المجلد السادس من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان
من منن الله على عبده وابن عبده وابن أمته عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي
وهي مكية
{طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَامُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)}.
#
{2} {تلك} الآيات المستحقَّة للتعظيم والتفخيم،
{آياتُ الكتابِ المبين}: لكلِّ أمرٍ يحتاج إليه العباد؛ من معرفة ربِّهم، ومعرفة حقوقه، ومعرفة أوليائِهِ وأعدائِهِ، ومعرفة وقائعه وأيامه، ومعرفة ثواب الأعمال وجزاء العمَّال؛ فهذا القرآن قد بيَّنَها غايةَ التَّبيين، وجَلاَّها للعباد، ووضَّحها.
#
{3} من جملة ما أبانَ، قصَّةُ موسى وفرعونَ؛ فإنَّه أبداها وأعادها في عدَّة مواضع، وبسطها في هذا الموضع،
فقال: {نتلو عليك من نبأ موسى وفرعونَ بالحقِّ}: فإنَّ نبأهما غريبٌ وخبرهما عجيبٌ،
{لقوم يؤمنونَ}: فإليهم يُساق الخطابُ ويوجَّه الكلام؛ حيث إنَّ معهم من الإيمان ما يُقْبِلونَ به على تدبُّر ذلك وتلقِّيه بالقَبول والاهتداء بمواقع العِبَرِ، ويزدادون به إيماناً ويقيناً وخيراً إلى خيرهم، وأما مَن عداهم؛ فلا يستفيدونَ منه إلاَّ إقامة الحجَّة عليهم، وصانه الله عنهم، وجعل بينهم وبينه حجاباً أن يفقهوه.
#
{4} فأول هذه القصَّة:
{إنَّ فرعون علا في الأرض}: في ملكه وسلطانِهِ وجنودِهِ وجبروتِهِ، فصار من أهل العلوِّ فيها، لا من الأعْلَيْن فيها،
{وجعل أهلها شِيَعاً}؛
أي: طوائف متفرِّقة يتصرَّف فيهم بشهوته وينفِّذ فيهم ما أراد من قهره وسطوته،
{يستضعِفُ طائفةً منهم}: وتلك الطائفةُ هم بنو إسرائيل، الذين فضَّلهم الله على العالمين، الذي ينبغي له أن يكرِمَهم ويجلَّهم، ولكنه استضعفهم بحيثُ إنه رأى أنَّهم لا مَنَعَةَ لهم تمنعُهم مما أراده فيهم، فصار لا يُبالي بهم ولا يهتمُّ بشأنهم، وبلغت به الحال إلى أنَّه
{يُذَبِّح أبناءهم ويَسْتَحيي نساءهم}: خوفاً من أن يكثرُوا فيغمروه في بلاده، ويصير لهم الملك.
{إنَّه كان من المفسدين}: الذين لا قصدَ لهم في صلاح الدين ولا صلاح الدُّنيا. وهذا من إفساده في الأرض.
#
{5} {ونريدِ أن نَمُنَّ على الذين استُضْعِفوا في الأرضِ}: بأن نُزيلَ عنهم موادَّ الاستضعاف ونُهْلِكَ من قاوَمَهم ونخذل من ناوأهم،
{ونَجْعَلَهم أئمَّةً} في الدين، وذلك لا يحصُلُ مع الاستضعاف، بل لابدَّ من تمكينٍ في الأرض، وقدرةٍ تامَّةٍ،
{ونجعلهم الوارثين}: للأرض، الذين لهم العاقبة في الدنيا قبل الآخرة.
#
{6} {ونمكِّن لهم في الأرض}: فهذه الأمور كلُّها قد تعلَّقت بها إرادة الله وجرتْ بها مشيئتُه.
{و}: كذلك نريد أن
{نُرِيَ فرعون وهامان}: وزيره
{وجنودَهما}: التي بها صالوا، وجالوا وعَلَوا وبَغَوا،
{منهم}؛
أي: من هذه الطائفة المستضعفة
{ما كانوا يَحْذَرونَ}: من إخراجِهم من ديارهم، ولذلك كانوا يسعَوْن في قمعهم وكسر شوكتهم وتقتيل أبنائهم الذين هم محلُّ ذلك؛ فكل هذا قد أراده الله، وإذا أراد أمراً؛ سهَّل أسبابه ونَهَّجَ طرقه، وهذا الأمر كذلك؛ فإنَّه قدَّر وأجرى من الأسباب ـ التي لم يشعرْ بها لا أولياؤه ولا أعداؤه ـ ما هو سببٌ موصلٌ إلى هذا المقصود.
#
{7} فأول ذلك لما أوجدَ الله رسولَه موسى الذي جَعَلَ استنقاذَ هذا الشعب الإسرائيليِّ على يديه وبسببه، وكان في وقت تلك المخافة العظيمة التي يذبِّحون بها الأبناء، أوحى إلى أمِّه أن ترضِعَه ويمكثَ عندها،
{فإذا خِفْتِ عليه}: بأن أحسستِ أحداً تخافين عليه منه أن يوصِلَه إليهم،
{فألقيه في اليمِّ}؛
أي: نيل مصر، في وسط تابوتٍ مغلق،
{ولا تخافي ولا تحزني إنَّا رادُّوه إليك وجاعلوه من المرسلينَ}: فبشَّرها بأنَّه سيردُّه عليها وأنه سيكبر ويَسْلَم من كيدِهم ويجعلُه الله رسولاً، وهذا من أعظم البشائر الجليلة. وتقديم هذه البشارة لأمِّ موسى ليطمئنَّ قلبُها، ويسكنَ رَوْعُها.
#
{8} فكأنَّها خافتْ عليه، وفعلتْ ما أمِرَت به، ألقته في اليمِّ، وساقه الله تعالى، حتى التقطه
{آلُ فرعون}: فصار من لَقْطِهم، وهم الذين باشروا وُجْدانَه؛
{ليكون لهم عدوًّا وحَزَناً}؛
أي: لتكون العاقبةُ والمآلُ من هذا الالتقاط أن يكون عدوًّا لهم وحَزَناً يَحْزُنُهم؛ بسبب أنَّ الحذر لا ينفع من القدر، وأنَّ الذي خافوا منه من بني إسرائيل قيَّض الله أن يكونَ زعيمُهم يتربَّى تحت أيديهم وعلى نظرِهم وبكفالَتهم.
وعند التدبُّر والتأمُّل تجدُ في طيِّ ذلك من المصالح لبني إسرائيل ودفع كثيرٍ من الأمور الفادحة بهم ومنع كثيرٍ من التعدِّيات قبلَ رسالته؛ بحيث إنَّه صار من كبار المملكة، وبالطبع لا بدَّ أن يحصُلَ منه مدافعةٌ عن حقوق شعبِهِ، هذا وهو هو ذو الهمة العالية والغيرة المتوقِّدة، ولهذا وصلتِ الحالُ بذلك الشعب المستضعف ـ الذي بلغ بهم الذُّلُّ والإهانةُ إلى ما قصَّ الله علينا بعضَه ـ أنْ صار بعضُ أفراده ينازِعُ ذلك الشعبَ القاهرَ العالي في الأرض كما سيأتي بيانُهُ، وهذا مقدِّمهٌ للظُّهور؛ فإن الله تعالى من سنَّته الجارية أن جعل الأمور تمشي على التدريج شيئاً فشيئاً، ولا تأتي دفعةً واحدة.
وقوله: {إن فرعونَ وهامانَ وجنودَهما كانوا خاطِئينَ}؛
أي: فأرَدْنا أن نعاقِبهما على خطئهما، ونكيدهم جزاءً على مكرهم وكيدهم.
#
{9} فلما التَقَطَهُ آلُ فرعون؛ حنَّن اللهُ عليه امرأة فرعون الفاضلة الجليلة المؤمنة آسية بنت مزاحم،
{وقالت}: هذا الولدُ
{قُرَّةُ عينٍ لي ولكَ لا تَقْتُلوهُ}؛
أي: أبقِهِ لنا لِتَقَرَّ به أعينُنا، ونُسَرَّ به في حياتنا،
{عسى أن يَنفَعَنا أو نَتَّخِذَه ولداً}؛
أي: لا يخلو: إمَّا أن يكونَ بمنزلة الخدم الذين يَسْعَونَ في نفعنا وخدمتنا، أو نرقِّيه درجةً أعلى من ذلك؛ نجعلُهُ ولداً لنا ونكرِمُه ونُجِلُّه. فقدَّر الله تعالى أنَّه نَفَعَ امرأةَ فرعونَ التي قالت تلك المقالة؛ فإنَّه لما صار قُرَّةَ عينٍ لها وأحبَّتْه حبًّا شديداً، فلم يزلْ لها بمنزلة الولد الشفيق، حتى كَبُرَ، ونبَّأه الله، وأرسلَه، فبادرتْ إلى الإسلام والإيمان به، رضي الله عنها، وأرضاها. قال الله تعالى
[عن] هذه المراجعاتِ والمقاولاتِ في شأن موسى:
{وهم لا يشعرونَ}: ما جرى به القلمُ، ومضى به القدرُ من وصولِهِ إلى ما وَصَلَ إليه. وهذا من لطفِهِ تعالى؛ فإنَّهم لو شَعَروا؛ لكان لهم وله شأنٌ آخر.
#
{10} ولما فقدتْ موسى أمُّه حزنت حزناً شديداً، وأصبحَ فؤادُها فارغاً من القلق الذي أزعجها على مقتضى الحالة البشريَّة، مع أنَّ الله تعالى نهاها عن الحزن والخوف، ووعدها بردِّه.
{إن كادَتْ لَتُبْدي به}؛
أي: بما في قلبها
{لولا أن رَبَطْنا على قَلْبها}: فثبَّتْناها، فصبرتْ ولم تُبْدِ به؛
{لتكونَ}: بذلك الصبر والثبات
{من المؤمنينَ}: فإنَّ العبد إذا أصابتْه مصيبةٌ فصبر وثبتَ؛ ازداد بذلك إيمانُه، ودلَّ ذلك على أنَّ استمرار الجزع مع العبد دليلٌ على ضعف إيمانه.
#
{11} {وقالت} أمُّ موسى
{لأختِهِ قُصِّيهِ}؛
أي: اذهبي فقُصِّي الأثرَ عن أخيك، وابحثي عنه؛ من غيرِ أن يُحِسَّ بك أحدٌ أو يشعروا بمقصودِك، فذهبتْ تقصُّه،
{فبَصُرَتْ به عن جُنُبٍ وهم لا يَشْعُرونَ}؛
أي: أبصرتْه على وجهٍ كأنَّها مارةٌ لا قصدَ لها فيه، وهذا من تمام الحزم والحذرِ؛ فإنَّها لو أبصرتْه وجاءتْ إليهم قاصدةً؛ لظنُّوا بها أنها هي التي ألقتْه، فربَّما عزموا على ذبحِهِ عقوبةً لأهله.
#
{12} ومن لُطْفِ الله بموسى وأمه أنْ مَنَعَه من قَبول ثدي امرأةٍ، فأخرجوه إلى السوقِ رحمةً به، ولعل أحداً يطلبُهُ، فجاءت أختُه وهو بتلك الحال،
{فقالتْ هل أدُلُّكُم على أهل بيتٍ يَكْفُلونَه لكم وهُم له ناصحونَ}: وهذا جُلُّ غرضِهم؛ فإنَّهم أحبُّوه حبًّا شديداً، وقد منعَهُ اللهُ من المراضع، فخافوا أن يموتَ.
#
{13} فلما قالت لهم أختُه تلكَ المقالَة المشتملةَ على الترغيب في أهل هذا البيت بتمام حفظِهِ وكفالتِهِ والنُّصح له؛ بادروا إلى إجابتها، فأعْلَمَتْهم ودلَّتْهم على أهل هذا البيت.
{فَرَدَدْناه إلى أمِّه}: كما وَعَدْناها بذلك؛
{كي تَقَرَّ عينُها ولا تَحْزَنَ}: بحيث إنَّه تربَّى عندَها على وجهٍ تكون فيه آمنةً مطمئنةً تفرحُ به وتأخذُ الأجرة الكثيرة على ذلك،
{ولِتَعْلَمَ أنَّ وعدَ الله حقٌّ}: فأريْناها بعضَ ما وَعَدْناها به عياناً ليطمئنَّ بذلك قلبُها ويزدادَ إيمانُها، ولِتَعْلَمَ أنَّه سيحصُلُ وعدُ الله في حفظِهِ ورسالتِهِ.
{ولكنَّ أكثرهم لا يعلمونَ}: فإذا رأوا السبب متشوِّشاً؛ شوَّشَ ذلك إيمانَهم؛ لعدم علمهم الكامل أنَّ الله تعالى يجعلُ المحنَ والعقباتِ الشاقَّةَ بين يدي الأمور العاليةِ والمطالبِ الفاضلة.
فاستمرَّ موسى عليه الصلاة والسلام عند آلِ فرعونَ يتربَّى في سلطانِهِم ويركبُ مراكِبَهم ويَلْبَسُ ملابِسَهم، وأمُّه بذلك مطمئنةٌ، قد استقرَّ أنَّها أمُّه من الرضاع، ولم يُستنكرْ ملازمتُه إيَّاها و
[حنوُّها عليه]. وتأمل هذا اللطف وصيانة نبيِّه موسى من الكذب في منطقِهِ وتيسيرِ الأمر الذي صار به التعلُّق بينه وبينها، الذي بانَ للناس هو الرضاعُ الذي بسببه يسمِّيها أمًّا، فكان الكلامُ الكثيرُ منه ومن غيرِهِ في ذلك كلِّه صدقاً وحقًّا.
#
{14} {ولمَّا بَلَغَ أشُدَّهُ}: من القوَّة والعقل واللب، وذلك نحو أربعين سنة في الغالب،
{واسْتَوى}: كملت فيه تلك الأمورُ
{آتَيْناه حكماً وعلماً}؛
أي: حكماً يعرف به الأحكام الشرعيَّة، ويحكُم به بين الناس، وعلماً كثيراً.
{وكذلك نَجْزي المحسنينَ}: في عبادة الله، المحسنين لخلق الله؛ يعطيهم علماً وحكماً بحسب إحسانِهِم. ودلَّ هذا على كمال إحسان موسى عليه السلام.
#
{15 ـ 17} {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها}: إما وقت القائلة أو غير ذلك من الأوقات التي بها يغفلون عن الانتشار،
{فوجَدَ فيها رجلينِ يقتتلانِ}:
[أي] يتخاصمانِ ويتضاربانِ.
{هذا من شيعتِهِ}؛
أي: من بني إسرائيل،
{وهذا من عدوِّه}: القبط،
{فاستغاثه الذي من شيعتِهِ على الذي من عدوِّهِ}: لأنَّه قد اشتهر وعَلِمَ الناسُ أنَّه من بني إسرائيل، واستغاثتُهُ لموسى دليلٌ على أنه بَلَغَ موسى عليه السلام مبلغاً يُخافُ منه ويُرجى من بيت المملكة والسلطان.
{فوَكَزَهُ موسى}؛
أي: وكز الذي من عدوِّه استجابةً لاستغاثة الإسرائيليِّ،
{فقضى عليه}؛
أي: أماته من تلك الوكزةِ لشدَّتِها وقوَّة موسى. فندم موسى عليه السلام على ما جرى منه، و
{قال هذا من عمل الشَّيطانِ}؛
أي: من تزيينه ووسوسته.
{إنَّه عَدُوٌّ مضلٌّ مبينٌ}: فلذلك أجريتُ ما أجريتُ بسبب عداوتِهِ البيِّنة وحرصه على الإضلال. ثم استغفر ربَّه، فَـ
{قَال ربِّ إنِّي ظلمتُ نفسي فاغْفِرْ لي فَغَفَرَ له إنَّه هو الغفورُ الرحيم}: خصوصاً للمُخْبِتينَ إليه، المبادِرين للإنابةِ والتوبةِ؛ كما جرى من موسى عليه السلام، فَـ
{قَالَ} موسى:
{ربِّ بما أنْعَمْتَ عليَّ}: بالتوبة والمغفرةِ والنعم الكثيرة،
{فلنْ أكونَ ظهيراً}؛
أي: مُعيناً ومساعداً
{للمجرِمين}؛
أي: لا أعين أحداً على معصيةٍ. وهذا وعدٌ من موسى عليه السلام بسبب مِنَّةِ الله عليه أنْ لا يُعينَ مجرماً كما فعل في قَتْل القبطيِّ، وهذا يفيدُ أنَّ النعم تقتضي من العبدِ فعل الخير وترك الشَّرِّ.
#
{18 ـ 19} فلمَّا جرى منه قَتْلُ الذي هو من عدوِّه؛ أصبح
{في المدينةِ خائفاً يترقَّبُ}: هل يشعرُ به آلُ فرعون أم لا؟ وإنما خاف لأنَّه قد عَلِمَ أنَّه لا يتجرأ أحدٌ على مثل هذه الحال سوى موسى من بني إسرائيل. فبينما هو على تلك الحال؛
{فإذا الذي استنصره بالأمس}: على عدوِّه.
{يَسْتَصْرِخُه}: على قبطيٍّ آخر،
{قال له موسى}: موبخاً على حاله:
{إنَّك لَغَوِيٌ مبينٌ}؛
أي: بَيِّنُ الغواية ظاهر الجراءة،
{فلما أن أراد أن يبطش}: موسى
{بالذي هو عدو لهما}: أي له وللمخاصِم المستصرِخ لموسى؛
أي: لم يزل اللجاجُ بين القبطيِّ والإسرائيليِّ، وهو يستغيثُ بموسى، فأخذته الحميَّة، حتى همَّ أن يبطشَ بالقبطي، فَـ
{قَالَ} له القبطيُّ زاجراً له عن قتله:
{أتريدُ أن تَقْتُلَني كما قَتَلْت نفساً بالأمس إن تريدُ إلاَّ أن تكونَ جبَّاراً في الأرض}: لأنَّ من أعظم آثارِ الجبَّارِ في الأرض قتلَ النفس بغير حق.
{وما تريدُ أن تكونَ من المصلِحين}: وإلاَّ؛ فلو أردت الإصلاح؛ لَحُلْتَ بيني وبينَه من غير قتل أحدٍ. فانكفَّ موسى عن قتلِهِ، وارْعوى لوعظِهِ وزجرِهِ.
#
{20} وشاع الخبرُ بما جرى من موسى في هاتين القضيَّتين حتى تراوَدَ ملأُ فرعونَ وفرعونُ على قتلِهِ، وتشاوروا على ذلك، فقيَّض الله ذلك الرجلَ الناصحَ، وبادرهم إلى الإخبار لموسى بما اجتمع عليه رأي ملئهم،
فقال: {وجاء رجلٌ من أقصى المدينة يسعى}؛
أي: ركضاً على قدميه من نُصْحِهِ لموسى وخوفِهِ أن يوقِعوا به قبلَ أن يشعر،
فقال: {يا موسى إنَّ الملأ يأتَمِرونَ}؛
أي: يتشاورون فيك؛
{لِيَقْتُلوك فاخْرُجْ}: عن المدينة
{إنِّي لك من الناصحين}: فامتثل نُصحه.
#
{21} {فخرج منها خائفاً يترقَّب}: أن يُوْقَعَ به القتلُ، ودعا الله و
{قال ربِّ نَجِّني من القوم الظالمينَ}: فإنَّه قد تاب من ذنبِهِ، وفعله غضباً من غير قصدٍ منه للقتل؛ فتوعُّدُهم له ظلمٌ منهم وجراءةٌ.
#
{22} {ولمَّا توجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ}؛
أي: قاصداً بوجهه مدينَ، وهو جنوبي فلسطين؛ حيث لا ملك لفرعون،
{قال عسى ربِّي أن يَهْدِيَني سواءَ السبيل}؛
أي: وسط الطريق المختصر الموصل إليها بسهولةٍ ورفقٍ. فهداه الله سواء السبيل، فوصل إلى مَدْيَنَ.
#
{23} {ولمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وجدَ عليه أمَّةً من الناس يسقونَ}: مواشِيَهم، وكانوا أهل ماشيةٍ كثيرةٍ،
{ووجد من دونهم}؛
أي: دون تلك الأمة
{امرأتينِ تذودانِ}: غَنَمَهما عن حياض الناس؛ لعجْزِهما عن مزاحمة الرجال، وبخلِهِم وعدم مروءتهم عن السقي لهما،
{قال}: لهما موسى:
{ما خَطْبُكُما}؛
أي: ما شأنُكما بهذه الحالة؟
{قالتا لا نسقي حتى يُصْدِرَ الرِّعاءُ}؛
أي: قد جرتِ العادةُ أنَّه لا يحصُلُ لنا سقي حتى يُصْدِرَ الرعاءُ مواشِيَهم؛ فإذا خلا لنا الجوُّ؛ سقينا،
{وأبونا شيخٌ كبيرٌ}؛
أي: لا قوَّة له على السقي، فليس فينا قوَّةٌ نقتدِرُ بها، ولا لنا رجالٌ يزاحِمون الرعاء.
#
{24} فرقَّ لهما موسى عليه السلام ورحِمَهما،
{فسقى لهما}: غير طالبٍ منهما الأجرَ، ولا له قصدٌ غيرَ وجه الله تعالى، فلما سقى لهما، وكان ذلك وقت شدة حرِّ وسط النهار؛
بدليل قوله: {ثمَّ تولَّى إلى الظِّلِّ}؛ مستريحاً لتلك الظلال بعد التعب،
{فقال} في تلك الحالة مسترزقاً ربَّه:
{ربِّ إنِّي لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقيرٌ}؛
أي: إنِّي مفتقرٌ للخير الذي تسوقُهُ إليَّ وتيسِّرُه لي، وهذا سؤالٌ منه بحالِهِ، والسؤال بالحال أبلغُ من السؤال بلسان المقال.
#
{25} فلم يزل في هذه الحالة داعياً ربه متملِّقاً، وأما المرأتان؛ فذهبتا إلى أبيهما وأخبرتاه بما جرى، فأرسل أبوهما إحداهما إلى موسى، فجاءته
{تمشي على استحياءٍ}، وهذا يدلُّ على كرم عنصرِها وخُلُقها الحسن؛ فإنَّ الحياء من الأخلاق الفاضلة، وخصوصاً في النساء، ويدلُّ على أنَّ موسى عليه السلام لم يكنْ فيما فعله من السقي لهما بمنزلة الأجير والخادم الذي لا يستحى منه عادة، وإنَّما هو عزيزُ النفس، رأتْ من حسنِ خُلُقِهِ ومكارم أخلاقه ما أوجبَ لها الحياء منه،
{قالتْ}: له:
{إنَّ أبي يدعوكَ لِيَجْزِيَكَ أجرَ ما سَقَيْتَ لنا}؛
أي: لا لمنٍّ عليك، بل أنت الذي ابتدأتنا بالإحسان، وإنَّما قصدُه أن يكافِئَك على إحسانِك، فأجابها موسى،
{فلمَّا جاءه وقصَّ عليه القَصَصَ}: من ابتداء السبب الموجب لهربِهِ إلى أن وَصَلَ إليه،
{قال}: له مسكِّناً رَوْعَهُ جابراً قَلْبَهُ:
{لا تَخَفْ نجوتَ من القوم الظالمينَ}؛
أي: ليذهبْ خوفُك ورَوْعُك؛ فإنَّ الله نجَّاك منهم حيث وصلتَ إلى هذا المحلِّ الذي ليس لهم عليه سلطانٌ.
#
{26} {قالتْ إحداهُما}؛
أي: إحدى ابنتيهِ:
{يا أبتِ اسْتَأجِرْه}؛
أي: اجْعَلْه أجيراً عندك يرعى الغنم ويسقيها،
{إنَّ خير مَنِ استأجرتَ القويُّ الأمينُ}؛
أي: إنَّ موسى أولى مَنِ استُؤْجِرَ؛ فإنَّه جمع القوَّة والأمانة، وخير أجيرٍ استُؤْجِرَ مَن جَمَعَهما؛
[أي]: القوَّة والقدرة على ما استُؤْجِرَ عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان ينبغي اعتبارُهما في كلِّ مَنْ يَتَوَلَّى للإنسان عملاً بإجارة أو غيرها؛ فإنَّ الخلل لا يكون إلا بفقدِهِما أو فقد إحداهما، وأمَّا اجتماعُهما؛ فإنَّ العمل يتمُّ ويكمُلُ. وإنَّما قالت ذلك لأنَّها شاهدت من قوَّةِ موسى عند السَّقْي لهما ونشاطِهِ ما عَرَفَتْ به قوَّته، وشاهدتْ من أمانتِهِ وديانتِهِ وأنَّه رحمهما في حالةٍ لا يُرجى نفعهما، وإنَّما قصدُه بذلك وجه الله تعالى.
#
{27} فَـ
{قَالَ} صاحبُ مَدْيَنَ لموسى:
{إنِّي أريدُ أن أُنكِحَكَ إحدى ابنتيَّ هاتينِ على أن تَأجُرَني}؛
أي: تصير أجيراً عندي
{ثماني حِجَجٍ}؛
أي: ثماني سنين،
{فإنْ أتممتَ عشراً فمن عندِكَ}: تبرُّع منك لا شيء واجبٌ عليك.
{وما أريدُ أن أشُقَّ عليك}: فأحتِّم عشرَ السنين، أو ما أريد أن أستأجِرَك لأكلِّفَكَ أعمالاً شاقَّة، وإنَّما استأجرتُك لعمل سهل يسيرٍ لا مشقَّةَ فيه.
{ستَجِدُني إن شاء الله من الصالحينَ}: فرغَّبه في سهولة العمل وفي حسن المعاملة، وهذا يدلُّ على أن الرجل الصالح ينبغي له أن يُحَسِّنَ خُلُقَهُ مهما أمكنه، وأنَّ الذي يُطْلَبُ منه أبلغُ من غيره.
#
{28} فَـ
{قَالَ} موسى عليه السلام مجيباً له فيما طلب منه:
{ذلك بيني وبينَكَ}؛
أي: هذا الشرط الذي أنت ذكرتَ رضيتُ به، وقد تمَّ فيما بيني وبينك،
{أيَّما الأجلينِ قضيتُ فلا عُدوانَ عليَّ}: سواء قضيتُ الثمان الواجبة أم تبرَّعْتُ بالزائد عليها،
{والله على ما نَقولُ وكيلٌ}: حافظٌ يراقِبُنا ويعلم ما تعاقدنا عليه.
وهذا الرجلُ أبو المرأتينِ صاحبُ مدينَ ليس بشعيب النبيِّ المعروف كما اشْتُهِرَ عند كثيرٍ من الناس؛ فإنَّ هذا قولٌ لم يدلَّ عليه دليلٌ ، وغايةُ ما يكون أن شعيباً عليه السلام قد كانت بلدُهُ مدينَ، وهذه القضيةُ جرتْ في مدينَ؛ فأين الملازمة بين الأمرين؟! وأيضاً؛ فإنَّه غير معلوم أن موسى أدركَ زمانَ شعيبٍ؛ فكيف بشخصِهِ؟! ولو كان ذلك الرجلُ شعيباً؛ لذكره الله تعالى، ولسمَّتْه المرأتان. وأيضاً؛ فإنَّ شعيباً عليه الصلاة والسلام قد أهلك الله قومَه بتكذيِبِهم إيَّاه، ولم يبقَ إلاَّ مَنْ آمن به، وقد أعاذ الله المؤمنينَ به أن يرضَوْا لبنتي نبيِّهم بمنعهما عن الماء وصدِّ ماشيتهما حتى يأتِيَهُما رجلٌ غريبٌ فيحسِنُ إليهما ويسقي ماشيتهما، وما كان شعيبٌ ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادماً له وهو أفضلُ منه وأعلى درجةً؛
إلاَّ أنْ يُقال: هذا قبل نبوَّة موسى؛ فلا منافاة. وعلى كلِّ حال؛ لا يُعْتَمَدُ على أنَّه شعيبٌ النبيُّ بغير نقل صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والله أعلم.
#
{29} {فلما قضى موسى الأجلَ}: يُحتمل أنَّه قضى الأجل الواجب أو الزائد عليه كما هو الظنُّ بموسى ووفائِهِ؛ اشتاق إلى الوصول إلى أهله ووالدتِهِ وعشيرتِهِ ووطنِهِ، وظنَّ من طول المدَّة أنَّهم قد تناسَوْا ما صدر منه.
{سار بأهلِهِ}: قاصداً مصر،
{آنس}؛
أي: أبصر،
{من جانب الطُّورِ ناراً}، فَـ
{قَالَ لأهلِهِ امْكُثوا إنِّي آنستُ ناراً لعلِّي آتيكُم منها بخبرٍ} أو آتيكم بشهاب قبس،
{لعلَّكم تَصْطَلونَ}: وكان قد أصابهم البردُ، وتاهوا الطريق.
#
{30} فلمَّا أتاها نودي:
{يا موسى إنِّي أنا الله ربُّ العالمينَ}: فأخبره بألوهيَّته وربوبيَّته، ويلزم من ذلك أنْ يأمُرَه بعبادتِهِ وتألُّهه كما صرَّح به في الآية الأخرى،
{فاعْبُدْني وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري}.
#
{31} {وأنْ ألقِ عصاكَ}: فألقاها،
{فلمَّا رآها تَهْتَزُّ}: تسعى سعياً شديداً، ولها صورةٌ مُهيلة
{كأنها جانٌّ}: ذكرُ الحيات العظيم،
{ولَّى مُدْبِراً ولم يُعَقِّبْ}؛
أي: يرجِع لاستيلاء الروع على قلبه،
فقال الله له: {يا موسى أقْبِلْ ولا تَخَفْ إنَّك من الآمنين}: وهذا أبلغُ ما يكون في التأمين وعدم الخوف؛
فإنَّ قولَه: {أقبل}: يقتضي الأمر بإقباله ويجب عليه الامتثال، ولكن قد يكونُ إقبالُهُ وهو لم يزل الأمرُ المخوفُ،
فقال: {ولا تَخَفْ}: أمر له بشيئين: إقباله، وأنْ لا يكون في قلبِهِ خوفٌ. ولكن يبقى احتمالٌ، وهو أنَّه قد يُقْبِلُ وهو غير خائفٍ،
ولكن لا تحصُلُ له الوقاية والأمن من المكروه فقال: {إنك من الآمنين}: فحينئذٍ اندفع المحذور من جميع الوجوه. فأقبل موسى عليه السلام غير خائف ولا مرعوبٍ، بل مطمئنًّا واثقاً بخبر ربِّه، قد ازداد إيمانُه وتمَّ يقينُه. فهذه آيةٌ أراه الله إيَّاها قبل ذَهابه إلى فرعون؛ ليكونَ على يقين تامٍّ، ليكون أجرأ له وأقوى وأصلب.
#
{32} ثم أراه الآية الأخرى،
فقال: {اسْلُكْ يَدَكَ}؛
أي: أدْخِلْها
{في جيبِك تَخْرُجْ بيضاءَ من غير سوءٍ}: فسَلَكَها وأخرجها كما ذكر الله تعالى،
{واضْمُمْ إليك جناحك من الرَّهْبِ}؛
أي: ضمَّ جناحك ـ وهو عضُدُك ـ إلى جنبك؛ ليزولَ عنك الرهبُ والخوفُ.
{فذنِكَ}؛
أي: انقلاب العصا حيةً وخروجُ اليد بيضاء من غير سوء
{برهانانِ من ربِّك}؛
أي: حجتان قاطعتان من الله
{إلى فرعون وملئه إنَّهم كانوا قوماً فاسقين}: فلا يكفيهم مجردُ الإنذار وأمر الرسول إيَّاهم، بل لا بدَّ من الآيات الباهرة إن نفعت.
#
{33 ـ 34} فَـ
{قَالَ} موسى عليه السلام معتذراً من ربِّه وسائلاً له المعونَةَ على ما حَمَلَه وذاكراً له الموانع التي فيه ليزيلَ ربُّه ما يَحْذَرُهُ منها:
{ربِّ إنِّي قتلتُ منهم نفساً}؛
أي: {فأخافُ أن يقتلونِ. وأخي هارونُ هو أفصحُ مني لساناً فأرسِلْهُ معي ردءاً}؛
أي: معاوناً ومساعداً، يصدِّقون فإنَّه مع تضافرِ الأخبار يقوى الحقُّ.
#
{35} فأجابه الله إلى سؤاله،
فقال: {سنشدُّ عَضُدَكَ بأخيكَ}؛
أي: نعاوِنُك به ونقوِّيك. ثم أزال عنه محذورَ القتل،
فقال: {ونجعلُ لكُما سلطاناً}؛
أي: تسلُّطاً وتمكُّناً من الدعوة بالحجَّة والهيبة الإلهيَّة من عدوِّهما لهما؛
{فلا يَصِلون إليكُما}: وذلك بسبب آياتِنا وما دلَّت عليه من الحقِّ وما أزعجتْ به من باشرها ونظر إليها؛ فهي التي بها حَصَلَ لكما السلطان، واندفَعَ بها عنكم كيدُ عدوِّكم ، وصارت لكم أبلغَ من الجنود أولي العدد والعُدد.
{أنتُما ومَنِ اتَّبَعَكما الغالبونَ}: وهذا وعدٌ لموسى في ذلك الوقت، وهو وحده فريدٌ، وقد رجع إلى بلدِهِ بعدما كان شريداً، فلم تزلِ الأحوال تتطوَّر والأمور تتنقل حتى أنجزَ له موعوده، ومكَّنه من العباد والبلاد، وصار له ولأتباعِهِ الغلبةُ والظهورُ.
#
{36} فذهب موسى برسالة ربِّه،
{فلمَّا جاءهم موسى بآياتِنا بيِّناتٍ}: واضحاتِ الدِّلالة على ما قال لهم ، ليس فيها قصورٌ ولا خفاءٌ،
{قالوا}: على وجه الظُّلم والعلوِّ والعناد:
{ما هذا إلاَّ سحرٌ مفترى}؛ كما قال فرعونُ في تلك الحال التي ظهر فيها الحقُّ، واستعلى على الباطل، واضمحلَّ الباطلُ،
وخضع له الرؤساءُ العارِفون حقائقَ الأمور: {إنَّه لكبيرُكُمُ الذي علَّمَكُمُ السحرَ}! هذا؛ وهو الذكيُّ غير الزكيِّ، الذي بلغ من المكر والخداع والكيد ما قصَّه الله علينا، وقد علم ما أنزل هؤلاء إلاَّ رب السماوات والأرض، ولكنَّ الشقاء غالبٌ،
{وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين}: وقد كَذَبوا في ذلك؛ فإنَّ الله أرسل يوسفَ قبل موسى؛
كما قال تعالى: {ولقد جاءكم يوسُفُ من قبلُ بالبيِّناتِ فما زِلْتُم في شكٍّ مما جاءكم به حتى إذا هَلَكَ قلتُم لن يَبْعَثَ الله من بعدِهِ رسولاً كذلك يُضِلُّ الله من هو مسرفٌ مرتاب}.
#
{37} {وقال موسى}: حين زعموا أنَّ الذي جاءَهم به سحرٌ وضلالٌ،
وأنَّ ما هم عليه هو الهدى: {ربِّي أعلمُ بمن جاء بالهُدى مِنْ عندِهِ ومَن تكونُ له عاقبةُ الدار}؛
أي: إذا لم تُفِدِ المقابلةُ معكم وتبيينُ الآيات البيِّناتِ وأبيتُم إلاَّ التَّمادي في غيِّكم واللَّجاج على كفرِكُم؛ فالله تعالى العالم بالمهتدي وغيره ومن تكونُ له عاقبةُ الدار؛ نحن أم أنتُم.
{إنَّه لا يُفْلِحُ الظالمون}: فصار عاقبةُ الدار لموسى وأتباعِهِ والفلاحُ والفوزُ، وصار لأولئك الخسار وسوء العاقبة والهلاك.
#
{38} {وقال فرعونُ}: متجرِّئاً على ربِّه ومموِّها على قومِهِ السفهاء أخفاء العقول:
{يا أيُّها الملأ ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري}؛
أي: أنا وحدي إلهُكم ومعبودُكم، ولو كان ثمَّ إلهٌ غيري؛ لعلمتُه! فانظرُ إلى هذا الورع التامِّ من فرعون؛
حيثُ لم يَقُلْ: ما لكم من إلهٍ غيري! بل تورَّعَ وقال: ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري! وهذا لأنَّه عندَهم العالم الفاضل، الذي مهما قال؛ فهو الحقُّ، ومهما أمر؛ أطاعوه.
فلما قال هذه المقالةَ التي قد تحتملُ أنَّ ثمَّ إلهاً غيره؛ أراد أن يحقِّق النفي الذي جعل فيه ذلك الاحتمال،
فقال لهامان: {فأوقِدْ لي يا هامانُ على الطينِ}: ليجعلَ له لَبِناً من فخَّار،
{فاجْعَلْ لي صرحاً}؛
أي: بناءً عالياً ؛
{لعلِّي أطَّلِعُ إلى إلهِ موسى وإنِّي لأظنُّه} كاذباً ولكنْ سنحقِّقُ هذا الظنَّ ونريكم كَذِبَ موسى.
فانْظُرْ هذه الجراءة العظيمة على الله، التي ما بَلَغَها آدميٌّ! كذَّبَ موسى، وادَّعى أنه الله، ونفى أن يكونَ له علمٌ بالإله الحق، وفعل الأسباب ليتوصل إلى إله موسى، وكل هذا ترويجٌ. ولكن العجب من هؤلاء الملأ الذين يزعمون أنَّهم كبارُ المملكة المدبِّرون لشؤونها؛ كيف لعب هذا الرجل بعقولهم، واستخفَّ أحلامَهم؟! وهذا لفِسْقِهِم الذي صار صفةً راسخةً فيهم؛ فسد دينهم، ثم تبع ذلك فساد عقولهم؛ فنسألك اللهمَّ الثبات على الإيمان، وأن لا تُزيغَ قلوبَنا بعد إذْ هَدَيْتَنا، وتَهَبَ لنا من لَدُنْكَ رحمةً إنَّك أنت الوهاب.
#
{39} قال تعالى:
{واستكبر هو وجنودُهُ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ}: استكبروا على عبادِ الله، وساموهم سوء العذاب، واستكبروا على رسل الله وما جاؤوهم به من الآيات، فكذَّبوها، وزعموا أنَّ ما هم عليه أعلى منها وأفضل،
{وظنُّوا أنَّهم إلينا لا يُرْجَعون}: فلذلك تجرَّؤوا، وإلاَّ؛ فلو علموا أو ظنُّوا أنَّهم يُرْجَعون إلى الله؛ لما كان منهم ما كان.
#
{40} {فأخَذْناه وجنودَه}: عندما استمرَّ عنادُهُم وبَغْيُهم،
{فَنبَذْناهم في اليمِّ فانظُرْ كيفَ كان عاقبةُ الظالمينَ}: كانت أشرَّ العواقبِ وأخسرَها عاقبةً، أعقبتْها العقوبةُ الدنيويَّة المستمرَّة المتَّصلة بالعقوبة الأخرويَّة.
#
{41} {وجعلناهم أئمةً يدعون إلى النار}؛
أي: جعلنا فرعونَ وملأه من الأئمة الذين يُقتدى بهم، ويُمشَى خلفَهم إلى دار الخزي والشقاء.
{ويوم القيامةِ لا يُنْصَرونَ}: من عذاب الله؛ فهم أضعف شيء عن دفعه عن أنفسهم، وليس لهم من دون الله من وليٍّ ولا نصيرٍ.
#
{42} {وأتْبَعْناهم في هذه الدُّنيا لعنةً}؛
أي: وأتْبَعْناهم زيادةً في عقوبتهم وخِزْيِهِم في الدنيا لعنةً يلعنون، ولهم عند الخلق الثناء القبيح والمقتُ والذمُّ، وهذا أمرٌ مشاهدٌ؛ فهم أئمةُ الملعونين في الدُّنيا ومقدمتهم.
{ويوم القيامةِ هم من المقبوحينَ}: المبعَدين، المستقذرة أفعالهم، الذين اجتمع عليهم مقتُ الله ومقتُ خلقِهِ ومقتُ أنفسهم.
#
{43} {ولقد آتَيْنا موسى الكتابَ}: وهو التوراةُ
{من بعدِ ما أهْلَكْنا القرونَ الأولى}: الذين كان خاتِمَتُهُم في الإهلاك العامِّ فرعونَ وجنودَه، وهذا دليلٌ على أنَّه بعد نزول التوراة انقطعَ الهلاك العامُّ، وشُرِعَ جهادُ الكفار بالسيف؛
{بصائرَ للناس}؛
أي: كتاب الله الذي أنزله على موسى فيه بصائرُ للناس؛
أي: أمور يبصرون بها ما ينفعهم وما يضرُّهم، فتقوم الحجَّةُ على العاصي، وينتفع بها المؤمن، فتكون رحمةً في حقِّه وهداية له إلى الصراط المستقيم،
ولهذا قال: {وهدىً ورحمةً لعلَّهم يتذكَّرونَ}.
#
{44} ولمَّا قصَّ الله على رسولِهِ ما قصَّ من هذه الأخبار الغيبيَّة؛ نبَّه العبادَ على أنَّ هذا خبرٌ إلهيٌّ محضٌ، ليس للرسول طريقٌ إلى علمِهِ؛ إلاَّ من جهة الوحي؛
ولهذا قال: {وما كنتَ بجانِبِ الغربيِّ}؛
أي: بجانب الطُّورِ الغربيِّ وقت قضائنا لموسى الأمر،
{وما كنتَ من الشاهدينَ}: على ذلك حتى يُقالَ: إنَّه وصل إليك من هذا الطريق.
#
{45} {ولكنَّا أنشأنا قروناً فتطاولَ عليهم العُمُر}: فاندرس العلمُ ونُسِيَتْ آياتُهُ، فبعثناك في وقتٍ اشتدَّت الحاجةُ إليك وإلى ما علَّمناك وأوحينا إليك،
{وما كنتَ ثاوياً}؛
أي: مقيماً،
{في أهل مَدْيَنَ تتلو عليهم آياتِنا}؛
أي: تعلِّمُهم وتتعلَّم منهم، حتى أخبرتَ بما أخبرت من شأن موسى في مدين.
{ولكنَّا كنَّا مرسِلينَ}؛
أي: ولكنَّ ذلك الخبرَ الذي جئتَ به عن موسى أثرٌ من آثار إرسالِنا إيَّاكَ ووحيٌ لا بسبيل لك إلى علمه بدون إرسالِنا.
#
{46} {وما كنتَ بجانِبِ الطُّورِ إذْ نادَيْنا}: موسى وأمَرْناه أنْ يأتي القومَ الظالمين ويبلِّغَهم رسالتنا ويُرِيَهم من آياتنا وعجائبنا ما قَصَصْنا عليك.
والمقصودُ أن الماجريات التي جرت لموسى عليه الصلاة والسلام في هذه الأماكن، فقصصتَها كما هي من غيرِ زيادةٍ ولا نقصٍ،
لا يخلو من أحد أمرين: إمَّا أن تكونَ حَضَرْتَها وشاهَدْتَها، أو ذهبتَ إلى محالِّها فتعلَّمتها من أهلها؛ فحينئذٍ قد لا يدلُّ ذلك على أنَّك رسول الله؛ إذ الأمور التي يُخْبَرُ بها عن شهادةٍ ودراسةٍ من الأمور المشتركة غير المختصَّة بالأنبياء، ولكن هذا قد عُلِمَ وتُيُقِّنَ أنه ما كان وما صار؛ فأولياؤك وأعداؤك يعلَمون عدم ذلك. فتعيَّن الأمر الثاني، وهو أن هذا جاءك من قِبَلِ الله ووحيه وإرسالِهِ، فثبت بالدليل القطعيِّ صحةُ رسالتك ورحمةُ الله بك للعبادِ،
ولهذا قال: {ولكن رحمةً من ربِّك لِتُنذِرَ قوماً ما أتاهم من نذيرٍ من قَبْلِكَ}؛
أي: العرب وقريش؛ فإنَّ الرسالة عندهم لا تُعرف وقت إرسال الرسول وقبله بأزمانٍ متطاولة،
{لعلَّهم يتذكَّرون}: تفصيل الخير فيفعلونه، والشر فيتركونه. فإذا كنتَ بهذه المنزلة؛ كان الواجبُ عليهم المبادرةَ إلى الإيمان بك وشكرِ هذه النعمة التي لا يُقادَرُ قَدْرُها ولا يُدْرَك شُكرها. وإنذارُه للعرب لا ينفي أنْ يكون مرسَلاً لغيرِهم؛ فإنَّه عربيٌّ، والقرآن الذي نزل عليه عربيٌّ، وأول من باشر بدعوته العرب، فكانت رسالتُه لهم أصلاً ولغيرِهم تبعاً؛
كما قال تعالى: {أكان للناس عَجَباً أنْ أوْحَيْنا إلى رجل منهم أنْ أنذِرِ الناس}،
{قلْ يا أيُّها الناسُ إنِّي رسولُ الله إليكُم جميعاً}.
#
{47} {ولولا أن تُصيبَهم مصيبةٌ بما قدَّمَتْ أيديهم}: من الكفر والمعاصي،
لقالوا: {ربَّنا لولا أرْسَلْتَ إلينا رسولاً فنتَّبِعَ آياتِكَ ونكونَ من المؤمنينَ}؛
أي: فأرسلناك يا محمدُ، لدفع حُجَّتِهِم، وقطع مقالتهم.
#
{48} {فلمَّا جاءهم الحقُّ}: الذي لا شكَّ فيه
{من عندِنا}: وهو القرآنُ الذي أوحيناه إليك،
{قالوا}: مكذِّبين له ومعترِضين بما ليس يُعْتَرَضُ به:
{لولا أوتي مِثْلَ ما أوتي موسى}؛
أي: أُنْزِلَ عليه كتابٌ من السماء جملةً واحدةً؛
أي: فأما ما دام ينزل متفرقاً؛ فإنَّه ليس من عند الله، وأيُّ دليل في هذا؟! وأيُّ شبهة أنَّه ليس من عند الله حين نزل مفرَّقاً؟! بل من كمال هذا القرآن واعتناءِ الله بمن أنْزِلَ عليه أن نزل متفرِّقاً؛ ليثبِّتَ الله به فؤادَ رسولِهِ، ويحصُلَ زيادةُ الإيمان للمؤمنين،
{ولا يأتونَكَ بِمَثَلٍ إلاَّ جئناكَ بالحقِّ وأحسنَ تفسيراً}. وأيضاً؛ فإنَّ قياسهم على كتاب موسى قياسٌ قد نقضوه؛ فكيف يقيسونَه على كتابٍ كفروا به ولم يؤمنوا
[به]؟
! ولهذا قال: {أوَلَمْ يكفُروا بما أوتي موسى من قبلُ قالوا سِحْرانِ تَظاهَرا}؛
أي: القرآن والتوراة تعاونا في سحرِهِما وإضلال الناس
{وقالوا إنَّا بكلٍّ كافرون}: فثبت بهذا أن القوم يريدون إبطال الحقِّ بما ليس ببرهانٍ، وينقُضونه بما لا يُنْقَضُ، ويقولون الأقوال المتناقضة المختلفة، وهذا شأن كلِّ كافرٍ، ولهذا صرَّح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين.
#
{49} ولكنْ هل كفرُهُم بهما طلباً للحقِّ واتِّباعاً لأمرٍ عندهم خيرٌ منهما، أم مجرَّدُ هوىً؟
! قال تعالى ملزِماً لهم بذلك: {قُلْ فأتوا بكتابٍ من عندِ الله هو أهدى منهما}؛
أي: من التوراة والقرآن؛
{أتِّبِعْهُ إن كنتُم صادقينَ}: ولا سبيل لهم ولا لغيرِهِم أن يأتوا بمثلِهِما؛ فإنَّه ما طرق العالم منذ خَلَقَهُ الله مثل هذين الكتابين علماً وهدىً وبياناً ورحمةً للخلق،
وهذا من كمال الإنصاف من الداعي أنْ قال: أنا مقصودي الحقُّ والهدى والرشدُ، وقد جئتُكم بهذا الكتاب المشتمل على ذلك الموافق لكتاب موسى؛ فيجبُ علينا جميعاً الإذعان لهما واتِّباعُهما من حيث كونُهُما هدىً وحقًّا؛ فإنْ جئتُموني بكتاب من عند الله هو أهدى منهما؛ اتَّبَعْتُه، وإلاَّ؛ فلا أترك هدىً وحقًّا قد علمتُه لغير هدىً وحقٍّ.
#
{50} {فإن لم يَسْتَجيبوا لك}: فلم يأتوا بكتابٍ أهدى منهما،
{فاعْلَمْ أنَّما يتَّبِعون أهواءهم}؛
أي: فاعلم أنَّ تركَهم اتِّباعك ليسوا ذاهبين إلى حقٍّ يعرِفونه ولا إلى هدىً، وإنَّما ذلك مجرَّد اتِّباع لأهوائِهِم.
{ومن أضلُّ ممَّنِ اتَّبع هواه بغيرِ هدىً من الله}: فهذا من أضلِّ الناس؛ حيث عرض عليه الهدى والصراط المستقيم الموصل إلى الله وإلى دار كرامتِهِ؛ فلم يلتفتْ إليه، ولم يُقْبِلْ عليه، ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء، فاتَّبعه وترك الهدى؛ فهل أحدٌ أضلُّ ممَّن هذا وصفه؟! ولكنَّ ظلمه وعدوانَه وعدمَ محبته للحقِّ هو الذي أوجب له أن يبقى على ضلالِهِ ولا يهديه الله؛
فلهذا قال: {إنَّ الله لا يهدي القوم الظالمين}؛
أي: الذين صار الظلمُ لهم وصفاً والعنادُ لهم نعتاً، جاءهم الهدى فرفضوه، وعَرَضَ لهم الهوى فتبِعوه، سدُّوا على أنفسهم أبواب الهداية وطُرُقَها، وفتحوا عليهم أبواب الغِواية وسُبُلَها؛ فهم في غيِّهم وظلمهم يعمهون، وفي شقائِهِم وهلاكِهِم يتردَّدون،
وفي قوله: {فإن لم يَسْتَجيبوا لك فاعْلَمْ أنَّما يتَّبِعون أهواءهم}: دليلٌ على أنَّ كلَّ مَنْ لم يستجبْ للرسول، وذهبَ إلى قولٍ مخالفٍ لقول الرسول؛ فإنَّه لم يذهبْ إلى هدىً، وإنَّما ذهب إلى هوى.
#
{51} {ولقد وَصَّلْنا لهم القولَ}؛
أي: تابَعْناه وواصَلْناه وأنزَلْناه شيئاً فشيئاً رحمة بهم ولطفاً؛
{لعلَّهم يتذكَّرونَ}: حين تتكرَّرُ عليهم آياتُهُ، وتنزِلُ عليهم بيناتُهُ وقت الحاجة إليها، فصار نزولُهُ متفرِّقاً رحمةً بهم، فلِمَ اعترضوا بما هو من مصالحهم؟!
فصل في ذِكْرِ بعض الفوائد والعبر في هذه القصة العجيبة
فمنها: أنَّ آياتِ الله [تعالى] وعبرَه وأيامَه في الأمم السابقة إنَّما يستفيدُ بها ويستنيرُ المؤمنون؛ فعلى حسب إيمان العبد تكون عبرتُهُ، وأنَّ الله تعالى إنَّما يسوقُ القصص لأجلهم، وأمَّا غيرُهم؛ فلا يعبأ الله بهم، وليس لهم منها نورٌ وهدى.
ومنها: أنَّ الله تعالى إذا أراد أمراً؛ هيأ أسبابَه، وأتى بها شيئاً فشيئاً بالتدريج لا دفعة واحدة.
ومنها: أنَّ الأمَّة المستضعفة، ولو بلغت في الضعف ما بلغتْ، لا ينبغي لها أنْ يستولي عليها الكسلُ عن طلبِ حقِّها، ولا الإياسُ من ارتقائها إلى أعلى الأمور، خصوصاً إذا كانوا مظلومين؛ كما استنقذ الله أمة بني إسرائيل الأمَّة الضعيفة من أسر فرعون وملئه، ومكَّنهم في الأرض، وملَّكهم بلادهم.
ومنها: أنَّ الأمة ما دامت ذليلةً مقهورةً، لا تأخُذُ حقَّها، ولا تتكلَّم به لا يقوم لها أمرُ دينها ولا دُنياها، ولا يكون لها إمامةٌ فيه.
ومنها: لطف الله بأمِّ موسى وتهوينُهُ عليها المصيبةَ بالبشارة بأنَّ الله [تعالى] سيردُّ إليها ابنها، ويجعله من المرسلين.
ومنها: أنَّ الله يقدِّرُ على عبده بعضَ المشاقِّ لِيُنيلَه سروراً أعظم من ذلك، أو يدفعَ عنه شرًّا أكثر منه؛ كما قدَّر على أمِّ موسى ذلك الحزن الشديد والهمَّ البليغ الذي هو وسيلةٌ إلى أن يَصِلَ إليها ابنُها على وجهٍ تطمئنُّ به نفسها، وتَقَرُّ به عينُها، وتزداد به غبطةً وسروراً.
ومنها: أنَّ الخوف الطبيعيَّ من الخَلْقِ لا يُنافي الإيمان ولا يزيلُه؛ كما جرى لأمِّ موسى، ولموسى من تلك المخاوف.
ومنها: أنَّ الإيمان يزيد وينقص، وأنَّ من أعظم ما يزيدُ به الإيمان، ويتمُّ به اليقينُ؛ الصبرُ عند المزعجات، والتثبيت من الله عند المقلقاتِ؛ كما قال تعالى: {لولا أن رَبَطْنا على قلبِها لِتكونَ من المؤمنينَ}؛ أي: ليزداد إيمانُها بذلك، ويطمئنَّ قلبُها.
ومنها: أنَّ من أعظم نعم الله على عبدِهِ وأعظم معونةٍ للعبد على أمورِهِ تثبيتُ الله إيَّاه وربطُ جأشِهِ وقلبِهِ عند المخاوف وعند الأمور المذهلةِ؛ فإنَّه بذلك يتمكَّن من القول الصواب والفعل الصواب؛ بخلاف من استمرَّ قلقُه وروعه وانزعاجُه؛ فإنَّه يضيع فكرُه، ويذهَلُ عقلُه؛ فلا ينتفعُ بنفسه في تلك الحال.
ومنها: أنَّ العبد ولو عَرَفَ أنَّ القضاء والقدر ووعدَ الله نافذٌ لا بدَّ منه؛ فإنَّه لا يهمل فعل الأسباب التي أُمِرَ بها، ولا يكون ذلك منافياً لإيمانِهِ بخبر الله؛ فإنَّ الله قد وعد أمَّ موسى أن يردَّه عليها، ومع ذلك اجتهدت في ردِّه، وأرسلتْ أختَه لتقُصَّه وتطلُبَه.
ومنها: جواز خروج المرأةِ في حوائِجِها وتكليمها للرجال من غير محذورٍ كما جرى لأخت موسى وابنتي صاحب مدينَ.
ومنها: جوازُ أخذ الأجرة على الكفالة والرضاع والدلالة على من يفعلُ ذلك.
ومنها: أنَّ الله من رحمته بعبده الضعيف الذي يريد إكرامه أن يُرِيَهُ من آياتِهِ ويُشْهِدَهُ من بيِّناتِهِ ما يزيدُ به إيمانه؛ كما ردَّ الله موسى على أمِّه؛ لتعلمَ أنَّ وعد الله حقٌّ.
ومنها: أنَّ قتل الكافر الذي له عهدٌ بعقدٍ أو عرفٍ لا يجوزُ؛ فإنَّ موسى عليه السلام عَدَّ قتلَه القبطيَّ الكافر ذنباً، واستغفر الله منه.
ومنها: أنَّ الذي يقتُلُ النفوس بغير حقٍّ؛ يعدُّ من الجبارين الذين يفسِدون في الأرض.
ومنها: أنَّ من قتل النفوس بغير حقٍّ، وزعم أنَّه يريد الإصلاح في الأرض وتهييب أهل المعاصي؛ فإنَّه كاذبٌ في ذلك، وهو مفسدٌ؛ كما حكى الله قولَ القبطيِّ: {إن تريدُ إلاَّ أن تكونَ جبَّاراً في الأرض وما تريدُ أن تكونَ من المصلحين}: على وجه التقرير له لا الإنكار.
ومنها: أنَّ إخبارَ الرجلِ غيرَه بما قيل فيه على وجهِ التحذيرِ له من شرٍّ يقع فيه؛ لا يكونُ ذلك نميمةً، بل قد يكونُ واجباً؛ كما أخبر ذلك الرجلُ لموسى ناصحاً له ومحذراً.
ومنها: أنَّه إذا خاف القتل والتَّلَفَ في الإقامة؛ فإنَّه لا يلقي بيدِهِ إلى التَّهلكة، ولا يستسلم لذلك، بل يذهبُ عنه كما فعل موسى.
ومنها: أنَّه عند تزاحم المفسدتين؛ إذا كان لا بدَّ من ارتكاب إحداهما؛ فإنَّه يرتكبُ الأخفَّ منهما الأسلم؛ كما أنَّ موسى لما دار الأمرُ بين بقائِهِ في مصر ولكنَّه يُقتل، أو يذهب إلى بعض البلدان البعيدة التي لا يَعْرِفُ الطريق إليها، وليس معه دليلٌ يدلُّه غير ربِّه، ولكن هذه الحالة أرجى للسلامة من الأولى، فتبِعَها موسى.
ومنها: أنَّ الناظر في العلم عند الحاجة إلى التكلُّم فيه إذا لم يترجَّحْ عندَه أحدُ القولين؛ فإنَّه يستهدي ربَّه، ويسألُه أن يَهْدِيَه الصواب من القولين بعد أن يقصِدَ بقلبِهِ الحقَّ ويبحث عنه؛ فإنَّ الله لا يخيبُ من هذه حالُه؛ كما خرج موسى تلقاءَ مدينَ، فقال: {عسى ربِّي أن يَهْدِيَني سواء السبيل}.
ومنها: أنَّ الرحمة بالخلق والإحسان على مَن يعْرِفُ ومَن لا يَعْرِفُ من أخلاق الأنبياء، وأنَّ من الإحسان سقي الماشية الماء وإعانة العاجز.
ومنها: استحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحِها، ولو كان الله عالماً بها؛ لأنَّه تعالى يحبُّ تضرُّع عبده وإظهار ذُلِّه ومسكنتِهِ؛ كما قال موسى: {ربِّ إنِّي لما أنزلتَ إليَّ من خيرٍ فقيرٌ}.
ومنها: أنَّ الحياء ـ خصوصاً من الكرام ـ من الأخلاق الممدوحة.
ومنها: المكافأة على الإحسان لم يزل دأبَ الأمم السابقين.
ومنها: أنَّ العبد إذا فعل العمل لله تعالى، ثم حصل له مكافأةٌ عليه من غير قصدٍ بالقصد الأول؛ فإنَّه لا يُلام على ذلك؛ كما قبل موسى مجازاة صاحب مدين عن معروفه الذي لم يبتغِ له، ولم يستشرفْ بقلبِهِ على عوض.
ومنها: مشروعيَّة الإجارة، وأنَّها تجوز على رعاية الغنم ونحوها مما لا يُقَدَّرُ به العمل، وإنَّما مرده العرف.
ومنها: أنَّه تجوز الإجارة بالمنفعة، ولو كانت المنفعة بضعاً.
ومنها: أنَّ خطبة الرجل لابنته الرجل الذي يتخيَّره لا يلام عليه.
ومنها: أنَّ خير أجيرٍ وعامل يعمل للإنسان أن يكونَ قويًّا أميناً.
ومنها: أنَّ من مكارم الأخلاق أن يُحَسِّنَ خُلُقَه لأجيره وخادمِهِ، ولا يشقُّ عليه بالعمل؛ لقوله: {وما أريدُ أنْ أشقَّ عليك ستَجِدُني إن شاء الله من الصالحين}.
ومنها: جوازُ عقد الإجارة وغيرِها من العقود من دون إشهادٍ؛ لقوله: {والله على ما نقولُ وكيلٌ}.
ومنها: ما أجرى الله على يدِ موسى من الآيات البيناتِ والمعجزاتِ الظاهرة من الحيَّة وانقلاب يده بيضاءَ من غير سوء ومن عصمةِ الله لموسى وهارون من فرعون ومن الغرق.
ومنها: أنَّ من أعظم العقوبات أن يكون الإنسانُ إماماً في الشرِّ، وذلك بحسب معارضتِهِ لآياتِ الله وبيناتِهِ؛ كما أنَّ من أعظم نعمةٍ أنعم الله بها على عبده، أن يجعله إماماً في الخير هادياً مهديًّا.
ومنها: ما فيها من الدلالة على رسالة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث أخبر بذلك تفصيلاً مطابقاً وتأصيلاً موافقاً قصَّه قصًّا صدَّق به المرسلين وأيَّد به الحقَّ المبين، من غير حضور شيء من تلك الوقائع، ولا مشاهدةٍ لموضع واحد من تلك المواضع، ولا تلاوةٍ دَرَسَ فيها شيئاً من هذه الأمور، ولا مجالسةِ أحدٍ من أهل العلم، إنْ هو إلاَّ رسالةُ الرحيم الرحمن، ووحيٌ أنزله عليه الكريمُ المنان؛ لينذِرَ به قوماً جاهلين، وعن النُّذُرِ والرسل غافلين؛ فصلوات الله وسلامُه على مَنْ مجرَّدُ خبرِهِ ينبئ أنه رسولُ الله، ومجرَّدُ أمرِهِ ونهيِهِ ينبِّه العقول النيِّرة أنَّه من عند الله؛ كيف وقد تطابَقَ على صحة ما جاء به وصدقِهِ، خبرُ الأوَّلين والآخرين، والشرعُ الذي جاء به من ربِّ العالمين، وما جُبِلَ عليه من الأخلاق الفاضلة التي لا تُناسب ولا تصلح إلا لأعلى الخلقِ درجةً، والنصر المبين لدينهِ وأمتِهِ، حتى بلغَ دينُه مبلغَ الليل والنهار، وفتحتْ أمتُه معظم بلدان الأمصار بالسيف والسنان وقلوبهم بالعلم والإيمان، ولم تزلِ الأممُ المعاندةُ والملوكُ الكفرةُ المتعاضِدَةُ ترميه بقوس واحدةٍ وتكيدُ له المكايدَ وتمكُرُ لإطفائِهِ وإخفائِهِ وإخمادِهِ من الأرض، وهو قد بَهَرَها وعَلاها، لا يزداد إلاَّ نموًّا، ولا آياته وبراهينه إلا ظهوراً، وكلُّ وقت من الأوقات يظهر من آياته ما هو عبرة للعالَمين، وهداية للعالِمين، ونوراً وبصيرة للمتوسِّمين. والحمد لله وحده.
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ [مُسْلِمِينَ] (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)}.
#
{52} يذكر تعالى عظمةَ القرآن وصدقَه وحقَّه، وأنَّ أهل العلم بالحقيقة يعرِفونه، ويؤمنونَ به، ويقرُّون بأنه الحقُّ،
فقال: {الذين آتَيْناهم الكتابَ من قبلِهِ}: وهم أهلُ التوراة والإنجيل، الذين لم يغيِّروا ولم يبدِّلوا،
{هم به}؛
أي: بهذا القرآن ومن جاء به
{يؤمنون}.
#
{53} {وإذا يُتْلى عليهم}: استمعوا له وأذْعنوا، و
{قالوا آمنَّا به إنَّه الحقُّ من ربِّنا}: لموافقتِهِ ما جاءت به الرسل، ومطابقتِهِ لما ذُكِرَ في الكتب، واشتمالِهِ على الأخبار الصادقة والأوامر والنواهي الموافقة لغاية الحكمة، وهؤلاء الذين تفيدُ شهادتُهم وينفعُ قولُهم؛ لأنَّهم لا يقولون ما يقولون إلاَّ عن علم وبصيرةٍ؛ لأنَّهم أهلُ الخبرة وأهلُ الكتب، وغيرهم لا يدلُّ ردُّهم ومعارضتُهم للحقِّ على شبهةٍ فضلاً عن الحجَّة؛ لأنَّهم ما بين جاهل فيه أو متجاهل معاندٍ للحقِّ؛
قال تعالى: {قلْ آمِنوا به أو لا تُؤْمِنوا إنَّ الذين أوتوا العلم من قبلِهِ إذا يُتْلى عليهم يَخِرُّون للأذقان سُجَّداً ... } الآيات،
وقوله: {إنَّا كُنَّا من قبلِهِ [مسلمين] }: فلذلك ثبتنا على ما منَّ الله به علينا من الإيمان، فصدقنا بهذا القرآن، آمنَّا بالكتاب الأوَّل والكتاب الآخر، وغيرُنا ينقضُ تكذيبُه بهذا الكتاب إيمانَه بالكتاب الأول.
#
{54} {أولئك}: الذين آمنوا بالكتابين
{يؤتَوْن أجْرَهُم مرتينِ}: أجراً على الإيمان الأوَّل، وأجراً على الإيمان الثاني؛
{بما صَبَروا}: على الإيمان، وثبتوا على العمل، فلم تُزَعْزِعْهم عن ذلك شبهةٌ، ولا ثناهم عن الإيمان رياسةٌ ولا شهوة.
{و} من خصالهم الفاضلة التي هي من آثار إيمانِهِم الصحيح أنَّهم
{يدرؤونَ بالحسنةِ السيئةَ}؛
أي: دأبهم وطريقتُهم الإحسان لكلِّ أحدٍ، حتى للمسيء إليهم بالقول والفعل؛ يقابِلونَه بالقول الحميد والفعل الجميل؛ لعلمِهِم بفضيلة هذا الخلق العظيم، وأنَّه لا يوفَّق له إلاَّ ذو حظ عظيم.
#
{55} {وإذا سمعوا اللغو}: من جاهل خاطبهم به،
{قالوا}: مقالة عباد الرحمن أولي الألباب:
{لنا أعمالُنا ولكم أعمالُكم}؛
أي: كلٌّ سيجازى بعمله الذي عَمِلَه وحده، ليس عليه من وزرِ غيره شيءٌ، ولزم من ذلك أنهم يتبرؤون مما عليه الجاهلون من اللغو والباطل والكلام الذي لا فائدة فيه.
{سلامٌ عليكم}؛
أي: لا تسمعون منَّا إلاَّ الخير، ولا نخاطبكم بمقتضى جهلكم؛ فإنَّكم وإن رضيتُم لأنفسِكم هذا المرتعَ اللئيم؛ فإنَّا ننزِّهُ أنفسَنا عنه ونصونُها عن الخوض فيه،
{لا نبتغي الجاهلين}: من كلِّ وجهٍ.
{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)}.
#
{56} يخبر تعالى أنَّك يا محمدُ ـ وغيرُك من باب أولى ـ لا تقدِرُ على هداية أحدٍ، ولو كان من أحبِّ الناس إليك؛ فإنَّ هذا أمرٌ غيرُ مقدور للخلق؛ هداية التوفيق وخلق الإيمان في القلب، وإنَّما ذلك بيد الله تعالى؛ يهدي مَنْ يشاء وهو أعلم بِمَنْ يَصْلُحُ للهداية فيهديه ممَّن لا يَصْلُحُ لها فيبقيه على ضلاله.
وأمَّا إثباتُ الهداية للرسول في قوله تعالى: {وإنَّك لَتَهدي إلى صراطٍ مستقيم}: فتلك هدايةُ البيان والإرشاد؛ فالرسولُ يبيِّن الصراط المستقيم، ويرغِّب فيه، ويبذلُ جهدَه في سلوك الخلقِ له، وأما كونُهُ يخلُقُ في قلوبهم الإيمان، ويوفِّقُهم بالفعل؛ فحاشا وكلاَّ، ولهذا لو كان قادراً عليها؛ لهدى من وصل إليه إحسانُه ونصرُه ومَنْعُهُ من قومه؛ عمَّه أبا طالب، ولكنَّه أوصل إليه من الإحسان بالدعوة له للدين والنصح التامِّ ما هو أعظم مما فعله معه عمُّه، ولكنَّ الهداية بيد الله.
{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)}.
#
{57} يخبر تعالى أنَّ المكذِّبين من قريش وأهل مكة يقولون للرسول - صلى الله عليه وسلم -:
{إن نَتَّبِعِ الهُدى معكَ نُتَخَطَّفْ من أرضِنا}: بالقتل والأسر ونهب الأموال؛ فإنَّ الناس قد عادَوْك وخالَفوك؛ فلو تابعناك؛ لتعرَّضْنا لمعاداة الناس كلِّهم، ولم يكن لنا بهم طاقةٌ. وهذا الكلام منهم يدلُّ على سوءِ الظنِّ بالله تعالى، وأنَّه لا ينصرُ دينَه ولا يُعلي كلمتَه، بل يمكِّنُ الناسَ من أهل دينه، فيسومونهم سوء العذاب، وظنُّوا أنَّ الباطلَ سيعلو على الحقِّ. قال الله مبيناً لهم حالةً هم بها دون الناس وأنَّ الله اختصَّهم بها،
فقال: {أولم نمكِّن لهم حرماً آمناً يُجْبى إليه ثمراتُ كلِّ شيءٍ رزقاً من لَدُنَّا}؛
أي: أولم نجعلْهم متمكِّنين مُمَكَّنين في حرم يكثره المنتابون ويقصدُه الزائرون، قد احترمه القريبُ والبعيد؛ فلا يُهاج أهلُه، ولا يُنْتَقَصون بقليل ولا كثير، والحالُ أنَّ كلَّ ما حولهم من الأماكن قد حَفَّ بها الخوف من كلِّ جانب، وأهلُها غيرُ آمنين ولا مطمئنِّين؛ فَلْيَحْمَدوا ربَّهم على هذا الأمن التامِّ الذي ليس فيه غيرُهم، وعلى الرزق الكثير الذي يُجْبى إليهم من كلِّ مكان من الثمرات والأطعمة والبضائع ما به يرتزقون ويتوسَّعون، ولْيَتَّبِعوا هذا الرسولَ الكريم؛ لِيَتِمَّ لهم الأمنُ والرغدُ، وإياهم وتكذيبَه والبطرَ بنعمة الله؛ فيبدَّلوا من بعدِ أمْنِهم خوفاً، وبعد عزِّهم ذُلاًّ، وبعد غناهم فقراً.
#
{58} ولهذا توعَّدهم بما فعل بالأمم قبلَهم،
فقال: {وكم أهْلَكْنا من قريةٍ بَطِرَتْ معيشَتَها}؛
أي: فخرتْ بها وألهتها واشتغلتْ بها عن الإيمان بالرسل، فأهلكهم الله، وأزال عنهم النعمةَ، وأحلَّ بهم النقمة،
{فتلك مساكِنُهم لم تُسْكَن من بعدِهِم إلاَّ قليلاً}؛ لتوالي الهلاك والتَّلف عليهم وإيحاشها من بعدهم،
{وكُنَّا نحن الوارثينَ}: للعباد؛ نميتُهم ثم يرجِعُ إلينا جميعُ ما متَّعْناهم به من النعم، ثم نعيدُهم إلينا، فنجازيهم بأعمالهم.
#
{59} ومن حكمتِهِ ورحمتِهِ أنْ لا يعذِّب الأممَ بمجرَّدِ كفرِهم قبل إقامةِ الحجَّة عليهم بإرسال الرسل إليهم،
ولهذا قال: {وما كان ربُّك مُهْلِكَ القرى}؛
أي: بكفرِهم وظلمِهم؛
{حتى يَبْعَثَ في أمِّها}؛
أي: في القرية والمدينة التي إليها يَرْجِعون، ونحوها يتردَّدون، وكلُّ ما حولها ينتَجِعها، ولا تَخْفى عليه أخبارها،
{رسولاً يتلو عليهم آياتِنا}: الدالَّة على صحَّة ما جاء به وصِدْقِ ما دعاهم إليه، فيبلغُ قولُه قاصِيَهم ودانِيَهم؛ بخلاف بعث الرسل في القرى البعيدة والأطراف النائية؛ فإنَّ ذلك مظنَّة الخفاء والجفاء، والمدن الأمَّهات مظنَّة الظُّهور والانتشار، وفي الغالب أنَّهم أقلُّ جفاء من غيرهم،
{وَما كُنَّا مُهْلِكي القُرى إلاَّ وأهلُها ظالمونَ}: بالكفر والمعاصي، مستحقُّون للعقوبة. والحاصلُ أنَّ الله لا يعذِّب أحداً إلا بظُلْمه وإقامةِ الحجَّةِ عليه.
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)}.
#
{60} هذا حضٌّ منه تعالى لعبادِهِ على الزُّهد في الدُّنيا وعدم الاغترار بها، وعلى الرغبة في الأخرى وجعلها مقصودَ العبدِ ومطلوبَه، ويخبِرُهم أنَّ جميع ما أوتيه الخلقُ من الذهب والفضة والحيوانات والأمتعة والنساء والبنين والمآكل والمشارب واللذَّات كلِّها متاعُ الحياةِ الدنيا وزينتُها؛
أي: يُتَمَتَّع به وقتاً قصيراً متاعاً قاصراً محشوًّا بالمنغِّصات ممزوجاً بالغُصص، ويتزيَّن به زماناً يسيراً للفخر والرياء، ثم يزولُ ذلك سريعاً، وينقضي جميعاً، ولم يستفدْ صاحبُه منه إلاَّ الحسرةَ والندمَ والخيبةَ والحرمانَ،
{وما عندَ اللهِ}: من النعيم المقيم والعيش السليم
{خيرٌ وأبقى}؛
أي: أفضلُ في وصفِهِ وكميِّته، وهو دائمٌ أبداً ومستمرٌ سرمداً،
{أفلا تعقلونَ}؛
أي: أفلا تكون لكم عقولٌ بها تَزِنون؛ أيُّ الأمرين أولى بالإيثار؟! وأيُّ الدارين أحقُّ للعمل لها؟! فدل ذلك أنه بحسب عقل العبد يُؤْثِرُ الأخرى على الدُّنيا، وأنَّه ما آثَرَ أحدٌ الدُّنيا إلاَّ لنقص في عقله.
#
{61} ولهذا نبَّه العقول على الموازنة بين عاقبة مؤثِرِ الدُّنيا ومؤثِرِ الآخرة،
فقال: {أفَمَن وَعَدْناه وعداً حسناً فهو لاقيهِ}؛
أي: هل يستوي مؤمنٌ، ساعٍ للآخرة سَعْيَها، قد عَمِلَ على وعدِ ربِّه له بالثواب الحسن الذي هو الجنَّة وما فيها من النعيم العظيم؛ فهو لاقيه من غير شكٍّ ولا ارتياب؛ لأنَّه وعدٌ من كريم صادقِ الوعدِ لا يُخْلِفُ الميعاد لعبدٍ قام بمرضاتِهِ وجانَبَ سَخَطَه؛
{كمن متَّعْناه متاعَ الحياة الدُّنيا} فهو يأخُذُ فيها ويعطي، ويأكل ويشرب، ويتمتَّع كما تتمتَّع البهائم، قد اشتغل بدُنياه عن آخرته، ولم يرفعْ بهدى الله رأساً، ولم ينقدْ للمرسلين؛ فهو لا يزال كذلك؛ لا يتزوَّد من دُنياه إلاَّ الخسار والهلاك.
{ثم هو يوم القيامةِ من المُحْضَرين}: للحساب، وقد عُلِمَ أنَّه لم يقدِّمْ خيراً لنفسه، وإنَّما قدَّم جميع ما يضرُّه، وانتقل إلى دار
[الجزاء بالأعمال]؛ فما ظنُّكم إلام يصير إليه؟! وما تحسبَون ما يصنعُ به؟! فليخترِ العاقلُ لنفسه ما هو أولى بالاختيار وأحقُّ الأمرين بالإيثار.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)}.
#
{62 ـ 63} هذا إخبارٌ من الله تعالى عما يسأل عنه الخلائق يوم القيامة، وأنَّه يسألهم عن أصول الأشياء؛ عن عبادة الله، وإجابة رسله،
فقال: {ويوم يناديهم}؛
أي: ينادي مَنْ أشركوا به شركاء يعبُدونَهم ويرجون نفعَهم ودفعَ الضرر عنهم، فيناديهم ليبيِّنَ لهم عجزها وضلالهم،
{فيقولُ أين شركائِيَ}: وليس لله شريكٌ، ولكن ذلك بحسب زعمِهِم وافترائِهِم،
ولهذا قال: {الذين كنتم تزعُمونَ}: فأين هم بذواتِهِم؟! وأين نفعُهم؟! وأين دفعُهم؟! ومن المعلوم أنَّهم يتبيَّن لهم في تلك الحال أنَّ الذي عبدوه ورجَوْه باطلٌ مضمحلٌّ في ذاته وما رجوا منه، فيقرُّون على أنفسهم بالضَّلالة والغواية، ولهذا
{قال الذين حقَّ عليهم القولُ}: من الرؤساء والقادة في الكفر والشرِّ؛
مقرِّين بغوايتهم وإغوائهم: {ربَّنا هؤلاء}: التابعون
{الذين أغْوَيْنا أغْوَيْناهم كما غَوَيْنا}؛
أي: كلنا قد اشترك في الغِواية وحقَّ عليه كلمةُ العذاب،
{تبرَّأنا إليكَ}: من عبادتهم؛
أي: نحن برآءُ منهم ومن عملهم.
{ما كانوا إيَّانا يَعْبُدونَ}: وإنَّما كانوا يعبُدون الشياطين.
#
{64} {وقيل} لهم:
{ادْعُوا شركاءَكم}: على ما أمَّلتْم فيهم من النفع، فأُمِروا بدعائهم في ذلك الوقت الحرج الذي يضطرُّ فيه العابدُ إلى مَنْ عَبَدَه،
{فدَعَوْهم}: لينفعوهم أو يدفعوا عنهم من عذاب الله من شيء،
{فلم يستجيبوا لهم}: فعلم الذين كفروا أنَّهم كانوا كاذبين مستحقِّين للعقوبة،
{ورَأوا العذابَ}: الذي سيحلُّ بهم عياناً بأبصارهم بعدما كانوا مكذِّبين به منكِرين له؛
{لو أنَّهم كانوا يهتدونَ}؛
أي: لمَا حصلَ عليهم ما حصل، ولهُدوا إلى صراط الجنَّة كما اهْتَدَوا في الدنيا، ولكنْ لم يَهْتَدُوا، فلم يُهْتَدَوا.
#
{65 ـ 66} {ويوم يناديهم فيقولُ ماذا أجبتُم المرسلينَ}: هل صدَّقْتموهم واتَّبعتموهم؟ أم كذَّبْتموهم وخالفتموهم؟
{فعَمِيَتْ عليهم الأنباءُ يومئذٍ فهم لا يتساءلون}؛
أي: لم يحيروا عن هذا السؤال جواباً، ولم يهتدوا إلى الصواب، ومن المعلوم أنَّه لا يُنَجِّي في هذا الموضع إلاَّ التصريحُ بالجواب الصحيح المطابق لأحوالهم من أنَّنا أجَبْناهم بالإيمان والانقياد، ولكن لما علموا تكذيبَهم لهم وعنادَهم لأمرِهم؛ لم ينطِقوا بشيء، ولا يمكنُ أنْ يتساءلوا، ويتراجَعوا بينَهم في ماذا يجيبون به، ولو كان كذباً.
{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)}.
#
{67} لما ذَكَرَ تعالى سؤال الخلق عن معبودِهِم وعن رسلِهِم؛ ذكر الطريقَ الذي ينجو به العبدُ من عقاب الله تعالى، وأنَّه لا نجاة إلاَّ لمن اتَّصف بالتوبة من الشرك والمعاصي، وآمنَ بالله فعبَدَه، وآمنَ برسلِهِ فصدَّقهم، وعمل صالحاً متَّبعاً فيه للرسل.
{فعسى أن يكونَ}: من جَمَعَ هذه الخصال
{من المفلحين}: الناجحين بالمطلوب، الناجين من المرهوب؛ فلا سبيل إلى الفلاح بدون هذه الأمور.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)}.
#
{68 ـ 70} هذه الآياتُ فيها عمومُ خلقِهِ لسائر المخلوقات، ونفوذُ مشيئَتِهِ بجميع البريَّات، وانفرادُهُ باختيار من يختارُهُ ويختصُّه من الأشخاص والأوامر والأزمان والأماكن، وأنَّ أحداً ليس له من الأمر والاختيار شيءٌ، وأنَّه تعالى منزَّه عن كلِّ ما يشركون به من الشريك والظهير والعَوين والولد والصاحبة ونحو ذلك مما أشرك به المشركون، وأنَّه العالمُ بما أكنَّتْهُ الصدور وما أعلنوه، وأنَّه وحدَه المعبودُ المحمودُ في الدنيا والآخرة على ما له من صفاتِ الجلال والجمال، وعلى ما أسداه إلى خلقِهِ من الإحسان والإفضال، وأنَّه هو الحاكم في الدارين؛ في الدُّنيا بالحكم القدريِّ الذي أثَرُهُ جميعُ ما خَلَقَ وذَرَأ، والحكم الدينيِّ الذي أثَرُهُ جميعُ الشرائع والأوامر والنواهي. وفي الآخرة يحكم بحكمِهِ القدريِّ والجزائيِّ،
ولهذا قال: {وإليه تُرْجَعونَ}: فيجازي كلًّا منكم بعملِهِ من خيرٍ وشرٍّ.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)}.
#
{71 ـ 73} هذا امتنانٌ من الله على عبادِهِ؛ يدعوهم به إلى شكرِهِ والقيام بعبوديتِهِ وحقِّه أنْ جَعَلَ لهم من رحمته النهارَ ليبتغوا من فضل الله وينتشروا لطلبِ أرزاقهم ومعايِشِهم في ضيائه، والليلَ ليهدؤوا فيه ويسكُنوا وتستريحَ أبدانُهم وأنفسُهم من تعب التصرُّف في النهار؛ فهذا من فضلِهِ ورحمتِهِ بعبادِهِ؛ فهل أحدٌ يقدرُ على شيءٍ من ذلك فلو جَعَلَ
{عليكُمُ الليلَ سرمداً إلى يوم القيامةِ من إلهٌ غيرُ الله يأتيكم بضياءٍ أفلا تسمعونَ}: مواعظَ الله وآياتِهِ سماعَ فهم وقَبول وانقيادٍ، ولو
{جعل عليكم النَّهار سرمداً إلى يوم القيامة من إلهٌ غيرُ الله يأتيكم بليل تسكُنون فيه أفلا تُبْصِرونَ}: مواقع العِبَرِ ومواضع الآياتِ فتستنير بصائرُكُم وتسلكون الطريق المستقيم،
وقال في الليل: {أفلا تسمعونَ}،
وفي النهار: {أفلا تبصرون}؛ لأن سلطانَ السمع في الليل أبلغُ من سلطانِ البصرِ، وعكسُه النهار.
وفي هذه الآيات تنبيهٌ إلى أنَّ العبد ينبغي له أن يتدبَّر نعم الله عليه، ويستبصرَ فيها، ويقيسَها بحال عدمِها؛ فإنَّه إذا وازنَ بين حالة وجودِها وبين حالةِ عدمِها؛ تنبَّه عقلُه لموضع المنَّةِ؛ بخلاف مَنْ جرى مع العوائدِ، ورأى أنَّ هذا أمرٌ لم يزلْ مستمرًّا ولا يزالُ، وعمي قلبُه عن الثناء على الله بنعمِهِ ورؤيةِ افتقارِهِ إليها في كلِّ وقت؛ فإنَّ هذا لا يحدثُ له فكرة شكرٍ ولا ذكرٍ.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)}.
#
{74 ـ 75} أي: ويوم ينادي اللهُ المشركين به العادلينَ به غيرَه، الذين يزعمونَ أنَّ له شركاءَ يستحقُّون أن يُعبدوا وينفعون ويضرُّون؛ فإذا كان يوم القيامةِ؛ أراد الله أن يُظْهِرَ جراءتهم وكذبهم في زعمهم وتكذيبهم لأنفسهم؛ يناديهم
{أينَ شركائِيَ الذين كنتُم تزعُمون}؛
أي: بزعمهم لا بنفس الأمر؛
كما قال: {وما يَتَّبِعُ الذين يَدْعونَ من دون اللهِ شركاءَ إن يَتَّبِعون إلاَّ الظَّنَّ [وإنْ هم إلاَّ يخرصون]}، فإذا حضروا هم وإيَّاهم؛ نزع
{من كلِّ أمَّةٍ}: من الأمم المكذِّبة
{شهيداً}: يشهدُ على ما جرى في الدُّنيا من شركهم واعتقادِهم، وهؤلاء بمنزلةِ المنتَخَبين؛
أي: انتخبنا من رؤساء المكذِّبين مَنْ يتصدَّى للخصومة عنهم والمجادلة عن إخوانهم، وهم على طريقٍ واحدٍ؛ فإذا برزوا للمحاكمة،
{فقُلْنا هاتوا برهانَكم}: حجَّتَكم ودليلَكم على صحَّةِ شرككم؛ هل أمَرْناكم بذلك؟ هل أمرتْكم رُسُلي؟ هل وجدتُم ذلك في شيء من كُتُبي؟ هل فيهم أحدٌ يستحقُّ شيئاً من الإلهيَّة؟ هل ينفعونكم أو يدفعونَ عنكم من عذاب الله أو يُغنون عنكم؟ فليفعلوا إذاً إن كان فيهم أهليَّةٌ ولْيُروكم إنْ كان لهم قدرةٌ،
{فعلموا}: حينئذٍ بطلانَ قولِهِم وفساده، و
{أنَّ الحقَّ لله}: تعالى، قد توجَّهت عليهم الخصومةُ وانقطعتْ حجَّتهم وأفلجت حجةُ الله،
{وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون}: من الكذبِ والإفك؛ اضمحلَّ وتلاشى وعدم، وعلموا أنَّ الله قد عدل فيهم؛ حيث لم يضعِ العقوبةَ إلاَّ بمن استحقَّها واستأهلها.
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)}.
#
{76} يخبر تعالى عن حالة قارون وما فَعَلَ وفُعِلَ به ونُصِحَ ووُعِظَ،
فقال: {إنَّ قارون كان من قوم موسى}؛
أي: من بني إسرائيل، الذين فَضَلوا العالمين وفاقوهم في زمانهم، وامتَنَّ الله عليهم بما امتنَّ به، فكانت حالُهم مناسبةً للاستقامة، ولكنَّ قارون هذا بغى على قومه، وطغى بما أوتِيَه من الأموال العظيمة المُطْغِيَة،
{وآتَيْناه من الكنوزِ}؛
أي: كنوز الأموال شيئاً كثيراً،
{ما إنَّ مفاتِحَهُ لَتنوءُ بالعصبةِ أولي القوَّةِ}: والعُصبة من العشرة إلى التسعة إلى السبعة ونحو ذلك؛
أي: حتى إنَّ مفاتح خزائنِ أموالِهِ تُثْقِلُ الجماعةَ القويةَ عن حملها؛ هذه المفاتيح؛ فما ظنُّك بالخزائن؟!
{إذ قال له قومُهُ}: ناصحين له محذِّرين له عن الطُّغيان:
{لا تَفْرَحْ إن الله لا يحبُّ الفرِحينَ}؛
أي: لا تفرحْ بهذه الدُّنيا العظيمة، وتفتخرْ بها، وتلهيك عن الآخرة؛ فإنَّ الله لا يحبُّ الفرحين بها المكبِّين على محبَّتها.
#
{77} {وابْتَغ فيما آتاكَ الله الدارَ الآخرةَ}؛
أي: قد حصل عندك من وسائل الآخرة ما ليس عند غيرِك من الأموال، فابتغِ بها ما عندَ الله، وتصدَّقْ، ولا تقتصرْ على مجرَّدِ نيل الشهوات وتحصيل اللذَّات،
{ولا تنسَ نصيبَكَ من الدُّنيا}؛
أي: لا نأمُرُك أن تتصدَّق بجميع مالِكَ وتبقى ضائعاً، بلْ أنفِقْ لآخِرَتِكَ واستمتِعْ بدُنياك استمتاعاً لا يَثْلُمُ دينَك ولا يضرُّ بآخرتك،
{وأحسِنْ}: إلى عباد الله
{كما أحسنَ اللهُ}: عليك بهذه الأموال،
{ولا تَبْغِ الفسادَ في الأرض}: بالتكبُّر والعمل بمعاصي الله والاشتغال بالنِّعَم عن المنعم.
{إنَّ الله لا يحبُّ المفسدينَ}: بل يعاقِبُهم على ذلك أشدَّ العقوبة.
#
{78} فَـ
{قَالَ} قارونُ رادًّا لنصيحتِهِم كافراً لنعمةِ ربِّه:
{إنَّما أوتيتُهُ على علم عندي}؛
أي: إنَّما أدركتُ هذه الأموالَ بكسبي ومعرفتي بوجوه المكاسب وحِذْقي.
أو: على علم من اللهِ بحالي؛ يعلمُ أنِّي أهلٌ لذلك؛ فلم تنصحوني على ما أعطاني الله؟
! قال تعالى مبيِّناً أنَّ عطاءَه ليس دليلاً على حسنِ حالةِ المُعْطَى: {أوَلَمْ يعلمْ أنَّ الله قد أهْلَكَ من قبلِهِ من القرونِ مَنْ هو أشدُّ منه قوَّةً وأكثرُ جمعاً}: فما المانعُ من إهلاك قارون مع مضيِّ عادتِنا وسنَّتِنا بإهلاك مَن هُو مثلُه وأعظمُ منه إذا فَعَلَ ما يوجِب الهلاك؟!
{ولا يُسْألُ عن ذنوبِهِمُ المجرمونَ}: بل يعاقِبُهم الله ويعذِّبهم على ما يعلمُه منهم؛ فهم وإن أثْبتوا لأنفسِهِم حالةً حسنةً وشهِدوا لها بالنَّجاة؛ فليس قولُهم مقبولاً، وليس ذلك رادًّا عنهم من العذاب شيئاً؛ لأنَّ ذنوبَهم غيرُ خفيةٍ؛ فإنكارُهم لها لا محلَّ له.
#
{79} فلم يزل قارونُ مستمرًّا على عنادِهِ وبغيِهِ وعدم قَبول نصيحةِ قومِهِ، فرحاً بطراً، قد أعجبتْه نفسُه وغرَّه ما أوتيه من الأموال،
{فخرج} ذات يوم
{في زينتِهِ}؛
أي: بحالةٍ أرفع ما يكونُ من أحوال دُنياه، قد كان له من الأموال ما كان، وقد استعدَّ وتجمَّل بأعظم ما يمكنه، وتلك الزينةُ في العادة من مثله تكونُ هائلةً، جمعت زينة الدُّنيا وزهرتها وبهجتها وغضارتها وفخرها، فرمقتْه في تلك الحالة العيونُ، وملأت بَزَّتُه القلوب، واختلبت زينته النفوس، فانقسم فيه الناظرون قسمين، كلٌّ تكلَّم بحسب ما عنده من الهمَّة والرغبة، فَـ
{قَالَ الذين يريدونَ الحياة الدنيا}؛
أي: الذين تعلَّقَتْ إرادتُهم فيها، وصارت منتهى رغبتِهِم،
ليس لهم إرادةٌ في سواها: {يا ليتَ لنا مثلَ ما أوتي قارونُ}: من الدُّنيا ومتاعها وزهرتها،
{إنَّه لذو حظٍّ عظيم}: وصدقوا إنَّه لذو حظٍّ عظيم لو كان الأمر منتهياً إلى رغباتهم وإنَّه ليس وراء الدُّنيا دار أخرى؛ فإنَّه قد أُعْطِيَ منها ما به غايةُ التنعم بنعيم الدنيا، واقتدر بذلك على جميع مطالبه، فصار هذا الحظُّ العظيم بحسب هِمَّتِهم، وإنَّ هِمَّةً جعلت هذا غاية مرادها ومنتهى مطلبها؛ لمن أدنى الهمم وأسفلها وأدناها، وليس لها أدنى صعود إلى المرادات العالية والمطالب الغالية.
#
{80} {وقال الذين أوتوا العلم}: الذين عرفوا حقائقَ الأشياء ونظروا إلى باطن الدنيا حين نظر أولئك إلى ظاهرها:
{ويلَكُم}: متوجِّعين من ما تمنَّوا لأنفسهم، راثين لحالهم، منكرين لمقالهم،
{ثوابُ الله}: العاجلُ من لذَّة العبادة ومحبَّته والإنابة إليه والإقبال عليه، والآجلُ من الجنَّة وما فيها ممَّا تشتهيه الأنفس وتلذُّ الأعينُ خير من هذا الذي تمنَّيْتُم ورغبتُم فيه؛ فهذه حقيقة الأمر، ولكنْ ما كلُّ مَنْ يعلم ذلك يؤثر الأعلى على الأدنى، فما يُلَقَّى ذلك ويوفَّقُ له
{إلاَّ الصابِرونَ}: الذين حبسوا أنفسَهم على طاعة الله وعن معصيتِهِ وعلى أقدارِهِ المؤلمةِ وصبروا على جواذب الدُّنيا وشهواتِها أن تَشْغَلَهم عن ربِّهم وأن تحولَ بينهم وبينَ ما خُلِقوا له؛ فهؤلاء الذين يؤثرون ثوابَ الله على الدُّنيا الفانية.
#
{81} فلما انتهت بقارونَ حالةُ البغي والفخرِ، وازَّيَّنت الدُّنيا عنده، وكَثُر بها إعجابُه؛ بَغَتَهُ العذاب،
{فَخَسَفْنا به وبدارِهِ الأرضَ}: جزاء من جنس عملِهِ؛ فكما رفع نفسه على عباد الله؛ أنزله الله أسفلَ سافلين هو وما اغترَّ به من داره وأثاثِهِ ومتاعِهِ.
{فما كان له من فئةٍ}؛
أي: جماعةٍ وعصبةٍ وخدمٍ وجنودٍ،
{ينصرونَه من دونِ الله وما كان من المنتصرين}؛
أي: جاءه العذاب فما نُصِرَ ولا انْتَصَرَ.
#
{82} {وأصبح الذين تَمَنَّوا مكانه بالأمس}؛
أي: الذين يريدونَ الحياة الدنيا،
الذين قالوا: يا ليت لنا مثل ما أوتي قارونُ
{يقولون}: متوجِّعين ومعتَبِرين وخائفينَ من وقوع العذاب بهم:
{ويكأنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرزقَ لِمَن يشاءُ من عبادِهِ ويقدِرُ}؛
أي: يضيِّقُ الرزق على من يشاء. فعلمنا حينئذٍ أنَّ بسطَه لقارون ليس دليلاً على خير فيه،
وأنَّنا غالطون في قولنا: إنَّه لذو حظٍّ عظيم، و
{لولا أن مَنَّ الله علينا}: فلم يعاقِبْنا على ما قُلْنا؛ فلولا فضلُه ومنَّتُه؛
{لخسف بنا}: فصار هلاكُ قارون عقوبةً له وعبرةً وموعظةً لغيرِهِ، حتى إنَّ الذين غبطوه سمعتَ كيف ندِموا، وتغيَّر فِكْرُهم الأول،
{ويكأنَّه لا يفلحُ الكافرون}؛
أي: لا في الدنيا، ولا في الآخرة.
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)}.
#
{83} لما ذَكَرَ تعالى قارونَ وما أوتيه من الدُّنيا وما صارتْ إليه عاقبةُ أمره،
وأنَّ أهل العلم قالوا: ثوابُ الله خيرٌ لمن آمنَ وعمل صالحاً؛ رغَّب تعالى في الدار الآخرة، وأخبر بالسبب الموصل إليها،
فقال: {تلك الدارُ الآخرةُ}: التي أخبر الله بها في كتبِهِ وأخبرت بها رسلُه التي قد جمعت كلَّ نعيم واندفع عنها كلُّ مكدِّر ومنغِّص،
{نجعلُها}: داراً وقراراً
{للذين لا يريدونَ علوًّا في الأرض ولا فساداً}؛
أي: ليس لهم إرادةٌ؛ فكيف العملُ للعلوِّ في الأرض على عبادِ الله والتكبُّر عليهم وعلى الحقِّ؟!
{ولا فساداً}: وهذا شاملٌ لجميع المعاصي؛ فإذا كان لا إرادة لهم في العلوِّ في الأرض ولا الفسادِ ؛ لزم من ذلك أن تكون إرادتُهم مصروفةً إلى الله، وقصدُهم الدارَ الآخرة، وحالُهُم التواضعَ لعبادِ الله والانقيادَ للحقِّ والعملَ الصالح، وهؤلاء هم المتَّقون، الذين لهم العاقبة،
ولهذا قال: {والعاقبةُ}؛
أي: حالة الفلاح والنجاح التي تستقرُّ وتستمرُّ لمن اتَّقى الله تعالى. وغيرهم، وإنْ حَصَلَ لهم بعضُ الظهور والراحة؛ فإنَّه لا يطولُ وقتُه، ويزولُ عن قريب.
وعلم من هذا الحصر في الآية الكريمة أنَّ الذين يريدونَ العلوَّ في الأرض أو الفساد ليس لهم في الدار الآخرة نصيبٌ، ولا لهم منها نصيبٌ.
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)}.
#
{84} يخبر تعالى عن مضاعفة فضلِهِ وتمام عدلِهِ،
فقال: {من جاء بالحسنة}: شَرَطَ فيها أنْ يأتي بها العاملُ؛ لأنه قد يَعْمَلُها ولكن يقترن بها ما لا تُقْبَلُ منه أو يُبْطِلُها؛ فهذا لم يجِئْ بالحسنة، والحسنةُ اسم جنس يشملُ جميعَ ما أمر الله به ورسولُه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة المتعلِّقة بحقِّه تعالى وحقوق العباد ،
{فله خيرٌ منها}؛
أي: أعظم وأجلُّ،
وفي الآية الأخرى: {فله عَشْرُ أمثالِها}: هذا التضعيف للحسنةِ لا بدَّ منه، وقد يقترنُ بذلك من الأسباب ما تزيدُ به المضاعفة؛
كما قال تعالى: {والله يضاعِفُ لِمَن يشاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ}: بحسب حالِ العاملِ وعملِهِ ونفعِهِ ومحلِّه ومكانِهِ،
{ومن جاء بالسيِّئةِ}: وهي كلُّ ما نهى الشارعُ عنه نهي تحريم؛
{فلا يُجْزى الذين عَمِلوا السيئاتِ إلاَّ ما كانوا يعملونَ}؛
كقوله تعالى: {مَن جاء بالحسنةِ فله عشرُ أمثالِها ومن جاءَ بالسيِّئةِ فلا يُجْزى إلاَّ مثلَها وهم لا يُظلمون}.
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)}.
#
{85} يقول تعالى:
{إنَّ الذي فَرَضَ عليك القرآنَ}؛
أي: أنزله، وفرضَ فيه الأحكام، وبيَّن فيه الحلال والحرام، وأمرك بتبليغِهِ للعالمين والدعوةِ لأحكامِهِ جميع المكلَّفين؛ لا يليقُ بحكمته أنْ تكون الحياة هي الحياةَ الدُّنيا فقط من غير أن يُثاب العبادُ ويعاقَبوا، بل لا بدَّ أن يَرُدَّكَ إلى معادٍ يُجازَى فيه المحسنونَ بإحسانهم والمسيئون بمعصِيَتِهِم، وقد بيَّنت لهم الهدى وأوضحت لهم المنهجَ؛ فإنْ تَبِعوكَ؛ فذلك حظُّهم وسعادتُهم، وإنْ أبَوْا إلاَّ عِصْيانَكَ والقدحَ بما جئتَ به من الهُدى وتفضيلَ ما معهم من الباطل على الحقِّ؛ فلم يبقَ للمجادلةِ محلٌّ، ولم يبقَ إلاَّ المجازاةُ على الأعمال من العالِمِ بالغيب والشهادة والمحقِّ والمبطل،
ولهذا قال: {قل ربِّي أعلمُ مَن جاء بالهدى ومَنْ هو في ضلالٍ مبين}: وقد علم أنَّ رسولَه هو المهتدي الهادي، وأنَّ أعداءَه هم الضالُّون المضلُّون.
#
{86} {وما كنتَ تَرْجو أن يُلْقى إليك الكتابُ}؛
أي: لم تكنْ متحرِّياً لنزول هذا الكتاب عليك، ولا مستعدًّا له، ولا متصدِّياً،
{إلاَّ رحمةً من ربِّك}: بك وبالعباد، فأرسلك بهذا الكتاب الذي رَحِمَ به العالمينَ، وعلَّمهم ما لم يكونوا يعلَمون، وزكَّاهم وعلَّمهم الكتاب والحكمة، وإنْ كانوا من قبلُ لَفي
{ضلال مبينٍ}: فإذا علمتَ أنَّه أنزله إليك رحمةً منه؛ علمتَ أنَّ جميع ما أمر به ونهى عنه؛ فإنَّه رحمةٌ وفضلٌ من الله؛ فلا يكنْ في صدرِك حرجٌ من شيءٍ منه، وتظنَّ أنَّ مخالِفَه أصلحُ وأنفع،
{فلا تكوننَّ ظهيراً للكافرينَ}؛
أي: معيناً لهم على ما هو من شُعَبِ كفرِهم،
ومن جملة مظاهَرَتِهم أن يُقال في شيءٍ منه: إنَّه خلافُ الحكمة والمصلحة والمنفعة.
#
{87} {ولا يَصُدُّنَّكَ عن آياتِ الله بعد إذْ أُنزِلَتْ إليك}: بل أبْلِغْها وأنْفِذْها، ولا تُبالِ بمكرِهم، ولا يَخْدَعُنَّكَ عنها، ولا تتبعْ أهواءهم،
{وادعُ إلى ربِّك}؛
أي: اجعل الدعوة إلى ربِّك منتهى قصدِكَ وغاية عَمَلِكَ، فكلُّ ما خالف ذلك؛ فارفُضْه من رياءٍ أو سمعةٍ أو موافقةِ أغراض أهل الباطل؛ فإنَّ ذلك داعٍ إلى الكون معهم ومساعدتهم على أمرهم،
ولهذا قال: {ولا تكوننَّ من المشركينَ}: لا في شركهم، ولا في فروعه وشعبه التي هي جميع المعاصي.
#
{88} {ولا تَدْعُ مع الله إلهاً آخرَ}: بل أخلِصْ لله عبادتَك؛ فإنَّه
{لا إله إلاَّ هو}: فلا أحدَ يستحقُّ أن يؤلَّه ويحبَّ ويعبدَ إلاَّ الله الكامل الباقي الذي
{كلُّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وَجْهَه}: وإذا كان كلُّ شيءٍ هالكٌ مضمحلٌّ سواه؛ فعبادة الهالك الباطل باطلةٌ ببطلان غايتها وفساد نهايتها،
{له الحكمُ}: في الدُّنيا والآخرة،
{وإليه}: لا إلى غيره
{تُرْجَعون}: فإذا كان ما سوى الله باطلاً هالكاً، والله هو الباقي الذي لا إله إلاَّ هو، وله الحكم في الدُّنيا والآخرة، وإليه مرجِعُ الخلائق كلِّهم؛ ليجازِيَهم بأعمالهم؛ تعيَّن على مَنْ له عقلٌ أنْ يعبدَ الله وحدَه لا شريك له، ويعملَ لما يقرِّبُه ويُدْنيه، ويحذَرَ من سخطِهِ وعقابِهِ، وأن يُقْدِمَ على ربِّه غير تائبٍ ولا مقلع عن خطئِهِ وذنوبِهِ.
تم تفسير سورة القصص.
ولله الحمد والثناء والمجد دائماً أبداً.
* * *