آية:
تفسير سورة قل أوحي إليّ
تفسير سورة قل أوحي إليّ
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
آية: 1 - 2 #
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)}.
# {1} أي: {قل}: يا أيُّها الرسول للناس، {أوحِيَ إليَّ أنَّه استمع نفرٌ من الجنِّ}: صرفهم الله إلى رسوله لسماع آياته؛ لتقوم عليهم الحجَّة وتتمَّ عليهم النعمة ويكونوا منذِرين لقومهم، وأمر [اللَّهُ] رسولَه أن يقصَّ نبأهم على الناس، وذلك أنَّهم لما حضروه؛ قالوا: أنصتوا، فلما أنصتوا؛ فهموا معانيه ووصلت حقائقُه إلى قلوبهم. {فقالوا إنَّا سمِعْنا قرآناً عَجَباً}؛ أي: من العجائب الغالية والمطالب العالية.
# {2} {يهدي إلى الرُّشْدِ}: والرُّشدُ: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يرشد الناس إلى مصالح دينهم ودنياهم، {فآمنَّا به ولن نُشْرِكَ بربِّنا أحداً}: فجمعوا بين الإيمان الذي يدخُلُ فيه جميع أعمال الخير، وبين التَّقوى المتضمِّنة لترك الشرِّ، وجعلوا السبب الداعي لهم إلى الإيمان وتوابعه ما علموه من إرشادات القرآن، وما اشتمل عليه من المصالح والفوائد واجتناب المضارِّ؛ فإنَّ ذلك آيةٌ عظيمةٌ وحجَّةٌ قاطعةٌ لمن استنار به واهتدى بهديه، وهذا الإيمانُ النافع المثمر لكلِّ خير، المبنيُّ على هداية القرآن؛ بخلاف إيمان العوائد والمَرْبى والإلف ونحو ذلك؛ فإنَّه إيمانُ تقليدٍ تحت خطر الشُّبُهات والعوارض الكثيرة.
آية: 3 - 4 #
[{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)}].
# {3} {وأنَّه تعالى جَدُّ رَبِّنا}؛ أي: تعالت عظمتُه وتقدَّسَتْ أسماؤُه، {ما اتَّخَذَ صاحبةً ولا ولداً}: فعلموا من جَدِّ الله وعظمتِهِ ما دلَّهم على بطلان مَنْ يزعُمُ أنَّ له صاحبةً أو ولداً؛ لأنَّ له العظمة والجلال في كلِّ صفة كمال، واتِّخاذُ الصاحبة والولد ينافي ذلك؛ لأنَّه يضادُّ كمال الغنى.
# {4} {وأنَّه كان يقولُ سفيهُنا على الله شططاً}؛ أي: قولاً جائراً عن الصواب متعدياً للحدِّ، وما حمله على ذلك إلاَّ سفهُه وضعفُ عقله، وإلاَّ؛ فلو كان رزيناً مطمئناً؛ لعرف كيف يقول.
آية: 5 #
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)}.
# {5} أي: كنَّا مغترِّين قبل ذلك، غرَّتنا السادة والرؤساء من الجنِّ والإنس، فأحسنَّا بهم الظنَّ، وحسبناهم لا يتجرؤون على الكذب على الله؛ فلذلك كنَّا قبل ذلك على طريقهم؛ فاليوم إذ بان لنا الحقُّ؛ سلكنا طريقه ، وانقَدْنا له، ولم نبالِ بقول أحدٍ من الخلق يعارض الهدى.
آية: 6 #
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)}.
# {6} أي: كان الإنس يعوذون بالجنِّ عند المخاوف والأفزاع ويعبُدونهم، فزاد الإنسُ الجنَّ رهقاً؛ أي: طغياناً وتكبراً، لمَّا رأوا الإنس يعبدونَهم ويستعيذون بهم، ويُحتمل أنَّ الضمير وهي الواو ترجع إلى {الجنِّ}؛ أي: زاد الجنُّ الإنسَ ذُعْراً وتخويفاً لما رأوْهم يستعيذون بهم ليلجِئوهم إلى الاستعاذة بهم والتمسُّك بما هم عليه، فكان الإنسيُّ إذا نزل بوادٍ مخوفٍ؛ قال: أعوذ بسيِّد هذا الوادي من سفهاء قومه.
آية: 7 #
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)}.
# {7} أي: فلمَّا أنكروا البعث؛ أقدموا على الشرك والطغيان.
آية: 8 - 9 #
[{وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)}].
# {8 ـ 9} {وأنَّا لمسنا السماءَ}؛ أي: أتيناها واختبرناها، {فوجَدْناها مُلِئَتْ حرساً شديداً}: عن الوصول إلى أرجائها والدنوِّ منها، {وشُهُباً}: يرمى بها من استرقَ السمعَ، وهذا مخالفٌ لعادتنا الأولى؛ فإنَّا كنَّا نتمكَّن من الوصول إلى خبر السماء فإنا {كنَّا نقعدُ منها مقاعدَ للسمع}: فنتلقَّف من أخبار السماء ما شاء الله، {فمن يستمِع الآنَ يَجِدْ له شهاباً رصداً}؛ أي: مرصداً له معدًّا لإتلافه وإحراقه؛ أي: وهذا له شأنٌ عظيمٌ ونبأٌ جسيمٌ، وجزموا أنَّ الله تعالى أراد أن يحدِثَ في الأرض حادثاً كبيراً من خيرٍ أو شرٍّ؛ فلهذا قالوا:
آية: 10 #
{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)}.
# {10} أي: لا بدَّ من هذا أو هذا؛ لأنَّهم رأوا الأمر تغيَّر عليهم تغيُّراً أنكروه، فعرفوا بفطنتهم أنَّ هذا الأمر يريده الله ويحدِثُه في الأرض، وفي هذا بيانٌ لأدبهم إذ أضافوا الخير إلى الله تعالى، والشرُّ حذفوا فاعله تأدُّباً [مع اللَّه].
آية: 11 #
[{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)}].
# {11} {وأنَّا منَّا الصالحون ومنَّا دون ذلك}؛ أي: فساق وفجار وكفار، {كنَّا طرائِقَ قِدَداً}؛ أي: فرقاً متنوعةً وأهواءً متفرقةً؛ كلُّ حزبٍ بما لديهم فرحون.
آية: 12 #
{وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)}.
# {12} أي: وأنَّا في وقتنا الآن تبيَّن لنا كمال قدرة الله وكمال عجزنا، وأنَّ نواصينا بيد الله؛ فلن نعجِزَه في الأرض ولن نعجِزَه إن هَرَبْنا وسَعَيْنا بأسباب الفرار والخروج عن قدرته، لا ملجأ منه إلاَّ إليه.
آية: 13 - 14 #
[{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)}].
# {13} {وأنَّا لمَّا سمِعنا الهدى}: وهو القرآن الكريم الهادي إلى الصراط المستقيم، وعرفنا هدايته وإرشاده؛ أثَّر في قلوبنا، فآمنَّا به، ثم ذكروا ما يرغِّب المؤمن، فقالوا: {فمن يؤمِن بربِّه فلا يخافُ بخساً ولا رَهَقاً}؛ أي: من آمن به إيماناً صادقاً؛ فلا عليه نقصٌ ولا أذىً يلحقُه، وإذا سَلِمَ من الشرِّ؛ حصل له الخيرُ؛ فالإيمان سببٌ داعٍ إلى [حصول] كلِّ خيرٍ وانتفاء كلِّ شرٍّ.
# {14} {وأنَّا منَّا المسلمونَ ومنَّا القاسطونَ}؛ أي: الجائرون العادلون عن الصراط المستقيم، {فَمَنْ أسلم فأولئك تَحَرَّوْا رَشَداً}؛ أي: أصابوا طريق الرشد الموصل لهم إلى الجنة ونعيمها.
آية: 15 - 2 #
{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) [وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)}] (2).
# {15 ـ 17} {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً}: وذلك جزاءً على أعمالهم، لا ظلم من الله لهم، فإنَّهم {لو استقاموا على الطريقةِ}: المثلى، {لأسْقَيْناهم ماءً غَدَقاً}؛ أي: هنيئاً مريئاً، ولم يمنعْهم ذلك إلاَّ ظلمهم وعدوانهم، {لِنَفْتِنَهم فيه}؛ أي: لنختبرهم [فيه] ونمتحِنَهم ليظهر الصادق من الكاذب، {ومن يعرِضْ عن ذكر ربِّه يَسْلُكْه عذاباً صَعَداً}؛ أي: من أعرض عن ذكر الله الذي هو كتابه، فلم يتَّبِعْه وينقدْ له، بل لها عنه وغفل ؛ يَسْلُكْه عذاباً صَعَداً؛ أي: بليغاً شديداً.
آية: 18 - 28 #
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) [وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)}].
# {18} {وأنَّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً}؛ أي: لا دعاء عبادةٍ ولا دعاء مسألةٍ؛ فإنَّ المساجد التي هي أعظم محالِّ العبادة مبنيَّةٌ على الإخلاص لله والخضوع لعظمته والاستكانة لعزَّته.
# {19} {وأنَّه لمَّا قام عبدُ اللهِ يدعوه}؛ أي: يسأله ويتعبَّد له ويقرأ القرآن كاد الجنُّ من تكاثُرِهم عليه، {يكونون عليه لِبَداً}؛ أي: متلبِّدين متراكمين حرصاً على [سماع] ما جاء به من الهدى.
# {20} {قل}: لهم يا أيُّها الرسول، مبيِّناً حقيقة ما تدعو إليه: {إنَّما أدعو ربِّي ولا أشرِكُ به أحداً}؛ أي: أوحِّده وحده لا شريك له، وأخلع ما دونَه من الأنداد والأوثان، وكلُّ ما يتَّخذه المشركون من دونه.
# {21 ـ 22} {قل إنِّي لا أملِكُ لكم ضَرًّا ولا رَشَداً}: فإنِّي عبدٌ ليس لي من الأمر والتصرُّفِ شيءٌ ، {قلْ إنِّي لن يُجيرَني من اللهِ أحدٌ}؛ أي: لا أحدَ أستجير به ينقذني من عذاب الله، وإذا كان الرسولُ الذي هو أكملُ الخلق لا يملكُ ضرًّا ولا رشداً ولا يمنعُ نفسَه من الله شيئاً إن أراده بسوءٍ؛ فغيرُهُ من الخلق من باب أولى وأحرى، {ولن أجدَ من دونِهِ مُلْتَحَداً}؛ أي: ملجأ ومنتصراً.
# {23} {إلاَّ بلاغاً من الله ورسالاتِهِ}؛ أي: ليس لي مزيَّةٌ على الناس إلاَّ أنَّ الله خصَّني بإبلاغ رسالاته ودعوة خلقِهِ إليه ، وبذلك تقوم الحجَّةُ على الناس، {ومن يَعْصِ الله ورسولَه فإنَّ له نارَ جهنَّمَ خالدين فيها أبداً}: وهذا المراد به المعصية الكفريَّة كما قيَّدتها النُّصوص الأخر المحكمة، وأمَّا مجرَّد المعصية؛ فإنَّه لا يوجب الخلود في النار؛ كما دلَّت على ذلك آيات القرآن والأحاديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأجمع عليه سَلَفُ الأمَّة وأئمَّة هذه الأمَّة.
# {24} {حتى إذا رأوا ما يوعدونَ}؛ أي: شاهدوه عياناً وجزموا أنَّه واقعٌ بهم، {فسيعلمون}: في ذلك الوقت حقيقة المعرفة، {مَنْ أضعفُ ناصراً وأقلُّ عدداً}: حين لا ينصرُهُم غيرهم، ولا أنفسهم ينتصِرونَ، وإذْ يُحْشَرون فرادى كما خُلِقوا أوَّلَ مرَّةٍ.
# {25 ـ 26} {قل} لهم إنْ سألوك فقالوا: متى هذا الوعد؟: {إنْ أدري أقريبٌ ما توعدونَ أمْ يجعلُ له ربِّي أمداً}؛ أي: غايةً طويلةً؛ فعلمُ ذلك عند الله {عالمُ الغيب فلا يُظْهِرُ على غيبِهِ أحداً}: من الخلق، بل انفرد بعلم الضمائر والأسرار والغيوب.
# {27} {إلاَّ منِ ارتضى من رسول}؛ أي: فإنَّه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبِرَه به، وذلك لأنَّ الرسل ليسوا كغيرهم؛ فإنَّ الله أيَّدهم بتأييدٍ ما أيَّده أحداً من الخلق، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلِّغوه على حقيقته؛ من غير أن تَقْرَبَهُ الشياطينُ فيزيدوا فيه أو يَنْقُصوا، ولهذا قال: {فإنَّه يَسْلُكُ من بينِ يديهِ ومن خلفِهِ رَصَداً}؛ أي: يحفظونه بأمر الله.
# {28 ـ 29} {ليعلم} بذلك {أن قد أبْلَغوا رسالات ربِّهم}: بما جعله لهم من الأسباب، {وأحاط بما لَدَيْهم}؛ أي: بما عندهم وما أسرُّوه وما أعلنوه، {وأحصى كلَّ شيءٍ عدداً}.
وفي هذه السورة فوائدُ عديدةٌ: منها: وجودُ الجنِّ، وأنَّهم [مكلَّفون] مأمورون منهيُّون مجازَوْن بأعمالهم؛ كما هو صريح في هذه السورة وغيرها. ومنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبعوثٌ إلى الجنِّ كما هو مبعوثٌ إلى الإنس؛ فإنَّ الله صرف نفرَ الجن ليستمعوا ما يوحى إليه ويبلِّغوا قومهم. ومنها: ذكاء الجنِّ ومعرفتُهم بالحقِّ، وأنَّ الذي ساقهم إلى الإيمان هو ما تحقَّقوه من هداية القرآن وحسن أدبهم في خطابهم. ومنها: اعتناء الله برسوله وحفظُه لما جاء به؛ فحين ابتدأت بشائر نبوَّته والسماء محروسةٌ بالنجوم، والشياطين قد هربت من أماكنها، وأزعجت عن مراصدها، وأنَّ الله رَحِمَ به أهل الأرض رحمةً ما يُقَدَّرُ لها قدرٌ، وأراد بهم ربُّهم رشداً، فأراد أن يظهِرَ من دينه وشرعه ومعرفته في الأرض ما تبتهج به القلوب، وتفرح به أولو الألباب، وتظهر به شعائرُ الإسلام، وينقمع به أهلُ الأوثان والأصنام. ومنها: شدَّة حرص الجنِّ على استماعهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وتراكمهم عليه. ومنها: أنَّ هذه السورة قد اشتملت على الأمر بالتوحيد، والنهي عن الشركِ، وبيَّنت حالة الخلق، وأن كلَّ أحدٍ منهم لا يستحقُّ من العبادة مثقالَ ذَرَّةٍ؛ لأنَّ الرسول محمداً - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لا يملك لأحدٍ نفعاً ولا ضرًّا، بل ولا يملك لنفسه؛ علم أن الخلق كلَّهم كذلك؛ فمن الخطأ والظلم اتِّخاذ مَنْ هذا وصفه إلهاً آخر. ومنها: أنَّ علوم الغيوب قد انفرد الله بعلمها؛ فلا يعلمها أحدٌ من الخلق؛ إلاَّ من ارتضاه الله واختصَّه بعلم شيء منها.
تم تفسيرها. والحمد لله رب العالمين.
* * *