وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}.
ذكَرَ كثيرٌ من المفسِّرين رحمهم الله أنَّ سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصَّة حاطب بن أبي بلتعة؛ حين غزا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - غزاة الفتح ، فكتب حاطبٌ إلى المشركين من أهل مكَّة يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم؛ ليتَّخِذَ بذلك يداً عندهم، لا شكًّا ونفاقاً، وأرسله مع امرأةٍ، فأُخْبِرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بشأنه، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها، وأخذ منها الكتاب، وعاتب حاطباً، فاعتذر بعذرٍ قبله النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -.
وهذه الآيات فيها النهيُ الشديد عن موالاة الكفَّار من المشركين وغيرهم وإلقاءِ المودَّةِ إليهم، وأنَّ ذلك منافٍ للإيمان ومخالفٌ لملَّة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ومناقضٌ للعقل الذي يوجِبُ الحذر كلَّ الحذر من العدوِّ الذي لا يُبقي من مجهوده في العداوة شيئاً وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوِّه.
#
{1} فقال تعالى:
{يا أيُّها الذين آمنوا}؛
أي: اعملوا بمقتضى إيمانكم من ولايةِ مَنْ قام بالإيمان ومعاداة من عاداه؛ فإنَّه عدوٌّ لله وعدوٌّ للمؤمنين، فـ
{لا تتَّخذوا عدوِّي وعدوَّكم أولياءَ تُلْقون إليهم بالمودَّة}؛
أي: تسارعون في مودَّتهم والسعي في أسبابها؛ فإنَّ المودَّة إذا حصلت؛ تبعتْها النصرةُ والموالاةُ، فخرج العبد من الإيمان، وصار من جملة أهل الكفران
[وانفصل عن أهل الإيمان]. وهذا المتَّخذُ للكافر وليًّا عادمُ المروءة أيضاً؛ فإنَّه كيف يوالي أعدى أعدائه، الذي لا يريد له إلاَّ الشرَّ، ويخالف ربَّه ووليَّه الذي يريد به الخير، ويأمره به ويحثُّه عليه. ومما يدعو المؤمن أيضاً إلى معاداة الكفار أنَّهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحقِّ، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقَّة؛ فإنَّهم قد كفروا بأصل دينكم، وزعموا أنَّكم ضلاَّلٌ على غير هدىً، والحالُ أنَّهم كفروا بالحقِّ الذي لا شكَّ فيه ولا مريةَ، ومن ردَّ الحقَّ؛ فمحالٌ أن يوجد له دليلٌ أو حجَّةٌ تدلُّ على صحة قوله. بل مجرَّد العلم بالحقِّ يدلُّ على بطلان قول من ردَّه وفساده.
ومن عداوتهم البليغة أنَّهم
{يُخْرِجون الرسولَ وإيَّاكم}: أيُّها المؤمنون من دياركم ويشرِّدونكم من أوطانكم ولا ذنبَ لكم في ذلك عندهم إلاَّ أنكم تؤمنون
{بالله ربِّكم}: الذي يتعيَّن على الخلق كلِّهم القيام بعبوديَّته؛ لأنَّه ربَّاهم، وأنعم عليهم بالنِّعم الظاهرة والباطنة
[وهو اللَّه تعالى]، فلمَّا أعرضوا عن هذا الأمر الذي هو أوجبُ الواجبات وقمتُم به؛ عادَوْكم وأخرجوكم من أجله من دياركم، فأيُّ دين وأيُّ مروءة وعقل يبقى مع العبد إذا والى الكفار الذين هذا وصفُهم في كلِّ زمانٍ أو مكان، ولا يمنعهم منه إلاَّ خوفٌ أو مانعٌ قويٌّ.
{إن كنتُم خرجتُم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي}؛
أي: إن كان خروجُكم مقصودُكم به الجهادُ في سبيل الله لإعلاء كلمة الله وابتغاء رضاه؛ فاعملوا بمقتضى هذا من موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائهِ؛ فإنَّ هذا من أعظم الجهاد في سبيله، ومن أعظم ما يتقرَّب به المتقرِّبون إلى الله ويبتغون به رضاه.
{تُسِرُّون إليهم بالمودَّةِ وأنا أعلمُ بما أخفيتُم وما أعلنتُم}؛
أي: كيف تسرُّون المودَّة للكافرين وتخفونها مع علمكم أنَّ الله عالمٌ بما تخفون وما تعلنون؛ فهو وإن خفي على المؤمنين؛ فلا يخفى على الله تعالى، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم من الخير والشرِّ.
{ومن يَفْعَلْه منكم}؛
أي: موالاة الكافرين بعدما حذَّركم الله منها،
{فقد ضلَّ سواءَ السبيل}: لأنَّه سلك مسلكاً مخالفاً للشرع وللعقل والمروءة الإنسانيَّة.
#
{2} ثم بيَّن تعالى شدَّة عداوتهم تهييجاً للمؤمنين على عداوتهم:
{إن يَثْقَفوكم}؛
أي: يجدوكم وتسنح لهم الفرصة في أذاكم،
{يكونوا لكم أعداءً}: ظاهرين،
{ويَبْسُطوا إليكم أيدِيَهم}: بالقتل والضَّرب ونحو ذلك،
{وألسنَتَهم بالسوءِ}؛
أي: بالقول الذي يسوء من شَتْمٍ وغيره،
{وودُّوا لو تكفُرون}: فإنَّ هذا غاية ما يريدون منكم.
#
{3} فإن احتجَجْتُم وقلتُم: نوالي الكفار لأجل القرابة والأموال؛ فلن تغنيَ عنكم أَموالُكم ولا أولادُكم من الله شيئاً
{والله بما تعملون بصيرٌ} فلذلك حذَّركم من موالاة الكافرين الذين تضرُّكم موالاتهم.
#
{4} {قد} كان
{لكم}: يا معشر المؤمنينَ،
{أسوةٌ حسنةٌ}؛
أي: قدوةٌ صالحةٌ وائتمامٌ ينفعكم
{في إبراهيم والذين معه}: من المؤمنين؛ لأنَّكم قد أمرتم أن تتَّبعوا ملَّة إبراهيم حنيفاً،
{إذْ قالوا لقومهم إنا بُرءَاءُ منكم وممَّا تعبُدون من دونِ اللهِ}؛
أي: إذ تبرأ إبراهيم عليه السلام ومَنْ معه من المؤمنين من قومهم المشركين وممَّا يعبُدون من دون الله، ثم صرَّحوا بعداوتهم غاية التصريح،
فقالوا: {كَفَرْنا بكم وبدا}؛
أي: ظهر وبان
{بينَنا وبينَكم العداوةُ والبغضاءُ}؛
أي: البغض بالقلوب وزوال مودَّتها والعداوة بالأبدان. وليس لتلك العداوة والبغضاء وقتٌ ولا حدٌّ، بل ذلك
{أبداً} ما دمتم مستمرِّين على كفركم،
{حتى تؤمِنوا بالله وحدَه}؛
أي: فإذا آمنتم بالله وحده؛ زالت العداوةُ والبغضاءُ وانقلبتْ مودَّةً وولايةً؛ فلكم أيُّها المؤمنون أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم ومن معه في القيام بالإيمان والتوحيد ولوازم ذلك ومقتضياته وفي كلِّ شيءٍ تَعَبَّدُوا به لله وحده،
{إلاَّ}: في خصلةٍ واحدةٍ،
وهي: {قولَ إبراهيمَ لأبيه}: آزر المشرك الكافر المعاند حين دعاه إلى الإيمان والتوحيدِ، فامتنع،
فقال إبراهيمُ له: {لأستغفرنَّ لك و}: الحال أني لا
{أملِكُ لك من اللهِ من شيءٍ}: ولكنِّي أدعو ربِّي عسى أن لا أكونَ بدعاءِ ربِّي شقيًّا، فليس لكم أن تقتدوا بإبراهيم في هذه الحالة التي دعا بها للمشرك،
فليس لكم أن تدعوا للمشركين وتقولوا: إنَّا في ذلك متَّبِعون لملَّة إبراهيم؛
فإنَّ الله ذَكَرَ عذرَ إبراهيم في ذلك بقوله: {وما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيهِ إلاَّ عن مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إيَّاه فلمَّا تَبَيَّنَ له أنَّه عدوٌّ لله تبرَّأ منه ... } الآية، ولكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم ومن معه حين دَعَوُا الله وتوكَّلوا عليه وأنابوا إليه واعترفوا بالعجز والتقصير،
فقالوا: {ربَّنا عليك توكَّلْنا}؛
أي: اعتمدنا عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرُّنا ووثقنا بك يا ربَّنا في ذلك،
{وإليك أنَبْنا}؛
أي: رجعنا إلى طاعتك ومرضاتك وجميع ما يقرِّبُ إليك؛ فنحن في ذلك ساعون، وبفعل الخيرات مجتهدون، ونعلم أنَّا إليك نصيرُ، فسنستعدُّ للقدوم عليك، ونعمل ما يزلفنا إليك.
#
{5} {ربَّنا لا تجعَلْنا فتنةً للذين كفروا}؛
أي: لا تسلِّطْهم علينا بذنوبنا، فيفتنونا، ويمنعونا مما يقدرون عليه من أمور الإيمان، ويفتتنون أيضاً بأنفسهم؛ فإنَّهم إذا رأوا لهم الغلبة؛ ظنُّوا أنَّهم على الحقِّ وأنَّا على الباطل، فازدادوا كفراً وطغياناً،
{واغفِرْ لنا}: ما اقترفنا من الذُّنوب والسيئات وما قصَّرْنا به من المأمورات.
{ربَّنا إنَّك أنت العزيز}: القاهر لكلِّ شيءٍ.
{الحكيمُ}: الذي يضع الأشياء مواضعها؛ فبعزَّتك وحكمتك انصُرْنا على أعدائنا، واغفر لنا ذنوبنا، وأصلِحْ عيوبنا.
#
{6} ثم كرَّر الحثَّ لهم على الاقتداء بهم وقال:
{لقد كان لكم فيهم أسوةٌ حسنةٌ}: وليس كلُّ أحدٍ تسهُلُ عليه هذه الأسوة، وإنما تسهل على من
{كان يرجو اللهَ واليومَ الآخرَ}: فإنَّ الإيمان واحتساب الأجر والثواب يسهِّل على العبد كلَّ عسير، ويقلِّل لديه كلَّ كثير، ويوجِبُ له
[الإكثار مِن] الاقتداء بعباد الله الصالحين والأنبياء والمرسلين؛ فإنَّه يرى نفسه مفتقراً
[و] مضطرًّا إلى ذلك غاية الاضطرار،
{ومن يتولَّ}: عن طاعة الله والتأسِّي برسل الله؛ فلن يضرَّ إلاَّ نفسه، ولا يضرُّ الله شيئاً،
{فإنَّ الله هو الغنيُّ}: الذي له الغنى التامُّ المطلقُ من جميع الوجوه؛ فلا يحتاج إلى أحدٍ من خلقه بوجه.
{الحميدُ}: في ذاته
[وأسمائه] وصفاته وأفعاله؛ فإنَّه محمود على ذلك كله.
#
{7} ثم أخبر تعالى أنَّ هذه العداوة التي أمَرَ
[اللَّهُ] بها المؤمنين للمشركين ووصفهم بالقيام بها؛ أنَّهم ما داموا على شركهم وكفرهم، وأنَّهم إن انتقلوا إلى الإيمان؛ فإنَّ الحكم يدور مع علته، والمودَّة الإيمانيَّة ترجع؛ فلا تيأسوا أيُّها المؤمنون من رجوعهم إلى الإيمان؛
{فعسى اللهُ أن يجعلَ بينكم وبين الذين عادَيْتُم منهم مودةً}: سببها رجوعهم إلى الإيمان.
{والله قديرٌ}: على كلِّ شيءٍ، ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال.
{والله غفورٌ رحيمٌ}: لا يتعاظمُهُ ذنبٌ أن يغفِرَه ولا
[يكبر عليه] عيبٌ أن يستُرَه،
{قلْ يا عبادي الذين أسْرَفوا على أنفسِهِم لا تَقْنَطوا من رحمةِ الله إنَّ اللهَ يغفرُ الذُّنوب جميعاً إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ}. وفي هذه الآية إشارةٌ وبشارةٌ بإسلام بعض المشركين، الذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين، وقد وقع ذلك، ولله الحمد والمنة.
#
{8} ولمَّا نزلت هذه الآيات الكريمات المهيِّجةُ على عداوة الكافرين؛ وقعتْ من المؤمنين كلَّ موقع، وقاموا بها أتمَّ القيام، وتَأثَّموا من صِلَةِ بعض أقاربهم المشركين، وظنُّوا أنَّ ذلك داخل فيما نهى الله عنه، فأخبرهم الله أن ذلك لا يدخُلُ في المحرم،
فقال: {لا ينهاكُمُ الله عن الذين لم يقاتِلوكم في الدِّينِ ولم يُخْرِجُوكم من دياركُم أن تَبَرُّوهم وتُقْسِطوا إليهم إنَّ الله يحبُّ المقسِطينَ}؛
أي: لا ينهاكم الله عن البرِّ والصِّلة والمكافأة بالمعروف والقسطِ للمشركين من أقاربكم وغيرهم؛ حيث كانوا بحالٍ لم ينتصبوا لقتالكم في الدين والإخراج من دياركم؛ فليس عليكم جناحٌ أن تَصِلوهم؛ فإنَّ صِلَتَهم في هذه الحالة لا محذورَ فيها ولا تَبِعَةَ ؛
كما قال تعالى في الأبوين الكافرين إذا كان ولدهما مسلماً: {وإن جاهَداك على أن تشرِكَ بي ما ليس لك به علمٌ فلا تُطِعْهما وصاحِبْهما في الدُّنيا معروفاً}.
#
{9} وقوله:
{إنَّما ينهاكُم اللهُ عن الذين قاتَلوكم في الدِّين}؛
أي: لأجل دينكم؛ عداوةً لدين الله ولِمَنْ قام به،
{وأخْرَجوكم من دِياركم وظاهَروا}؛
أي: عاونوا غيرهم
{على إخراجِكم}: نهاكم الله
{أن تَوَلَّوهم}: بالنصرة والموَّدة بالقول والفعل، وأما بِرُّكم وإحسانُكم الذي ليس بتولٍّ للمشركين؛ فلم ينهكم الله عنه، بل ذلك داخلٌ في عموم الأمر بالإحسان إلى الأقارب وغيرهم من الآدميين وغيرهم،
{ومن يَتَوَلَّهم} منكم
{فأولئك هم الظالمونَ}: وذلك الظلمُ يكون بحسب التولِّي؛ فإنْ كان تولياً تامًّا؛ كان ذلك كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظٌ وما هو دونه.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)}.
#
{10} لما كان صلح الحديبية؛ صالَحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المشركين على أنَّ مَن جاء منهم إلى المسلمين مسلماً؛ أنَّه يردُّ إلى المشركين، وكان هذا لفظاً عامًّا مطلقاً يدخل في عمومه النساء والرجال، فأمَّا الرجال؛ فإنَّ الله لم ينه رسولَه عن ردِّهم إلى الكفار وفاءً بالشرط وتتميماً للصلح الذي هو من أكبر المصالح، وأمَّا النساءُ؛ فلمَّا كان ردُّهنَّ فيه مفاسد كثيرةٌ؛ أمرَ المؤمنين إذا جاءهم
{المؤمناتُ مهاجراتٍ}: وشَكُّوا في صدق إيمانهنَّ أن يمتحنوهنَّ ويختبروهنَّ بما يظهر به من صدقهنَّ من أيمانٍ مغلظةٍ وغيرها؛ فإنَّه يُحْتمل أن يكون إيمانُها غيرَ صادقٍ، بل رغبةً في زوج أو بلدٍ أو غير ذلك من المقاصد الدنيويِّة؛ فإنْ كُنَّ بهذا الوصف؛ تعيَّن ردُّهنَّ وفاءً بالشرط من غير حصول مفسدةٍ؛ وإن امتحنوهنَّ فوجدنَ صادقاتٍ، أو علموا ذلك منهنَّ من غير امتحانٍ؛ فلا يَرْجِعوهنَّ إلى الكفار.
{لا هنَّ حلٌّ لهم ولا هم يَحِلُّون لهنَّ}: فهذه مفسدةٌ كبيرةٌ
[في ردهنَّ] راعاها الشارع وراعى أيضاً الوفاء بالشرط؛ بأن يُعطوا الكفار أزواجهنَّ ما أنفقوا عليهنَّ من المهر وتوابعه عوضاً عنهنَّ، ولا جناح حينئذٍ على المسلمين أن ينكحوهنَّ، ولو كان لهنَّ أزواجٌ في دار الشرك، ولكن بشرطِ أن يؤتوهنَّ أجورهنَّ من المهر والنفقة، وكما أنَّ المسلمة لا تحلُّ للكافر؛ فكذلك الكافرة لا تحلُّ للمسلم
[أن يمسكها] ما دامت على كفرها؛ غير أهل الكتاب،
ولهذا قال تعالى: {ولا تُمسِكوا بعِصَم الكَوافِرِ}. وإذا نهي عن الإمساك بعصمتها؛ فالنهي عن ابتداء تزويجها أولى،
{واسألوا ما أنفقتم}: أيُّها المؤمنون حين ترجِعُ زوجاتكم مرتداتٍ إلى الكفار؛ فإذا كان الكفار يأخذون من المسلمين نفقة من أسلمت من نسائهم؛ استحقَّ المسلمون أن يأخذوا مقابلة ما ذهب من زوجاتهم إلى الكفار.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ خُروجَ البُضْع من الزوج متقوَّمٌ؛ فإذا أفسد مفسدٌ نكاح امرأة رجل برضاع أو غيره؛ كان عليه ضمانُ المهرِ.
وقوله: {ذلكم حكم الله}؛
أي: ذلكم الحكم الذي ذكره الله وبيَّنه لكم حكمُ الله؛ بيَّنه لكم ووضَّحه.
{والله عليمٌ حكيمٌ}: فيعلم تعالى ما يصلح لكم من الأحكام، فيشرعه بحسب حكمته ورحمته.
#
{11} وقوله:
{وإن فاتَكم شيءٌ من أزواجِكم إلى الكفَّار}: بأن ذهبنَ مرتدَّاتٍ،
{فعاقبتُم فآتوا الذين ذهبتْ أزواجُهم مثل ما أنفقوا}: كما تقدَّم أنَّ الكفار إذا كانوا يأخذون بدل ما يفوت من أزواجهم إلى المسلمين؛ فمن ذهبت زوجتُه من المسلمين إلى الكفار، وفاتت عليه؛ فعلى المسلمين أن يعطوه من الغنيمة بدل ما أنفق.
{واتَّقوا الله الذي أنتم به مؤمنونَ}: فإيمانكم بالله يقتضي منكم أن تكونوا ملازمين للتقوى على الدَّوام.
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)}.
#
{12} هذه الشروط المذكورة في هذه الآية تسمَّى مبايعة النساء، اللاتي كنَّ يبايِعْنَّ على إقامة الواجبات المشتركة التي تجب على الذُّكور والنساء في جميع الأوقات، وأما الرجال؛ فيتفاوتُ ما يلزمُهم بحسب أحوالهم ومراتبهم وما يتعيَّن عليهم، فكان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يمتثل ما أمره الله
[به]، فكان إذا جاءته النساءُ يبايِعْنَه والتزمن بهذه الشروط؛ بايَعَهُنَّ وجَبَرَ قلوبَهُنَّ، واستغفر لهنَّ الله فيما يحصل منهنَّ من التقصير وأدخلهنَّ في جملة المؤمنين،
{على أن لا يُشْرِكنَ بالله شيئاً}: بل يفرِدْنَ الله وحده بالعبادة،
{ولا يَقْتُلْنَ أولادهنَّ}: كما يجري لنساء الجاهليَّة الجهلاء،
{ولا يَزْنينَ}: كما كان ذلك موجوداً كثيراً في البغايا وذوات الأخدان،
{ولا يأتين ببُهتانٍ يفترينَه بين أيديهنَّ وأرجُلهنَّ}: والبهتان الافتراء على الغير؛
أي: لا يفترين بكلِّ حالة، سواءً أتعلَّقت بهنَّ مع أزواجهنَّ أو تعلَّق ذلك بغيرهم،
{ولا يَعْصينَكَ في معروفٍ}؛
أي: لا يعصينك في كلِّ أمرٍ تأمرهنَّ به؛ لأنَّ أمرك لا يكون إلاَّ بمعروفٍ، ومن ذلك طاعتهنَّ لك في النهي عن النياحة وشقِّ الجيوب وخمش الوجوه والدُّعاء بدعوى الجاهلية،
{فبايِعْهُنَّ}: إذا التزمنَ بجميع ما ذُكِر،
{واستَغْفِرْ لهنَّ اللهَ}: عن تقصيرهنَّ وتطييباً لخواطرهنَّ.
{إنَّ الله غفورٌ}؛
أي: كثير المغفرة للعاصين والإحسان إلى المذنبين التائبين.
{رحيمٌ}: وسعت رحمتُه كلَّ شيءٍ وعمَّ إحسانُه البَرايا.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}.
#
{13} أي: يا أيُّها المؤمنون إن كنتُم مؤمنين بربِّكم، ومتَّبعين لرضاه، ومجانبين لسخطه،
{لا تَتَوَلَّوا قوماً غضب الله عليهم}: وإنَّما غضب عليهم لكفرهم، وهذا شاملٌ لجميع أصناف الكفار،
{قد يَئِسوا من الآخرةِ}؛
أي: قد حُرِموا من خير الآخرة، فليس لهم منها نصيبٌ؛ فاحذروا أن تَتَوَلَّوهم فتوافقوهم على شرِّهم وشركهم ، فتُحرموا خير الآخرة كما حُرِمُوا.
وقوله: {كما يئِس الكفَّار من أصحاب القبور}: حين أفضوا إلى الدار الآخرة، وشاهدوا حقيقة الأمر، وعلموا علم اليقين أنَّهم لا نصيب لهم منها.
ويُحتمل أنَّ المعنى: قد يئسوا من الآخرة؛
أي: قد أنكروها وكفروا بها؛ فلا يُسْتَغربُ حينئذٍ منهم الإقدام على مساخط الله وموجباتِ عذابِه، وإياسهم من الآخرة كما يئس الكفارُ المنكرون للبعث في الدُّنيا من رجوع أصحاب القبور إلى الله تعالى.
تم تفسيرها. والله أعلم.
* * *