آية:
تفسير سورة المنافقين
تفسير سورة المنافقين
وهي مدنية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
آية: 1 - 6 #
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)}
# {1} لمَّا قدم النبيُّ (- صلى الله عليه وسلم -) المدينة، وكَثُرَ الإسلام فيها وعزَّ ؛ صار أناس من أهلها من الأوس والخزرج يظهِرون الإيمان ويبطِنون الكفر؛ ليبقى جاهُهم وتُحْقَنَ دماؤهم وتَسْلَم أموالهم، فذكر الله من أوصافهم ما به يُعرفون؛ لكي يحذر العباد منهم ويكونوا منهم على بصيرةٍ، فقال: {إذا جاءك المنافقون قالوا}: على وجه الكذب: {نشهدُ إنَّك لرسولُ اللهِ}: وهذه الشهادة من المنافقين على وجه الكذب والنفاق، مع أنَّه لا حاجة لشهادتهم في تأييد رسوله، فإنَّ اللَّه {يعلمُ إنَّك لرسوله واللهُ يشهدُ إنَّ المنافقين لَكاذبونَ}: في قولهم ودعواهم، وأنَّ ذلك ليس بحقيقة منهم.
# {2} {اتَّخذوا أيمانَهم جُنَّة}؛ أي: ترساً يتترَّسون بها من نسبتهم إلى النفاق، فصدُّوا عن سبيله بأنفسهم، وصدُّوا غيرهم ممَّن يخفى عليه حالُهم. {إنَّهم ساء ما كانوا يعملونَ}: حيث أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر وأقسموا على ذلك وأوهموا صدقهم.
# {3} {ذلك}: الذي زين لهم النفاق، {بـ} سبب {أنَّهم} لا يَثْبُتون على الإيمان، بل {آمنوا ثم كفروا فَطُبِعَ على قلوبهم}: بحيث لا يدخلها الخيرُ أبداً. {فهم لا يَفْقَهون}: ما ينفعهم ولا يَعونَ ما يعودُ بمصالحهم.
# {4} {وإذا رأيتَهم تُعْجِبُكَ أجسامُهم}: من روائها ونضارتها، {وإن يقولوا تَسْمَعْ لقولِهم}؛ أي: من حسن منطقهم تستلذُّ لاستماعه؛ فأجسامُهم وأقوالُهم معجبةٌ، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهَدي الصالح شيءٌ، ولهذا قال: {كأنَّهم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ}: لا منفعة فيها ولا يُنال منها إلاَّ الضَّرر المحض. {يَحْسَبون كلَّ صيحةٍ عليهم}: وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبِهم ورَيْبها ؛ يخافون أن يُطَّلع عليها؛ فهؤلاء {هم العدو} على الحقيقة؛ لأنَّ العدوَّ البارز المتميِّز أهونُ من العدوِّ الذي لا يشعَر به، وهو مخادعٌ ماكرٌ، يزعم أنَّه وليٌّ، وهو العدو المبين. {فاحذَرْهم قاتَلَهُمُ الله أنَّى يُؤْفَكونَ}؛ أي: كيف يُصْرَفُون عن الدين الإسلاميِّ بعدما تبينت أدلَّته واتَّضحت معالمه إلى الكفر الذي لا يُفيدهم إلاَّ الخسار والشقاء.
# {5} {وإذا قيل}: لهؤلاء المنافقين: {تعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لكم رسولُ الله}: عمَّا صدر منكم؛ لتحسن أحوالكم، وتُقبل أعمالكم؛ امتنعوا من ذلك أشدَّ الامتناع، و {لَوَّوْا رؤوسَهم}: امتناعاً من طلب الدُّعاء من الرسول، {ورأيتَهم يصدُّون}: عن الحقِّ بغضاً له، {وهم مستكبِرونَ}: عن اتِّباعه بغياً وعناداً. فهذه حالُهم عندما يُدْعَوْنَ إلى طلب الدُّعاء من الرسول.
# {6} وهذا من لطف الله وكرامته لرسوله؛ حيث لم يأتوا إليه فيستغفر لهم، فإنَّه {سواءٌ} أستغفر لهم أمْ لم يَسْتَغْفِر لهم فَـ {لن يَغْفِرَ اللهُ لهم}؟ وذلك لأنَّهم قومٌ فاسقون خارجون عن طاعة الله مؤثِرون للكفر على الإيمان؛ فلذلك لا ينفع فيهم استغفارُ الرسول لو استغفر لهم؛ كما قال تعالى: {استَغْفِر لهم أو لا تَسْتَغْفِرْ لهم إن تَسْتَغْفِرْ لهم سبعينَ مرةً فلن يَغْفِرَ الله لهم}. {إنَّ الله لا يَهْدي القوم الفاسقينَ}.
آية: 7 - 8 #
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}.
# {7} وهذا من شدَّة عداوتهم للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، لما رأوا اجتماع أصحابه وائتلافَهم ومسارعتَهم في مرضاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ قالوا بزعمهم الفاسد: {لا تُنفِقوا على مَنْ عندَ رسول حتى يَنفَضُّوا}: فإنَّهم على زعمهم لولا أموالُ المنافقين ونفقاتُهم عليهم؛ لما اجتمعوا في نصرة دين الله! وهذا من أعجب العجب أن يدَّعِيَ هؤلاء المنافقون الذين هم أحرصُ الناس على خذلان الدين وأذيَّة المسلمين مثل هذه الدَّعوى التي لا تَروجُ إلاَّ على مَنْ لا علم له بالحقائق ، ولهذا قال تعالى ردًّا لقولهم: {ولله خزائنُ السمواتِ والأرض}: فيؤتي الرزق مَنْ يشاءُ، ويمنعه من يشاء، وييسِّر الأسباب لمن يشاء، ويعسِّرها على مَنْ يشاء. {ولكنَّ المنافقينَ لا يفقهونَ} فلذلك قالوا تلك المقالة التي مضمونُها أنَّ خزائن الرزقِ في أيديهم وتحت مشيئتهم.
# {8} {يقولون لئن رَجَعْنا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ}: وذلك في غزوة المريسيع، حين صار بين بعض المهاجرين والأنصار بعض كلام كدَّرَ الخواطر؛ ظهر حينئد نفاقُ المنافقين، وتبيَّن ما في قلوبهم ، وقال كبيرهم عبدُ الله بنُ أبيِّ بنُ سلول: ما مَثَلُنا ومَثَلُ هؤلاء ـ يعني: المهاجرين ـ إلاَّ كما قال القائل: سَمِّنْ كلبك يأكلك. وقال: لئنْ رجَعْنا إلى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ؛ بزعمه أنَّه هو وإخوانه المنافقين الأعزُّون، وأنَّ رسول الله ومن اتَّبعه هم الأذلُّون، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق، فلهذا قال تعالى: {ولله العزَّةُ ولرسوله وللمؤمنين}: فهم الأعزَّاء، والمنافقون وإخوانُهم من الكفار هم الأذلاَّء. {ولكنَّ المنافقين لا يعلمون}: ذلك؛ فلذلك زعموا أنَّهم الأعزَّاء اغتراراً بما هم عليه من الباطل.
ثم قال تعالى:
آية: 9 - 11 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}.
# {9} يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإكثار من ذِكْرِه؛ فإنَّ في ذلك الربح والفلاح والخيراتِ الكثيرةَ، وينهاهم أنْ تَشْغَلَهم أموالُهم وأولادُهم عن ذِكره؛ فإنَّ محبَّة المال والأولاد مجبولةٌ عليها أكثر النفوس، فتقدِّمها على محبة الله، وفي ذلك الخسارة العظيمة، ولهذا قال تعالى: {ومَن يفعلْ ذلك}؛ أي: يُلْهِهِ مالُه وولدُه عن ذكر الله، {فأولئك هم الخاسرونَ}: للسعادة الأبديَّة والنعيم المقيم؛ لأنَّهم آثروا ما يفنى على ما يبقى؛ قال تعالى: {إنَّما أموالكم وأولادُكم فتنةٌ والله عنده أجرٌ عظيمٌ}.
# {10} وقوله: {وأنفقوا ممَّا رَزَقْنَاكُم}: يدخلُ في هذه النفقات الواجبة من الزكاة والكفارات ، ونفقة الزوجات والمماليك، ونحو ذلك، والنفقات المستحبَّة؛ كبذل المال في جميع المصالح، وقال: {ممَّا رَزَقْناكم}: ليدلَّ ذلك على أنَّه تعالى لم يكلِّف العباد من النفقة ما يُعْنِتُهُمْ ويشقُّ عليهم، بل أمرهم بإخراج جزءٍ ممَّا رزقهم ويسَّره ويسَّر أسبابه، فليشكروا الذي أعطاهم بمواساة إخوانهم المحتاجين، وليبادروا بذلك، الموت الذي إذا جاء؛ لم يمكن العبد أن يأتي بمثقال ذرَّة من الخير، ولهذا قال: {من قبل أن يأتيَ أحدَكم الموتُ فيقولَ}: متحسراً على ما فَرَّطَ في وقت الإمكان، سائلاً الرجعةَ التي هي محالٌ: {ربِّ لولا أخَّرْتَني إلى أجل قريبٍ}؛ أي: لأتدارك ما فرَّطتُ فيه، {فأصَّدَّقَ}: من مالي ما به أنجو من العذاب، وأستحقُّ [به] جزيل الثواب، {وأكن من الصالحين}: بأداء المأموراتِ كلِّها واجتناب المنهيَّات، ويدخل في هذا الحجُّ وغيره.
# {11} وهذا السؤال والتَّمني قد فات وقتُه، ولا يمكن تداركه، ولهذا قال: {ولن يؤخِّرَ اللهُ نفساً إذا جاء أجَلُها}: المحتوم لها. {والله خبيرٌ بما تعملون}: من خير وشرٍّ، فيجازيكم على ما علمه منكم من النيِّات والأعمال.
تم تفسير سورة المنافقين. ولله الحمد.
* * *