آية:
تفسير سورة السجدة
تفسير سورة السجدة
وهي مكية
آية: 1 - 8 #
{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)}.
# {2} يخبر تعالى عبادَه أنَّ هذا الكتاب الجليل والقرآن الجميل {تنزيلٌ}: صادر {من الرحمنِ الرحيم}: الذي وسعتْ رحمتُه كلَّ شيء، الذي من أعظم رحمته وأجلِّها إنزال هذا الكتاب، الذي حصل به من العلم والهدى والنور والشفاء والرحمة والخير الكثير ما هو من أجلِّ نعمِهِ على العباد، وهو الطريق للسعادة في الدارين.
# {3} ثم أثنى على الكتاب بتمام البيان، فقال: {فُصِّلَتْ آياتُه}؛ أي: فُصِّلَ كلُّ شيء من أنواعه على حِدَتِهِ، وهذا يستلزمُ البيان التامَّ والتفريق بين كلِّ شيء وتمييز الحقائق، {قرآناً عربيًّا}؛ أي: باللغة الفصحى أكمل اللغات، فصلت آياتُهُ وجُعِلَ عربيًّا. {لقوم يَعْلَمونَ}؛ أي: لأجل أن يتبيَّنَ لهم معناه كما يتبيَّن لفظه، ويتَّضحَ لهم الهدى من الضلال والغيُّ من الرشاد، وأمَّا الجاهلون الذين لا يزيدُهم الهدى إلاَّ ضلالاً ولا البيانُ إلا عمىً؛ فهؤلاء لم يَسُقِ الكلامَ لأجلهم، و {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذِرْهم لا يؤمنون}.
# {4} {بشيراً ونذيراً}؛ أي: بشيراً بالثواب العاجل والآجل، ونذيراً بالعقاب العاجل والآجل، وذكر تفصيلَهما، وذكر الأسبابَ والأوصاف التي تحصل بها البشارةُ والنذارةُ، وهذه الأوصاف للكتاب مما يوجب أن يُتَلَقَّى بالقَبول والإذعان والإيمان والعمل به، ولكن أعرض أكثر الخلق عنه إعراض المستكبرين، {فهم لا يسمعون}: له سماع قبول وإجابةٍ، وإن كانوا قد سمِعوه سماعاً تقوُم عليهم به الحجَّة الشرعيَّة.
# {5} {وقالوا}؛ أي: هؤلاء المعرضون عنه مبيِّنين عدم انتفاعهم به بسدِّ الأبواب الموصلة إليه: {قلوبُنا في أكِنَّةٍ}؛ أي: أغطية مغشَّاة، {مما تَدْعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ}؛ أي: صمم فلا نسمع لك {ومن بيننا وبينِك حجابٌ}: فلا نراك؛ القصدُ من ذلك أنَّهم أظهروا الإعراض عنه من كلِّ وجه، وأظهروا بُغْضَه والرِّضا بما هم عليه، ولهذا قالوا: {فاعْمَلْ إنَّنا عاملون}؛ أي: كما رضيت بالعمل بدينك؛ فإنَّنا راضون كلَّ الرضا بالعمل في ديننا، وهذا من أعظم الخذلان؛ حيث رضوا بالضَّلال عن الهدى، واستبدلوا الكفرَ بالإيمان، وباعوا الآخرةَ بالدنيا.
# {6 ـ 7} {قل}: لهم يا أيُّها النبيُّ: {إنَّما أنا بشرٌ مثلُكُم يوحى إليَّ}؛ أي: هذه صفتي ووظيفتي: أني بشرٌ مثلكم، ليس بيدي من الأمر شيء، ولا عندي ما تستعجِلون به، وإنَّما فضَّلني الله عليكم وميَّزني وخصَّني بالوحي الذي أوحاه إليَّ وأمرني باتِّباعه ودعوتِكُم إليه. {فاستَقيموا إليه}؛ أي: اسلكوا الصراط الموصل إلى الله تعالى بتصديقِ الخبر الذي أخبر به واتِّباع الأمر واجتناب النهي، هذا حقيقة الاستقامة، ثم الدوام على ذلك، وفي قوله: {إليه}: تنبيهٌ على الإخلاص، وأنَّ العامل ينبغي له أن يَجْعَلَ مقصودَه وغايتَه التي يعمل لأجلها الوصولَ إلى الله وإلى دار كرامتِهِ؛ فبذلك يكون عملُه خالصاً صالحاً نافعاً، وبفواتِهِ يكون عملُه باطلاً. ولمَّا كان العبدُ ولو حَرَصَ على الاستقامةِ لا بدَّ أن يحصلَ منه خللٌ بتقصير بمأمور أو ارتكاب منهيٍّ؛ أمره بدواء ذلك بالاستغفار المتضمِّن للتوبة، فقال: {واستغفِروه}، ثم توعَّد من ترك الاستقامة فقال: {وويلٌ للمشركينَ. الذين لا يُؤتونَ الزَّكاةَ}؛ أي: الذين عَبَدوا من دونِهِ مَنْ لا يملك نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ودسُّوا أنفسهم فلم يزكُّوها بتوحيد ربِّهم والإخلاص له، ولم يُصَلُّوا ولا زَكَّوْا؛ فلا إخلاص للخالق بالتوحيد والصلاةِ، ولا نفع للخلق بالزَّكاة وغيرها. {وهم بالآخرةِ هم كافرونَ}؛ أي: لا يؤمنون بالبعث ولا بالجنة والنار؛ فلذلك لما زال الخوفُ من قلوبهم؛ أقدموا على ما أقدموا عليه مما يضرُّهم في الآخرة.
# {8} ولما ذَكَرَ الكافرين؛ ذَكَرَ المؤمنين ووَصْفَهم وجزاءهم، فقال: {إن الذين آمنوا}: بهذا الكتاب وما اشتمل عليه ممَّا دعا إليه من الإيمان وصدَّقوا إيمانَهم بالأعمال الصالحة الجامعة للإخلاص والمتابعة، {لهم أجرٌ}؛ أي: عظيم {غيرُ ممنونٍ}؛ أي: غير مقطوع ولا نافذٍ، بل هو مستمرٌّ مدى الأوقات، متزايدٌ على الساعات، مشتملٌ على جميع اللذَّات والمشتَهَيات.
آية: 9 - 12 #
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)}.
# {9 ـ 10} ينكرُ تعالى ويَعَجّب من كفر الكافرين به، الذين جعلوا معه أنداداً، يُشْرِكونهم معه، ويبذُلون لهم ما يشاؤون من عباداتهم، ويسوُّونهم بالربِّ العظيم الملك الكريم، الذي خلق الأرض الكثيفة العظيمة في يومين، ثم دحاها في يومين؛ بأن جعل فيها رواسيَ من فوقها تُرْسيها عن الزوال والتزلزل وعدم الاستقرارِ؛ فكمَّل خلقها ودحاها وأخرج أقواتها وتوابعَ ذلك {في أربعةِ أيام سواءً للسائلين}: عن ذلك؛ فلا ينبِّئك مثلُ خبير؛ فهذا الخبر الصادق الذي لا زيادة فيه ولا نقص.
# {11} {ثم}: بعد أن خَلَقَ الأرض {استوى}؛ أي: قصد {إلى}: خلق {السماء وهي دخانٌ}: قد ثار على وجه الماء، {فقال لها}: ولمَّا كان هذا التخصيصُ يوهِمُ الاختصاص؛ عَطَفَ عليه بقوله: {وللأرض ائْتِيا طوعاً أو كَرْهاً}؛ أي: انقادا لأمري طائعتين أو مُكْرَهَتَيْن؛ فلا بدَّ من نفوذه، {قالتا أتَيْنا طائعينَ}؛ أي: ليس لنا إرادةٌ تخالف إرادتك.
# {12} {فقضاهنَّ سبعَ سمواتٍ في يومين}: فتمَّ خلقُ السماواتِ والأرض في ستة أيام؛ أولها يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة، مع أنَّ قدرةَ الله ومشيئتَه صالحةٌ لخلق الجميع في لحظة واحدة، ولكن مع أنَّه قدير؛ فهو حكيمٌ رفيقٌ؛ فمن حكمته ورفقه أن جعل خَلْقَها في هذه المدة المقدرة. واعلم أنَّ ظاهر هذه الآية مع قوله تعالى في النازعات لما ذَكَرَ خَلْقَ السماواتِ؛ قال: {والأرضَ بعد ذلك دحاها}: يَظْهَرُ منهما التعارضُ! مع أنَّ كتاب الله لا تعارض فيه ولا اختلاف! والجواب عن ذلك ما قاله كثير من السلف: أنَّ خلقَ الأرض وصورتَها متقدِّم على خلق السماواتِ كما هنا. ودَحْيُ الأرض بأن {أخرجَ منها ماءها ومَرْعاها. والجبالَ أرساها}: متأخِّرٌ على خلقِ السماوات؛ كما في سورة النازعات، ولهذا قال [فيها]: {والأرضَ بعد ذلك دَحاها. أخْرَجَ منها ... } إلى آخره، ولم يقلْ: والأرضَ بعد ذلك خَلَقها. وقوله: {وأوحى في كلِّ سماءٍ أمرَها}؛ أي: الأمر والتدبير اللائقَ بها، التي اقتضتْه حكمةُ أحكم الحاكمين، {وزيَّنَّا السماء الدُّنيا بمصابيحَ}: هي النجوم؛ يُستنار بها ويُهتدى، وتكون زينةً وجمالاً للسماء ظاهراً وجمالاً لها باطناً بجعلها رجوماً للشياطين؛ لئلاَّ يسترق السمعَ فيها. {ذلك}: المذكور من الأرض وما فيها والسماء وما فيها {تقديرُ العزيز العليم}: الذي عزَّتُه قَهَرَ بها الأشياء ودبَّرها وخَلَق بها المخلوقات. {العليم} الذي أحاط علمُهُ بالمخلوقات والغائب والشاهد. فترك المشركين الإخلاصَ لهذا الربِّ العظيم الواحد القهَّار، الذي انقادتِ المخلوقاتُ لأمره، ونفذَ فيها قدرُه من أعجب الأشياء، واتِّخاذهم له أنداداً يسوُّونهم به وهم ناقصون في أوصافهم وأفعالهم أعجب وأعجب، ولا دواء لهؤلاء إن استمرَّ إعراضُهم إلاَّ العقوبات الدنيويَّة والأخرويَّة؛ فلهذا خوَّفهم بقوله:
آية: 13 - 14 #
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)}.
# {13 ـ 14} أي: فإن أعرض هؤلاء المكذِّبون بعدما بُيِّنَ لهم من أوصافِ القرآن الحميدة ومن صفات الإله العظيم، {فقل أنذرتُكم صاعقةً}؛ أي: عذاباً يستأصِلكم ويجتاحُكم، {مثل صاعقة عادٍ وثمودَ}: القبيلتين المعروفتين؛ حيث اجتاحهم العذابُ، وحلَّ عليهم وَبيل العقاب، وذلك بظلمهم وكفرهم؛ حيث {جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم}؛ أي: يَتْبَع بعضهم بعضاً متوالين، ودعوتُهم جميعاً واحدة: {أن لا تَعْبُدوا إلاَّ الله}؛ أي: يأمرون بالإخلاص لله، ويَنْهَوْنَهم عن الشرك به، فردُّوا رسالتهم وكذَّبوهم، و {قالوا لو شاء ربُّنا لأنزل ملائكةً}؛ أي: وأما أنتم؛ فبشرٌ مثلنا، {فإنَّا بما أرْسِلْتم به كافرون}: وهذه الشبهة لم تزل متوارثةً بين المكذِّبين بالأمم، وهي من أوهى الشُّبه؛ فإنَّه ليس من شرط الإرسال أن يكون المرسل ملكاً، وإنَّما شرط الرسالة أن يأتي الرسول بما يدلُّ على صدقه، فليقدحوا إن استطاعوا بصدقِهم بقادح عقليٍّ أو شرعيٍّ، ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً.
آية: 15 - 16 #
{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)}.
هذا تفصيلٌ لقصة هاتين الأمتين عادٍ وثمود:
# {15} فأمَّا عادٌ؛ فكانوا مع كفرهم بالله وجحدهم بآيات الله وكفرهم برسله مستكبرين {في الأرض} قاهرين لمن حولَهم من العباد ظالمين لهم قد أعجبتهم قُوَّتُهم، {وقالوا مَنْ أشدُّ منا قُوَّةً}: قال تعالى ردًّا عليهم بما يعرفه كلُّ أحدٍ: {أولم يَرَوا أنَّ الله الذي خلقهم هو أشدُّ منهم قوةً}: فلولا خلقُه إيَّاهم؛ لم يوجدوا؛ فلو نظروا إلى هذه الحال نظراً صحيحاً؛ لم يغترُّوا بقوَّتِهم.
# {16} فعاقبهم الله عقوبةً تناسب قوَّتهم التي اغترُّوا بها، {فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً}؛ أي: ريحاً عظيمةً من قوتها وشدَّتها، لها صوتٌ مزعجٌ كالرعد القاصف، فسخَّرها الله {عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّام حسوماً فترى القومَ فيها صرعى كأنَّهم أعجازُ نخل خاويةٍ}، {نحسات}: فدمَّرتهم وأهلكتهم فأصبحوا لا يُرى إلاَّ مساكنُهم، وقال هنا: {لنذيقَهم عذابَ الخِزْي في الحياة الدُّنيا}: الذي اختزوا به وافتُضِحوا بين الخليقة، {ولَعذابُ الآخرة أخزى وهم لا يُنصَرونَ}؛ أي: لا يُمنعون من عذاب الله، ولا يَنْفَعون أنفسَهم.
آية: 17 - 18 #
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)}.
# {17} {وأما ثمودُ}: وهم القبيلة المعروفة، الذين سكنوا الحجرَ وحواليه، الذين أرسل الله إليهم صالحاً عليه السلام يدعوهم إلى توحيدِ ربِّهم وينهاهم عن الشرك، وآتاهم الله الناقةَ آيةً عظيمةً لها شِربٌ ولهم شِربُ يوم معلوم، يشربون لبنَها يوماً ويشربون من الماء يوماً، وليسوا ينفقون عليها، بل تأكل من أرض الله، ولهذا قال هنا: {وأمَّا ثمودُ فهَدَيْناهم}؛ أي: هداية بيان، وإنما نصَّ عليهم، وإن كان جميع الأمم المهلكة قد قامتْ عليهم الحجَّةُ وحصل لهم البيانُ؛ لأن آية ثمودَ آيةٌ باهرةٌ قد رآها صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم، وكانت آيةً مبصرةً، فلهذا خصَّهم بزيادة البيان والهدى، ولكنَّهم من ظلمهم وشرِّهم استحبُّوا {العمى} الذي هو الكفر والضلال {على الهدى} الذي هو العلم والإيمان، فأخذهم {العذاب} بما كانوا يكسِبون، لا ظُلماً من الله لهم.
# {18} {ونجَّيْنا الذين آمنوا وكانوا يتَّقونَ}؛ أي: نجَّى الله صالحاً عليه السلام ومن اتَّبعه من المؤمنين المتَّقين للشرك والمعاصي.
آية: 19 - 24 #
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)}.
# {19} يخبر تعالى عن أعدائه الذين بارزوه بالكفر به وبآياتِهِ وتكذيب رسلِهِ ومعاداتهم ومحاربتهم وحالِهِم الشنيعةِ حين يُحشرونَ؛ أي: يجمعون {إلى النار فهم يُوزَعونَ}؛ أي: يردُّ أولهم على آخرهم، ويتبعُ آخرُهم أوَّلهم، ويساقون إليها سوقاً عنيفاً، لا يستطيعون امتناعاً ولا يَنصرون أنفسَهم ولا هم يُنصرون.
# {20} {حتى إذا ما جاؤوها}؛ أي: حتى إذا وردوا على النار وأرادوا الإنكارَ أو أنكروا ما عملوه من المعاصي، {شَهِدَ عليهم سمعُهم وأبصارُهم وجلودُهم}: عمومٌ بعد خصوص، {بما كانوا يعملونَ}؛ أي: شهد عليهم كلُّ عضو من أعضائهم؛ فكل عضو يقول: أنا فعلتُ كذا وكذا يوم كذا وكذا، وخصَّ هذه الأعضاء الثلاثة؛ لأنَّ أكثر الذُّنوب إنما تقع بها أو بسببها.
# {21} فإذا شهدتْ عليهم، عاتبوها {وقالوا لجلودِهِم}: هذا دليلٌ على أنَّ الشهادة تقع من كلِّ عضو كما ذكرنا، {لم شهِدتُم علينا}: ونحن ندافعُ عنكنَّ؟ {قالوا أنطَقَنا اللهُ الذي أنطق كلَّ شيءٍ}: فليس في إمكاننا الامتناعُ عن الشهادة حين أنطقنا الذي لا يَستعصي أحد عن مشيئتِهِ ، {وهو خَلَقَكم أولَ مرةٍ}: فكما خلقكم بذواتكم وأجسامِكم؛ خلق أيضاً صفاتِكم، ومن ذلك الإنطاق. {وإليه تُرْجَعون}: في الآخرة، فيجزيكم بما عملتُم. ويُحتمل أنَّ المراد بذلك الاستدلال على البعثِ بالخَلْقِ الأول كما هو طريقة القرآن.
# {22} {وما كنتُم تستَتِرونَ أن يشهدَ عليكم سمعُكم ولا أبصارُكم ولا جلودُكم}؛ أي: وما كنتُم تختفون عن شهادة أعضائكم عليكم ولا تحاذِرون من ذلك. {ولكن ظننتُم}: بإقدامِكم على المعاصي {أنَّ الله لا يعلمُ كثيراً مما تعمَلونَ}: فلذلك صَدَرَ منكم ما صَدَرَ.
# {23} وهذا الظنُّ صار سبب هلاكهم وشقائهم، ولهذا قال: {وذلكم ظنُّكم الذي ظَنَنتُم بربِّكم}: الظنَّ السيِّئَ؛ حيث ظننتُم به ما لا يليقُ بجلاله، {أرداكم}؛ أي: أهلككم، {فأصبحتُم من الخاسرين}: لأنفسهم وأهليهم وأديانهم؛ بسبب الأعمال التي أوجَبَها لكم ظنُّكم القبيح بربِّكم. فحقَّتْ عليكم كلمةُ العقاب والشقاءِ، ووجب عليكم الخلودُ الدائم في العذاب، الذي لا يُفَتَّر عنهم ساعة.
# {24} {فإن يَصْبِروا فالنارُ مثوىً لهم}: فلا جَلَدَ عليها ولا صبرَ، وكلُّ حالة قُدِّرَ إمكانُ الصبر عليها؛ فالنار لا يمكن الصبرُ عليها، وكيف الصبرُ على نار قد اشتدَّ حرُّها وزادت على نار الدنيا بسبعين ضعفاً وعظم غليانُ حميمها وزاد نَتَنُ صديدها وتضاعف بردُ زمهريرِها، وعظُمَتْ سلاسِلُها وأغلالها، وكَبُرَتْ مقامِعها، وغَلُظَ خُزَّانها، وزال ما في قلوبهم من رحمتهم، وختام ذلك سَخَطُ الجبار، وقوله لهم حين يدعونه ويستغيثون: {اخسؤوا فيها ولا تُكَلِّمونِ}. {وإن يَسْتَعْتِبوا}؛ أي: يطلبوا أن يزال عنهم العتبُ، فيرجعوا إلى الدنيا؛ ليستأنفوا العمل، {فما هم من المُعْتَبين}: لأنَّه ذهب وقته، وعُمِّروا ما يُعَمَّر فيه من تذكَّر، وجاءهم النذير، وانقطعت حجتهم، مع أنَّ استعتابهم كذبٌ منهم، فلو رُدُّوا؛ لَعادوا لما نُهوا عنه وإنَّهم لَكاذبون.
آية: 25 #
{وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)}.
# {25} أي: {وقيَّضْنا}: لهؤلاء الظالمين الجاحدين للحقِّ {قرناءَ}: من الشياطين؛ كما قال تعالى: {ألم تَرَ أنَّا أرسَلْنا الشياطينَ على الكافرين تَؤُزُّهم أزًّا}؛ أي: تزعِجُهم إلى المعاصي، وتحثُّهم عليها، بسبب ما زيّنوا {لهم ما بين أيديهم وما خلفهم}: فالدنيا زخرفوها بأعينهم ودَعَوْهم إلى لذاتها وشهواتها المحرَّمة، حتى افْتَتَنوا فأقدَموا على معاصي الله وسَلَكوا ما شاؤوا من محاربة الله ورسوله، والآخرة بَعَّدوها عليهم وأنْسَوْهم ذِكْرَها، وربما أوقعوا عليهم الشُّبه بعدم وقوعها، فترحَّلَ خوفُها من قلوبهم، فقادوهم إلى الكفر والبدع والمعاصي. وهذا التسليطُ والتقييضُ من الله للمكذِّبين الشياطين بسبب إعراضِهم عن ذِكْرِ الله وآياته وجحودِهم الحقَّ؛ كما قال تعالى: {ومَنْ يَعْشُ عن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ له شيطاناً فهو له قرينٌ. وإنَّهم لَيَصُدُّونَهم عن السبيل ويَحْسَبونَ أنَّهم مهتدونَ}. {وحقَّ عليهم القولُ}؛ أي: وجب عليهم ونزل القضاءُ والقدرُ بعذابهم {في} جملة {أمم قد خَلَتْ من قبلِهِم من الجنِّ والإنس إنَّهم كانوا خاسرين}: لأديانهم وآخرتهم، ومن خَسِرَ؛ فلا بدَّ أن يَذِلَّ ويشقى ويعذَّبَ.
آية: 26 - 29 #
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)}.
# {26} يخبر تعالى عن إعراض الكفار عن القرآن وتواصيهم بذلك، فقال: {وقال الذين كَفَروا لا تَسْمَعوا لهذا القرآن}؛ أي: أعرضوا عنه بأسماعكم، وإيَّاكم أن تلتفتوا أو تُصْغوا إليه وإلى مَنْ جاء به؛ فإن اتَّفق أنكم سمعتموه أو سمعتُم الدعوة إلى أحكامه، فالغَوْا فيه؛ أي: تكلَّموا بالكلام الذي لا فائدةَ فيه، بل فيه المضرَّة، ولا تمكِّنوا مع قدرتكم أحداً يملكُ عليكم الكلام به وتلاوةَ ألفاظه ومعانيه، هذا لسانُ حالهم ولسانُ مقالهم في الإعراض عن هذا القرآن. {لعلَّكم}: إن فعلتُم ذلك {تغلِبونَ}: وهذا شهادةٌ من الأعداء، وأوضحُ الحقِّ ما شهدت به الأعداءُ؛ فإنَّهم لم يحكموا بغلبتهم لِمَنْ جاء بالحقِّ إلاَّ في حال الإعراض عنه والتواصي بذلك، ومفهومُ كلامِهم أنَّهم إنْ لم يَلْغَوا فيه، بل استمعوا إليه وألقوا أذهانَهم؛ أنَّهم لا يغلبونَ؛ فإنَّ الحقَّ غالبٌ غير مغلوب، يعرِفُ هذا أصحابُ الحقِّ وأعداؤه.
# {27} ولمَّا كان هذا ظلماً منهم وعناداً؛ لم يبقَ فيهم مطمعٌ للهداية، فلم يبقَ إلاَّ عذابُهم ونَكالُهم، ولهذا قال: {فَلَنُذيقَنَّ الذين كَفَروا عذاباً شديداً ولَنَجْزِيَنَّهم أسوأ الذي كانوا يعمَلون}: وهو الكفر والمعاصي؛ فإنَّها أسوأ ما كانوا يعملون؛ لكونهم يعملون المعاصي وغيرها؛ فالجزاء بالعقوبة إنَّما هو على عمل الشرك ، ولا يظلمُ ربُّك أحداً.
# {28} {ذلك جزاءُ أعداءِ الله}: الذين حاربوه وحاربوا أولياءه؛ بالكفر والتكذيب والمجادلة والمجالدةِ. {[النار] لهم فيها دارُ الخلدِ}؛ أي: الخلود الدائم، الذي لا يفتَّر عنهم العذابُ ساعةً ولا هم يُنصرون، وذلك {جزاءً بما كانوا بآياتِنا يجحَدونَ}؛ فإنَّها آياتٌ واضحةٌ وأدلةٌ قاطعةٌ مفيدةٌ لليقين، فأعظم الظُّلم وأكبر العناد جَحْدُها والكفر بها.
# {29} {وقال الذين كفروا}؛ أي: الأتباع منهم؛ بدليل ما بعدَه على وجه الحنق على مَنْ أضلَّهم: {ربَّنا أرِنا اللَّذَين أضلاَّنا من الجنِّ والإنس}؛ أي: الصنفين اللذين قادانا إلى الضَّلال والعذاب من شياطين الجنِّ وشياطين الإنس الدعاة إلى جهنَّم، {نجعَلْهما تحتَ أقدامِنا ليكونا من الأسفلينَ}؛ أي: الأذلِّين المهانين؛ كما أضلُّونا وفتنونا وصاروا سبباً لنزولنا؛ ففي هذا بيانُ حنقِ بعضهم على بعض، وتبرِّي بعضهم من بعض.
آية: 30 - 32 #
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)}.
# {30} يخبر تعالى عن أوليائِهِ، وفي ضمن ذلك تنشيطُهم والحثُّ على الاقتداء بهم، فقال: {إنَّ الذين قالوا ربُّنا الله ثم اسْتَقاموا}؛ أي: اعترفوا ونطقوا ورَضُوا بربوبيَّة الله تعالى واستَسْلَموا لأمره، ثم استقاموا على الصراط المستقيم علماً وعملاً؛ فلهم البُشرى في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرة. {تتنزَّلُ عليهم الملائكةُ}: الكرام؛ أي: يتكرَّر نزولهم عليهم مبشِّرين لهم عند الاحتضار {أن لا تخافوا}: على ما يستقبلُ من أمركم، {ولا تحزَنوا}: على ما مضى، فنفوا عنهم المكروه الماضي والمستقبل. {وأبشِروا بالجنَّة التي كنتُم توعدون}: فإنَّها قد وجبت لكم وثبتت، وكان وعد الله مفعولاً.
# {31} ويقولون لهم أيضاً مثبِّتين لهم ومبشِّرين: {نحنُ أولياؤكم في الحياة الدُّنيا وفي الآخرِة}: يحثُّونهم في الدنيا على الخيرِ ويُزَيِّنونه لهم، ويرهِّبونهم عن الشرِّ ويقبِّحونه في قلوبهم، ويَدْعون الله لهم، ويثبِّتونهم عند المصائبِ والمخاوف، وخصوصاً عند الموت وشدَّته والقبر وظلمته وفي القيامة وأهوالِها، وعلى الصراط وفي الجنَّة؛ يهنُّونهم بكرامة ربِّهم، ويدخُلون عليهم من كلِّ باب، سلامٌ عليكم بما صبرتُم فنعم عُقبى الدار، ويقولون لهم أيضاً: {ولكم فيها}؛ أي: في الجنة، {ما تشتهي أنفسُكم}: قد أُعِدَّ وهُيِّئ، {ولكم فيها ما تَدَّعون}؛ أي: تطلبون من كلِّ ما تتعلَّق به إرادتُكم وتطلُبونه، من أنواع اللَّذَّات والمشتهيات، مما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلب بشر.
# {32} {نزلاً من غفورٍ رحيم}؛ أي: هذا الثواب الجزيل والنعيم المقيم نُزُلٌ وضيافةٌ من غفورٍ غفر لكم السيئات، رحيم حيث وفَّقكم لفعل الحسنات ثم قَبِلَها منكم؛ فبمغفِرَتِهِ أزال عنكم المحذورَ، وبرحمتِهِ أنالكم المطلوب.
آية: 33 #
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)}.
# {33} هذا استفهامٌ بمعنى النفي المتقرِّر؛ أي: لا أحد {أحسنُ قولاً}؛ أي: كلاماً وطريقةً وحالة {ممَّن دعا إلى الله}: بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرِضين، ومجادلةِ المبطِلين؛ بالأمر بعبادة الله بجميع أنواعها، والحثِّ عليها، وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه، وتقبيحِهِ بكلِّ طريق يوجب تركَه، خصوصاً من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه، ومجادلة أعدائِهِ بالتي هي أحسن، والنهي عما يضادُّه من الكفرِ والشرك، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن الدعوة إلى الله تحبيبُهُ إلى عبادِهِ؛ بذِكْر تفاصيل نِعَمِهِ وسعةِ جودِهِ وكمال رحمتِهِ وذكرِ أوصاف كمالِهِ ونعوت جلاله. ومن الدعوة إلى الله الترغيبُ في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنَّة رسوله، والحثُّ على ذلك بكلِّ طريق موصل إليه. ومن ذلك الحثُّ على مكارم الأخلاق، والإحسانُ إلى عموم الخلق، ومقابلةُ المسيء بالإحسان، والأمرُ بصلة الأرحام وبرِّ الوالدين. ومن ذلك الوعظُ لعموم الناس في أوقات المواسم والعوارض والمصائب بما يناسبُ ذلك الحال، إلى غير ذلك ممَّا لا تنحصر أفرادُه بما يشمله الدعوة إلى الخير كله، والترهيبُ من جميع الشرِّ. ثم قال تعالى: {وعمل صالحاً}؛ أي: مع دعوته الخلق إلى الله بادَرَ هو بنفسِهِ إلى امتثال أمرِ الله بالعمل الصالح الذي يُرضي ربَّه، {وقال إنَّني من المسلمين}؛ أي: المنقادين لأمره، السالكين في طريقه، وهذه المرتبةُ تمامها للصدِّيقين الذين عملوا على تكميل أنفسِهم وتكميل غيرِهم وحصلت لهم الوراثةُ التامَّةُ من الرسل؛ كما أنَّ من أشرِّ الناس قولاً من كان من دعاة الضَّلال السالكين لسُبُله، وبين هاتين المرتبتين المتباينتين، التي ارتفعتْ إحداهما إلى أعلى علِّيين، ونزلت الأخرى إلى أسفل سافلين، مراتبُ لا يعلمُها إلاَّ الله، وكلها معمورةٌ بالخلق، ولكلٍّ درجاتٌ مما عملوا، وما ربُّك بغافل عما يعملون.
آية: 34 - 35 #
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}.
# {34} يقول تعالى: {ولا تَسْتَوي الحسنةُ ولا السيئةُ}؛ أي: لا يستوي فعلُ الحسنات والطاعاتِ لأجل رضا الله تعالى ولا فعل السيئات والمعاصي التي تُسْخِطُه ولا تُرضيه، ولا يستوي الإحسانُ إلى الخلق ولا الإساءة إليهم لا في ذاتها ولا في وصفها ولا في جزائها. {هل جزاءُ الإحسان إلاَّ الإحسانُ}. ثم أمر بإحسان خاصٍّ، له موقعٌ كبيرٌ، وهو الإحسان إلى مَنْ أساء إليك، فقال: {ادفعْ بالتي هي أحسنُ}؛ أي: فإذا أساء إليك مسيءٌ من الخلق، خصوصاً من له حقٌّ كبيرٌ عليك؛ كالأقارب والأصحاب ونحوهم، إساءةً بالقول أو بالفعل؛ فقابِلْه بالإحسان إليه؛ فإنْ قَطَعَكَ؛ فصِلْه، وإنْ ظلمكَ؛ فاعفُ عنه، وإن تكلَّم فيك غائباً أو حاضراً؛ فلا تقابِلْه، بل اعفُ عنه وعامِلْه بالقول الليِّن، وإن هَجَرَكَ وترك خطابك؛ فطيِّبْ له الكلام وابذلْ له السلام؛ فإذا قابلتَ الإساءة بالإحسان؛ حصل فائدةٌ عظيمةٌ. {فإذا الذي بينَك وبينَه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميمٌ}؛ أي: كأنه قريبٌ شفيقٌ.
# {35} {وما يُلَقَّاها}؛ أي: وما يوفَّق لهذه الخصلة الحميدة {إلاَّ الذين} صَبَّرُوا نفوسَهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبُّه الله؛ فإنَّ النفوس مجبولةٌ على مقابلة المسيء بإساءتِهِ، وعدم العفو عنه؛ فكيف بالإحسان؛ فإذا صبَّر الإنسان نفسَه وامتثل أمر ربِّه وعرف جزيلَ الثواب وعلمَ أنَّ مقابلته للمسيء بجنس عمله لا يفيده شيئاً ولا يزيدُ العداوة إلاَّ شدة، وأنَّ إحسانه إليه ليس بواضع قدرَه، بل مَنْ تواضَعَ لله رَفَعَه؛ هان عليه الأمرُ وفعل ذلك متلذِّذاً مستحلياً له. {وما يُلَقَّاها إلاَّ ذو حظٍّ عظيم}: لكونها من خصال خواصِّ الخلق، التي ينال بها العبد الرفعةَ في الدُّنيا والآخرة، التي هي من أكبرِ خصال مكارم الأخلاق.
آية: 36 - 39 #
{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}.
# {36} لما ذكر تعالى ما يُقَابَلُ به العدوُّ من الإنس، وهو مقابلة إساءته بالإحسان؛ ذكر ما يُدْفَعُ به العدوٌّ الجنيُّ، وهو الاستعاذةُ بالله والاحتماء من شرِّه، فقال: {وإمَّا ينزغَنَّك من الشيطانِ نزعٌ}؛ أي: أي وقت من الأوقات أحسستَ بشيء من نَزَغات الشيطانِ؛ أي: من وساوسه وتزيينه للشرِّ وتكسيله عن الخير وإصابة ببعض الذنوب وإطاعة له ببعض ما يأمر به، {فاستَعِذْ بالله}؛ أي: اسأله مفتقراً إليه أن يعيذَكَ ويعصِمَك منه. {إنَّه هو السميع العليم}: فإنَّه يسمعُ قولك وتضرُّعك، ويعلمُ حالك واضطرارك إلى عصمتِهِ وحمايتِهِ.
# {37} ثم ذكر تعالى أن {من آياتِهِ}: الدالَّة على كمال قدرته ونفوذِ مشيئتِهِ وسعةِ سلطانِهِ ورحمتِهِ بعباده وأنَّه الله وحده لا شريك له، {الليلُ والنهارُ}: هذا بمنفعة ضيائِهِ وتصرُّف العباد فيه، وهذا بمنفعة ظُلَمِهِ وسكون الخلقِ فيه، {والشمسُ والقمرُ}: اللذان لا تستقيم معايِشُ العباد ولا أبدانُهم ولا أبدانُ حيواناتهم إلاَّ بهما، وبهما من المصالح ما لا يُحصى عَدَدُه. {لا تسجُدوا للشمس ولا للقمرِ}: فإنَّهما مدبَّران مسخَّران مخلوقان، {واسجُدوا لله الذي خَلَقَهُنَّ}؛ أي اعبدوه وحدَه؛ لأنَّه الخالق العظيم، ودعوا عبادة ما سواه من المخلوقات، وإن كَبُر جرمه وكثرت مصالحه فإنَّ ذلك ليس منه، وإنَّما هو من خالقه تبارك وتعالى {إن كنتُم إيَّاه تعبُدون}: فخصُّوه بالعبادة وإخلاص الدين له.
# {38} {فإن استكْبَروا}: عن عبادة الله تعالى، ولم ينقادوا لها؛ فإنَّهم لن يضرُّوا الله شيئاً، والله غنيٌّ عنهم، وله عبادٌ مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرونَ، ولهذا قال: {فالذين عند ربِّكَ}؛ يعني: الملائكة المقرَّبين، {يسبِّحون له بالليل والنهارِ وهم لا يسأمونَ}؛ أي: لا يملُّون من عبادته؛ لقوَّتهم وشدَّة الداعي القويِّ منهم إلى ذلك.
# {39} {ومن آياتِهِ}: الدالَّة على كمال قدرته وانفراده بالمُلك والتَّدبير والوحدانيَّة، {أنَّك ترى الأرضَ خاشعةً}؛ [أي]: لا نباتَ فيها، {فإذا أنزلْنا عليها الماءَ}؛ أي: المطر، {اهتزَّتْ}؛ أي: تحرَّكت بالنبات، {وَرَبَتْ}: ثم أنبتت من كلِّ زوج بهيج؛ فحيي بها العبادُ والبلادُ. {إنَّ الذي أحياها}: بعد موتها وهمودها {لَمُحيي الموتى}: من قبورهم إلى يوم بعثِهِم ونشورِهِم. {إنَّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ}: فكما لم تعجزْ قدرتُه على إحياءِ الأرض بعد موتِها لا تعجزُ عن إحياء الموتى.
آية: 40 - 42 #
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)}.
# {40} الإلحادُ في آيات الله: الميلُ بها عن الصواب بأيِّ وجه كان: إمَّا بإنكارها وجحودِها وتكذيبِ مَنْ جاء بها، وإمَّا بتحريفِها وتصريفِها عن معناها الحقيقيِّ وإثباتِ معانٍ ما أرادها الله منها، فتوعَّد تعالى مَنْ ألحد فيها بأنَّه لا يخفى عليه، بل هو مطَّلع على ظاهره وباطنه، وسيجازيه على إلحادِهِ بما كان يعملُ، ولهذا قال: {أفمن يُلْقَى في النار}: مثل الملحدِ بآيات الله {خيرٌ أم من يأتي آمناً يوم القيامةِ}: من عذاب الله، مستحقًّا لثوابه؟ من المعلوم أنَّ هذا خيرٌ. لمَّا تبيَّن الحقُّ من الباطل والطريق المنجي من عذابِهِ من الطريق المهلِكِ؛ قال: {اعملوا ما شِئْتُم}: إن شئتُم؛ فاسلكوا طريق الرُّشدِ الموصلة إلى رضا ربِّكم وجنته، وإن شئتُم؛ فاسْلُكوا طريق الغيِّ المسخطة لربكم الموصلة إلى دار الشقاءِ. {إنَّه بما تعملون بصيرٌ}: يجازيكم بحسب أحوالِكم وأعمالكم؛ كقوله تعالى: {وقُل الحقُّ من ربِّكم فَمَن شاء فليؤمِن ومَن شاء فَلْيَكْفُر}.
# {41 ـ 42} ثم قال تعالى: {إنَّ الذين كفروا بالذِّكْر}؛ أي: يجحدون القرآن الكريم، المذكِّر للعباد جميع مصالحهم الدينيَّة والدنيويَّة والأخرويَّة، المعلي لِقَدْر من اتَّبعه، {لمَّا جاءهم}: نعمة من ربِّهم على يد أفضل الخلقِ وأكملهم. {و} الحال {إنَّه}: كتابٌ جامعٌ لأوصاف الكمال، {عزيزٌ}؛ أي: منيعٌ مِن كلِّ مَن أراده بتحريف أو سوءٍ، ولهذا قال: {لا يأتيه الباطلُ من بين يديهِ ولا من خلفهِ}؛ أي: لا يَقْرَبُهُ شيطانٌ من شياطين الإنس والجنِّ لا بسرقةٍ ولا بإدخال ما ليس منه به ولا بزيادةٍ ولا نقص؛ فهو محفوظٌ في تنزيله، محفوظةٌ ألفاظهُ ومعانيه، قد تكفَّل مَنْ أنزلَه بحفظِهِ؛ كما قال تعالى: {إنَّا نحنُ نَزَّلْنا الذِّكْر وإنَّا له لحافظونَ}. {تنزيلٌ من حكيم}: في خلقِهِ وأمرِهِ، يضع كلَّ شيء موضِعه وينزلها منازِلَها {حميدٍ}: على ما له من صفات الكمال ونعوت الجلال، وعلى ما له من العدل والإفضال؛ فلهذا كان كتابُهُ مشتملاً على تمام الحكمة وعلى تحصيل المصالح والمنافع ودفع المفاسدِ والمضارِّ التي يُحْمَدُ عليها.
آية: 43 #
{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)}.
# {43} أي: {ما يُقالُ لك}: أيُّها الرسول من الأقوال الصادرةِ ممَّن كذَّبك وعاندك {إلاَّ ما قد قيل للرسل من قبلِكَ}؛ أي: من جنسها، بل ربَّما إنهم تكلَّموا بكلام واحدٍ؛ كتعجبِّ جميع الأمم المكذِّبة للرُّسل من دعوتهم إلى الإخلاص لله وعبادتِهِ وحدَه لا شريك له، وردِّهم هذا بكلِّ طريق يقدرون عليه، وقولهم: ما أنتم إلا بشرٌ مثلنا، واقتراحُهم على رسلهم الآياتِ التي لا يلزمُهُم الإتيانُ بها ... ونحو ذلك من أقوال أهل التكذيب؛ لما تشابهت قلوبهم في الكفر؛ تشابهتْ أقوالهم، وصَبَرَ الرسلُ عليهم السلام على أذاهم وتكذيبِهم؛ فاصْبِرْ كما صبر مَنْ قبلك. ثم دعاهم إلى التوبةِ والإتيانِ بأسباب المغفرة، وحذَّرهم من الاستمرار على الغيِّ، فقال: {إنَّ ربَّك لذو مغفرةٍ}؛ أي: عظيمة يمحو بها كلَّ ذنب لمن أقلع وتاب، {وذو عقابٍ أليم}: لمن أصرَّ واستكبر.
آية: 44 #
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)}.
# {44} يخبر تعالى عن فضله وكرمه؛ حيث أنزل كتابَه عربيًّا على الرسول العربيِّ بلسانِ قومه ليبيِّن لهم، وهذا مما يوجب لهم زيادةَ الاعتناء به والتلقِّي له والتسليم، وأنَّه لو جعله قرآناً أعجميًّا بلغة غير العرب؛ لاعترض المكذِّبون، وقالوا: {لولا فُصِّلَتْ آياتُه}؛ أي: هلاَّ بُيِّنت آياته ووُضِّحت وفُسِّرت، {أأعجميٌّ وعربيٌّ}؛ أي: كيف يكون محمدٌ عربيًّا والكتابُ أعجميًّا؟! هذا لا يكونُ. فنفى الله تعالى كلَّ أمر يكون فيه شبهةٌ لأهل الباطل عن كتابِهِ، ووصَفَه بكلِّ وصفٍ يوجب لهم الانقيادَ، ولكنِ المؤمنون الموفَّقون انتفعوا به وارتفعوا، وغيرُهم بالعكس من أحوالِهِم، ولهذا قال: {قل هو للذين آمنوا هُدىً وشفاءٌ}؛ أي: يهديهم لطريق الرشدِ والصراط المستقيم، ويعلِّمهم من العلوم النافعة ما به تحصُل الهداية التامَّةُ، وشفاءٌ لهم من الأسقام البدنيَّة والأسقام القلبيَّة؛ لأنَّه يزجر عن مساوئ الأخلاق وأقبح الأعمال، ويحث على التوبة النَّصوح التي تغسل الذُّنوب وتشفي القلب. {والذين لا يؤمنونَ}: بالقرآن {في آذانِهِم وقرٌ}؛ أي: صممٌ عن استماعه وإعراضٌ، {وهو عليهم عمىً}؛ أي: لا يبصرون به رشداً، ولا يهتدون به، ولا يزيدهم إلاَّ ضلالاً؛ فإنَّهم إذا ردُّوا الحقَّ؛ ازدادوا عمىً إلى عماهم وغيًّا إلى غيِّهم. {أولئك ينادَوْن من مكانٍ بعيدٍ}؛ أي: ينادون إلى الإيمان ويُدْعَوْن إليه فلا يستجيبون؛ بمنزلة الذي ينادَى وهو في مكان بعيدٍ، لا يسمع داعياً ولا يجيب منادياً. والمقصودُ أنَّ الذين لا يؤمنون بالقرآن لا ينتفعون بهُداه ولا يبصِرون بنورِهِ ولا يستفيدونَ منه خيراً؛ لأنَّهم سدُّوا على أنفسهم أبواب الهدى بإعراضهم وكفرِهم.
آية: 45 - 46 #
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)}.
# {45} يقول تعالى: {ولقد آتَيْنا موسى الكتابَ}: كما آتَيْناك الكتابَ، فصنع به الناسُ ما صنعوا معك؛ اختلفوا فيه: فمنهم من آمنَ به واهتدى وانتفع، ومنهم من كذَّبه ولم ينتفِعْ به، وإنَّ الله تعالى لولا حِلْمُهُ وكلمتُهُ السابقة بتأخير العذاب إلى أجل مسمّى لا يتقدَّم عليه ولا يتأخر؛ {لَقُضِيَ بينهم}: بمجرَّد ما يتميَّز المؤمنون من الكافرين؛ بإهلاك الكافرين بالحال؛ لأنَّ سبب الهلاك قد وَجَبَ وحقَّ. {وإنَّهم لَفي شكٍّ منه مريبٍ}؛ أي: قد بلغ بهم إلى الريبِ الذي يُقْلِقُهم؛ فلذلك كذَّبوه وجحدوه.
# {46} {مَن عَمِلَ صالحاً}: وهو العملُ الذي أمر الله به ورسوله {فَلِنَفْسِهِ}: نفعه وثوابه في الدنيا والآخرة. {ومن أساء فعليها}: ضررُه وعقابُه في الدُّنيا والآخرة، وفي هذا حثٌّ على فعل الخير وترك الشرِّ، وانتفاعُ العاملين بأعمالهم الحسنةِ، وضررُهم بأعمالهم السيئةِ، وأنَّه لا تزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى. {وما ربُّك بظلام للعبيدِ}: فيحمِّلُ أحداً فوق سيئاتِهِ.
آية: 47 - 48 #
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)}.
# {47 ـ 48} هذا إخبارٌ عن سعة علمهِ تعالى واختصاصِهِ بالعلم الذي لا يطَّلع عليه سواه، فقال: {إليه يُرَدُّ علمُ الساعةِ}؛ أي: جميع الخلق يَرُدُّ علمها إلى الله تعالى، ويقرُّون بالعجز عنه؛ الرسلُ والملائكةُ وغيرُهم. {وما تَخْرُجُ من ثمراتٍ من أكمامها}؛ أي: وعائها الذي تخرُجُ منه، وهذا شاملٌ لثمرات جميع الأشجار التي في البلدان والبراري؛ فلا تخرُجُ ثمرةُ شجرةٍ من الأشجار إلاَّ وهو يعلمُها علماً تفصيليًّا. {وما تحمِلُ من أنثى}: من بني آدم وغيرهم من أنواع الحيوانات إلاَّ بعلمه، {ولا تضعُ} [أنثى حملَها] {إلاَّ بعلمِهِ}؛ فكيف سوَّى المشركون به تعالى مَنْ لا علم عنده ولا سمعَ ولا بصرَ؟ {ويوم يناديهم}؛ أي: المشركين به يوم القيامةِ توبيخاً وإظهاراً لكذِبِهم، فيقول لهم: {أين شركائي}: الذين زعمتُم أنَّهم شركائي، فعبدتُموهم وجادلتُم على ذلك وعاديتُم الرسل لأجلهم ؟ {قالوا}: مقرِّين ببطلان إلهيتهم وشركتهم مع الله: {آذَنَّاكَ ما مِنَّا من شهيدٍ}؛ أي: أعلمناك يا ربَّنا واشهدْ علينا أنَّه ما منَّا أحدٌ يشهد بصحة إلهيَّتهم وشركتهم؛ فكلُّنا الآن [قد] رجعنا إلى بطلان عبادتها وتبرَّأنا منها، ولهذا قال: {وضلَّ عنهم ما كانوا يَدْعونَ}: من دون الله؛ أي: ذهبت عقائدُهم وأعمالُهم التي أفَنَوا فيها أعمارهم على عبادة غير الله، وظنُّوا أنها تفيدُهم، وتدفعُ عنهم العذاب، وتشفع لهم عند اللهِ، فخاب سعيُهم، وانتقض ظنُّهم، ولم تُغْنِ عنهم شركاؤهم شيئاً. {وظنُّوا}؛ أي: أيقنوا في تلك الحال {ما لهم من مَحيصٍ}؛ أي: منقذٍ ينقذُهم ولا مغيثٍ ولا ملجأٍ. فهذه عاقبةُ من أشركَ بالله غيرَه، يُبَيِّنُها اللهُ لعباده، ليحذروا الشركَ به.
آية: 49 - 51 #
{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)}.
# {49} هذا إخبارٌ عن طبيعة الإنسان من حيثُ هو، وعدم صبرِه وجَلَدِه، لا على الخير ولا على الشرِّ، إلاَّ مَن نقله الله من هذه الحال إلى حال الكمال، فقال: {لا يسأمُ الإنسانُ من دعاءِ الخيرِ}؛ أي: لا يملُّ دائماً من دعاء الله في الغنى والمال والولدِ وغير ذلك من مطالب الدُّنيا، ولا يزال يعملُ على ذلك، ولا يقتنعُ بقليل ولا بكثيرٍ منها؛ فلو حصل له من الدُّنيا ما حصل؛ لم يزل طالباً للزيادة. {وإن مَسَّهُ الشرُّ}؛ أي: المكروه كالمرض والفقر وأنواع البلايا، {فَيؤوسٌ قنوطٌ}؛ أي: ييأس من رحمة الله تعالى، ويظنُّ أن هذا البلاء هو القاضي عليه بالهلاكِ، ويتشوَّشُ من إتيان الأسبابِ على غير ما يحبُّ ويطلبُ؛ إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ فإنَّهم إذا أصابهم الخيرُ والنعمةُ والمحابُّ؛ شكروا الله تعالى، وخافوا أن تكونَ نعمُ الله عليهم استدراجاً وإمهالاً، وإن أصابتْهم مصيبةٌ في أنفسهم وأموالهم وأولادِهم؛ صبروا ورَجَوا فضل ربِّهم فلم ييأسوا.
# {50} ثم قال تعالى: {ولئِنْ أذَقْناه}؛ أي: الإنسان الذي لا يسأم من دُعاء الخير وإن مسَّه الشرُّ فيؤوسٌ قنوطٌ {رحمةً منَّا}؛ أي: بعد ذلك الشرِّ الذي أصابه؛ بأنْ عافاه الله من مرضِهِ أو أغناه من فقرِهِ؛ فإنَّه لا يشكر الله تعالى؛ بل يبغي ويطغى ويقول: {هذا لي}؛ أي: أتاني لأنِّي له أهلٌ وأنا مستحقٌّ له، {وما أظنُّ الساعةَ قائمةً}، وهذا إنكارٌ منه للبعث، وكفرٌ للنعمة والرحمة التي أذاقها الله له، {ولئن رُجِعْتُ إلى ربِّي إنَّ لي عنده للحُسْنى}؛ أي: على تقدير إتيان الساعة، وأنِّي سأرجع إلى ربي؛ إنَّ لي عنده للحسنى؛ فكما حصلت لي النعمة في الدُّنيا؛ فإنَّها ستحصُلُ لي في الآخرة! وهذا من أعظم الجرأة والقول على الله بلا علم؛ فلهذا توعَّده [اللَّهُ] بقولِهِ: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كفروا بما عَمِلوا ولَنُذيقَنَّهم من عذابٍ غليظٍ}؛ أي: شديد جدًّا.
# {51} {وإذا أنْعَمْنا على الإنسان}: بصحَّة أو رزقٍ أو غيرهما {أعرضَ}: عن ربِّه وعن شكرِهِ، {ونأى}؛ أي: ترفَّع {بجانبِهِ}: عجباً وتكبراً، {وإن مسَّه الشرُّ}: أي: المرضُ أو الفقرُ أو غيرُهما {فذو دعاءٍ عريضٍ}؛ أي: كثير جدًّا؛ لعدم صبره؛ فلا صبر في الضرَّاء ولا شكر في الرَّخاء؛ إلاَّ مَنْ هداه الله ومنَّ عليه.
آية: 52 - 54 #
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}.
# {52} أي: {قل}: لهؤلاء المكذِّبين بالقرآن المسارعين إلى الكُفران: {أرأيتُم إن كانَ}: هذا القرآنُ {من عندِ الله}: من غير شكٍّ ولا ارتيابٍ، {ثم كفرتُم به مَنْ أضلُّ ممَّنْ هو في شقاقٍ بعيدٍ}؛ أي: معاندة لله ولرسوله؛ لأنَّه تبيَّن لكم الحقُّ والصوابُ، ثم عدلتُم عنه لا إلى حقٍّ، بل إلى باطل وجهل؛ فإذاً تكونون أضلَّ الناس وأظلَمَهم.
# {53} فإنْ قلتُم أو شككتُم بصحَّته وحقيقتِهِ؛ فسيقيم الله لكم، ويريكم من آياتِهِ في الآفاق؛ كالآياتِ التي في السماء وفي الأرض وما يُحْدِثُه الله تعالى من الحوادثِ العظيمة الدالَّة للمستبصر على الحقِّ. {وفي أنفسِهِم}: مما اشتملتْ عليه أبدانُهم من بديع آياتِ الله وعجائبِ صنعتِهِ وباهر قدرتِهِ، وفي حلول العقوبات والمَثُلات في المكذِّبين ونصر المؤمنين، {حتى يتبيَّن لهم}: من تلك الآياتِ بياناً لا يقبل الشكَّ، {أنَّه الحقُّ}: وما اشتمل عليه حقٌّ، وقد فعل تعالى؛ فإنَّه أرى عباده من الآيات ما به تبيَّن [لهم] أنه الحقُّ، ولكن الله هو الموفِّق للإيمان مَنْ شاء، والخاذل لمن يشاء. {أو لم يكفِ بربِّك أنَّه على كلِّ شيءٍ شهيدٌ}؛ أي: أولم يكفِهم ـ على أنَّ القرآن حقٌّ، ومن جاء به صادقٌ ـ شهادةُ الله تعالى؛ فإنَّه قد شهد له بالصدق، وهو أصدقُ الشاهدين، وأيَّده ونصره نصراً متضمِّناً لشهادته القوليَّة عند من شكَّ فيها.
# {54} {ألا إنِّهم في مِرْيَةٍ من لقاءِ ربِّهم}؛ أي: في شكٍّ من البعث والقيامةِ، وليس عندَهم دارٌ سوى الدار الدُّنيا؛ فلذلك لم يعملوا للآخرة، ولم يلتفتوا لها. {ألا إنَّه بكلِّ شيءٍ محيطٌ}: علماً وقدرةً وعزةً.
تم تفسير سورة السجدة بمنه تعالى.
* * *