[وهي] مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
{يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}.
#
{2} هذا قسمٌ من الله تعالى بالقرآن الحكيم الذي وَصْفُهُ الحكمةُ،
وهي وضعُ كلِّ شيءٍ موضعَه: وضعُ الأمر والنهي في المحلِّ اللائق بهما، ووضع الجزاء بالخير والشرِّ في محلِّهما اللائق بهما؛ فأحكامُهُ الشرعيَّةُ والجزائيةُ كلُّها مشتملةٌ على غاية الحكمة. ومن حكمة هذا القرآن أنه يجمع بين ذِكْر الحُكْم وحِكْمته، فينبِّه العقول على المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها.
#
{3} {إنَّك لَمِنَ المرسلينَ}: هذا المقسَم عليه، وهو رسالةُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّك يا محمد من جملة المرسلين، فلست ببدع من الرسل. وأيضاً؛ فجئت بما جاء به الرسل من الأصول الدينيَّة. وأيضاً؛ فمن تأمل أحوال المرسلين وأوصافهم وعرف الفرق بينهم وبين غيرهم؛ عرف أنَّك من خيار المرسلين بما فيك من الصفات الكاملة والأخلاق الفاضلة. ولا يخفى ما بين المقسَم به وهو القرآنُ الحكيم وبين المقسَم عليه وهو رسالةُ الرسول محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - من الاتصال، وأنَّه لو لم يكن لرسالتِهِ دليلٌ ولا شاهدٌ إلاَّ هذا القرآن الحكيم؛ لكفى به دليلاً وشاهداً على رسالة محمد
[- صلى الله عليه وسلم -]، بل القرآنُ العظيم أقوى الأدلةِ المتصلةِ المستمرةِ على رسالة الرسول، فأدلةُ القرآن كلُّها أدلةٌ لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
#
{4} ثم أخبر بأعظم أوصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، الدالَّة على رسالته، وهو أنَّه
{على صراطٍ مستقيم}: معتدل، موصل إلى الله وإلى دار كرامته، وذلك الصراط المستقيم مشتملٌ على أعمال، وهي الأعمال الصالحة المصلحة للقلب والبدن والدنيا والآخرة، والأخلاق الفاضلة المزكِّية للنفس المطهِّرة للقلب المنمِّية للأجر، فهذا الصراط المستقيم الذي هو وصفُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووصفُ دينه الذي جاء به.
فتأمَّلْ جلالةَ هذا القرآن الكريم؛ كيف جَمَعَ بين القَسَم بأشرف الأقسام على أجلِّ مُقْسَم عليه، وخبرُ الله وحدَه كافٍ، ولكنَّه تعالى أقام من الأدلَّة الواضحة والبراهين الساطعةِ في هذا الموضع على صحَّة ما أقسم عليه من رسالة رسولِهِ ما نبَّهنا عليه وأشرنا إشارةً لطيفة لسلوك طريقه.
#
{5} وهذا الصراط المستقيم
{تنزيلَ العزيزِ الرَّحيم}؛ فهو الذي أنزلَ به كتابَه وأنزلَه طريقاً لعبادِهِ موصلاً لهم إليه، فحماه بعزَّته عن التغيير والتبديل، ورَحِمَ به عبادَه رحمةً اتَّصلتْ بهم حتى أوصلتْهم إلى دار رحمته، ولهذا ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين العزيز الرحيم.
#
{6} فلما أقسم تعالى على رسالته، وأقام الأدلَّةَ عليها؛ ذَكَرَ شدَّةَ الحاجة إليها واقتضاءَ الضَّرورة لها،
فقال: {لِتُنذِرَ قوماً ما أُنذِرَ آباؤهم فهم غافلونَ}: وهم العربُ الأميُّون، الذين لم يزالوا خالين من الكتب، عادمين الرسل، قد عَمَّتْهُمُ الجهالة وغمرتْهُمُ الضلالة، وأضْحَكوا عليهم وعلى سَفَهِهِم عقولَ العالمينَ، فأرسل الله إليهم رسولاً من أنفسهم يزكِّيهم، ويعلِّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لَفي ضلال مُبين، فينذرُ العربَ الأميِّين ومَنْ لَحِقَ بهم من كلِّ أميٍّ، ويذكِّرُ أهل الكتب بما عندهم من الكتبِ؛ فنعمةُ الله به على العرب خصوصاً وعلى غيرِهم عموماً.
#
{7} ولكن هؤلاء الذين بُعِثْتَ
[فيهم] لإنذارِهم بعدما أنذَرْتَهم انقسموا قسمين: قسمٌ ردَّ لما جئتَ به ولم يَقْبَلِ النِّذارة،
وهم الذين قال الله فيهم: {لقد حَقَّ القولُ على أكْثَرِهم فهم لا يؤمنونَ}؛
أي: نفذ فيهم القضاءُ والمشيئةُ أنَّهم لا يزالون في كفرهم وشِرْكِهم، وإنَّما حقَّ عليهم القولُ بعد أن عُرِضَ عليهم الحقُّ فرفَضوه؛ فحينئذٍ عوقبوا بالطبع على قلوبهم.
#
{8} وذَكَرَ الموانعَ من وصول الإيمان لقلوبهم،
فقال: {إنَّا جَعَلْنا في أعناقِهِم أغلالاً}: وهي جمع غِلٍّ، والغلُّ ما يُغَلُّ به العُنُق؛ فهو للعنق بمنزلةِ القيد للرِّجْل. وهذه الأغلالُ التي في
[الأذقان] عظيمةٌ قد وصَلَتْ
{إلى}: أذقانهم، ورفعت رؤوسهم إلى فوق.
{فهم مُقْمَحُونَ}؛
أي: رافعوا رؤوسهم من شدَّةِ الغلِّ الذي في أعناقهم؛ فلا يستطيعون أن يَخْفِضوها.
#
{9} {وجَعَلْنا مِن بينِ أيْديهم سَدًّا ومن خَلْفِهِم سَدًّا}؛
أي: حاجزاً يحجُزُهم عن الإيمان؛
{فهم لا يُبْصِرونَ}: قد غمرهم الجهلُ والشقاءُ من جميع جوانبهم، فلم تُفِدْ فيهم النِّذارةُ.
#
{10} {وسواءٌ عليهم أأنذَرْتَهم أم لم تُنذِرْهُم لا يؤمنونَ}: وكيف يؤمِنُ من طبع على قلبه ورأى الحقَّ باطلاً والباطل حَقًّا؟!
#
{11} والقسم الثاني الذين قَبِلوا النِّذارَةَ وقد ذَكَرَهُم بقوله:
{إنَّما تُنذِرُ}؛
أي: إنَّما تنفعُ نِذارَتُك ويَتَّعِظُ بنُصْحِكَ
{مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}؛
أي: من قصْدُهُ اتِّباع الحقِّ وما ذُكِّر به،
{وخَشِيَ الرحمنَ بالغيبِ}؛
أي: مَنِ اتَّصف بهذين الأمرين: القصد الحسن في طلب الحقِّ، وخشية الله تعالى؛ فهم الذين ينتفعونَ برسالتِكَ ويَزْكُون بتعليمِكَ، وهذا الذي وُفِّقَ لهذين الأمرين، بشِّره
{بمغفرةٍ}: لذُنوبه
{وأجرٍ كريم}: لأعماله الصالحة ونيَّتِهِ الحسنةِ.
#
{12} {إنَّا نحنُ نُحْيي الموتى}؛
أي: نبعثُهم بعد موتِهِم لِنُجازِيَهم على الأعمال،
{ونَكْتُبُ ما قَدَّموا}: من الخير والشرِّ، وهو أعمالُهم التي عملوها وباشَروها في حال حياتِهِم،
{وآثارَهُم}: وهي آثار الخير وآثارُ الشرِّ التي كانوا هم السببَ في إيجادها في حال حياتِهِم وبعدَ وفاتِهِم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالِهِم وأفعالِهِم وأحوالِهِم؛ فكلُّ خيرٍ عمل به أحدٌ من الناس بسبب علم العبد وتعليمِهِ أو نُصحه أو أمرِهِ بالمعروف أو نهيِهِ عن المنكر أو علم أوْدَعَه عند المتعلِّمين أو في كتبٍ يُنْتَفَع بها في حياتِهِ وبعدَ موتِهِ أو عمل خيراً من صلاةٍ أو زكاةٍ أو صدقةٍ أو إحسانٍ فاقتدى به غيرُه، أو عمل مسجداً أو محلاًّ من المحالِّ التي يرتَفِقُ بها الناسُ وما أشبهَ ذلك؛ فإنَّها من آثارِهِ التي تُكْتَبُ له، وكذلك عمل الشرِّ،
ولهذا: «من سنَّ سنَّةً حسنةً؛ فله أجْرُها وأجْرُ من عَمِلَ بها إلى يوم القيامةِ، ومن سنَّ سنَّة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
وهذا الموضع يبيِّنُ لك علوَّ مرتبة الدَّعوة إلى الله والهداية إلى سبيله بكلِّ وسيلةٍ وطريق موصل إلى ذلك، ونزول درجة الداعي إلى الشرِّ الإمام فيه، وأنَّه أسفل الخليقة وأشدُّهم جرماً وأعظمُهم إثماً،
{وكلَّ شيءٍ}: من الأعمال والنيَّاتِ وغيرها
{أحْصَيْناه في إمام مُبينٍ}؛
أي: كتاب هو أمُّ الكتب، وإليه مرجِعُ الكُتُب التي تكون بأيدي الملائكة، وهو اللوحُ المحفوظُ.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَاحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)}.
#
{13} أي: واضرِبْ لهؤلاء المكذِّبين برسالتك الرادِّين لدعوتِكَ مثلاً يعتبرونَ به ويكون لهم موعظةً إن وُفِّقوا للخيرِ، وذلك المثلُ أصحابُ القريةِ وما جرى منهم من التَّكذيب لرسل الله وما جرى عليهم من عقوبتِهِ ونَكاله، وتعيينُ تلك القريةِ لو كان فيه فائدةٌ؛ لعيَّنَها الله، فالتعرُّض لذلك وما أشبهه من باب التكلُّف والتكلُّم بلا علم، ولهذا إذا تكلَّم أحدٌ في مثل هذه الأمور؛ تجدُ عنده من الخَبْطِ والخَلْطِ والاختلاف الذي لا يستقرُّ له قرارٌ ما تعرِفُ به أنَّ طريقَ العلم الصحيح الوقوفُ مع الحقائق وتَرْكُ التعرُّض لما لا فائدة فيه، وبذلك تزكو النفسُ ويزيدُ العلمُ من حيث يظنُّ الجاهل أنَّ زيادتَه بذكر الأقوال التي لا دليلَ عليها ولا حُجَّةَ عليها ولا يَحْصُلُ منها من الفائدة إلاَّ تشويشُ الذهن واعتيادُ الأمور المشكوكِ فيها. والشاهدُ أنَّ هذه القريةَ جَعَلَها الله مثلاً للمخاطَبين.
{إذ جاءها المُرْسَلونَ}: من الله تعالى؛ يأمُرونَهم بعبادةِ الله وحدَه وإخلاصِ الدين له، ويَنْهَوْنَهم عن الشرك والمعاصي.
#
{14} {إذ أرْسَلْنا إليهم اثْنَيْنِ فكذَّبوهما فَعَزَّزْنا بثالثٍ}؛
أي: قوَّيْناهما بثالثٍ، فصاروا ثلاثةَ رسل؛ اعتناءً من الله بهم، وإقامةً للحجَّة بتوالي الرسل إليهم،
{فقالوا} لهم:
{إنَّا إليكُم مُرْسَلونَ}.
#
{15} فأجابوهم بالجوابِ الذي ما زال مشهوراً عند من ردَّ دعوةَ الرُّسل،
فقالوا: {ما أنتُم إلاَّ بشرٌ مثلُنا}؛
أي: فما الذي فضَّلَكم علينا وخصَّكم من دوننا؟
!
قالت الرسل لأممهم: إن نحنُ إلاَّ بشرٌ مثلُكم، ولكن
[اللَّهَ] يمنُّ على من يشاءُ من عبادِهِ،
{وما أنزل الرحمنُ من شيءٍ}؛
أي: أنكروا عمومَ الرسالةِ، ثم أنكروا أيضاً المخاطبين لهم،
فقالوا: {إنْ أنتُم إلاَّ تكذِبونَ}.
#
{16} فقالت هؤلاء الرسل الثلاثة:
{ربُّنا يعلم إنَّا إليكُم لَمُرْسَلونَ}: فلو كنَّا كاذبينَ؛ لأظهر اللَّهُ خِزْيَنا ولبادَرَنا بالعقوبة.
#
{17} {وما علينا إلاَّ البلاغُ المُبينُ}؛
أي: البلاغ المبينُ الذي يحصُلُ به توضيحُ الأمور المطلوب بيانها، وما عدا هذا من آيات الاقتراح أو من سرعةِ العذاب؛ فليس إلينا، وإنَّما وظيفتُنا التي هي البلاغُ المبينُ قُمْنا بها وبيَّنَّاها لكم؛ فإنِ اهْتَدَيْتُم؛ فهو حظُّكم وتوفيقُكم، وإن ضَلَلْتُم؛ فليس لنا من الأمر شيءٌ.
#
{18} فقال أصحاب القرية لرُسُلِهِم:
{إنَّا تَطَيَّرْنا بكُم}؛
أي: لم نر على قدومكم علينا واتِّصالكم بنا إلاَّ الشرَّ، وهذا من أعجب العجائب؛ أن يُجْعَلَ من قَدِمَ عليهم بأجَلِّ نعمةٍ يُنْعِمُ اللهُ بها على العبادِ وأجلِّ كرامةٍ يكرِمُهم بها، وضرورتهم إليها فوق كلِّ ضرورةٍ، قد قدم بحالة شَرٍّ زادت على الشرِّ الذي هم عليه واستشأموا بها، ولكنَّ الخِذْلانَ وعدمَ التوفيق يَصْنَعُ بصاحبِهِ أعظمَ مما يَصْنَعُ به عدوُّه،
ثم توعَّدوهم فقالوا: {لَئِن لم تَنتَهوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ}؛
أي: لَنَقْتُلَنَّكم رجماً بالحجارةِ أشنع القتلات،
{ولَيَمَسَّنَّكُم مِنَّا عذابٌ أليمٌ}.
#
{19} فقالت لهم رسلهم:
{طائِرُكُم معكم}: وهو ما معهم من الشركِ والشرِّ المقتضي لوقوع المكروِه والنقمةِ وارتفاع المحبوبِ والنعمةِ.
{أإن ذُكِّرْتُم}؛
أي: بسبب أنَّا ذكَّرْناكم ما فيه صلاحُكُم وحظُّكُم قلتُم لنا ما قلتُم،
{بل أنتُم قومٌ مسرِفونَ}: متجاوِزونَ للحدِّ مُتَجَرْهِمونَ في قولِكُم. فلم يزِدْهم دعاؤُهم إلاَّ نفوراً واستكباراً.
#
{20} {وجاء من أقصى المدينةِ رجلٌ يسعى}: حرصاً على نُصْح قومِهِ حين سمعَ ما دَعَتْ إليه الرسل وآمنَ به وعلم ما ردَّ به قومُه عليهم،
فقال لهم: {يا قوم اتَّبِعوا المرسلينَ}: فأمَرَهُم باتِّباعهم، ونَصَحَهم على ذلك، وشهد لهم بالرسالة.
#
{21} ثم ذكر تأييداً لما شهد به ودعا إليه،
فقال: {اتَّبِعوا مَن لا يَسْألُكُم أجراً}؛
أي: اتَّبِعوا مَنْ نَصَحَكُم نُصْحاً يعودُ إليكم بالخير، وليس يريدُ منكم أموالَكُم ولا أجراً على نصحِهِ لكم وإرشادِهِ؛ فهذا موجبٌ لاتِّباع مَنْ هذا وصفُهُ.
بقي أن يُقالَ: فلعلَّه يَدْعو ولا يأخُذُ أجرةً ولكنَّه ليس على الحقِّ،
فدَفَعَ هذا الاحتراز بقوله: {وهم مهتدونَ}: لأنهم لا يَدْعون إلاَّ لما يَشْهَدُ العقلُ الصحيح بحُسْنِهِ، ولا يَنْهَوْنَ إلاَّ بما يشهدُ العقلُ الصحيح بقُبْحِهِ.
#
{22 ـ 25} فكأنَّ قومَه لم يَقْبَلوا نُصْحَهُ، بل عادوا لائمين له على اتِّباع الرسل وإخلاص الدين لله وحده،
فقال: {وما لي لا أعبُدُ الذي فَطَرَني وإليه تُرْجَعونَ}؛
أي: وما المانعُ لي من عبادةِ مَنْ هو المستحقُّ للعبادة؛ لأنَّه الذي فَطَرني وخَلَقَني ورَزَقَني وإليه مآل جميع الخلق فيجازيهم بأعمالهم؛ فالذي بيدِهِ الخَلْقُ والرزقُ والحكمُ بين العباد في الدُّنيا والآخرة هو الذي يَسْتَحِقُّ أن يُعْبَدَ ويُثْنى عليه ويُمَجَّدَ دون مَنْ لا يملِكُ نفعاً ولا ضرًّا ولا عطاءً ولا منعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً،
ولهذا قال: {أأتَّخِذُ من دونِهِ آلهةً إن يُرِدْنِ الرحمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عنِّي شفاعَتُهُم شيئاً}: لأنَّه لا أحدَ يشفع عند الله إلاَّ بإذنِهِ؛ فلا تُغْني شفاعتُهم عني شيئاً
{ولا هم يُنقِذونِ}: من الضُّرِّ الذي أرادَه اللهُ بي.
{إنِّي إذاً}؛
أي: إن عبدتُ آلهةً هذا وصفُها
{لَفي ضلال مُبينٍ}: فجمع في هذا الكلام بين نُصحهم، والشهادةِ للرسُل بالرسالةِ والاهتداءِ، والإخبار بتعيُّن عبادة الله وحدَه، وذكر الأدلَّة عليها، وأنَّ عبادة غيرِهِ باطلةٌ، وذَكَرَ البراهينَ عليها والأخبارَ بضلال مَنْ عَبَدَها، والإعلان بإيمانِهِ جَهْراً مع خوفِهِ الشديد من قتلهم،
فقال: {إنِّي آمنتُ بربِّكُم فاسمعونِ}.
#
{26 ـ 27} فقتله قومُه لمَّا سَمِعوا منه وراجَعَهم بما راجَعَهم به.
{قيل}: له في الحال:
{ادْخُلِ الجَنَّةَ}.
فقال مخبراً بما وصل إليه من الكرامة على توحيدِهِ وإخلاصِهِ وناصحاً لقومه بعدَ وفاتِهِ كما نَصَحَ لهم في حياته: {يا لَيتَ قَومِي يَعلمُونَ. بمَا غَفَر لي ربِّي}؛
أي: بأي شيءٍ غفر لي فأزال عني أنواع العقوبات،
{وجَعَلَني من المُكْرَمينَ}: بأنواع المَثوبات والمسرَّات؛
أي: لو وَصَلَ علمُ ذلك إلى قلوبهم؛ لم يقيموا على شركهم.
#
{28} قال الله في عقوبة قومه:
{وما أنزَلْنا على قومِهِ من بعدِهِ من جندٍ من السماءِ}؛
أي: ما احْتَجْنا أن نتكَلَّفَ في عقوبتهم فننزلَ جنداً من السماء لإتلافِهِم.
{وما كُنَّا منزِلينَ}: لعدم الحاجةِ إلى ذلك، وعظمة اقتدارِ الله تعالى، وشدَّةِ ضعفِ بني آدم، وأنَّهم أدنى شيء يصيبهم من عذاب الله يكفيهم.
#
{29} {إن كانتْ}؛
أي: ما كانت عقوبتُهم
{إلاَّ صيحةً واحدةً}؛
أي: صوتاً واحداً تكلَّم به بعضُ ملائكة الله؛
{فإذا هم خامدونَ}: قد تقطَّعتْ قلوبُهم في أجوافهم وانْزَعَجوا لتلك الصيحةِ فأصبحوا خامدينَ لا صوتَ ولا حركةَ ولا حياةَ بعد ذلك العتوِّ والاستكبار ومقابلة أشرفِ الخَلْقِ بذلك الكلام القبيح وتجبُّرهم عليهم.
#
{30} قال الله مترحِماً للعبادِ:
{يا حسرةً على العبادِ ما يأتيهم من رسول إلاَّ كانوا به يستهزِئونَ}؛
أي: ما أعظم شقاءَهم وأطولَ عناءَهم وأشدَّ جهلَهم حيث كانوا بهذه الصفةِ القبيحةِ التي هي سببٌ لكلِّ شقاءٍ وعذابٍ ونَكال.
#
{31 ـ 32} {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون. وإن كلُّ لمَّا جميعٌ لدينا محضرون}؛
يقول تعالى: ألم يَرَ هؤلاء ويَعْتَبِروا بِمَنْ قبلَهم من القرون المكذِّبة التي أهْلَكَها الله تعالى وأوقَعَ بها عقابَها، وأنَّ جميعَهم قد بادَ وهَلَكَ فلم يرجِعْ إلى الدُّنيا ولنْ يَرْجِعَ إليها، وسيعيدُ الله الجميع خلقاً جديداً، ويبعثُهُم بعد موتِهِم، ويحضُرونَ بين يديهِ تعالى؛ ليحكمَ بينهم بحكمِهِ العدل الذي لا يظلِمُ مثقالَ ذَرَّةٍ وإنْ تَكُ حسنةً يضاعِفْها، ويُؤْتِ من لَدُنْه أجراً عظيماً.
{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)}.
#
{33} أي:
{وآيةٌ لهم}: على البعثِ والنُّشور والقيام بين يدي الله تعالى للجزاء على الأعمال هذه
{الأرضُ المَيْتَةُ}: أنزل الله عليها المطرَ فأحْياها بعد موتها،
{وأخْرَجْنا منها حَبًّا فمنه يأكُلونَ}: من جميع أصناف الزُّروع ومن جميع أصناف النباتِ التي تأكُلُه أنعامُهم.
#
{34} {وجَعَلْنا فيها}؛
أي: في تلك الأرض الميتة
{جَنَّاتٍ}؛
أي: بساتين فيها أشجارٌ كثيرةٌ، وخصوصاً النخيل والأعناب، اللذان هما أشرف الأشجار،
{وفجَّرْنا فيها}؛
أي: في الأرض
{من العيون}: جعلنا في الارض تلكَ الأشجارَ والنخيل والأعناب.
#
{35} {لِيأكُلوا من ثمرِهِ}: قوتاً وفاكهةً وأدماً ولذَّةً.
{و} الحال أنَّ تلك الثمار
{ما} عملتها
{أيديهم}: وليس لهم فيها صنعٌ ولا عملٌ، إنْ هو إلاَّ صنعةُ أحكم الحاكمين وخيرِ الرازقين، وأيضاً؛ فلم تَعْمَلْهُ أيديهم بطبخ ولا غيرِهِ، بل أوجد اللهُ هذه الثمارَ غير محتاجةٍ لطَبْخ ولا شيءٍ تؤخَذُ من أشجارِها فتُؤكَلُ في الحال.
{أفلا يَشْكُرونَ}: مَنْ ساقَ لهم هذه النعم، وأسبغَ عليهم من جُودِهِ وإحسانِهِ ما به تَصْلُحُ أمورُ دينهم ودُنْياهم، أليس الذي أحْيا الأرض بعد موتِها فأنْبَتَ فيها الزُّروعَ والأشجارَ وأوْدَعَ فيها لذيذَ الثمار وأظهر ذلك الجنى من تلك الغصونِ وفَجَّرَ الأرضَ اليابسة الميتة بالعُيونِ بقادرٍ على أن يُحْيِيَ الموتى؟ بلى إنَّه على كل شيء قدير.
#
{36} {سبحانَ الذي خَلَقَ الأزواجَ كُلَّها}؛
أي: الأصناف كلَّها
{مما تُنْبِتُ الأرضُ}: فَنَوَّعَ فيها من الأصناف ما يعسُرُ تعدادُهُ،
{ومن أنفسِهِم}: فنوَّعَهم إلى ذكرٍ وأنثى، وفاوتَ بين خَلْقِهِم وخُلُقِهِم وأوصافهم الظاهرة والباطنة
{وممَّا لا يعلمونَ}: من المخلوقات التي قد خُلِقَتْ وغابتْ عن عِلْمِنا، والتي لم تُخْلَقْ بعد؛ فسُبحانه وتعالى أن يكونَ له شريكٌ أو ظهيرٌ أو عوينٌ أو وزيرٌ أو صاحبةٌ أو ولدٌ أو سميٌّ أو شبيهٌ أو مثيلٌ في صفاتِ كماله ونعوتِ جلالِهِ، أو يُعْجِزَه شيءٌ يريدُه.
{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}.
#
{37} أي:
{وآيةٌ لهم}: على نفوذِ مشيئتِهِ وكمال قدرتِهِ وإحيائِهِ الموتى بعد موتهم
{الليلُ نسلخُ منه النهارَ}؛
أي: نزيل الضياءَ العظيمَ الذي طَبَّقَ الأرضَ فنبدِلُه بالظُّلمة ونُحِلُّها محلَّه؛
{فإذا هم مظلِمون}.
#
{38} وكذلك نزيلُ هذه الظلمةَ التي عَمَّتْهم وشَمِلَتْهم، فنُطْلِعُ الشمسَ، فتضيء الأقطار، وينتشر الخلقُ لمعايشهم ومصالحهم،
ولهذا قال: {والشمسُ تجري لِمُسْتَقَرٍّ لها}؛
أي: دائماً تجري لمستقرٍّ لها، قدَّرها الله، لا تتعداه ولا تقصر عنه وليس لها تصرف في نفسها ولا استعصاء على قدرة الله تعالى.
{ذلك تقدير العزيزِ}: الذي بعزَّتِهِ دَبَّرَ هذه المخلوقاتِ العظيمةَ بأكمل تدبيرٍ وأحسن نظام.
{العليم}: الذي بعِلْمِهِ جَعَلَها مصالح لعبادِهِ ومنافعَ في دينِهِم ودُنياهم.
#
{39} {والقَمَرَ قدَّرْناه منازلَ}: ينزِلُها ، كلَّ ليلةٍ ينزِلُ منها واحدةً،
{حتى}: يصغُرَ جدًّا فيعود
{كالعُرْجونِ القديم}؛
أي: عُرجون النخلةِ الذي من قدمه نَشَّ وصَغُر حجمُهُ وانحنى، ثم بعد ذلك ما زال يزيدُ شيئاً فشيئاً حتى يتمَّ نورُه، وَيَتَّسِقَ ضياؤُه.
#
{40} وكلٌّ من الشمس والقمر والليل والنهار قدَّره الله تقديراً لا يتعدَّاه، وكلٌّ له سلطانٌ ووقتٌ، إذا وُجِدَ؛ عُدِمَ الآخرَ،
ولهذا قال: {لا الشمسُ ينبغي لها أن تُدْرِكَ القمرَ}؛
أي: في سلطانِهِ الذي هو الليل؛ فلا يمكنُ أن توجدَ الشمسُ في الليل،
{ولا الليلُ سابِقُ النهارِ}: فيدخُلُ عليه قبل انقضاءِ سلطانِهِ.
{وكلٌّ}: من الشمس والقمر والنجوم
{في فَلَكٍ يَسْبِحونَ}؛
أي: يترَّددون على الدوام؛ فكلُّ هذا دليلٌ ظاهرٌ وبرهانٌ باهرٌ على عظمة الخالقِ وعظمةِ أوصافِهِ، خصوصاً وصفَ القدرةِ والحكمةِ والعلم في هذا الموضع.
{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)}.
#
{41} أي: ودليلٌ لهم وبرهانٌ على أنَّ اللهَ وحدَه المعبودُ؛ لأنَّه المنعِمُ بالنِّعم الصارف للنِّقم الذي من جملةِ نعمه
{أنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهم}: قال كثيرٌ من المفسِّرين: المرادُ بذلك آباؤهم.
#
{42} {وخَلَقْنا لهم}؛
أي: للموجودين من بعدِهم
{من مثلِهِ}؛
أي: من مثل ذلك الفلك؛
أي: جنسه
{ما يَرْكَبونَ}: به. فذكر نعمتَه على الآباء بِحَمْلِهِم في السفن؛ لأنَّ النعمة عليهم نعمةٌ على الذُّرِّيَّة.
وهذا الموضعُ من أشكل المواضع عليَّ في التفسير؛ فإنَّ ما ذَكَرَه كثيرٌ من المفسِّرين من أنَّ المرادَ بالذُّرِّيَّةِ الآباء مما لا يُعْهَدُ في القرآن إطلاقُ الذُّرِّيَّةِ على الآباء، بل فيه من الإبهام وإخراج الكلام عن موضوعِهِ ما يأباه كلامُ ربِّ العالمين وإرادتُه البيانَ والتوضيحَ لعبادِهِ. وثَمَّ احتمالٌ أحسنُ من هذا، وهو أنَّ المرادَ بالذُّرِّيَّةِ الجنسُ، وأنَّهم هم بأنفسهم؛ لأنَّهم هم من ذُرِّيَّةِ بني آدم،
ولكن يَنْقُضُ هذا المعنى قوله: {وخَلَقْنا لهم من مثلِهِ ما يَرْكَبون}: إنْ أريدَ: وخَلَقْنا من مثل ذلك الفُلْك؛
أي: لهؤلاء المخاطبين ما يركبونَ من أنواع الفُلْك، فيكونُ ذلك تكريراً للمعنى تأباه فصاحةُ القرآن.
فإنْ أريدَ بقوله: {وخَلَقْنا لهم من مثلِهِ ما يركبونَ}: الإبل التي هي سُفُن البرِّ؛ استقامَ المعنى واتَّضح؛ إلاَّ أنَّه يبقى أيضاً أن يكون الكلامُ فيه تشويشٌ؛ فإنَّه لو أُريد هذا المعنى؛
لقال: وآيةٌ لهم أنَّا حَمَلْناهم في الفُلْكِ المَشْحونِ وخَلَقْنا لهم من مثلِهِ ما يركبونَ،
فأمَّا أنْ يُقالَ في الأول: حملنا ذريتهم،
وفي الثاني: حملناهم؛
فإنَّه لا يظهرُ المعنى إلاَّ أنْ يقالَ: الضميرُ عائدٌ إلى الذُّرِّيَّةِ. والله أعلم بحقيقةِ الحال.
فلمَّا وصلتُ في الكتابة إلى هذا الموضع؛ ظهر لي معنى ليس ببعيدٍ من مرادِ الله تعالى، وذلك أنَّ مَنْ عَرَفَ جلالة كتابِ الله وبيانَه التامَّ من كلِّ وجهٍ للأمور الحاضرة والماضية والمستقبلةِ، وأنَّه يَذْكُرُ من كلِّ معنى أعلاه وأكمل ما يكون من أحوالِهِ، وكانت الفُلْكُ من آياته تعالى ونعمِهِ على عباده من حين أنعم عليهم بتعلُّمها إلى يوم القيامةِ، ولم تزلْ موجودةً في كلِّ زمان إلى زمانِ المواجَهين بالقرآن، فلمَّا خاطبهم الله تعالى بالقرآن، وذَكَرَ حالةَ الفُلك، وعَلِمَ تَعالى أنَّه سيكونُ أعظمُ آياتِ الفلكِ في غير وقتهم وفي غير زمانهم حين يُعَلِّمُهُم صنعةَ الفُلك البحريَّة الشراعيَّة منها والنّارية والجويَّة السابحة في الجوِّ كالطيور ونحوها والمراكبِ البريَّة ممَّا كانت الآيةُ العظمى فيه لم توجَدُ إلاَّ في الذُّرِّيَّةِ؛ نبَّه في الكتاب على أعلى نوع من أنواع آياتها،
فقال: {وآيةٌ لهم أنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ في الفُلْكِ المشحونِ}؛
أي: المملوء ركباناً وأمتعةً، فحملهم الله تعالى، ونجَّاهم بالأسباب التي علَّمهم اللهُ بها من الغرق.
#
{43} ولهذا نبَّههم على نعمتِهِ عليهم حيث أنْجاهم من الغرقِ مع قدرتِهِ على ذلك،
فقال: {وإن نشأ نُغْرِقْهم فلا صريخَ لهم}؛
أي: لا أحد يصرُخُ لهم فيعاوِنُهم على الشدَّة ولا يزيلُ عنهم المشقَّة،
{ولا هم يُنقَذونَ}: مما هم فيه.
#
{44} {إلاَّ رحمةً مِنَّا ومتاعاً إلى حينٍ}: حيث لم نُغْرِقْهم لطفاً بهم وتمتيعاً لهم إلى حينٍ، لعلَّهم يرجِعونَ، أو يستدرِكون ما فَرَطَ منهم.
#
{45} {وإذا قيل لهمُ اتَّقوا ما بَيْنَ أيديكم وما خَلْفَكُم}؛
أي: من أحوال البرزخ والقيامةِ وما في الدُّنيا من العقوبات؛
{لعلَّكُم تُرْحَمونَ}: أعرضوا عن ذلك، فلم يرفعوا به رأساً، ولو جاءَتْهم كلُّ آيةٍ.
#
{46} ولهذا قال:
{وما تأتيهم مِن آيةٍ مِن آياتِ ربِّهم إلاَّ كانوا عنها معرضينَ}: وفي إضافة الآياتِ إلى ربِّهم دليلٌ على كمالها ووضوحِها؛ لأنَّه ما أبين من آياتِ اللَّه ولا أعظم بياناً، وإنَّ من جملة تربيةِ الله لعبادِهِ أنْ أوصلَ إليهم الآياتِ التي يستدلُّون بها على ما ينفعُهم في دينهم ودنياهم.
#
{47} {وإذا قيلَ لهم أنفِقوا ممَّا رَزَقَكُمُ اللهُ}؛
أي: من الرزق الذي مَنَّ به اللهُ عليكم، ولو شاء لَسَلَبَكُم إيَّاه،
{قالَ الذين كَفَروا للذين آمنوا}: معارضينَ للحقِّ محتجِّين بالمشيئةِ:
{أنُطْعِمُ مَن لو يشاءُ الله أطْعَمَهُ إنْ أنتُم}: أيها المؤمنون، لفي
{ضلالٍ مبينٍ}: حيث تأمروننا بذلك، وهذا مما يدلُّ على جهلهم العظيم أو تجاهُلِهِم الوخيم؛ فإنَّ المشيئة ليست حجَّةً لعاصٍ أبداً؛ فإنَّه وإنْ كان ما شاءَ اللهُ كان، وما لم يشأ لم يكنْ؛ فإنَّه تعالى مَكَّنَ العبادَ وأعطاهم من القوَّةِ ما يقدرون على فعل الأمرِ واجتنابِ النَّهْي؛ فإذا تَرَكوا ما أمِروا به؛ كان ذلك اختياراً منهم لا جبراً لهم وقهراً.
#
{48 ـ 49} {ويقولون}: على وجه التكذيب والاستعجال:
{متى هذا الوعدُ إن كُنتُم صادقينَ}.
قال الله تعالى: لا يستبعدوا ذلك؛ فإنَّه عن قريبٍ،
{ما ينظُرونَ إلاَّ صَيْحَةً واحدةً}: وهي نفخةُ الصور.
{تأخُذُهم}؛
أي: تصيبُهم
{وهم يَخِصِّمونَ}؛
أي: وهم لاهون عنها، لم تخطُرْ على قلوبِهِم في حال خصومَتِهم وتشاجُرِهم بينَهم، الذي لا يوجد في الغالب إلاَّ وقتَ الغفلة.
#
{50} وإذا أخذتُهم وقتَ غفلَتِهِم؛ فإنَّهم لا يُنظرونَ ولا يُمهلون؛
{فلا يستطيعون توصيةً}؛
أي: لا قليلة ولا كثيرة،
{ولا إلى أهْلِهِم يَرْجِعونَ}.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)}.
#
{51} النفخة الأولى هي نفخةُ الفزع والموت. وهذه نفخةُ البعثِ والنشور؛ فإذا نُفِخَ في الصور؛ خرجوا
{من الأجداث} والقبور
{يَنْسِلون} إلى ربِّهم؛
أي: يسرعون للحضور بين يديه، لا يتمكَّنونَ من التأنِّي والتأخُّر.
#
{52} وفي تلك الحال يحزنُ المكذِّبون ويُظْهِرونَ الحسرةَ والندم ويقولون:
{يا وَيْلَنا مَن بَعَثَنا مِن مَرْقَدِنا}؛
أي: من رقدتنا في القبور؛ لأنه ورد في بعض الأحاديث أنَّ لأهل القبور رقدةٌ قبيل النفخ في الصور.
فيُجابون ويُقال لهم: {هذا ما وَعَدَ الرحمنُ وَصَدَقَ المرسلونَ}؛
أي: هذا الذي وعدكم اللَّه به ووعدتْكم به الرسلُ، فظهر صدقُهم رأي عينٍ. ولا تَحْسَبْ أنَّ ذكر الرحمن في هذا الموضع لمجرَّدِ الخبر عن وعدِهِ، وإنَّما ذلك للإخبار بأنَّه في ذلك اليوم العظيم سَيَرَوْنَ من رحمتِهِ ما لا يخطُرُ على الظُّنون ولا حَسَبَ به الحاسبون؛
كقوله: {المُلْكُ يومئذٍ الحقُّ للرحمن}،
{وخَشَعَتِ الأصواتُ للرحمنِ}، ونحو ذلك مما يَذْكُرُ اسمَه الرحمن في هذا.
#
{53} {إن كانت}: البعثة من القبور
{إلاَّ صيحةً واحدةً}: يَنْفُخُ فيها إسرافيلُ في الصور، فتحيا الأجساد؛
{فإذا هم جميعٌ لَدَيْنا مُحْضَرونَ}: الأولون والآخرون، والإنس والجن؛ ليحاسبوا على أعمالهم.
#
{54} {فاليومَ لا تُظْلَمُ نفسٌ شيئاً}: لا يُنْقَصُ من حسناتها ولا يُزاد في سيئاتها.
{ولا تُجْزَوْنَ إلاَّ ما كنتُم تعملونَ}: من خيرٍ أو شرٍّ؛ فمن وَجَدَ خيراً؛ فليحمد الله، ومن وَجَدَ غير ذلك؛ فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه.
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)}.
#
{55 ـ 56} لما ذكر تعالى أنَّ كلَّ أحدٍ لا يُجْزى إلاَّ ما عَمِلَه؛ ذَكَرَ جزاء الفريقينِ، فبدأ بجزاء أهل الجنة، وأخبر أنَّهم في ذلك اليوم
{في شُغُلٍ فاكهونَ}؛
أي: في شُغُل مُفَكِّهٍ للنفس مُلِذٍّ لها من كلِّ ما تهواه النفوس وتَلَذُّه العيون ويتمنَّاه المتمنُّون، ومن ذلك افتضاض العذارى الجميلات؛
كما قال: {هم وأزواجُهُم}: من الحور العين اللاَّتي قد جَمَعْنَ حسنَ الوجوهِ والأبدان وحسنَ الأخلاق
{في ظلال على الأرائِكِ}؛
أي: السرر المزيَّنة باللباس المزخْرَفِ الحسن
{متَّكِئونَ}: عليها اتِّكاءً دالاً على كمال الراحة والطمأنينة واللذة.
#
{57} {لهم فيها فاكهةٌ}: كثيرة من جميع أنواع الثمارِ اللذيذة؛ من عنب، وتين، ورمان، وغيرها،
{ولهم ما يَدَّعونَ}؛
أي: يطلبون؛ فمهما طلبوه وتمنَّوْه؛ أدْرَكوه.
#
{58} ولهم أيضاً
{سلامٌ} حاصلٌ لهم
{من ربٍّ رحيم}: ففي هذا كلام الربِّ تعالى لأهل الجنةِ وسلامُهُ عليهم،
وأكَّده بقولِهِ: {قولاً}: وإذا سَلَّم عليهم الربُّ الرحيمُ؛ حَصَلَتْ لهم السلامةُ التامةُ من جميع الوجوه، وحَصَلَتْ لهم التحيةُ التي لا تَحِيَّةَ أعلى منها ولا نعيم مثلها؛ فما ظنُّك بتحيَّة ملك الملوك، الربِّ العظيم، الرءوف الرحيم، لأهل دار كرامته، الذين أحلَّ عليهم رضوانَه؛ فلا يسخط عليهم أبداً؛ فلولا أنَّ الله تعالى قَدَّرَ أنْ لا يموتوا أو تزولَ قلوبُهم عن أماكنها من الفرح والبهجة والسرور؛ لحصل ذلك، فنرجو ربَّنا أن لا يَحْرمَنا ذلك النعيم، وأن يُمَتِّعَنا بالنظر إلى وجهه الكريم.
{وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)}.
#
{59} لمَّا ذَكَرَ تعالى جزاء المتَّقين؛ ذَكَرَ جزاء المجرمين،
{و} أنَّهم يُقال لهم يوم القيامةِ:
{امْتازوا اليومَ أيُّها المجرمونَ}؛
أي: تميَّزوا عن المؤمنين، وكونوا على حِدَةٍ؛ ليوبِّخَهم ويُقَرِّعَهم على رؤوس الأشهادِ قبلَ أن يُدْخِلَهُمُ النار،
فيقول لهم:
#
{60} {ألمْ أعْهَدْ إليكُم}؛
أي: آمرُكُم وأوصيكم على ألسنةِ رُسُلي وأقول لكم:
{يا بَني آدمَ أن لا تَعْبُدوا الشيطانَ}؛
أي: لا تطيعوه! وهذا التوبيخ يدخل فيه التوبيخُ عن جميع أنواع الكفرِ والمعاصي؛ لأنَّها كلها طاعةٌ للشيطان وعبادةٌ له،
{إنَّه لكم عدوٌّ مُبينٌ}: فحذَّرتكم منه غايةَ التَّحذير، وأنذرتُكم عن طاعتِهِ، وأخبرتُكم بما يدعوكم إليه.
#
{61} {و} أمرتُكم: أنْ تعبدوني بامتثال أوامري وترك زَواجِري.
{هذا}؛
أي: عبادتي وطاعتي ومعصية الشيطان
{صراطٌ مستقيمٌ}: فعُلوم الصراط المستقيم وأعمالُهُ ترجعُ إلى هذين الأمرين؛
أي: فلم تَحْفَظوا عهدي ولم تَعْمَلوا بوصِيَّتي، فواليتُم عدوَّكم.
#
{62} فأضلَّ
{منكم جِبِلاًّ كثيراً}؛
أي: خلقاً كثيراً.
{أفلم تكونوا تعقلونَ}؛
أي: أفلا كان لكم عقلٌ يأمُرُكم بموالاة ربِّكم ووليِّكم الحقِّ، ويزجركم عن اتِّخاذ أعدى الأعداءِ لكم وليًّا؟ فلو كان لكم عقلٌ صحيحٌ؛ لما فعلتُم ذلك.
#
{63} فإذْ أطعتُم الشيطان، وعاديتُم الرحمن، وكذَّبتم بلقائِهِ، ووردتُم القيامةَ دار الجزاء، وحقَّ عليكم القولُ بالعذاب، فَـ
{هذه جهنَّمُ التي كنتُم توعَدونَ}: وتكذِّبون بها؛ فانظروا إليها عياناً! فهناك تنزعِجُ منهم القلوبُ، وتزوغُ الأبصارُ، ويحصُلُ الفزعُ الأكبرُ.
#
{64} ثم يُكْمِلُ ذلك بأنْ يُؤْمَرَ بهم إلى النار،
ويقالَ لهم: {اصْلَوْها اليوم بما كنتُم تكفُرونَ}؛
أي: ادخُلوها على وجه تَصْلاكُم، ويحيطُ بكم حرُّها، ويبلغُ منكم كلَّ مبلغ بسبب كفرِكُم بآيات الله وتكذيبِكُم لرسل الله.
#
{65} قال تعالى في بيان وَصْفِهم الفظيع في دار الشقاء:
{اليوم نَخْتِمُ على أفواهِهِم}: بأن نَجْعَلَهم خُرْساً فلا يتكلمون، فلا يقدِرونَ على إنكارِ ما عَمِلوه من الكُفْرِ والتَّكْذيب.
{وتُكَلِّمُنا أيْديهم وتَشْهَدُ أرجُلُهم بما كانوا يَكْسِبونَ}؛
أي: تشهد عليهم أعضاؤُهم بما عملوه، ويُنْطِقُها الذي أنطقَ كلَّ شيءٍ.
#
{66} {ولو نشاءُ لَطَمَسْنا على أعيُنِهم}: بأن نُذْهِبَ أبصارَهم كما طَمَسْنا على نُطْقِهِم؛
{فاسْتَبَقوا الصراطَ}؛
أي: فبادروا إليه؛ لأنَّه الطريق إلى الوصول إلى الجنة.
{فأنَّى يُبْصِرونَ}: وقد طُمِسَتْ أبصارُهم؟!
#
{67} {ولو نشاءُ لَمَسَخْناهم على مَكانَتِهِم}؛
أي: لأذْهَبْنا حَرَكَتَهم،
{فما استطاعوا مُضِيًّا}: إلى الأمام،
{ولا يرجِعونَ}: إلى ورائِهِم، ليبعدُوا عن النار.
والمعنى: أنَّ هؤلاء الكفار حقَّتْ عليهم كلمةُ العذاب، ولم يكن بدٌّ من عقابهم، وفي ذلك الموطن ما ثَمَّ إلاَّ النار قد بُرِّزَتْ، وليس لأحدٍ نجاةٌ إلا بالعبور على الصراط، وهذا لا يستطيعه إلاَّ أهلُ الإيمان الذين يمشونَ في نورِهِم، وأمَّا هؤلاء؛ فليس لهم عند الله عهدٌ في النجاة من النار؛ فإنْ شاء؛ طمس أعْيُنَهم، وأبقى حَرَكَتَهم فلم يَهْتَدوا إلى الصراطِ لو اسْتَبَقوا إليه وبادروه، وإن شاء؛ أذهبَ حِراكهم فلم يَسْتَطيعوا التقدُّم ولا التأخُّر، المقصودُ أنَّهم لا يَعْبُرونه، فلا تحصُلُ لهم النجاةُ.
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)}.
#
{68} يقولُ تعالى:
{ومَن نُعَمِّرْهُ}: من بني آدم
{نُنَكِّسْه في الخَلْقِ}؛
أي: يعود إلى الحالة التي ابتدأ منها؛ حالة الضعف؛ ضعف العقل وضعف القوة.
{أفلا يعقلونَ}: أنَّ الآدميَّ ناقصٌ من كلِّ وجه، فيتداركوا قوتهم وعقولَهم، فيستَعْمِلونها في طاعة ربِّهم؟
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)}.
#
{69} ينزِّه تعالى نبيَّه محمداً - صلى الله عليه وسلم - عمَّا رماه به المشركون من أنَّه شاعرٌ، وأنَّ الذي جاء به شعرٌ،
فقال: {وما علَّمناه الشعرَ وما يَنبَغي له}: أن يكون شاعراً؛
أي: هذا من جنس المحال أن يكون شاعراً؛ لأنَّه رشيدٌ مهتدٍ، والشعراء غاوون، يتَّبِعُهُم الغاوون، ولأنَّ الله تعالى حَسَمَ جميع الشُّبه التي يتعلَّق بها الضالُّون عن رسوله، فحسم أن يكون يكتبُ أو يقرأ، وأخبر أنَّه ما علَّمه الشعر وما ينبغي له.
{إنْ هو إلاَّ ذِكْرٌ وقرآنٌ مبينٌ}؛
أي: ما هذا الذي جاء به إلاَّ ذكرٌ يتذكَّر به أولو الألباب جميع المطالب الدينيَّة؛ فهو مشتملٌ عليها أتمَّ اشتمال، وهو يذكِّرُ العقولَ ما رَكَزَ اللَّهُ في فِطَرِها من الأمر بكلِّ حسنٍ والنهي عن كلِّ قبيح.
{وقرآنٌ مُبينٌ}؛
أي: مبينٌ لما يُطْلَبُ بيانُه، ولهذا حذف المعمولَ؛ ليدلَّ على أنَّه مبينٌ لجميع الحقِّ بأدلَّته التفصيليَّة والإجماليَّة والباطل وأدلَّة بطلانِهِ. أنزله الله كذلك على رسولِهِ.
#
{70} {لِيُنذِرَ مَن كان حَيًّا}؛
أي: حيَّ القلب واعِيَه؛ فهو الذي يزكو على هذا القرآن، وهو الذي يزداد من العلم منه والعمل، ويكون القرآنُ لقلبِهِ بمنزلة المطرِ للأرض الطيِّبة الزاكية،
{ويَحِقَّ القولُ على الكافرينَ}: لأنَّهم قامت عليهم به حُجَّةُ الله وانقطع احتجاجُهم، فلم يبقَ لهم أدنى عذرٍ وشبهةٍ يُدلون بها.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)}.
#
{71 ـ 73} يأمُرُ تعالى العباد بالنظر إلى ما سَخَّر لهم من الأنعام وذلَّلها وجَعَلَهم مالكينَ لها مطاوعةً لهم في كلِّ أمرٍ يريدونَه منها، وأنَّه جعل لهم فيها منافعَ كثيرةً من حَمْلِهم وحَمْل أثقالِهِم ومحامِلِهم وأمْتِعَتِهم من محلٍّ إلى محلٍّ، ومن أكْلِهِم منها، وفيها دفءٌ، ومن أوبارِها وأصوافها وأشعارِها أثاثاً ومتاعاً إلى حينٍ، وفيها زينةٌ وجمالٌ وغيرُ ذلك من المنافع المشاهدة منها.
{أفلا يشكرونَ} اللهَ تعالى الذي أنعم بهذه النعم، ويخلِصونَ له العبادةَ، ولا يتمتَّعون بها تمتُّعاً خالياً من العبرة والفكرة؟!
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)}.
#
{74 ـ 75} هذا بيانٌ لبطلان آلهة المشركين التي اتَّخذوها مع الله تعالى ورَجَوْا نَصْرَها وشَفْعَها؛ فإنها في غاية العجز.
{لا يَسْتَطيعون نَصْرَهم}: ولا أنْفُسَهم يَنْصُرونَ: فإذا كانوا لا يستطيعون نَصْرَهم؛ فكيف يَنْصُرونَهم؟
! والنصر له شرطانِ: الاستطاعةُ
[والقدرةُ] ؛
فإذا استطاع: يبقى: هل يُريدُ نصرةً مِنْ عَبْدِه أم لا؟ فنفي الاستطاعةِ ينفي الأمرين كليهما.
{وهم لهم جُندٌ محضَرون}؛
أي: محضَرون هم وهم في العذاب، ومتبرِّئٌ بعضُهم من بعض، أفلا تبرؤوا في الدنيا من عبادة هؤلاء وأخلصوا العبادةَ للذي بيدِهِ الملكُ والنفعُ والضرُّ والعطاءُ والمنعُ وهو الوليُّ النصيرُ؟!
{فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)}.
#
{76} أي: فلا يَحْزُنْكَ يا أيُّها الرسولُ قول المكذِّبين، والمرادُ بالقول ما دلَّ عليه السياقُ، كلُّ قول يَقْدَحون فيه في الرسول أو فيما جاء به؛
أي: فلا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بالحزن عليهم.
{إنَّا نعلمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنونَ}؛ فنجازِيهم على حسبِ عِلْمِنا بهم، وإلاَّ؛ فقولُهم لا يضرُّك شيئاً.
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}.
هذه الآياتُ الكريمات فيها ذِكْرُ شبهةِ منكري البعث والجواب عنها بأتمِّ جوابٍ وأحسنِهِ وأوضحه.
#
{77} فقال تعالى:
{أوَلَم يَرَ الإنسانُ}: المنكِرُ للبعث أو الشاكُّ فيه أمراً يفيدُه اليقينَ التامَّ بوقوعه، وهو ابتداءُ خلقِهِ
{من نطفةٍ}، ثم تنقُّلُه في الأطوار شيئاً فشيئاً، حتى كبر وشبَّ وتمَّ عقلُه واستتبَّ؛
{فإذا هو خصيمٌ مبينٌ}: بعد أنْ كان ابتداءُ خلقِهِ من نطفةٍ؛ فلينظرِ التفاوتَ بين هاتين الحالتين، ولْيعلمْ أنَّ الذي أنشأه من العدم قادرٌ على أن يعيدَه بعدما تفرَّق وتمزَّق من باب أولى.
#
{78} {وضرب لنا مثلاً}: لا ينبغي لأحدٍ أن يضرِبَه، وهو قياسُ قدرةِ الخالق بقدرةِ المخلوق، وأنَّ الأمر المُسْتَبْعَدَ على قدرة المخلوق مُسْتَبْعَدٌ على قدرة الخالق،
فَسَّرَ هذا المثل بقوله: {قال}: ذلك الإنسان:
{مَن يُحيي العظامَ وهي رميمٌ}؛
أي: هل أحدٌ يحييها؟ استفهام إنكارٍ؛
أي: لا أحَدَ يُحييها بعدما بَلِيَتْ وتلاشَتْ. هذا وجهُ الشبهة والمثل، وهو أنَّ هذا أمرٌ في غاية البعدِ على ما يُعْهَدُ من قدرةِ البشر، وهذا القولُ الذي صَدَرَ من هذا الإنسان غفلةٌ منه ونسيانٌ لابتداء خلقِهِ؛ فلو فَطِنَ لِخَلْقِهِ بعد أن لم يكن شيئاً مذكوراً، فوُجِد عياناً؛ لم يضرِبْ هذا المثل.
#
{79} فأجاب تعالى عن هذا الاستبعادِ بجوابٍ شافٍ كافٍ،
فقال: {قُلْ يُحْييها الذي أنشَأها أوَّلَ مَرَّةٍ}: وهذا بمجرَّدِ تصوُّرِهِ يعلم به علماً يقيناً لا شبهةَ فيه أنَّ الذي أنشأها أوَّلَ مرةٍ قادرٌ على الإعادةِ ثاني مرةٍ، وهو أهونُ على القدرةِ إذا تصوَّره المتصوِّر.
{وهو بكلِّ خلقٍ عليمٌ}: هذا أيضاً دليلٌ ثانٍ من صفاتِ الله تعالى، وهو أنَّ علمه تعالى محيطٌ بجميع مخلوقاتِهِ في جميع أحوالِها في جميع الأوقات، ويَعْلَمُ ما تَنْقُصُ الأرضُ من أجسادِ الأمواتِ وما يبقى، ويعلمُ الغيبَ والشهادة؛ فإذا أقرَّ العبدُ بهذا العلم العظيم؛ علم أنَّه أعظمُ وأجلُّ من إحياء اللَّه الموتى من قبورِهم.
#
{80} ثم ذَكَرَ دليلاً ثالثاً،
فقال: {الذي جَعَلَ لكم من الشَّجَرِ الأخضرِ ناراً فإذا أنتُم منه توقِدونَ}: فإذا أخرجَ النار اليابسة من الشجر الأخضرِ الذي هو في غاية الرُّطوبة مع تضادِّهما وشدَّة تخالُفِهما؛ فإخْراجُهُ الموتى من قبورِهِم مثلُ ذلك.
#
{81} ثم ذكر دليلاً رابعاً،
فقال: {أوَ لَيْسَ الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ}: على سعتهما وعظمهما
{بقادرٍ على أن يَخْلُقَ مثلَهم}؛
أي: أن يعيدَهم بأعيانهم
{بلى}: قادرٌ على ذلك؛ فإنَّ خَلْقَ السماواتِ والأرض أكبرُ من خَلْقِ الناس.
{وهو الخلاَّقُ العليمُ}: وهذا دليلٌ خامسٌ؛ فإنَّه تعالى الخلاقُ الذي جميع المخلوقات؛ متقدِّمها ومتأخِّرها، صغيرها وكبيرها؛ كلُّها أثرٌ من آثار خلقِهِ وقدرتِهِ، وأنَّه لا يستعصي عليه مخلوقٌ أراد خَلْقَه؛ فإعادتُهُ للأموات فردٌ من أفراد آثارِ خلقِهِ.
#
{82} ولهذا قال:
{إنَّما أمرُهُ إذا أراد شيئاً}: نكرةٌ في سياق الشرط فَتَعُمُّ كلَّ شيءٍ،
{أن يقولَ له كُن فيكونُ}؛
أي: في الحال من غير تمانع.
#
{83} {فسبحانَ الذي بيدِهِ مَلَكوتُ كُلِّ شيءٍ}: وهذا دليلٌ سادسٌ؛ فإنَّه تعالى هو الملِكُ المالكُ لكلِّ شيءٍ؛ الذي جميعُ ما سكن في العالم العلويِّ والسفليِّ مُلْكٌ له وعبيدٌ مسخَّرون مدبَّرون، يَتَصَرَّفُ فيهم بأقدارِهِ الحكميَّة وأحكامِهِ الشرعيَّة وأحكامِهِ الجزائيَّة؛ فإعادتُه إيَّاهم بعد موتِهِم لينفذَ فيهم حكم الجزاء من تمام ملكِهِ،
ولهذا قال: {وإليه تُرْجَعونَ}: من غير امتراءٍ ولا شكٍّ؛ لتواتُرِ البراهين القاطعةِ والأدلَّةِ الساطعةِ على ذلك. فتبارك الذي جَعَلَ في كلامِهِ الهدى والشفاء والنور.
تم تفسير سورة يس.
فلله تعالى الحمدُ كما ينبغي لجلاله، وله الثناء كما يليق بكماله، وله المجد كما تستدعيه عظمته وكبرياؤه، وصلى الله على محمد وسلم.
* * *