[وهي] مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}
#
{1} {الحمدُ}: الثناء بالصفات الحميدةِ والأفعال الحسنة؛ فلله تعالى الحمدُ؛ لأنَّ جميع صفاته يُحمد عليها لكونها صفاتِ كمال، وأفعالُه يُحمد عليها لأنَّها دائرةٌ بين الفضل الذي يُحمد عليه ويُشكر، والعدل الذي يُحمد عليه ويُعترف بحكمتِهِ فيه. وحَمَدَ نفسَه هنا على أنَّ
{له ما في السموات وما في الأرض}: مُلكاً وعبيداً يتصرَّف فيهم بحمده.
{وله الحمدُ في الآخرة}: لأنَّ في الآخرة يظهرُ من حمدِهِ والثناء عليه ما لا يكون في الدنيا؛ فإذا قضى الله تعالى بين الخلائق كلِّهم، ورأى الناس والخلق كلُّهم ما حكم به وكمال عدلِهِ وقسطِهِ وحكمته فيه؛ حمدوه كلُّهم على ذلك، حتى أهل العقاب؛ ما دخلوا النار إلاَّ وقلوبُهم ممتلئةٌ من حمده، وأنَّ هذا من جرّاء أعمالهم، وأنَّه عادلٌ في حكمه بعقابهم.
وأمَّا ظهورُ حمدِهِ في دار النعيم والثواب؛ فذلك شيء قد تواردتْ به الأخبارُ وتوافقَ عليه الدليلُ السمعيُّ والعقليُّ؛ فإنَّهم في الجنة يرون من توالي نعم الله وإدرارِ خيره وكثرةِ بركاته وسَعَةِ عطاياه التي لم يبقَ في قلوب أهل الجنة أمنيةٌ ولا إرادةٌ إلاَّ وقد أعطي فوق ما تمنَّى وأراد، بل يُعْطَوْنَ من الخير ما لم تتعلَّقْ به أمانيهم ولم يخطُرْ بقلوبِهم؛ فما ظنُّك بحمدِهم لربِّهم في هذه الحال مع أنَّ في الجنة تضمحلُّ العوارض والقواطع التي تقطع عن معرفة الله ومحبَّتِهِ والثناء عليه، ويكون ذلك أحبَّ إلى أهلها من كلِّ نعيم وألذَّ عليهم من كل لَذَّةٍ؟! ولهذا؛ إذا رأوا الله تعالى وسمعوا كلامه عند خطابِهِ لهم؛ أذْهَلَهم ذلك عن كلِّ نعيم، ويكون الذكر لهم في الجنة كالنَفَس متواصلاً في جميع الأوقات، هذا إذا أضفتَ ذلك إلى أنَّه يظهر لأهل الجنة في الجنةِ كلَّ وقتٍ من عظمة ربِّهم وجلالِهِ وجمالِهِ وسعة كمالِهِ ما يوجب لهم كمالَ الحمد والثناء عليه.
{وهو الحكيمُ}: في ملكه وتدبيره، الحكيم في أمره ونهيه.
{الخبيرُ}: المطَّلعُ على سرائر الأمورِ وخفاياها.
#
{2} ولهذا فصَّلَ علمَه بقولِهِ:
{يعلم ما يَلِجُ في الأرضِ}؛
أي: من مطر وبذرٍ وحيوان،
{وما يخرُجُ منها}: من أنواع النباتاتِ وأصناف الحيواناتِ،
{وما ينزِلُ من السماءِ}: من الأملاك والأرزاق والأقدار،
{وما يعرُجُ فيها}: من الملائكة والأرواح وغير ذلك. ولمَّا ذَكَرَ مخلوقاتِهِ وحكمتَه فيها وعلمَه بأحوالها؛ ذكر مغفرتَه ورحمتَه لها،
فقال: {وهو الرحيمُ الغفورُ}؛
أي: الذي الرحمة والمغفرة وصفُه، ولم تزلْ آثارُهُما تنزِلُ على العباد كلَّ وقتٍ بحسب ما قاموا به من مقتضياتهما.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)}.
#
{3} لمَّا بيَّن تعالى عظمته بما وصف به نفسه، وكان هذا موجباً لتعظيمه وتقديسه والإيمان به؛ ذكر أنَّ من أصناف الناس طائفةً لم تُقَدِّرْ ربَّها حقَّ قدرِهِ، ولم تعظِّمْه حق عظمته، بل كفروا به وأنكروا قدرتَه على إعادةِ الأموات وقيام الساعة، وعارضوا بذلك رسلَه،
فقال: {وقال الذين كفروا}؛
أي: بالله وبرسله وبما جاؤوا به،
فقالوا بسبب كفرهم: {لا تَأتينا الساعةُ}؛
أي: ما هي إلاَّ هذه الحياة الدُّنيا نموت ونحيا! فأمر الله رسولَه أنْ يردَّ قولَهم ويُبْطِلَه ويقسِمَ على البعث وأنَّه سيأتيهم، واستدلَّ على ذلك بدليل مَن أقرَّ به؛ لزمه أن يصدِّق بالبعث ضرورةً، وهو علمُه تعالى الواسعُ العامُّ،
فقال: {عالم الغيب}؛
أي: الأمور الغائبة عن أبصارنا وعن علمنا؛ فكيف بالشهادة؟
! ثم أكَّد علمه فقال: {لا يعزُبُ}؛
أي: لا يغيب عن علمه
{مثقالُ ذرَّةٍ في السمواتِ ولا في الأرض}؛
أي: جميع الأشياء بذواتها وأجزائها، حتى أصغر ما يكون من الأجزاء، وهو المثاقيل منها،
{ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاَّ في كتابٍ مبينٍ}؛
أي: قد أحاط به علمُه وجرى به قلمُه وتضمَّنه الكتابُ المبينُ الذي هو اللوحُ المحفوظ.
فالذي لا يخفى عن علمِهِ مثقال الذرة فما دونَه في جميع الأوقات، ويعلم ما تَنْقُصُ الأرضُ من الأموات وما يبقى من أجسادهم؛ قادرٌ على بعثهم من باب أولى، وليس بعثُهم بأعجبَ من هذا العلم المحيط.
#
{4} ثم ذكر المقصودَ من البعث،
فقال: {ليجزِيَ الذين آمنوا}: بقلوبهم صدَّقوا الله، وصدَّقوا رسله تصديقاً جازماً،
{وعملوا الصالحاتِ}: تصديقاً لإيمانهم.
{أولئك لهم مغفرةٌ}: لذنوبهم، بسبب إيمانهم وعملهم يندفعُ بها كلُّ شرٍّ وعقابٍ،
{ورزقٌ كريمٌ}: بإحسانهم، يحصلُ لهم به كلُّ مطلوبٍ ومرغوبٍ وأمنيَّة.
#
{5} {والذين سَعَوْا في آياتنا مُعَاجِزينَ}؛
أي: سعوا فيها كفراً بها وتعجيزاً لمن جاء بها وتعجيزاً لمن أنزلها كما عجَّزوه في الإعادة بعد الموت.
{أولئك لهم عذابٌ من رجزٍ أليم}؛
أي: مؤلم لأبدانهم وقلوبهم.
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)}.
#
{6} لما ذكر تعالى إنكارَ من أنكر البعثَ، وأنَّهم يرونَ ما أنزل على رسوله ليس بحقٍّ؛ ذكر حالة الموفَّقين من العباد، وهم أهل العلم، وأنَّهم يرون ما أنزل الله على رسوله؛ من الكتاب وما اشتملَ عليه من الأخبارِ
{هو الحقَّ}؛
أي: الحقُّ منحصرٌ فيه، وما خالفه وناقضه فإنه باطل؛ لأنَّهم وصلوا من العلم إلى درجة اليقين، ويرون أيضاً أنَّه في أوامره ونواهيه؛
{يهدي إلى صراطِ العزيز الحميد}: وذلك لأنَّهم جزموا بصدق ما أخبر بها من وجوهٍ كثيرةٍ: من جهة علمِهم بصدقِ مَنْ أخبر بها، ومن جهةِ موافقتها للأمور الواقعة والكتبِ السابقة، ومن جهةِ ما يشاهِدون من أخبارها التي تقع عياناً، ومن جهة ما يشاهدونَ من الآيات العظيمة الدالَّة عليها في الآفاق وفي أنفسهم، ومن جهةِ موافقتها لما دلَّت عليه أسماؤه تعالى وأوصافُه، ويرون في الأوامر والنواهي أنها تهدي إلى الصراط المستقيم المتضمن للأمور بكل صفةٍ تزكي النفس وتنمي الأجر وتفيد العامل وغيره؛ كالصدق والإخلاص وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى عموم الخلق ونحو ذلك، وتنهى عن كلِّ صفة قبيحةٍ، تدنِّس النفس، وتحبِطُ الأجر، وتوجِبُ الإثم والوزر من الشرك والزنا والربا والظُّلم في الدماء والأموال والأعراض.
وهذه منقبةٌ لأهل العلم وفضيلةٌ وعلامةٌ لهم، وأنَّه كلَّما كان العبد أعظم علماً وتصديقاً بأخبار ما جاء به الرسول وأعظم معرفةً بحكم أوامره ونواهيه؛ كان من أهل العلم الذين جعلهم الله حجةً على ما جاء به الرسول، احتجَّ الله بهم على المكذِّبين المعاندين كما في هذه الآية وغيرها.
{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}.
#
{7} أي:
{وقال الذين كفروا}: على وجه التكذيب والاستهزاء والاستبعاد، وذِكْر وجه الاستبعاد؛
أي: قال بعضُهم لبعض:
{هل ندلُّكم على رَجُل يُنَبِّئُكُم إذا مُزِّقْتُم كلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جديدٍ}؛ يعنون بذلك الرجل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّه رجلٌ أتى بما يُستغرب منه، حتى صار بزعمهم فرجةً يتفرَّجون عليه وأعجوبةً يسخرون منه،
وأنَّه كيف يقولُ: إنكم مبعوثون بعد ما مَزَّقَكُمُ البِلى وتفرَّقت أوصالُكم، واضمحلَّتْ أعضاؤكم!
#
{8} فهذا الرجلُ الذي يأتي بذلك: هل افْتَرَى
{على الله كَذِباً}: فتجرَّأ عليه وقال ما قال،
{أم به جِنَّةٌ}: فلا يُستغرب منه؛ فإنَّ الجنون فنونٌ، وكلُّ هذا منهم على وجه العناد والظُّلم، ولقد علموا أنه أصدقُ خلقِ الله وأعقلُهم، ومِنْ علمِهِم أنَّهم أبدووا وأعادوا في معاداتهم، وبذلوا أنفُسَهم وأموالَهم في صدِّ الناس عنه؛ فلو كان كاذباً مجنوناً؛ لم ينبغ لكم يا أهل العقول غير الزاكيةِ أن تُصْغوا لما قال ولا تحتَفِلوا بدعوتِهِ؛ فإنَّ المجنون لا ينبغي للعاقل أن يُلْفِتَ إليه نَظَرَه أو يبلغَ قولُهُ منه كلَّ مبلغ، ولولا عنادُكم وظلمُكم؛ لَبادَرْتُم لإجابته ولَبَّيْتُم دعوتَه، ولكن ما تُغني الآياتُ والنُّذر عن قوم لا يؤمنون،
ولهذا قال تعالى: {بل الذين لا يؤمنونَ بالآخرةِ}، ومنهم الذين قالوا تلك المقالَة
{في العذابِ والضَّلال البعيدِ}؛
أي: في الشقاء العظيم والضلال البعيدِ الذي ليس بقريبٍ من الصواب، وأيُّ شقاءٍ وضلال أبلغُ من إنكارِهم لقدرةِ الله على البعثِ، وتكذيِبِهم لرسولهم الذي جاء به، واستهزائِهِم به، وجزمِهِم بأنَّ ما جاؤوا به هو الحقُّ فرأوا الحقَّ باطلاً والباطل والضلال حقًّا وهدى؟!
#
{9} ثم نبَّههم على الدليل العقلي الدالِّ على عدم استبعاد البعث الذي استبعدوه، وأنَّهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، فرأوا من قدرة الله فيهما ما يُبْهِرُ العقول، ومن عظمتِهِ ما يُذْهِلُ العلماء الفحول، وأنَّ خلقَهما وعظمتَهما وما فيهما من المخلوقات أعظمُ من إعادة الناس بعد موتِهِم من قبورِهم؛ فما الحاملُ لهم على ذلك التكذيب مع التصديق بما هو أكبر منه؟! نعم؛ ذاك خبرٌ غيبيٌّ إلى الآن ما شاهدوه؛ فلذلك كذَّبوا به.
قال الله: {إن نَشَأ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرضَ أو نُسْقِطْ عليهم كِسَفاً من السماء}؛
أي: من العذاب؛ لأنَّ الأرض والسماء تحت تدبيرنا؛ فإنْ أمرناهما؛ لم يستعصيا؛ فاحذَروا إصرارَكم على تكذيبِكُم فنعاقِبَكُم أشدَّ العقوبة.
{إنَّ في ذلك}؛
أي: خلق السماواتِ والأرضِ وما فيهما من المخلوقات
{لآيةً لكلِّ عبدٍ منيبٍ}: فكلَّما كان العبدُ أعظم إنابةً إلى الله؛ كان انتفاعُه بالآياتِ أعظم؛ لأنَّ المنيبَ مقبلٌ إلى ربِّه، قد توجَّهت إرادتُه وهمَّاتُه لربِّه، ورجع إليه في كلِّ أمر من أموره، فصار قريباً من ربِّه، ليس له همٌّ إلاَّ الاشتغال بمرضاته، فيكون نظرُهُ للمخلوقات نظرَ فكرةٍ وعبرةٍ لا نظر غفلةٍ غير نافعةٍ.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}.
#
{10 ـ 11} أي: ولقد مَننا على عبدنا ورسولنا داود عليه الصلاة والسلام،
وآتيناه فضلاً من العلم النافع والعمل الصالح والنعم الدينيَّة والدنيويَّة: ومن نعمِهِ عليه:
ما خصَّه به من أمرِهِ تعالى الجمادات كالجبال والحيوانات من الطيور أن تؤوِّبَ معه وتُرَجِّعَ التسبيحَ بحمدِ ربِّها مجاوبةً له، وفي هذا من النعمة عليه أنْ كان ذلك من خصائصه التي لم تكنْ لأحدٍ قبلَه ولا بعدَه، وأنَّ ذلك يكون منهضاً له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجماداتِ والحيواناتِ تتجاوبُ بتسبيح ربِّها وتمجيدِهِ وتكبيرِهِ وتحميدِهِ؛ كان ذلك مما يُهيج على ذكر الله تعالى.
ومنها: أنَّ ذلك كما قال كثيرٌ من العلماء أنَّه طرباً بصوت داودَ؛ فإنَّ الله تعالى قد أعطاه من حُسن الصوت ما فاق به غيرَه، وكان إذا رجَّعَ التسبيحَ والتهليلَ والتمجيدَ بذلك الصوت الرخيم الشَّجِيِّ المطرِب؛ طربَ كلُّ مَنْ سَمِعَهُ من الإنس والجنِّ، حتى الطيور والجبال، وسبَّحت بحمدِ ربِّها.
ومنها: أنَّه لعله ليحصل له أجر تسبيحها، لأنه سبب ذلك، وتسبح تبعاً له.
ومن فضله عليه أن ألانَ له الحديدَ؛ ليعملَ الدروع السابغاتِ، وعلَّمه تعالى كيفيَّة صنعتِهِ؛ بأن يقدِّرَه في
{السردِ}؛
أي: يقدِّره حَلَقاً ويصنعُه كذلك ثم يُدْخِلُ بعضها ببعض،
قال تعالى: {وعلَّمْناه صنعةَ لَبوس لكم لِتُحْصِنَكُم من بأسِكُم فهل أنتم شاكرونَ}، ولمَّا ذَكَرَ ما امتنَّ به عليه وعلى آله؛ أمره بشكرِهِ وأن يَعْمَلوا صالحاً، ويراقِبوا الله تعالى فيه بإصلاحه وحفظِهِ من المفسداتِ؛ فإنَّه بصيرٌ بأعمالهم، مطَّلع عليها، لا يخفى عليه منها شيءٌ.
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)}.
#
{12} لمَّا ذَكَرَ فضلَه على داود عليه السلام؛ ذكر فضلَه على ابنه سليمان عليه الصلاة والسلام، وأنَّ الله سخَّر له الريح تجري بأمرِهِ وتحمِلُه وتحمِلُ جميعَ ما معه وتقطعُ المسافة البعيدةَ جدًّا في مدةٍ يسيرةٍ،
فتسير في اليوم مسيرة شهرين: {غدوُّها شهرٌ}؛
أي: أول النهار إلى الزوال،
{ورواحُها شهرٌ}: من الزَّوال إلى آخر النهار،
{وأسَلْنا له عَيْنَ القِطْرِ}؛
أي: سخَّرْنا له عينَ النُّحاس وسهَّلْنا له الأسباب في استخراج ما يُستخرج منها من الأواني وغيرها، وسخَّرَ اللهُ له أيضاً الشياطين والجنَّ لا يقدِرون أن يستعصوا عن أمرِهِ،
{ومن يَزِغْ منهم عن أمرِنا نُذِقْه من عذاب السعير}.
#
{13} وأعمالُهم ؛ كلُّ ما شاء سليمان عَمِلوه؛
{من محاريبَ}: وهو كلُّ بناءٍ يُعقد وتحكم به الأبنية؛ فهذا فيه ذكرُ الأبنية الفخمة.
{وتماثيلَ}؛
أي: صور الحيوانات والجمادات من إتقانِ صنعتهم، وقدرتِهِم على ذلك، وعملهم لسليمان.
{وجفانٍ كالجوابِ}؛
أي: كالبرك الكبار يعملونها لسليمان للطعام؛ لأنَّه يحتاجُ إلى ما لا يحتاج إليه غيره.
{و} يعملونَ له قدوراً
{راسياتٍ}: لا تُزالُ عن أماكِنِها من عِظَمِها، فلما ذكر مِنَّتَه عليهم؛ أمَرَهم بشكرها،
فقال: {اعْمَلوا آل داودَ}: وهم داودُ وأولادهُ وأهلُه؛ لأنَّ المنَّةَ على الجميع، وكثير من هذه المصالح عائدٌ لكلِّهم
{شُكراً}: لله على ما أعطاهم، ومقابلةً لما أولاهم.
{وقليلٌ من عبادي الشَّكورُ}: فأكثرُهم لم يشكُروا الله تعالى على ما أوْلاهم من نعمِهِ ودَفَعَ عنهم من النقم.
والشكرُ: اعترافُ القلب بمنَّةِ الله تعالى، وتلقِّيها افتقاراً إليها، وصرفُها في طاعة الله تعالى، وصونُها عن صرفها في المعصية.
#
{14} فلم يزل الشياطينُ يعملون لسليمانَ عليه الصلاة والسلامُ كلَّ بناءٍ، وكانوا قد موَّهوا على الإنس، وأخبروهم أنهم يعلمون الغيبَ، ويطَّلعون على المكنوناتِ، فأرادَ اللَّه تعالى أن يُرِيَ العبادَ كَذِبَهم في هذه الدعوى، فمكثوا يعملون على عملِهِم، وقضى الله الموتَ على سليمان عليه السلام، واتَّكأ على عصاه، وهي المنسأة، فصاروا إذا مروا به وهو متَّكئٌ عليها؛ ظنُّوه حيًّا وهابوه، فغدوا على عَمَلِهِم كذلك سنةً كاملةً على ما قيل، حتى سُلِّطَتْ دابةُ الأرض على عصاه، فلم تزل ترعاه حتى باد وسقط، فسقط سليمان، وتفرقتِ الشياطينُ وتبينتِ الإنسُ أنَّ الجنَّ
{لو كانوا يعلمونَ الغيبَ ما لَبِثوا في العذابِ المُهين}: وهو العملُ الشاقُّ عليهم؛ فلو علموا الغيبَ؛ لعلموا موتَ سليمان الذي هم أحرص شيءٍ عليه ليسلموا ممَّا هم فيه.
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}.
#
{15 ـ 19} سبأ قبيلةٌ معروفةٌ في أداني اليمن،
ومسكنُهم بلدةٌ يُقالُ لها: مأرِب، ومن نعم الله ولطفِهِ بالناس عموماً وبالعرب خصوصاً أنه قصَّ في القرآن أخبار المهلكين والمعاقَبين ممَّنْ كان يجاوِرُ العرب، ويشاهدُ آثاره، ويتناقلُ الناس أخبارَه؛ ليكونَ ذلك أدعى إلى التصديق وأقربَ للموعظة،
فقال: {لقد كان لسبأٍ في مسكنِهِم}؛
أي: محلِّهم الذي يسكنون فيه
{آيةٌ}: والآيةُ هنا ما أدرَّ الله عليهم من النعم، وصرف عنهم من النقم، الذي يقتضي ذلك منهم أن يَعْبُدوا الله ويشكُروه.
ثم فسَّرَ الآية بقوله: {جنَّتانِ عن يمينٍ وشمال}: وكان لهم وادٍ عظيمٌ تأتيه سيولٌ كثيرةٌ، وكانوا بنوا سدًّا محكماً يكون مجمعاً للماء، فكانت السيول تأتيه، فيجتمع هناك ماءٌ عظيمٌ، فيفرِّقونَه على بساتينهم التي عن يمين ذلك الوادي وشماله، وتُغِلُّ لهم تلك الجنتان العظيمتان من الثمار ما يكفيهم ويَحْصُلُ لهم به الغبطةُ والسرورُ،
فأمرهم الله بشكرِ نِعَمِهِ التي أدرَّها عليهم من وجوه كثيرة:
منها: هاتان الجنَّتان اللتان غالب أقواتهم منهما.
ومنها: أنَّ الله جعل بَلَدَهُم بلدةً طيبةً لحسن هوائها وقلَّة وَخَمِها وحصول الرزق الرغد فيها.
ومنها: أنَّ الله تعالى وَعَدَهم إن شكروه أن يغفرَ لهم ويرحَمَهم،
ولهذا قال: {بلدةٌ طيبةٌ وربٌّ غفورٌ}.
ومنها: أنَّ الله لما علم احتياجَهم في تجاراتِهِم ومكاسِبِهم إلى الأرض المباركة ـ الظاهرُ أنَّها قُرى صنعاء كما قاله غيرُ واحدٍ من السلف،
وقيل: إنَّها الشامُ ـ؛ هيَّأ لهم من الأسباب ما به يتيسَّر وصولُهم إليها بغايةِ السُّهولة من الأمن وعدم الخوف وتواصُل القرى بينهم وبينها؛ بحيثُ لا يكون عليهم مشقَّةٌ بحمل الزاد والمزاد،
ولهذا قال: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي بارَكْنا فيها قرىً ظاهرةً وقدَّرْنا فيها السيرَ}؛
أي: سيراً مقدراً يعرفونه ويحكمونَ عليه بحيث لا يتيهونَ عنه ليالي وأياماً.
{آمنينَ}؛
أي: مطمئنين في السير في تلك الليالي والأيام غير خائفينَ، وهذا من تمام نعمةِ الله عليهم أنْ أمَّنَهم من الخوف. فأعْرَضوا عن المنعِم وعن عبادتِهِ، وبَطِروا النعمةَ وملُّوها، حتى إنَّهم طلبوا وتمنَّوا أن تتباعد أسفارُهم بين تلك القرى التي كان السير فيها متيسراً.
{وظلموا أنْفُسَهم}: بكفرِهِم بالله وبنعمتِهِ، فعاقَبَهُمُ الله تعالى بهذه النعمة التي أطْغَتْهم، فأبادها عليهم، فأرسل عليها
{سيلَ العَرِم}؛
أي: السيل المتوعِّر الذي خَرَّبَ سدَّهم، وأتلف جناتهم، وخرَّبَ بساتينَهم، فتبدَّلت تلك الجناتُ ذات الحدائق المعجِبَة والأشجار المثمرة، وصار بَدَلَها أشجارٌ لا نفعَ فيها.
ولهذا قال: {وبدَّلْناهم بجنَّتَيْهم جنتينِ ذواتي أكُل}؛
أي: شيءٍ قليل من الأكل الذي لا يقع منهم موقعاً،
{خَمْطٍ وأثْلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليل}: وهذا كله شجرٌ معروفٌ، وهذا من جنس عملهم؛ فكما بدَّلوا الشكر الحسن بالكفر القبيح؛ بُدِّلُوا تلك النعمة بما ذكر.
ولهذا قال: {ذلك جَزَيْناهم بما كفروا وهل نُجازي إلاَّ الكفورَ}؛
أي: وهل نُجازي جزاء العقوبة ـ بدليل السياق ـ إلاَّ مَنْ كَفَرَ بالله وبَطِرَ النعمة؟! فلمَّا أصابَهم ما أصابَهم؛ تفرَّقوا وتمزَّقوا بعدما كانوا مجتمعينَ، وجَعَلَهُمُ الله أحاديثَ يُتَحَدَّث بهم وأسماراً للناس، وكان يُضْرَبُ بهم المثلُ،
فيقالُ: «تفرَّقوا أيدي سبأ»؛ فكلُّ أحدٍ يتحدَّث بما جرى لهم،
ولكنْ لا ينتفعُ بالعبرة فيهم إلاَّ مَنْ قال الله: {إنَّ في ذلك لآياتٍ لكلِّ صبارٍ شكورٍ}: صبَّارٍ على المكاره والشدائدِ، يتحمَّلُها لوجه الله، ولا يتسخَّطُها، بل يصبرُ عليها، شكورٍ لنعمة الله تعالى، يُقِرُّ بها، ويعترفُ، ويثني على من أولاها، ويصرِفُها في طاعته.
فهذا إذا سمع بقصَّتِهم وما جرى منهم وعليهم؛ عَرَفَ بذلك أنَّ تلك العقوبة جزاءٌ لكفرِهم نعمةَ الله، وأنَّ مَنْ فَعَلَ مثلهم؛ فُعِلَ به كما فُعِلَ بهم، وأنَّ شُكْرَ الله تعالى حافظٌ للنعمة دافعٌ للنقمة، وأنَّ رُسُلَ الله صادقون فيما أخبروا به، وأنَّ الجزاء حقٌّ كما رأى أنموذَجَه في دار الدنيا.
#
{20} ثم ذكر أنَّ قوم سبأ من الذين صَدَّقَ عليهم إبليسُ ظنَّه؛
حيث قال لربِّه: {فبعزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أجمعينَ. إلاَّ عبادَكَ منهم المُخْلَصينَ}: وهذا ظنٌّ من إبليس لا يقينٌ؛ لأنَّه لا يعلم الغيبَ ولم يأتِهِ خبرٌ من الله أنَّه سيُغْويهم أجمعين؛ إلاَّ من استثنى؛ فهؤلاء وأمثالهم ممَّنْ صدَّقَ عليه إبليسُ ظنَّه ودعاهم وأغواهم،
{فاتَّبَعوه إلاَّ فريقاً من المؤمنين}: ممَّنْ لم يكفرْ بنعمة الله؛ فإنَّه لم يدخُلْ تحتَ ظنِّ إبليس،
ويُحتمل أنَّ قصة سبأ انتهت عند قولِهِ: {إنَّ في ذلك لآياتٍ لكلِّ صبارٍ شكورٍ}.
ثم ابتدأ فقال: {ولقد صَدَّقَ عليهم}؛
أي: على جنس الناس، فتكون الآيةُ عامةً في كلِّ مَنِ اتَّبَعَهُ.
#
{21} ثم قال تعالى:
{وما كان له}؛
أي: لإبليس
{عليهم من سلطانٍ}؛
أي: تسلُّطٍ وقهرٍ وقسرٍ على ما يريده منهم، ولكنَّ حكمةَ الله تعالى اقتضت تسليطَه وتسويلَه لبني آدم؛
{لنعلم من يؤمنُ بالآخرة ممَّنْ هو منها في شكٍّ}؛
أي: ليقوم سوقُ الامتحان، ويُعْلَمَ به الصادقُ من الكاذب، ويُعْرَفَ مَنْ كان إيمانُه صحيحاً يثبتُ عند الامتحان والاختبار وإلقاءِ الشُّبَه الشيطانيَّةِ ممَّنْ إيمانُه غيرُ ثابتٍ يتزلزلُ بأدنى شبهةٍ ويزولُ بأقلِّ داع يدعوه إلى ضدِّه؛ فالله تعالى جعله امتحاناً يمتحن به عبادَه ويُظْهِرُ الخبيثَ من الطيب.
{وربُّك على كلِّ شيءٍ حفيظٌ}: يحفظُ العباد ويحفظُ عليهم أعمالهم، ويحفظُ تعالى جزاءَها؛ فيوفِّيهم إيَّاها كاملة موفرةً.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}.
#
{22 ـ 23} أي:
{قل}: يا أيها الرسولُ للمشركين بالله غيرَهُ من المخلوقاتِ التي لا تنفعُ ولا تضرُّ ملزماً لهم بعجزِها ومبيِّناً بطلان عبادتها:
{ادعوا الذينَ زعمتُم من دون الله}؛
أي: زعمتموهم شركاء لله إنْ كان دعاؤكم ينفعُ؛ فإنَّهم قد توفرتْ فيهم أسبابُ العجز وعدم إجابة الدعاء من كلِّ وجه؛ فإنَّهم ليس لهم أدنى ملك،
فلا يملكونَ مثقال ذرَّةٍ في السماوات والأرض: على وجه الاستقلال، ولا على وجه الاشتراك،
ولهذا قال: {وما لهم}؛
أي: لتلك الآلهة الذين زعمتم
{فيهما}؛
أي: في السماواتِ والأرض
{من شِرْكٍ}؛
أي: لا شركٌ قليل ولا كثيرٌ؛ فليس لهم ملكٌ ولا شركة ملك.
بقي أنْ يُقالَ: ومع ذلك؛ فقد يكونون أعواناً للمالك ووزراء له؛ فدعاؤهم يكون نافعاً؛ لأنَّهم بسبب حاجة الملك إليهم يقضون حوائج مَنْ تعلَّق بهم، فنفى تعالى هذه المرتبةَ،
فقال: {وما له}؛
أي: للَّه تعالى الواحد القهار
{منهم}؛
أي: من هؤلاء المعبودين
{من ظهيرٍ}؛
أي: معاونٍ ووزيرٍ يساعده على الملك والتدبير. فلم يبقَ إلاَّ الشفاعةُ،
فنفاها بقوله: {ولا تنفَعُ الشفاعةُ عنده إلا لِمَنْ أذِنَ له}: فهذه أنواع التعلُّقات التي يتعلَّقُ بها المشركون بأندادهم وأوثانهم من البشر والشجر والحجر وغيرهم، قَطَعَها الله وبيَّن بطلانَها تبييناً حاسماً لموادِّ الشرك قاطعاً لأصوله؛ لأنَّ المشرك إنَّما يدعو ويعبدُ غير الله؛ لما يرجو منه من النفع؛ فهذا الرجاء هو الذي أوجبَ له الشركَ؛ فإذا كان من يدعوه غير الله لا مالكاً للنفع والضرِّ ولا شريكاً للمالك ولا عوناً وظهيراً للمالك ولا يقدِرُ أن يَشْفَعَ بدون إذنِ المالك؛ كان هذا الدعاء وهذه العبادة ضلالاً في العقل باطلةً في الشرع، بل ينعكسُ على المشركِ مطلوبُه ومقصودُه؛ فإنَّه يريدُ منها النفع، فبيَّن الله بطلانه وعدمه، وبيَّن في آيات أُخَرَ ضررَها على عابديها ، وأنَّه يوم القيامةِ يكفرُ بعضُهم ببعض ويلعنُ بعضُهم بعضاً ومأواهم النارُ، وإذا حُشِرَ الناس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين.
والعجب أن المشرك استكبر عن الانقياد للرسل بزعمهم أنهم بشرٌ، ورضي أن يَعْبُدَ ويدعو الشجر والحجر، استكبر عن الإخلاص للملك الرحمن الديان،
ورضي بعبادةِ مَنْ ضَرُّهُ أقربُ من نفعِهِ طاعةً لأعدى عدوٍّ له وهو الشيطان!
وقوله: {حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبِهِم قالوا ماذا قال ربُّكُم قالوا الحقَّ وهو العليُّ الكبيرُ}: يُحتمل أنَّ الضمير في هذا الموضع يعودُ إلى المشركين؛ لأنهم مذكورون في اللفظ، والقاعدة في الضمائرِ أن تعودَ إلى أقرب مذكورٍ،
ويكونُ المعنى: إذا كان يوم القيامةِ وفُزِّع عن قلوب المشركين؛
أي: زال الفزع وسُئِلوا حين رجعت إليهم عقولُهم عن حالهم في الدُّنيا وتكذيبهم للحقِّ الذي جاءت به الرسل؛ أنَّهم يقرُّون أنَّ ما هم عليه من الكفر والشرك باطلٌ، وأنَّ ما قال الله وأخبرت به عنه رسلُه هو الحقُّ، فبدا لهم ما كانوا يُخفون من قبلُ، وعلموا أن الحقَّ لله، واعترفوا بذُنوبهم.
{وهو العليُّ}: بذاته فوقَ جميع المخلوقاتِ، وقهرُهُ لهم وعلوُّ قدره بما له من الصفات العظيمةِ جليلة المقدار.
{الكبيرُ}: في ذاته وصفاته، ومن علوِّه أنَّ حكمه تعالى يعلو، وتُذْعِنُ له النفوسُ، حتى نفوس المتكبرينَ والمشركينَ، وهذا المعنى أظهرُ، وهو الذي يدلُّ عليه السياق.
ويُحتمل أنَّ الضمير يعود إلى الملائكة، وذلك أنَّ الله تعالى إذا تكلَّم بالوحي؛ سمعتْه الملائكةُ فصُعِقوا وخرُّوا لله سجداً، فيكون أول من يرفعُ رأسهَ جبريلُ، فيكلِّمه الله من وحيه بما أراد؛ فإذا زال الصعقُ عن قلوب الملائكة وزال الفزعُ،
فيسأل بعضُهم بعضاً عن ذلك الكلام الذي صعقوا منه: ماذا قال ربُّكم؟
فيقولُ بعضُهم لبعض: قال الحقَّ: إمَّا إجمالاً لعلمهم أنه لا يقول إلاَّ حقًّا،
وإمَّا أن يقولوا: قال كذا وكذا ، للكلام الذي سمعوه منه، وذلك من الحقِّ. فيكون المعنى على هذا أنَّ المشركين الذين عبدوا مع الله تلك الآلهة التي وَصَفْنا لكم عجزها ونقصها وعدم نفعها بوجهٍ من الوجوه كيف صَدَفوا وصَرَفوا عن إخلاص العبادة للربِّ العظيم العليِّ الكبير الذي من عظمته وجلاله أنَّ الملائكة الكرام والمقرَّبين من الخلق يبلغ بهم الخضوعُ والصعقُ عند سماع كلامه هذا المبلغ، ويقرُّون كلُّهم لله أنَّه لا يقول إلاَّ الحقَّ؛ فما بال هؤلاءِ المشركين استكبروا عن عبادةِ مَنْ هذا شأنُه وعظمةُ ملكِهِ وسلطانِهِ؟! فتعالى العليُّ الكبيرُ عن شركِ المشركين وإفكِهِم وكذِبِهم.
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}.
#
{24} يأمر تعالى نبيَّه محمداً - صلى الله عليه وسلم -
أن يقولَ لمن أشركَ بالله ويسألَه عن صحةِ شركِهِ: {من يَرْزُقُكم من السمواتِ والأرضِ}: فإنَّهم لا بدَّ أن يُقرُّوا أنَّه الله، ولئنْ لم يقرُّوا؛ فَـ
{قُلِ اللهُ}: فإنَّك لا تجد من يدفعُ هذا القول. فإذا تبيَّن أنَّ الله وحده الذي يرزقُكم من السماواتِ والأرضِ ويُنْزِلُ لكم المطر ويُنْبِتُ لكم النباتَ ويفجِّرُ لكم الأنهارَ ويُطْلِعُ لكم من ثمار الأشجار وجعل لكم الحيواناتِ جميعَها لنفعِكُم ورزقِكُم؛ فلِمَ تعبدون معه من لا يرزُقُكم شيئاً ولا يفيدكم نفعاً؟
! وقوله: {وإنا أو إيَّاكم لعلى هدىً أو في ضلال مبينٍ}؛
أي: إحدى الطائفتين منَّا ومنكم على الهدى مستعليةٌ عليه، أو في ضلال بيِّنٍ منغمرةٌ فيه.
وهذا الكلام يقولُه من تبيَّن له الحقُّ واتَّضح له الصوابُ وجَزَمَ بالحقِّ الذي هو عليه وبطلانِ ما عليه خصمُه؛
أي: قد شرحنا من الأدلَّة الواضحة عندنا وعندكم ما به يُعْلَم علماً يقينيًّا لا شكَّ فيه مَن المحقُّ منا ومَن المبطلُ ومَن المهتدي ومن الضالُّ، حتى إنَّه يصير التعيينُ بعد ذلك لا فائدة فيه؛ فإنَّك إذا وازنتَ بين من يدعو إلى عبادة الخالقِ لسائر المخلوقات، المتصرِّفِ فيها بجميع أنواع التصرُّفات، المسدي جميع النعم، الذي رزقهم وأوصل إليهم كلَّ نعمة ودفع عنهم كلَّ نقمة، الذي له الحمدُ كلُّه والملكُ كلُّه وكلُّ أحدٍ من الملائكة فَمَنْ دونهم خاضعون لهيبته متذلِّلون لعظمته، وكلُّ الشفعاء تخافه، لا يشفعُ أحدٌ منهم عنده إلاَّ بإذنِهِ، العليُّ الكبيرُ في ذاتِهِ وأوصافِهِ وأفعالِهِ، الذي له كلُّ كمال وكلُّ جلال وكلُّ جمال وكلُّ حمد وثناء ومجدٍ، يدعو إلى التقرُّب لمن هذا شأنه، وإخلاص العمل له، وينهى عن عبادةِ مَنْ سواه، وبين من يتقرَّب إلى أوثان وأصنام وقبور لا تَخْلُقُ ولا ترزقُ ولا تملكُ لأنفسها ولا لِمَنْ عَبَدَها نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، بل هي جماداتٌ لا تعقل ولا تسمع دعاء عابديها، ولو سمعتْه؛ ما استجابت لهم، ويوم القيامةِ يكفُرون بشِرْكِهم ويتبرؤون منهم ويتلاعنون بينهم، ليس لهم قِسْطٌ من الملك، ولا شركة فيه ولا إعانة فيه، ولا لهم شفاعةٌ يستقلُّون بها دون الله؛ فهو يدعو من هذا وصفُهُ، ويتقرَّبُ إليه مهما أمكَنَه، ويعادي مَنْ أخلصَ الدين لله ويحاربُهُ، ويكذِّبُ رسل الله الذين جاؤوا بالإخلاص لله وحده؛
تبيَّنَ لك أيُّ الفريقين: المهتدي من الضالِّ والشقيِّ من السعيد، ولم يحتج إلى أن يعينَ لك ذلك؛ لأنَّ وصف الحال أوضح من لسان المقال.
#
{25} {قل} لهم:
{لا تُسْألونَ عمَّا أجْرَمْنا ولا نسألُ عما تَعْمَلونَ}؛
أي: كلٌّ منَّا ومنكم له عمله، أنتم لا تُسألون عن إجرامِنا وذنوبِنا لو أذْنَبْنا، ونحنُ لا نُسألُ عن أعمالكم؛ فليكن المقصودُ منَّا ومنكم طَلَبَ الحقائق وسلوكَ طريق الإنصاف، ودَعوا ما كُنَّا نعملُ، ولا يكنْ مانعاً لكم من اتِّباع الحقِّ؛ فإنَّ أحكام الدُّنيا تجري على الظواهر، ويُتَّبَعُ فيها الحقُّ ويُجْتَنَبُ الباطلُ، وأما الأعمال؛ فلها دارٌ أخرى يَحْكُمُ فيها أحكمُ الحاكمين، ويفصِلُ بين المختصمين أعدلُ العادلين.
#
{26} ولهذا قال:
{قل يَجْمَعُ بينَنا ربُّنا ثم يفتحُ بينَنا}؛
أي: يحكم بينَنا حكماً يتبيَّن به الصادقُ من الكاذب، والمستحقُّ للثواب من المستحقِّ للعقاب وهو خير الفاتحين.
#
{27} {قل}: لهم يا أيها الرسولُ،
ومَنْ ناب منابك: {أروني الذين ألحقتم به شركاءَ}؛
أي: أين هم؟ وأين السبيل إلى معرفتهم؟ وهل هم في الأرض أم في السماء؟
فإنَّ عالم الغيب والشهادة قد أخبرنا أنَّه ليس في الوجودِ له شريكٌ: {ويعبُدونَ من دون الله ما لا يضرُّهم ولا يَنْفَعُهم ويقولون هؤلاءِ شفعاؤُنا عند اللهِ قل أتنبِّئونَ الله بما لا يعلمُ ... } [الآية]،
{وما يتَّبِعُ الذين يدعونَ من دون الله شركاءَ؟ إنْ يتَّبِعونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنْ هم إلاَّ يَخْرُصونَ}، وكذلك خواصُّ خلقِهِ من الأنبياء والمرسلين لا يعلَمون له شريكاً؛ فيا أيُّها المشركون! أروني الذين ألحقتم بزعمكم الباطل بالله شركاء! وهذا السؤال لا يمكنهم الإجابةُ عنه،
ولهذا قال: {كلا}؛
أي: ليس للَّه شريكٌ ولا ندٌّ ولا ضدٌّ،
{بل هو اللهُ}: الذي لا يستحقُّ التألُّه والتعبُّد إلاَّ هو
{العزيزُ}: الذي قهر كلَّ شيء؛ فكلُّ ما سواه فهو مقهورٌ مسخَّر مدبَّر.
{الحكيمُ}: الذي أتقن ما خَلَقَه، وأحسنَ ما شَرَعَه، ولو لم يكنْ في حكمتِهِ في شرعِهِ إلاَّ أنَّه أمر بتوحيده وإخلاص الدين له، وأحبَّ ذلك وجعله طريقاً للنجاة، ونهى عن الشرك به واتِّخاذ الأندادِ من دونِهِ، وجَعَلَ ذلك طريقاً للشقاء والهلاك؛ لكفى بذلك برهاناً على كمال حكمتِهِ؛ فكيف وجميعُ ما أمر به ونهى عنه مشتملٌ على الحكمة؟!
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)}.
#
{28} يخبر تعالى أنَّه ما أرسل رسولَه - صلى الله عليه وسلم - إلا ليبشِّر جميع الناس بثواب الله، ويخبِرَهم بالأعمال الموجبة لذلك، وينذِرَهم عقاب الله، ويخبِرَهم بالأعمال الموجبة له؛ فليس لك من الأمر شيءٌ، وكلُّ ما اقْتَرَحَ عليك أهلُ التكذيب والعنادِ؛ فليس من وظيفتِكَ، إنَّما ذلك بيد الله تعالى.
{ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمونَ}؛
أي: ليس لهم علمٌ صحيحٌ، بل إمَّا جهالٌ أو معاندونَ لم يعملوا بعلمهم، فكأنَّهم لا علم لهم، ومن عدم علمِهِم جَعْلُهُم عدمَ الإجابة لما اقترحوه على الرسول موجباً لردِّ دعوته.
#
{29} فممَّا اقترحوه استعجالُهم العذابَ الذي أنْذَرَهم به،
فقال: {ويقولونَ متى هذا الوعدُ إن كنتُم صادقينَ}: وهذا ظلمٌ منهم؛ فأيُّ ملازمة بين صدقِهِ وبين الإخبار بوقت وقوعِهِ؟! وهل هذا إلاَّ ردٌّ للحقِّ وسفهٌ في العقل؟! أليس النذير في أمرٍ من أحوال الدُّنيا لو جاء قوماً يعلمون صدقَه ونُصحه ولهم عدوٌّ ينتهزُ الفرصة منهم ويعدُّ لهم،
فقال لهم: تركتُ عدوَّكم قد سار يريد اجتِياحَكُم واستئصالَكم؛
فلو قال بعضُهم: إن كنتَ صادقاً؛ فأخبِرْنا بأيَّةِ ساعةٍ يصل إلينا؟ وأين مكانَه الآن؟ فهل يعدُّ هذا القائل عاقلاً أم يُحكم بسفهِهِ وجنونِهِ؟! هذا والمخبر يمكن صدقُهُ وكذبُهُ، والعدوُّ قد يبدو له غيرهم وقد تنحلُّ عزيمته، وهم قد يكون بهم مَنَعَةٌ يدافعون بها عن أنفسهم؛ فكيفَ بمن كذَّبَ أصدقَ الخلقِ المعصوم في خبره، الذي لا ينطِقُ عن الهوى بالعذاب اليقين، الذي لا مَدْفَعَ له ولا ناصر منه، أليس ردُّ خبرِهِ بحجَّة عدم بيان وقت وقوعِهِ من أسفه السفه؟!
#
{30} {قل} لهم مخبراً بوقت وقوعِهِ الذي لا شكَّ فيه:
{لكم ميعادُ يوم لا تستأخِرونَ عنه ساعةً ولا تَسْتَقْدِمونَ}: فاحْذَروا ذلك اليوم وأعدُّوا له عدَّتَه.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)}.
#
{31} لما ذكر تعالى أنَّ ميعادَ المستعجلين بالعذابِ لابدَّ من وقوعه عند حلول أجله؛ ذكر هنا حالَهم في ذلك اليوم، وأنَّك لو رأيتَ حالَهم إذ وُقِفوا عند ربِّهم واجتمع الرؤساءُ والأتباعُ في الكفر والضَّلال؛ لرأيتَ أمراً عظيماً وهولاً جسيماً، ورأيت كيف يتراجع و
{يرجِعُ بعضُهم إلى بعضٍ القولَ}، فيقول
{الذين استُضْعِفوا}: وهم الأتباعُ،
{للذين استَكْبَروا}: وهم القادةُ:
{لولا أنتُم لَكُنَّا مؤمنينَ}: ولكنَّكُم حُلْتُم بيننا وبين الإيمان، وزيَّنْتُم لنا الكفرانَ ، فتبعناكم على ذلك، ومقصودُهم بذلك أن يكون العذابُ على الرؤساءِ دونهم.
#
{32} {قال الذين استَكْبَروا للذين استضعفوا}: مستفهمينَ لهم ومخبرينَ أنَّ الجميع مشتركون في الجُرم:
{أنحن صَدَدْناكم عن الهُدى بعد إذْ جاءَكُم}؛
أي: بقوَّتنا وقهرِنا لكم،
{بل كنتُم مجرمينَ}؛
أي: مختارين للإجرام، لستُم مقهورين عليه، وإن كُنَّا قد زَيَّنَّا لكُم؛ فما كان لنا عليكم من سلطان.
#
{33} فقال
{الذين استُضْعِفوا للذينَ استَكْبَروا بلْ مَكْرُ الليل والنهارِ إذْ تأمرونَنا أن نكفُرَ بالله ونجعلَ له أنداداً}؛
أي: بل الذي دهانا منكم ووصل إلينا من إضلالكم ما دبَّرْتُموه من المكر في الليل والنهار؛ إذْ تُحَسِّنون لنا الكفرَ وتدعوننا إليه،
وتقولون: إنَّه الحقُّ، وتقدحون في الحقِّ، وتهجِّنونَه وتزعمونَ أنَّه الباطلُ؛ فما زال مكرُكُم بنا وكيدُكُم إيَّانا حتى أغْوَيْتُمونا وفَتَنْتُمونا. فلم تُفِدْ تلك المراجعةُ بينَهم شيئاً إلاَّ تبرِّي بعضِهم من بعضٍ والندامةَ العظيمةَ،
ولهذا قال: {وأسرُّوا الندامةَ لما رأوا العذابَ}؛
أي: زال عنهم ذلك الاحتجاج الذي احتجَّ به بعضُهم لينجو من العذاب، وعلم أنَّه ظالمٌ مستحقٌّ له، فندم كلٌّ منهم غاية الندم، وتمنَّى أنْ لو كان على الحقِّ، وأنَّه ترك الباطل الذي أوصله إلى هذا العذاب، سرًّا في أنفسهم؛
لخوفهم من الفضيحة في إقرارهم على أنفسهم! وفي بعض مواقف القيامةِ وعند دخولِهِمُ النارَ يُظْهِرون ذلك الندمَ جهراً: {ويومَ يَعَضُّ الظالمُ على يَدَيْهِ يقولُ يا لَيْتَني اتَّخَذْتُ مع الرسول سَبيلاً. يا وَيْلَتى لَيْتَني لم أتَّخِذْ فُلاناً خليلاً ... } الآيات،
{وقالوا لو كُنَّا نَسْمَعُ أو نَعْقِلُ ما كنَّا في أصحابِ السعير. فاعترفوا بذَنْبِهِم فَسُحْقاً لأصحاب السَّعيرِ}.
{وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا}: يُغَلُّونَ كما يُغَلُّ المسجونُ الذي سيُهانُ في سجنه؛
كما قال تعالى: {إذِ الأغلالُ في أعناقِهِم والسلاسلُ يُسْحَبونَ في الحميم ثم في النارِ يُسْجَرونَ ... } الآيات.
{هل يُجْزَوْنَ}: في هذا العذاب والنَّكال وتلك الأغلال الثقال
{إلاَّ ما كانوا يَعْمَلونَ}: من الكفر والفسوق والعصيان.
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)}.
#
{34} يخبر تعالى عن حالة الأمم الماضية المكذِّبة للرسل أنَّها كحال هؤلاء الحاضرين المكذِّبين لرسولهم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأنَّ الله إذا أرسل رسولاً في قريةٍ من القرى؛ كفر به مُتْرَفوها، وأبطرتْهم نعمتُهم، وفخروا بها.
#
{35} {وقالوا نحنُ أكثرُ أموالاً وأولاداً}؛
أي: ممَّن اتَّبع الحقَّ،
{وما نحن بمعذَّبينَ}؛
أي: أولاً لسنا بمبعوثينَ؛ فإنْ بُعِثْنا؛ فالذي أعطانا الأموال والأولاد في الدنيا؛ سَيُعْطينا أكثر من ذلك في الآخرة، ولا يعذِّبُنا.
#
{36} فأجابهم اللهُ تعالى بأنَّ بَسْطَ الرزقِ وتضييقَه ليس دليلاً على ما زعمتُم؛ فإنَّ الرزق تحت مشيئةِ الله؛ إنْ شاءَ؛ بسطه لعبده، وإن شاء؛ ضيَّقَه.
#
{37} وليست الأموال والأولاد
{بالتي} تقرب إلى الله
{زُلْفى}: وتُدني إليه، وإنَّما الذي يقرِّبُ منه زلفى الإيمان بما جاء به المرسلونَ والعملُ الصالح الذي هو من لوازم الإيمان؛ فإنَّ أولئك لهم الجزاء عند الله تعالى مضاعفاً الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرة لا يعلمُها إلاَّ الله.
{وهم في الغُرُفاتِ آمنونَ}؛
أي: في المنازل العاليات المرتفعات جدًّا، ساكنين فيها مطمئنِّين، آمنون من المكدِّرات والمنغِّصات لما هم فيه من اللذَّات وأنواع المشتَهَياتِ، وآمنون من الخروج منها والحزن فيها.
#
{38} وأما الذين سعوا في آياتنا على وجه التعجيز لنا ولرسلنا والتكذيب؛
{أولئك في العذاب مُحْضَرونَ}.
#
{39} ثم أعادَ تعالى أنه
{يَبْسُطُ الرزقَ لِمَن يشاءُ مِنْ عبادِه ويَقْدِرُ له}: ويَقْدِرُ له ليرتِّبَ عليه قوله:
{وما أنفَقْتُم من شيء}: نفقةً واجبةً أو مستحبَّةً على قريب أو جارٍ أو مسكينٍ أو يتيم أو غير ذلك،
{فهو} تعالى
{يُخْلِفُهُ}: فلا تتوهَّموا أنَّ الإنفاق مما يُنْقِصُ الرزق، بل وعد بالخلف للمنفق الذي يبسط الرزق لمن يشاءُ ويَقْدِرُ.
{وهو خيرُ الرازقينَ}: فاطلُبوا الرزقَ منه، واسعَوْا في الأسبابِ التي أمَرَكم بها.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}.
#
{40 ـ 41} {ويوم يحشُرُهم جميعاً}؛
أي: العابدين لغير الله والمعبودين من دونه من الملائكةِ،
{ثم يقولُ}: الله
{للملائكةِ}: على وجه التوبيخ لِمَنْ عَبَدَهم:
{أهؤلاء إيَّاكُم كانوا يعبدونَ}؟ فتبرؤوا من عبادتهم و
{قالوا سبحانَكَ}؛
أي: تنزيهاً لك وتقديساً أنْ يكونَ لك شريكٌ أو ندٌّ،
{أنت وَلِيُّنا من دونِهِم}: فنحن مفتقِرونَ إلى ولايتك، مضطرُّون إليها؛ فكيف ندعو غيرنا إلى عبادتنا؟ أم كيف نَصْلُحُ لأن نُتَّخَذَ من دونك أولياءَ وشركاءَ، ولكنْ هؤلاء المشركون
{كانوا يَعْبُدون الجنَّ}؛
أي: الشياطين، يأمرونَهم بعبادتِنا أو عبادة غيرنا، فيطيعونَهم بذلك، وطاعتُهم هي عبادتُهم؛ لأنَّ العبادة الطاعة؛
كما قال تعالى مخاطباً لكلِّ من اتَّخذ معه آلهة: {ألم أعْهَدْ إليكُم يا بني آدم أنْ لا تَعْبُدوا الشيطانَ إنَّه لكم عدوٌّ مبينٌ. وأنِ أعْبُدوني هذا صراطٌ مستقيمٌ}.
{أكْثَرُهم بهم مؤمنونَ}؛
أي: مصدِّقون للجنِّ منقادون لهم؛ لأنَّ الإيمانَ هو التصديقُ الموجِبُ للانقياد.
#
{42} فلما تبرؤوا منهم؛
قال تعالى مخاطباً لهم: {فاليوم لا يملِكُ بعضُكُم لبعضٍ نفعاً ولا ضَرًّا}: تقطَّعت بينكم الأسبابُ، وانقطع بعضُكم من بعض،
{ونقولُ للذين ظلموا}: بالكفر والمعاصي بعدما ندخِلُهُمُ النارَ:
{ذوقوا عذابَ النارِ التي كنتُم بها تكذِّبون}: فاليوم عايَنْتُموها ودخَلْتُموها جزاءً لتكذيبكم وعقوبةً لما أحدثه ذلك التكذيبُ من عدم الهربِ من أسبابها.
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)}.
#
{43} يخبر تعالى عن حالةِ المشركين عندما تُتلى عليهم آياتُ اللَّه البيناتُ وحججُه الظاهراتُ وبراهينُه القاطعاتُ، الدالةُ على كل خير، الناهيةُ عن كلِّ شرٍّ، التي هي أعظمُ نعمةٍ جاءتهم ومنَّةٍ وصلتْ إليهم، الموجبة لمقابلتها بالإيمان والتصديق والانقياد والتسليم،
أنَّهم يقابِلونَها بضدِّ ما ينبغي ويكذِّبونَ مَنْ جاءهم بها ويقولونَ: {ما هذا إلاَّ رجلٌ يريدُ أن يَصُدَّكُم عما كان يعبدُ آباؤُكم}؛
أي: هذا قصدُه حين يأمُرُكم بالإخلاص لله لتتركوا عوائدَ آبائِكُم الذين تعظِّمون وتمشون خلفَهم، فردُّوا الحقَّ بقول الضالِّين، ولم يوردوا برهاناً ولا شبهةً؛ فأيُّ شبهة إذا أمرتِ الرسلُ بعضَ الضالِّين باتِّباع الحقِّ فادَّعَوْا أنَّ إخوانهم الذين على طريقتهم لم يزالوا عليه؟! وهذه السفاهة وردُّ الحقِّ بأقوال الضالين إذا تأملتَ كلَّ حقٍّ رُدَّ؛ فإذا هذا مآلُه، لا يُرَدُّ إلاَّ بأقوال الضالِّين من المشركين والدَّهريين والفلاسفة والصابئين والملحدين في دين الله المارقين؛ فهم أسوةُ كلِّ من رَدَّ الحقَّ إلى يوم القيامةِ.
ولمَّا احتجُّوا بفعل آبائِهِم وجعلوها دافعةً لما جاءت به الرسل؛ طعنوا بعد هذا بالحقِّ،
{وقالوا ما هذا إلا إفكٌ مفترىً}؛
أي: كذبٌ افتراه هذا الرجلُ الذي جاء به،
{وقال الذينَ كفروا للحقِّ لمَّا جاءهم إنْ هذا إلاَّ سحرٌ مبينٌ}؛
أي: سحرٌ ظاهرٌ بيِّنٌ لكلِّ أحدٍ؛ تكذيباً بالحقِّ وترويجاً على السفهاء.
#
{44} ولمَّا بيَّن ما ردُّوا به الحقَّ، وأنَّها أقوالٌ دون مرتبة الشُّبهة، فضلاً أن تكون حجَّةً؛ ذكر أنَّهم وإنْ أراد أحدٌ أن يحتجَّ لهم؛ فإنَّهم لا مستند لهم ولا لهم شيءٌ يعتمدونَ عليه أصلاً،
فقال: {وما آتَيْناهم من كتبٍ يدرسونَها}: حتى تكون عمدةً لهم،
{وما أرسَلْنا إليهم قبلَكَ من نذيرٍ}: حتى يكونَ عندَهم من أقوالِهِ وأحوالِهِ ما يدفعون به ما جئتَهم به؛ فليس عندهم علمٌ ولا أثارَةٌ من علم.
#
{45} ثم خوَّفَهم ما فَعَلَ بالأمم المكذبين قبلَهم،
فقال: {وكَذَّبَ الذين من قبلِهِم وما بَلَغوا}؛
أي: ما بلغ هؤلاء المخاطَبون
{معشارَ ما آتَيْناهم فكذَّبوا}؛
أي: الأمم الذين من قبلهم
{رسلي فكيف كان نكيرِ}؛
أي: إنكاري عليهم وعقوبتي إيَّاهم، قد أَعْلَمَنَا ما فَعَلَ بهم من النَّكال، وأنَّ منهم من أغرقه، ومنهم من أهلكه بالريح العقيم وبالصيحة وبالرجفة وبالخسف بالأرض وبإرسال الحاصِبِ من السماء؛ فاحذَروا يا هؤلاءِ المكذِّبون أن تدوموا على التكذيبِ، فيأخُذَكُم كما أخَذَ مَنْ قبلَكم ويصيبُكم ما أصابَهم.
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}.
#
{46} أي:
{قل}: يا أيُّها الرسولُ لهؤلاء المكذِّبين المعاندين المتصدِّين لردِّ الحقِّ وتكذيبِهِ والقدح بِمَنْ جاء به:
{إنَّما أعِظُكم بواحدةٍ}؛
أي: بخصلةٍ واحدةٍ أشيرُ عليكم بها وأنصحُ لكم في سلوكها، وهي طريقٌ نَصَفٌ، لست أدعوكم بها إلى اتِّباع قولي ولا إلى ترك قولِكُم من دون موجبٍ لذلك،
وهي: {أن تقوموا للهِ مثنى وفرادى}؛
أي: تنهضوا بهمَّةٍ ونشاطٍ وقصدٍ لاتِّباع الصواب وإخلاصٍ لله مجتمعين ومتباحِثين في ذلك ومتناظرين وفرادى، كلُّ واحدٍ يخاطِبُ نفسَه بذلك؛ فإذا قُمتم لله مثنى وفرادى؛
استعملتُم فِكْرَكُم وأجَلْتُموه وتدبَّرْتُم أحوال رسولِكُم: هل هو مجنونٌ فيه صفاتُ المجانين من كلامِهِ وهيئتِهِ وصفتِهِ؟ أم هو نبيٌّ صادقٌ منذرٌ لكم ما يضرُّكم مما أمامكم من العذاب الشديد؟ فلو قبلوا هذه الموعظةَ واستعملوها؛ لتبيَّن لهم أكثر من غيرهم أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بمجنونٍ؛ لأنَّ هيئاته ليست كهيئات المجانين في خنقهم واختلاجهم ونظرهم، بل هيئتُهُ أحسنُ الهيئات، وحركاتُهُ أجلُّ الحركات، وهو أكمل الخلق أدباً وسكينةً وتواضعاً ووقاراً، لا يكون إلاَّ لأرزن الرجال عقلاً.
ثم إذا تأمَّلوا كلامَه الفصيحَ ولفظَه المليحَ وكلماتِهِ التي تملأ القلوب أمناً وإيماناً وتزكِّي النفوس وتطهِّرُ القلوب وتبعثُ على مكارم الأخلاق وتحثُّ على محاسن الشِّيَم وترهِّبُ عن مساوئ الأخلاق ورذائِلِها، إذا تكلَّم؛ رَمَقَتْهُ العيونُ هيبةً وإجلالاً وتعظيماً؛ فهل هذا يشبِهُ هَذَيان المجانين وعربَدَتَهم وكلامَهم الذي يشبِهُ أحوالَهم؟
! فكلُّ من تدبَّر أحوالَه وقصده استعلام: هل هو رسولُ الله أم لا؟ سواء تفكَّر وحدَه أم معه غيرُهُ؛ جزم بأنه رسولُ الله حقًّا ونبيُّه صدقاً، خصوصاً المخاطبين، الذي هو صاحبُهم، يعرفون أول أمرِهِ وآخرَه.
#
{47} وثَمَّ مانعٌ للنفوس آخرُ عن اتِّباع الداعي إلى الحقِّ، وهو أنه يأخذُ أموال مَن يستجيبُ له ويأخذُ أجرةً على دعوتِهِ، فبيَّن الله تعالى نزاهةَ رسوله عن هذا الأمر،
فقال: {قل ما سألتُكُم من أجرٍ}؛
أي: على اتِّباعكم للحقِّ
{فهو لكم}؛
أي: فأشهدكم أنَّ ذلك الأجر على التقدير أنَّه لكم.
{إنْ أجرِيَ إلاَّ على الله وهو على كلِّ شيءٍ شهيدٌ}؛
أي: محيطٌ علمهُ بما أدعو إليه؛ فلو كنتُ كاذباً؛ لأخذني بعقوبته، وشهيدٌ أيضاً على أعمالِكم، سيحفظُها عليكم ثم يجازيكم بها.
#
{48} ولمَّا بيَّنَ البراهينَ الدالةَ على صحة الحقِّ وبطلان الباطل؛ أخبر تعالى أنَّ هذه سنَّتُه وعادته أن يَقْذِف بالحقِّ على الباطل فيدمَغَهُ فإذا هو زاهقٌ؛ لأنَّه بيَّن من الحقِّ في هذا الموضع وردَّ به أقوالَ المكذِّبين ما كان عبرةً للمعتبرين وآيةً للمتأملين؛ فإنَّك كما ترى كيف اضمحلَّتْ أقوالُ المكذِّبين، وتبيَّن كذِبُهم وعنادُهم، وظهر الحقُّ وسطع، وبطل الباطلُ وانقمعْ، وذلك بسبب بيان
{عَلاَّم الغُيوبِ}، الذي يعلم ما تنطوي عليه القلوبُ من الوساوس والشُّبه، ويعلم ما يقابِلُ ذلك ويدفعُه من الحُجج، فيعلِّم بها عبادَه، ويبيِّنُها لهم.
#
{49} ولهذا قال:
{قل جاء الحقُّ}؛
أي: ظهر وبان وصار بمنزلة الشمس وظَهَرَ سلطانُه،
{وما يُبدِئُ الباطل وما يعيدُ}؛
أي: اضمحلَّ وبطل أمرُه وذهب سلطانُه؛ فلا يُبدئ ولا يُعيدُ.
#
{50} ولما تبيَّن الحقُّ بما دعا إليه الرسولُ، وكان المكذِّبونَ له يرمونَه بالضَّلال؛ أخبرهم بالحقِّ، ووضَّحه لهم وبيَّن لهم عَجْزَهُم عن مقاومتِهِ، وأخبرَهَم أنَّ رميَهم له بالضلال ليس بضائرٍ الحقَّ شيئاً ولا دافع ما جاء به، وأنَّه إنْ ضلَّ ـ وحاشاه من ذلك، لكن على سبيل التنزُّلِ في المجادلة ـ؛ فإنَّما يَضِلُّ على نفسِهِ؛
أي: ضلالُه قاصرٌ على نفسه، غيرُ متعدٍّ إلى غيرِهِ،
{وإنِ اهتديتُ}: فليس ذلك من نفسي وحولي وقوَّتي، وإنَّما هدايتي بما
{يوحي إليَّ ربي}: فهو مادة هدايتي؛ كما هو مادةُ هداية غيري؛ إنَّ ربِّي سميعٌ للأقوال والأصواتِ كلِّها، قريبٌ ممَّن دعاه وسأله وعَبَدَهُ.
{وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}.
#
{51} يقول تعالى:
{ولو ترى}: أيُّها الرسولُ ومَنْ قام مقامَكَ حالَ هؤلاء المكذِّبين
{إذْ فَزِعوا}: حين رأوا العذابَ وما أخبرتْهم به الرسلُ وما كذَّبوا به؛ لرأيتَ أمراً هائلاً ومنظراً مفظِعاً وحالةً منكرةً وشدَّةً شديدةً، وذلك حين يحقُّ عليهم العذابُ، وليس لهم عنه مهربٌ ولا فوتٌ،
{وأخِذوا من مكانٍ قريبٍ}؛
أي: ليس بعيداً عن محلِّ العذاب، بل يُؤخَذون ثم يُقْذَفون في النار.
#
{52} {وقالوا}: في تلك الحال: آمنَّا باللهِ، وصدَّقْنا ما به كذَّبْنا،
{و} لكنْ
{أنَّى لهم التَّناوُشُ}؛
أي: تناولُ الإيمان،
{من مكانٍ بعيدٍ}: قد حيل بينَهم وبينَه، وصار من الأمورِ المُحالة في هذه الحالة.
#
{53} فلو أنَّهم آمنوا وقتَ الإمكان؛ لكان إيمانُهم مقبولاً، ولكنَّهم
{كفروا به من قبلُ ويَقْذِفُونَ}؛
أي: يرمون
{بالغيبِ من مكانٍ بعيد}: بقذفهم الباطل لِيُدْحِضوا به الحقَّ، ولكن لا سبيل إلى ذلك؛ كما لا سبيل للرامي من مكانٍ بعيد إلى إصابةِ الغرضِ؛ فكذلك الباطلُ من المُحال أن يغلبَ الحقَّ أو يدفَعَه، وإنَّما يكون له صولةٌ وقتَ غفلةِ الحقِّ عنه، فإذا برزَ الحقُّ وقاوم الباطلَ؛ قمعه.
#
{54} {وحِيل بينَهم وبينَ ما يَشْتهونَ}: من الشهواتِ واللَّذَّاتِ والأولاد والأموال والخدم والجنودِ، قد انفردوا بأعمالِهِم، وجاؤوا فرادى كما خُلِقوا وتَركَوا ما خُوِّلوا وراءَ ظهورهم،
{كما فعل بأشياعِهِم}: من الأمم السابقين حين جاءهم الهلاك حيل بينَهم وبينَ ما يشتهون.
{إنَّهم كانوا في شكٍّ مريبٍ}؛
أي: مُحْدِث الرِّيبة وقلق القلب؛ فلذلك لم يؤمِنوا، ولم يعتَبوا حين استُعْتِبوا.
تم تفسير سورة سبأ.
ولله الحمد والمنَّة والفضل، ومنه العون، وعليه التوكُّل، وبه الثقة.