمة العظيمة التي لا تزال تَنْزِلُ على العباد في كلِّ وقت وحينٍ، في جميع اللحظات ما تقوم به أمورُهم الدينيَّة والدنيويَّة.
وفي هذه الآيات دليلٌ على أن توبة الله على العبد أجلُّ الغايات وأعلى النهايات؛ فإنَّ اللَّه جعلها نهاية خواصِّ عباده، وامتنَّ عليهم بها حين عملوا الأعمال التي يحبُّها ويرضاها.
ومنها: لطف الله بهم، وتثبيتهم في إيمانهم عند الشدائد والنوازل المزعجة.
ومنها: أنَّ العبادة الشاقَّة على النفس لها فضلٌ ومزيَّة ليست لغيرها، وكلَّما عظُمت المشقة؛ عظم الأجر.
ومنها: أن توبة الله على عبده بحسب ندمِهِ وأسفِهِ الشديد، وأنَّ من لا يبالي بالذنب ولا يُحْرَجُ إذا فعله؛ فإنَّ توبته مدخولةٌ، وإنْ زَعَمَ أنَّها مقبولةٌ.
ومنها: أنَّ علامة الخير وزوال الشدَّة إذا تعلَّق القلب بالله تعالى تعلُّقاً تامًّا وانقطع عن المخلوقين.
ومنها: أنَّ من لطف الله بالثلاثة أنْ وَسَمَهم بوسم ليس بعارٍ عليهم،
فقال: {خُلِّفوا}؛ إشارةً إلى أن المؤمنين خَلَّفوهم أو خُلِّفوا عن مَنْ بُتَّ في قَبول عذرِهم أو في ردِّه، وأنهم لم يكن تخلُّفهم رغبةً عن الخير،
ولهذا لم يقلْ: تَخَلَّفوا.
ومنها: أن الله تعالى منَّ عليهم بالصدق، ولهذا أمر بالاقتداء بهم،
فقال:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}.
#
{119} أي:
{يا أيُّها الذين آمنوا}: بالله وبما أمر الله بالإيمان به! قوموا بما يقتضيه الإيمانُ، وهو القيام بتقوى الله تعالى؛ باجتناب ما نهى الله عنه والبعد عنه،
{وكونوا مع الصَّادقينَ}: في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدقٌ، وأعمالهم وأحوالهم لا تكون إلا صدقاً، خليَّةً من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنيَّة الصالحة؛ فإنَّ الصدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنة؛
قال تعالى: {هذا يومُ ينفَعُ الصادقين صِدْقُهم ... } الآية.
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)}.
#
{120} يقول تعالى حاثًّا لأهل المدينة المنوَّرة من المهاجرين والأنصار ومَنْ حولَها من الأعراب الذين أسلموا فَحَسُنَ إسلامهم:
{ما كان لأهل المدينة ومَنْ حولَهم من الأعراب أن يتخَلَّفوا عن رسول الله}؛
أي: ما ينبغي لهم ذلك ولا يَليق بأحوالهم.
{ولا يرغَبوا بأنفسِهِم}: في بقائها وراحتها، وسكونه
{عن نفسه}: الكريمة الزكيَّة، بل النبيُّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ فعلى كلِّ مسلم أن يفدي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بنفسه ويقدِّمَه عليها؛ فعلامة تعظيم الرسول ومحبَّته والإيمان التامِّ به أن لا يتخلَّفوا عنه. ثم ذكر الثواب الحامل على الخروج،
فقال: {ذلك بأنَّهم}؛
أي: المجاهدين في سبيل الله،
{لا يصيبُهم ظمأٌ ولا نَصَبٌ}؛
أي: تعبٌ ومشقَّة،
{ولا مَخْمَصَةٌ في سبيل الله}؛
أي: مجاعةٌ،
{ولا يطؤونَ موطئاً يَغيظُ الكفارَ}: من الخَوْضِ لديارهم والاستيلاء على أوطانهم
{ولا ينالون من عَدُوٍّ نَيْلاً}: كالظَّفَر بجيش أو سريَّة أو الغنيمة لمال،
{إلَّا كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ}: لأنَّ هذه آثار ناشئةٌ عن أعمالهم.
{إنَّ الله لا يُضيعُ أجرَ المحسنين}: الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله وقيامهم بما عليهم من حقِّه وحقِّ خلقه؛ فهذه الأعمالُ آثارٌ من آثار عملهم.
#
{121} ثم قال:
{ولا ينفقونَ نفقةً صغيرةً ولا كبيرةً ولا يقطعون وادياً}: في ذهابهم إلى عدوِّهم،
{إلا كُتِبَ لهم لِيَجْزِيَهم الله أحسنَ ما كانوا يعملون}: ومن ذلك هذه الأعمال إذا أخلصوا فيها لله، ونصحوا فيها.
ففي هذه الآيات أشدُّ ترغيب وتشويق للنفوس إلى الخروج إلى الجهاد في سبيل الله والاحتساب لما يصيبهم فيه من المشقَّات، وأن ذلك لهم رِفْعَةُ درجاتٍ، وأن الآثار المترتِّبة على عمل العبد له فيها أجرٌ كبيرٌ.
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}.
#
{122} يقول تعالى منبهاً لعباده المؤمنين على ما ينبغي لهم:
{وما كان المؤمنون لينفروا كافَّةً}؛
أي: جميعاً لقتال عدوهم؛ فإنه يحصُلُ عليهم المشقَّة بذلك، ويفوت به كثيرٌ من المصالح الأخرى،
{فلولا نَفَرَ من كلِّ فرقةٍ منهم}؛
أي: من البلدان والقبائل والأفخاذ
{طائفةٌ}: تحصُلُ بها الكفاية والمقصودُ؛ لكان أولى.
ثم نبَّه على أنَّ في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالحَ لو خَرَجوا لفاتَتْهم،
فقال: {ليتفقَّهوا}؛
أي: القاعدون
{في الدِّين ولِيُنذِروا قومَهم إذا رجعوا إليهم}؛
أي: ليتعلَّموا العلم الشرعيَّ، ويَعْلَموا معانيه، ويفقهوا أسراره، ولِيُعَلِّموا غيرهم، ولِيُنْذِروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
ففي هذا فضيلة العلم، وخصوصاً الفقه في الدين، وأنه أهم الأمور، وأن من تعلَّم علماً؛ فعليه نشره وبثُّه في العباد ونصيحتهم فيه؛ فإن انتشار العلم عن العالم من بركته وأجره الذي ينمي ، وأما اقتصار العالم على نفسه وعدم دعوتِهِ إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة وترك تعليم الجهَّال ما لا يعلمون؛ فأيُّ منفعة حصلت للمسلمين منه؟! وأي نتيجة نتجت من علمه؟! وغايتُه أن يموت فيموت علمُهُ وثمرته، وهذا غاية الحرمان لمن آتاه الله علماً، ومَنَحَهُ فهماً.
وفي هذه الآية أيضاً دليلٌ وإرشادٌ وتنبيهٌ لطيف لفائدة مهمَّةٍ، وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يُعِدُّوا لكلِّ مصلحةٍ من مصالحهم العامَّة مَن يقوم بها، ويوفِّر وقته عليها، ويجتهد فيها، ولا يلتفت إلى غيرها؛ لتقوم مصالحهم، وتتمَّ منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرَّقت الطرق وتعدَّدت المشارب؛ فالأعمال متباينةٌ، والقصد واحدٌ، وهذه من الحكمة العامَّة النافعة في جميع الأمور.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}.
#
{123} وهذا أيضاً إرشادٌ آخر: بعدما أرشدهم إلى التدبير فيمن يباشر القتال؛ أرشدهم إلى أنهم يبدؤون بالأقرب فالأقرب من الكفار والغلظة عليهم والشدة في القتال والشجاعة والثبات.
{واعلموا أنَّ الله مع المتَّقين}؛
أي: وليكنْ لديكم علمٌ أن المعونة من الله تنزِلُ بحسب التقوى؛ فلازموا على تقوى الله؛ يُعِنْكُم وينصُرْكم على عدوِّكم.
وهذا العموم في قوله: {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار}: مخصوصٌ بما إذا كانت المصلحةُ في قتال غير الذين يلوننا، وأنواع المصالح كثيرة جدًّا.
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)}.
#
{124} يقول تعالى مُبيِّناً حال المنافقين وحال المؤمنين عند نزول القرآن وتفاوُتَ ما بين الفريقين،
فقال: {وإذا ما أنزِلَتْ سورةٌ}: فيها الأمر والنهي والخبر عن نفسه الكريمة وعن الأمور الغائبة والحثُّ على الجهاد.
{فمنهم من يقولُ أيُّكم زادتْه هذه إيماناً}؛
أي: حصل الاستفهام لمن حصل له الإيمانُ بها من الطائفتين.
قال تعالى مبيِّناً الحال الواقعة: {فأما الذين آمنوا فزادَتْهم إيماناً}: بالعلم بها وفهمها واعتقادِها والعمل بها والرغبةِ في فعل الخير والانكفافِ عن فعل الشرِّ.
{وهم يستبشرونَ}؛
أي: يبشِّر بعضُهم بعضاً بما منَّ الله عليهم من آياته والتوفيق لفهمها والعمل بها، وهذا دالٌّ على انشراح صدورهم لآيات الله، وطمأنينة قلوبهم، وسرعة انقيادهم لما تحثُّهم عليه.
#
{125} {وأما الذين في قلوبهم مرضٌ}؛
أي: شكٌّ ونفاق،
{فزادتهم رِجْساً إلى رِجْسِهم}؛
أي: مرضاً إلى مرضهم، وشَكًّا إلى شكِّهم؛ من حيث إنهم كفروا بها وعاندوها وأعرضوا عنها، فازداد لذلك مرضُهم، وترامى بهم إلى الهلاك والطبع على قلوبهم حتى
{ماتوا وهم كافرون}، وهذا عقوبةٌ لهم لأنَّهم كفروا بآيات الله، وعصوا رسوله، فأعقَبَهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يَلْقَوْنَه.
#
{126} قال تعالى موبِّخاً على إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاق:
{أوَلا يَرَوْن أنَّهم يُفتنون في كلِّ عام مرَّةً أو مرَّتين}: بما يصيبُهم من البلايا والأمراض، وبما يُبْتَلَون من الأوامر الإلهيَّة التي يُراد بها اختبارهم،
{ثم لا يتوبون}: عمّا هم عليه من الشرِّ،
{ولا هم يَذَّكَّرون}: ما ينفعهم فيفعلونه وما يضرهم فيتركونه؛ فالله تعالى يبتليهم كما هي سنَّته في سائر الأمم بالسرَّاء والضرَّاء وبالأوامر والنواهي ليرجِعوا إليه، ثم لا يتوبون، ولا هم يَذَّكَّرون.
وفي هذه الآيات دليل على أنَّ الإيمان يزيدُ وينقُص، وأنه ينبغي للمؤمن أن يتفقَّد إيمانه، ويتعاهده، فيجدِّده، ويُنْميه، ليكونَ دائماً في صعود.
وقوله:
{وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)}.
#
{127} يعني: أن المنافقين الذين يحذرون أن تنزل عليهم سورةٌ تنبِّئهم بما في قلوبهم. إذا نَزَلَتْ سورةٌ ليؤمنوا بها ويعملوا بمضمونها،
{نَظَرَ بعضُهم إلى بعضٍ}: جازمين على ترك العمل بها، ينتظرون الفرصة في الاختفاء عن أعين المؤمنين،
ويقولون: {هل يراكُم مِن أحدٍ ثم انصرفوا}: متسلِّلين وانقلبوا معرضين، فجازاهم الله بعقوبةٍ من جنس عملهم؛ فكما انصرفوا عن العمل؛
{صَرَفَ الله قلوبَهم}؛
أي: صدَّها عن الحقِّ وخذلها،
{بأنَّهم قومٌ لا يفقهون}: فقهاً ينفعهم؛ فإنَّهم لو فقهوا؛ لكانوا إذا نزلت سورةٌ آمنوا بها وانقادوا لأمرها. والمقصودُ من هذا بيانُ شدَّة نفورهم عن الجهادِ وغيره من شرائع الإيمان؛
كما قال تعالى عنهم: {فإذا أنزِلَتْ سورةٌ محكَمَةٌ وذُكِرَ فيها القتالُ رأيت الذين في قلوبهم مرضٌ ينظرون إليك نَظَرَ المغشيِّ عليه من الموتِ}.
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}
#
{128} يمتنُّ تعالى على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبيَّ الأميَّ، الذي من أنفسهم، يعرفون حاله، ويتمكَّنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له، وهو - صلى الله عليه وسلم - في غاية النُّصح لهم والسعي في مصالحهم.
{عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم}؛
أي: يَشُقُّ عليه الأمر الذي يَشُقُّ عليكم ويُعْنِتُكم.
{حريصٌ عليكم}: فيحبُّ لكم الخير، ويسعى جهدَه في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشرَّ، ويسعى جهده في تنفيركم عنه.
{بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ}؛
أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم، ولهذا كان حقُّه مقدماً على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتوقيره وتعزيره.
#
{129} {فإن} آمنوا؛ فذلك حظُّهم وتوفيقهم، وإن
{تَوَلَّوْا} عن الإيمان والعمل؛ فامضِ على سبيلك، ولا تزل في دعوتك،
وقل: {حسبيَ الله}؛
أي: الله كافِيَّ في جميع ما أهمني.
{لا إله إلَّا هو}؛
أي: لا معبود بحقٍّ سواه.
{عليه توكلتُ}؛
أي: اعتمدت ووثقت به في جلب ما ينفع ودفع ما يضرُّ.
{وهو ربُّ العرش العظيم}: الذي هو أعظم المخلوقات، وإذا كان ربَّ العرش العظيم الذي وسع المخلوقات؛ كان ربًّا لما دونه من باب أولى وأحرى.
تم تفسير سورة التوبة بعون الله ومَنِّه. فلله الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.