آية:
تفسير سورة النور
تفسير سورة النور
وهي مدينة
آية: 1 #
{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)}.
# {1} أي: هذه {سورةٌ} عظيمةُ القَدْرِ، {أنْزَلْناها}: رحمةً منَّا بالعباد، وحفظناها من كلِّ شيطان، {وفَرَضْناها}؛ أي: قدَّرنا فيها ما قدَّرنا من الحدود والشهادات وغيرها، {وأنزلنا فيها آياتٍ بيِّناتٍ}؛ أي: أحكاماً جليلةً وأوامر وزواجر وحِكماً عظيمة؛ {لعلَّكم تذكَّرون}: حين نبيِّنُ لكم، ونُعْلِمُكم ما لم تكونوا تعلمون.
ثم شرع في بيان تلك الأحكام المشار إليها، فقال:
آية: 2 #
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)}.
# {2} هذا الحكم في الزاني والزانية البكرين: أنَّهما يُجلد كلٌّ منهما مائة جلدةٍ، وأما الثيِّب؛ فقد دلَّت السنة الصحيحة المشهورة أنَّ حدَّه الرجم. ونهانا تعالى أن تأخُذَنا رأفةٌ بهما في دين الله تمنعُنا من إقامة الحدِّ عليهما، سواء رأفة طبيعيَّة، أو لأجل قرابة أو صداقة أو غير ذلك، وأنَّ الإيمان موجبٌ لانتفاء هذه الرأفة المانعة من إقامة أمرِ الله؛ فرحمتُه حقيقةً بإقامة الحدِّ عليه، فنحنُ وإن رَحِمْناه لِجَرَيان القدر عليه؛ فلا نَرْحَمُه من هذا الجانب. وأمَرَ تعالى أن يَحْضُرَ عذابَ الزانيين {طائفةٌ}؛ أي: جماعة من المؤمنين؛ ليشتهر ويحصُلَ بذلك الخزي والارتداع، وليشاهدوا الحدَّ فعلاً؛ فإنَّ مشاهدة أحكام الشرع بالفعل مما يَقْوى به العلم، ويستقرُّ بها الفهم، ويكونُ أقربَ لإصابة الصواب؛ فلا يزادُ فيه ولا ينقص. والله أعلم.
آية: 3 #
{الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)}.
# {3} هذا بيان لرذيلة الزنا، وأنه يدنِّس عِرْض صاحبه وعِرْض مَنْ قارَنَه ومازَجَه ما لا يفعله بقيةُ الذنوب، فأخبر أن الزاني لا يُقْدِمُ على نكاحه من النساء إلا أنثى زانيةٌ تناسب حالُه حالَها، أو مشركةٌ بالله لا تؤمن ببعثٍ ولا جزاءٍ، ولا تلتزمُ أمر الله. والزانيةُ كذلك لا ينكِحُها إلا زانٍ أو مشركٌ. {وحُرِّم ذلك على المؤمنين}؛ أي: حرم عليهم أن يُنْكِحُوا زانياً أو يَنْكِحُوا زانيةً. ومعنى الآية أنَّ مَن اتَّصف بالزِّنا من رجل أو امرأة، ولم يَتُبْ من ذلك؛ أن المُقْدِمَ على نكاحِهِ مع تحريم الله لذلك لا يخلو إمَّا أنْ لا يكون ملتزماً لحكم الله ورسولِهِ؛ فذاك لا يكون إلاَّ مشركاً، وإمَّا أنْ يكون ملتزماً لحكم الله ورسولِهِ، فأقدم على نكاحِهِ، مع علمه بزناه؛ فإنَّ هذا النكاح زنا، والناكح زانٍ مسافح؛ فلو كان مؤمناً بالله حقًّا؛ لم يُقْدِمْ على ذلك. وهذا دليلٌ صريحٌ على تحريم نكاح الزانية حتى تتوبَ، وكذلك نكاح الزاني حتى يتوبَ؛ فإنَّ مقارنة الزوج لزوجته والزوجة لزوجها أشدُّ الاقترانات والازدواجات، وقد قال تعالى: {احشُروا الذين ظلموا وأزواجَهم}؛ أي: قرناءهم، فحرَّم اللهُ ذلك لما فيه من الشرِّ العظيم، وفيه من قِلَّةِ الغَيْرَةِ وإلحاق الأولاد الذين ليسوا من الزوج، وكون الزاني لا يعفها بسبب اشتغاله بغيرها؛ مما بعضُه كافٍ في التحريم. وفي هذا دليلٌ أنَّ الزاني ليس مؤمناً كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ» ؛ فهو وإنْ لم يكن مشركاً،؛ فلا يُطْلَقُ عليه اسم المدح الذي هو الإيمانُ المطلق.
آية: 4 - 5 #
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}.
# {4} لما عظَّم تعالى أمر الزنا بوجوب جلدِهِ وكذا رَجْمِهِ إن كان محصناً، وأنَّه لا تجوز مقارنته ولا مخالطته على وجهٍ لا يَسْلَم فيه العبدُ من الشرِّ؛ بيَّن تعالى تعظيم الإقدام على الأعراض بالرمي بالزِّنا، فقال: {والذين يرمونَ المحصناتِ}؛ أي: النساء الأحرار العفائف، وكذلك الرجال، لا فرق بين الأمرين، والمرادُ بالرمي الرميُ بالزنا؛ بدليل السياق. {ثم لم يأتوا}: على ما رموا به {بأربعة شهداء}؛ أي: رجال عدول يشهدون بذلك صريحاً {فاجْلُدوهم ثمانينَ جلدةً}: بسوطٍ متوسطٍ يؤلِمُ فيه، ولا يبالِغُ بذلك حتى يُتْلِفَه؛ لأن القصد التأديب لا الإتلاف. وفي هذا تقريرُ حدِّ القذف، ولكن بشرط أن يكون المقذوف كما قال تعالى محصناً مؤمناً، وأما قذف غير المحصن؛ فإنَّه يوجِبُ التعزير، {ولا تَقْبَلوا لهم شهادةً أبداً}؛ أي: لهم عقوبة أخرى، وهو أنَّ شهادة القاذف غير مقبولة، ولو حُدَّ على القَذْفِ، حتى يتوبَ؛ كما يأتي. {وأولئكَ هم الفاسقونَ}؛ أي: الخارجون عن طاعة الله، الذين قد كَثُرَ شرُّهم، وذلك لانتهاك ما حرَّم الله، وانتهاك عِرْضِ أخيه، وتسليط الناس على الكلام بما تكلَّم به، وإزالة الأخوة التي عقدها الله بين أهل الإيمان، ومحبَّة أن تَشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا. وهذا دليلٌ على أن القذف من كبائر الذنوب.
# {5} وقوله: {إلاَّ الذين تابوا من بعدِ ذلك وأصْلَحوا فإنَّ الله غفورٌ رحيمٌ}: فالتوبة في هذا الموضع أن يُكَذِّبَ القاذفُ نفسه، ويقرَّ أنَّه كاذبٌ فيما قال، وهو واجبٌ عليه أن يُكَذِّبَ نفسه، ولو تيقَّن وقوعَه؛ حيث لم يأتِ بأربعة شهداءَ؛ فإذا تاب القاذف وأصلح عَمَلَه وبدَّل إساءته إحساناً؛ زال عنه الفسقُ، وكذلك تُقبل شهادتُه على الصحيح؛ {فإنَّ الله غفورٌ رحيمٌ}، يغفِرُ الذنوبَ جميعاً لمن تاب وأناب. وإنَّما يُجْلَدُ القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء إذا لم يكن زوجاً؛ فإنْ كان زوجاً؛ فقد ذُكِرَ بقوله:
آية: 6 - 10 #
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}.
وإنَّما كانت شهاداتُ الزوج على زوجتِهِ دارئةً عنه الحدَّ؛ لأنَّ الغالب أنَّ الزوج لا يُقْدِمُ على رمي زوجتِهِ التي يدنِّسُه ما يدنِّسُها إلا إذا كان صادقاً، ولأنَّ له في ذلك حقًّا، وخوفاً من إلحاق أولادٍ ليسوا منه به، ولغير ذلك من الحكم المفقودة في غيره، فقال:
# {6 ـ 7} {والذين يرمون أزواجهم}؛ أي: الأحرار لا المملوكات {ولم يكن لهم}: على رَمْيِهِم بذلك {شهداءُ إلاَّ أنفسُهُم}: بأن لم يُقيموا شهداء على ما رموهم به، {فشهادةُ أحدِهم أربعُ شهاداتٍ بالله إنَّه لَمِنَ الصادقين}: سماها شهادةً لأنها نائبةٌ منابَ الشهود؛ بأن يقولَ: أشهدُ بالله أنِّي لمن الصادقين فيما رميتُها به. {والخامسةُ أنَّ لعنةَ الله عليه إن كان من الكاذبين}؛ أي: يزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة مؤكِّداً تلك الشهادات بأن يَدْعُوَ على نفسه باللعنة إنْ كان كاذباً؛ فإذا تَمَّ لعانُه؛ سقط عنه حدُّ القذف. وظاهرُ الآياتِ ولو سمَّى الرجلَ الذي رماها به؛ فإنَّه يسقطُ حقُّه تَبَعاً لها. وهل يُقام عليها الحدُّ بمجرَّد لعان الرجل ونكولها أم تُحبس؟ فيه قولانِ للعلماء، الذي يدلُّ عليه الدليل أنه يُقام عليها الحدُّ؛ بدليل قوله: {ويدرؤوا عنها العذابَ أن تَشْهَدَ ... } إلى آخره؛ فلولا أنَّ العذاب ـ وهو الحدُّ ـ قد وَجَبَ بلعانِهِ؛ لم يكن لعانها دارئاً له.
# {8 ـ 9} {ويدرؤوا عنها}؛ أي: يدفع عنها العذاب إذا قابلتْ شهادات الزوج بشهاداتٍ من جنسها؛ {أن تَشْهَدَ أربعَ شهاداتٍ بالله إنَّه لَمِنَ الكاذبين}، وتزيدُ في الخامسة مؤكِّدةً لذلك أن تدعُوَ على نفسها بالغضب، فإذا تمَّ اللِّعان بينهما؛ فُرِّقَ بينَهما [إلى] الأبد، وانتفى الولد الملاعن عنه. وظاهر الآيات يدلُّ على اشتراط هذه الألفاظ عند اللِّعان منه ومنها، واشتراط الترتيب فيها، وأنْ لا يُنْقَصَ منها شيءٌ ولا يبدَّل شيء بشيء، وأنَّ اللعان مختصٌّ بالزوج إذا رمى امرأته، لا بالعكس، وأنَّ الشبه في الولد مع اللعان لا عبرةَ به؛ كما لا يعتبر مع الفراش، وإنما يعتبر الشبه حيث لا مرجِّح إلاَّ هو.
# {10} {ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه وأنَّ الله تَوَّابٌ حكيمٌ}: وجواب الشرط محذوفٌ يدلُّ عليه سياق الكلام؛ أي: لأحلَّ بأحد المتلاعنين الكاذب منهما ما دعا به على نفسه، ومن رحمتِهِ وفضلِهِ ثبوتُ هذا الحكم الخاصِّ بالزوجين؛ لشدَّة الحاجة إليه، وأنْ بيَّنَ لكم شدَّة الزِّنا وفظاعته وفظاعة القذف به، وأنْ شَرَعَ التوبة من هذه الكبائر وغيرها.
آية: 11 - 26 #
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)}.
لما ذكر فيما تقدَّم تعظيم الرمي بالزِّنا عموماً؛ صار ذلك كأنَّه مقدِّمة لهذه القصَّة التي وقعت على أشرف النساء أم المؤمنين رضي الله عنها، وهذه الآياتُ نزلتْ في قصة الإفك المشهورة الثابتة في الصحاح والسُّنن والمساند ، وحاصلُها أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته ومعه زوجتُهُ عائشة الصديقةُ بنت الصديق، فانقطع عِقْدُها، فانحبست في طلبه، ورَحَّلوا جَمَلَها وهَوْدَجَها فلم يَفْقِدوها، ثم استقلَّ الجيش راحلاً، وجاءت مكانَهم، وعلمتْ أنَّهم إذا فقدوها؛ رجعوا إليها، فاستمروا في مسيرِهم، وكان صفوانُ بن المعطل السُّلميُّ من أفاضل الصحابة رضي الله عنه، قد عرَّس في أخريات القوم ونام، فرأى عائشة رضي الله عنها، فعرفها، فأناخ راحلتَه، فركِبَتْها من دون أن يكلِّمَها أو تكلِّمَه، ثم جاء يقودُ بها بعدما نزل الجيشُ في الظهيرة، فلما رأى بعضُ المنافقين الذين في صحبة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك السفر مجيء صفوان بها في هذه الحال؛ أشاع ما أشاع، ووشي الحديث، وتلقَّفته الألسن، حتى اغترَّ بذلك بعضُ المؤمنين، وصاروا يتناقلون هذا الكلام، وانحبس الوحي مدةً طويلةً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغ الخبرُ عائشة بعد ذلك بمدَّة، فحزنت حزناً شديداً؛ فأنزل الله براءتها في هذه الآيات، ووعظَ الله المؤمنينَ وأعْظَمَ ذلك، ووصَّاهم بالوصايا النافعة.
# {11} فقوله تعالى: {إنَّ الذين جاؤوا بالإفكِ}؛ أي: الكذب الشنيع، وهو رمي أم المؤمنين، {عصبةٌ منكُم}؛ أي: جماعة منتسِبون إليكم يا معشر المؤمنين، منهم المؤمن الصادقُ في إيمانه، لكنَّه اغترَّ بترويج المنافقين، ومنهم المنافق. {لا تَحْسَبوه شرًّا لكم بل هو خيرٌ لكم}: لِما تضمَّنَ ذلك تبرئةَ أمِّ المؤمنين ونزاهتَها والتنويهَ بذِكْرها، حتى تناول عمومُ المدح سائرَ زوجاتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولِما تضمَّن من بيان الآياتِ المضطرِّ إليها العباد، التي ما زال العملُ بها إلى يوم القيامة؛ فكل هذا خيرٌ عظيمٌ، لولا مقالَةُ أهل الإفك، لم يحصل بذلك ، وإذا أراد الله أمراً؛ جعل له سبباً، ولذلك جَعَلَ الخطابَ عامًّا مع المؤمنين كلهم، وأخبر أنَّ قَدْحَ بعضِهم ببعض كقدح في أنفسهم؛ ففيه أنَّ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم واجتماعِهم على مصالحهم كالجسدِ الواحدِ، والمؤمنُ للمؤمن كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضاً؛ فكما أنَّه يكره أن يَقْدَحَ أحدٌ في عرضه؛ فليكرهْ مِنْ كلِّ أحدٍ أن يَقْدَحَ في أخيه المؤمن الذي بمنزلة نفسه، وما لم يصل العبدُ إلى هذه الحالة؛ فإنَّه من نَقْصِ إيمانه وعدم نُصحه. {لكلِّ امرئٍ منهم ما اكْتَسَبَ من الإثم}: وهذا وعيدٌ للذين جاؤوا بالإفك، وأنَّهم سيُعاقبون على ما قالوا من ذلك، وقد حدَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منهم جماعةً، {والذي تَوَلَّى كِبْرَهُ}؛ أي: معظم الإفك، وهو المنافقُ الخبيثُ عبد الله بن أُبيّ بن سَلول لعنه الله. {له عذابٌ عظيمٌ}: ألا وهو الخلودُ في الدرك الأسفل من النار.
# {12} ثم أرشدَ الله عباده عند سماع مثل هذا الكلام، فقال: {لولا إذْ سَمِعْتُموه ظنَّ المؤمنون والمؤمناتُ بأنفسِهم خيراً}؛ أي: ظنَّ المؤمنون بعضُهم ببعضٍ خيراً، وهو السلامة مما رُمُوا به، وأنَّ ما معهم من الإيمان المعلوم يَدْفَعُ ما قيل فيهم من الإفك الباطل. {وقالوا} بسبب ذلك الظَّنِّ: {سبحانك}؛ أي: تنزيهاً لك من كلِّ سوء، وعن أن تَبتليَ أصفياءك بالأمور الشنيعة. {هذا إفكٌ مبينٌ}؛ أي: كذبٌ وبهتٌ من أعظم الأشياء وأبينها؛ فهذا من الظنِّ الواجب حين سماع المؤمن عن أخيه المؤمن مثلَ هذا الكلام، وأن يبرِئَه بلسانِهِ، ويكذِّبَ القائل لذلك.
# {13} {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداءَ}؛ أي: هلاَّ جاء الرامون على ما رَمَوْا به بأربعة شهداء؛ أي: عدول مرضيين، {فإذْ لم يأتوا بالشهداءِ فأولئك عندَ اللهِ هم الكاذبونَ}: وإن كانوا في أنفسِهم قد تيقَّنوا ذلك؛ فإنَّهم كاذبونَ في حكم الله؛ لأنَّه حرَّمَ عليهم التكلُّم بذلك من دون أربعة شهود، ولهذا قال: {فأولئك عند الله هم الكاذبون}: ولم يَقُلْ: فأولئك هم الكاذبون، وهذا كلُّه من تعظيم حرمةِ عِرْضِ المسلم؛ بحيثُ لا يجوز الإقدام على رميِهِ من دون نِصاب الشهادة بالصدق.
# {14} {ولولا فضلُ اللهِ عليكم ورحمتُهُ في الدُّنيا والآخرة}: بحيث شملكم إحسانُه فيهما في أمر دينكم ودنياكم {لَمَسَّكُم فيما أفَضْتُم}؛ أي: خضتم {فيه}: من شأن الإفك {عذابٌ عظيمٌ}: لاستحقاقِكم ذلك بما قلتُم، ولكن من فضل الله عليكم ورحمتِهِ أن شَرَعَ لكم التوبةَ، وجعل العقوبةَ مطهِّرةً للذنوب.
# {15} {إذ تَلَقَّوْنَه بألسِنَتِكم}؛ أي: تلقَّفونه ويُلقيه بعضُكم إلى بعض وتستوشون حديثَه وهو قولٌ باطلٌ. {وتقولون بأفواهِكُم ما ليس لكم به علمٌ}: والأمران محظوران؛ التكلُّم بالباطل، والقولُ بلا علم. {وتحسبونَه هيِّناً}: فلذلك أقدمَ عليه مَن أقدمَ مِن المؤمنين الذين تابوا منه. وتطهَّروا بعد ذلك. {وهو عندَ الله عظيمٌ}: وهذا فيه الزجرُ البليغ عن تعاطي بعض الذُّنوب على وجه التهاون بها؛ فإنَّ العبدَ لا يُفيدُه حسبانُه شيئاً، ولا يخفِّف من عقوبتِهِ الذنب، بل يضاعِفُ الذنب، ويسهلُ عليه مواقعتُه مرةً أخرى.
# {16} {ولولا إذ سمِعْتُموه}؛ أي: وهلاَّ إذ سمعتُم أيها المؤمنون كلامَ أهل الإفك، {قلتم}: منكرين لذلك معظِّمين لأمرِه: {ما يكونُ لنا أن نتكَلَّمَ بهذا}؛ أي: ما ينبغي لنا وما يليقُ بنا الكلامُ بهذا الإفك المبين؛ لأنَّ المؤمن يمنعُه إيمانُه من ارتكاب القبائح. {هذا بهتانٌ}؛ أي: كذب {عظيمٌ}.
# {17} {يعِظُكم اللهُ أن تعودوا لمثلِهِ}؛ أي: لنظيره من رمي المؤمنين بالفُجور؛ فالله يعِظُكم وينصحُكم عن ذلك، ونعم المواعظ والنصائح من ربِّنا؛ فيجبُ علينا مقابلتُها بالقبول والإذعان والتسليم والشُّكر له على ما بيَّن لنا، أنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكم به. {إنْ كنتُم مؤمنينَ}: دلَّ ذلك على أنَّ الإيمان الصادق يمنعُ صاحبه من الإقدام على المحرَّمات.
# {18} {ويبيِّن اللهُ لكم الآياتِ}: المشتملة على بيان الأحكام والوعظِ والزجر والترغيب والترهيب، يوضِّحُها لكم توضيحاً جليًّا. {والله عليم (حكيم) }؛ أي: كامل العلم، عامُّ الحكمة؛ فمن علمِهِ وحكمتِهِ أن علَّمكم من علمه، وإنْ كان ذلك راجعاً لمصالحكم في كلِّ وقت.
# {19} {إنَّ الذين يحبُّونَ أن تشيعَ الفاحشةُ}؛ أي: الأمور الشنيعة المستَقْبَحة، فيحبُّون أن تشتهر الفاحشة {في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ}؛ أي: موجع للقلب والبدن، وذلك لغشِّه لإخوانه المسلمين، ومحبة الشرِّ لهم، وجراءته على أعراضهم؛ فإذا كان هذا الوعيد لمجرَّد محبَّة أن تشيعَ الفاحشةُ واستحلاء ذلك بالقلب؛ فكيف بما هو أعظمُ من ذلك من إظهارِهِ ونقلِهِ؟ وسواء كانت الفاحشةُ صادرةً أو غير صادرةٍ، وكل هذا من رحمة الله لعباده المؤمنين، وصيانة أعراضهم؛ كما صان دماءهم وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحبَّ أحدُهم لأخيه ما يحبُّ لنفسه، ويكرَهَ له ما يكرَهُ لنفسه. {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}: فلذلك علَّمكم، وبيَّن لكم ما تجهلونَه.
# {20} {ولولا فضلُ الله عليكم}: قد أحاط بكم من كلِّ جانب {ورحمتُهُ} عليكم، {وأنَّ الله رءوفٌ رحيم}: لما بيَّن لكم هذه الأحكام والمواعظ والحِكَم الجليلة، ولمَا أمهلَ من خالف أمره، ولكنَّ فضلَه ورحمتَه، وأنَّ ذلك وصفه اللازم أثر لكم من الخيرِ الدنيويِّ والأخرويِّ ما لن تحصوه أو تعدُّوه.
# {21} ولما نهى عن هذا الذنب بخصوصِهِ؛ نهى عن الذُّنوب عموماً، فقال: {يا أيُّها الذين آمنوا لا تتَّبِعوا خطواتِ الشيطانِ}؛ أي: طرقَه ووساوسَه. وخطواتُ الشيطان يدخُلُ فيها سائرُ المعاصي المتعلِّقة بالقلب واللسان والبدن. ومن حكمتِهِ تعالى أن بيَّن الحُكْمَ ـ وهو النهي عن اتِّباع خطوات الشيطان ـ والحِكْمة ـ وهو بيانُ ما في المنهيِّ عنه من الشرِّ المقتضي والداعي لتركه ـ، فقال: {ومَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشيطانِ فإنَّه}؛ أي: الشيطان {يأمُرُ بالفحشاءِ}؛ أي: ما تستفحشُه العقول والشرائعُ من الذُّنوب العظيمة مع ميل بعض النفوس إليه، {والمنكَرِ}: وهو ما تُنْكِرُهُ العقولُ ولا تعرِفُه؛ فالمعاصي التي هي خُطُوات الشيطان لا تَخْرُجُ عن ذلك، فنهى الله عنها العبادَ نعمةً منه عليهم أن يشكُروه ويَذْكُروه؛ لأنَّ ذلك صيانةٌ لهم عن التدنُّس بالرذائل والقبائح؛ فمن إحسانِهِ عليهم أنْ نهاهم عنها كما نهاهم عن أكل السموم القاتلة ونحوها. {ولولا فضلُ اللهِ عليكُم ورحمتُهُ ما زكى منكُم من أحدٍ أبداً}؛ أي: ما تطهَّر من اتِّباع خطواتِ الشيطانِ؛ لأنَّ الشيطان يسعى هو وجندُه في الدعوة إليها وتحسينِها، والنفس ميالةٌ إلى السوء أمَّارةٌ به، والنقصُ مستولٍ على العبدِ من جميع جهاتِهِ، والإيمانُ غير قويٍّ؛ فلو خُلِّي وهذه الدواعي؛ ما زكى أحدٌ بالتطهُّرِ من الذُّنوب والسيئات والنماء بفعل الحسنات؛ فإنَّ الزكاء يتضمَّن الطهارة والنماء، ولكنَّ فضلَه ورحمتَه أوجبا أن يتزكَّى منكم من تزكَّى، وكان من دعاء النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللهمَّ! آتِ نفسي تَقْواها، وزكِّها أنت خيرُ من زَكَّاها، أنت وَلِيُّها ومولاها». ولهذا قال: {ولكنَّ الله يزكِّي مَن يشاءُ}: من يعلمُ منه أن يتزكَّى بالتزكية، ولهذا قال: {والله سميعٌ عليمٌ}.
# {22} {ولا يَأتَلِ}؛ أي: لا يحلف {أولو الفضل منكُم والسَّعة أن يُؤتوا أولي القُربى والمساكينَ والمهاجرينَ في سبيل الله وَلْيَعْفوا وَلْيَصْفَحوا}: كان من جملة الخائضينَ في الإفك مِسْطَح بن أُثاثة، وهو قريبٌ لأبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، وكان مسطحٌ فقيراً من المهاجرين في سبيل الله، فحلفِ أبو بكرٍ أن لا يُنْفِقَ عليه؛ لقولِهِ الذي قال، فنزلتْ هذه الآيةُ [ينهاه] عن هذا الحَلِفَ المتضمِّن لقطع النفقة عنهُ، ويحثُّه على العفو والصفح، ويَعِدُهُ بمغفرةِ الله إنْ غَفَرَ له، فقال: {ألا تُحبُّونَ أن يَغْفِرَ اللهُ لكم واللهُ غفورٌ رحيمٌ}: إذا عامَلْتُم عبيدَه بالعفو والصفح؛ عاملكم بذلك، فقال أبو بكرٍ لمَّا سمع هذه الآية: بلى والله؛ إني لأحبُّ أن يَغْفِرَ الله لي، فَرَجَّعَ النفقةَ إلى مِسْطَحٍ. وفي هذه الآيةِ دليلٌ على النفقة على القريب، وأنَّه لا تُتْرَكُ النفقةُ والإحسانُ بمعصية الإنسان، والحثُّ على العفو والصفح ولو جرى منه ما جرى من أهل الجرائم.
# {23} ثم ذكر الوعيدَ الشديدَ على رمي المحصنات، فقال: {إنَّ الذين يَرْمونَ المحصناتِ}؛ أي: العفائف عن الفجور {الغافلاتِ}: اللاتي لم يَخْطُرْ ذلك بقلوبهنَّ، {المؤمناتِ لُعِنوا في الدُّنيا والآخرة}: واللعنةُ لا تكونُ إلاَّ على ذنبٍ كبيرٍ، وأكَّد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين. {ولهم عذابٌ عظيمٌ}: وهذا زيادةٌ على اللعنة، أبعدَهم عن رحمتِهِ وأحلَّ بهم شدَّة نقمتِهِ، وذلك العذاب يوم القيامة.
# {24} {يوم تشهدُ عليهم ألسِنَتُهم وأيديهم وأرْجُلُهم بما كانوا يعملونَ}: فكلُّ جارحةٍ تشهدُ عليه بما عَمِلَتْه، يُنْطِقُها الذي أنطق كلَّ شيءٍ؛ فلا يمكنه الإنكار، ولقد عدل في العباد مَنْ جَعَلَ شهودَهم من أنفسهم.
# {25} {يومئذٍ يوفِّيهم الله دينَهُمُ الحقَّ}؛ أي: جزاءهم على أعمالهم الجزاء الحقَّ الذي بالعدل والقسط؛ يجدون جزاءها موفَّراً لم يفقدوا منها شيئاً، {وقالوا يا وَيْلَتَنا مالِ هذا الكتابِ لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاَّ أحصاها وَوَجَدوا ما عَمِلوا حاضراً ولا يَظْلِمُ ربُّكَ أحداً}، {ويعلمونَ} في ذلك الموقف العظيم {أنَّ اللهَ هو الحقُّ المبينُ}، فيعلمون انحصار الحقِّ المبين في الله تعالى؛ فأوصافُه العظيمةُ حقٌّ، وأفعالُه هي الحقُّ، وعبادتُه هي الحقُّ، ولقاؤه حقٌّ، [ووعدُه] ووعيدُه حقٌّ، وحكمه الدينيُّ والجزائيُّ حقٌّ، ورسلُه حقٌّ؛ فلا ثَمَّ حقٌّ إلاَّ في الله، وما مِن الله.
# {26} {الخبيثاتُ للخبيثين والخبيثونَ للخبيثاتِ}؛ أي: كلُّ خبيثٍ من الرجال والنساء والكلماتِ والأفعال مناسبٌ للخبيثِ وموافقٌ له ومقترنٌ به ومشاكلٌ له، وكلُّ طيبٍ من الرجال والنساءِ والكلماتِ والأفعال مناسبٌ للطيِّبِ وموافقٌ له ومقترنٌ به ومشاكلٌ له؛ فهذه كلمةٌ عامةٌ وحصرٌ لا يخرجُ منه شيءٌ، من أعظم مفرداتِهِ أنَّ الأنبياء، خصوصاً أولي العزم منهم، خصوصاً سيدهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي هو أفضلُ الطيِّبين من الخلق على الإطلاق، لا يناسِبُهم إلاَّ كلُّ طيبٍ من النساء؛ فالقدح في عائشة رضي الله عنها بهذا الأمر قدحٌ في النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو المقصودُ بهذا الإفك من قصد المنافقين؛ فمجرَّدُ كونِها زوجةً للرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلمُ أنَّها لا تكون إلاَّ طيبةً طاهرةً من هذا الأمر القبيح؛ فكيف وهي ما هي صديقةُ النساء وأفضلُهن وأعلمُهن وأطيبُهن حبيبةُ رسول ربِّ العالمين التي لم ينزِلِ الوحيُ عليه وهو في لحافِ زوجةٍ من زوجاتِهِ غيرها ؟! ثم صرَّح بذلك بحيثُ لا يبقى لمبطلٍ مقالاً، ولا لشكٍّ وشبهةٍ مجالاً، فقال: {أولئك مبرَّؤونَ مما يقولونَ}: والإشارةُ إلى عائشة رضي الله عنها أصلاً، وللمؤمناتِ المحصناتِ الغافلاتِ تبعاً لها. {مغفرةٌ}: تستغرق الذنوب. {ورزقٌ كريمٌ}: في الجنة صادرٌ من الربِّ الكريم.
آية: 27 - 29 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)}.
# {27} يُرشد الباري عبادَه المؤمنين أن لا يدخُلوا بيوتاً غير بيوتهم بغيرِ استئذانٍ؛ فإنَّ في ذلك عدَّةَ مفاسدَ: منها: ما ذكرهُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم -: حيث قال: «إنَّما جُعِلَ الاستئذانُ من أجل البصرِ» ؛ فبسبب الإخلال به يقع البصر على العوراتِ التي داخل البيوت؛ فإنَّ البيت للإنسان في ستر عورةِ ما وراءه بمنزلة الثوبِ في ستر عورةِ جسدِهِ. ومنها: أنَّ ذلك يوجب الرِّيبةَ من الداخل، ويتَّهم بالشرِّ سرقةٍ أو غيرها؛ لأنَّ الدُّخول خفيةً يدلُّ على الشرِّ، ومنع الله المؤمنين من دخول غير بيوتهم {حتى تَسْتَأنِسوا }؛ أي: تستأذنوا، سمى الاستئذانَ استئناساً؛ لأنَّ به يحصُلُ الاستئناس، وبعدمه تحصُل الوحشةُ، {وتُسَلِّموا على أهلها}: وصفة ذلك ما جاء في الحديث: «السلام عليكم، أأدخل؟». {ذلكم}؛ أي: الاستئذان المذكور {خيرٌ لكم لعلَّكم تَذَكَّرون}: لاشتماله على عدَّة مصالح، وهو من مكارم الأخلاق الواجبة؛ فإن أذن؛ دخل المستأذن.
# {28} {فإن لم تجدوا فيها أحداً}: فلا تدخلوا فيها {حتى يُؤْذَنَ لكم وإن قيلَ لكم ارجِعوا فارجِعوا}؛ أي: فلا تمتنعوا من الرُّجوع ولا تغضبوا منه؛ فإنَّ صاحب المنزل لم يمنَعْكم حقًّا واجباً لكم، وإنَّما هو متبرعٌ؛ فإنْ شاء أذن أو منع؛ فأنتم لا يأخذ أحدكم الكبرُ والاشمئزازُ من هذه الحال؛ {هو أزكى لكم}؛ أي: أشدُّ لتطهيركم من السيئاتِ وتنميتكم بالحسنات. {والله بما تعملونَ عليم}: فيجازي كلَّ عامل بعملِهِ من كثرةٍ وقلَّةٍ وحسنٍ وعدمِهِ.
# {29} هذا الحكم في البيوت المسكونة سواء كان فيها متاعٌ للإنسان أم لا، وفي البيوت غير المسكونة التي لا متاع فيها للإنسان، وأما البيوتُ التي ليس فيها أهلُها، وفيها متاعُ الإنسان المحتاج للدخول إليه، وليس فيها أحدٌ يتمكَّن من استئذانه، وذلك كبيوت الكراء وغيرها؛ فقد ذكرها بقوله: {ليس عليكم جُناحٌ}؛ أي: حرجٌ وإثمٌ؛ دلَّ على أنَّ الدُّخول من غير استئذان في البيوت السابقة أنه محرَّم وفيه حرج {أن تدخُلوا بيوتاً غير مسكونةٍ فيها متاعٌ لكم}: وهذا من احترازاتِ القرآن العجيبةِ؛ فإنَّ قولَه: {لا تدخُلوا بيوتاً غير بيوتكم}: لفظٌ عامٌّ في كل بيت ليس ملكاً للإنسان، أخرج منه تعالى البيوتَ التي ليست ملكَه وفيها متاعُهُ وليس فيها ساكنٌ، فأسقط الحرج في الدُّخول إليها. {والله يعلم ما تُبدونَ وما تكتُمون}: أحوالَكم الظاهرةَ والخفيَّة، وعلم مصالِحَكُم؛ فلذلك شَرَعَ لكم ما تحتاجون إليه وتضطرُّون من الأحكام الشرعيَّة.
آية: 30 #
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)}.
# {30} أي: أرشدِ المؤمنين وقُلْ لهم: الذين معهم إيمانٌ يمنعُهم من وقوع ما يُخِلُّ بالإيمان {يغضُّوا من أبصارِهم}: عن النظر إلى العورات وإلى النساء الأجنبيَّات وإلى المُرْدانِ، الذين يُخاف بالنظرِ إليهم الفتنة وإلى زينة الدُّنيا التي تفتنُ وتوقِعُ في المحذور. {ويحفَظُوا فروجَهم}: عن الوطء الحرام في قُبُل أو دُبُر أو ما دونَ ذلك وعن التمكين من مسِّها والنظر إليها. {ذلك}: الحفظُ للأبصار والفروج {أزكى لهم}: أطهرُ وأطيبُ وأنمى لأعمالهم؛ فإنَّ من حَفِظَ فرجَه وبصرَه؛ طَهُرَ من الخَبَثِ الذي يتدنَّس به أهلُ الفواحش، وزَكَتْ أعمالُه بسبب تركِ المحرَّم الذي تطمعُ إليه النفس وتدعو إليه؛ فمن تَرَكَ شيئاً لله؛ عوَّضَه الله خيراً منه، ومن غضَّ بصره عن المحرم أنار الله بصيرتَه، ولأنَّ العبد إذا حَفِظَ فرجَه وبصرَه عن الحرام ومقدّماته مع دواعي الشهوة؛ كان حفظُه لغيرِهِ أبلغَ، ولهذا سمَّاه الله حفظاً؛ فالشيء المحفوظُ إن لم يجتهدْ حافظُهُ في مراقبتِهِ وحفظِهِ وعمل الأسباب الموجبة لحفظِهِ؛ لم يَنْحَفِظْ، كذلك البصر والفرج إن لم يجتهدِ العبدُ في حفظِهِما؛ أوقعاه في بلايا ومحنٍ. وتأمَّل كيف أمر بحفظِ الفرج مطلقاً لأنَّه لا يُباح في حالةٍ من الأحوال، وأما البصرُ؛ فقال: {يَغُضُّوا مِنْ أبصارِهم}: أتى بأداة مِنْ الدالَّة على التبعيض؛ فإنَّه يجوز النظر في بعض الأحوال لحاجةٍ؛ كنظر الشاهدِ والمعامل والخاطبِ ونحو ذلك. ثم ذكَّرهم بعلمِهِ بأعمالهم ليجتهِدوا في حفظ أنفسِهِم من المحرَّمات.
آية: 31 #
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)}.
# {31} لما أمر المؤمنين بغضِّ الأبصار وحفظ الفروج؛ أمر المؤمناتِ بذلك، فقال: {وقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ من أبصارِهِنَّ}: عن النظر إلى العورات والرجال بشهوةٍ ونحو ذلك من النظر الممنوع. {ويَحْفَظْنَ فروجَهُنَّ}: من التمكين من جماعها أو مسِّها أو النظر المحرَّم إليها، {ولا يُبْدينَ زينَتَهُنَّ}: كالثياب الجميلة والحلي وجميع البدن كلِّه من الزينة. ولما كانت الثيابُ الظاهرة لا بدَّ لها منها؛ قال: {إلاَّ ما ظَهَرَ منها}؛ أي: الثياب الظاهرة التي جرتِ العادةُ بلبسها إذا لم يكنْ في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها، {وَلْيَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ على جيوبهنَّ}: وهذا لكمال الاستتار. ويدلُّ ذلك على أن الزينةَ التي يحرُمُ إبداؤها يدخل فيها جميعُ البدن كما ذكرنا. ثم كرَّر النهي عن إبداء زينتهن؛ ليستثني منه قوله: {إلاَّ لِبُعولَتِهِنَّ}؛ أي: أزواجهنَّ، {أو آبائهنَّ أو آباء بعولتهنَّ}: يشمل الأبَ بنفسه والجدَّ وإنْ علا، [{أو أبنائهنَّ أو أبناءِ بُعُولَتِهِنّ}: ويدخل فيه الأبناء، أو أبناء البعولة مهما نزلوا]، {أو إخوانهنَّ أو بني إخوانهنَّ}: أشقاء أو لأب أو لأم. {أو بني أخواتِهِنَّ أو نسائهنَّ}؛ أي: يجوز للنساء أن يَنْظُرَ بعضُهُنَّ إلى بعض مطلقاً، ويُحتمل أنَّ الإضافة تقتضي الجنسية؛ أي: النساء المسلمات اللاتي من جنسكنَّ؛ ففيه دليلٌ لِمَنْ قال: إنَّ المسلمةَ لا يجوزُ أن تَنْظُرَ إليها الذِّمِّيَّةُ، {أو ما ملكتْ أيمانُهُنَّ}: فيجوز للمملوك إذا كان كلُّه للأنثى أن يَنْظُرَ لسيِّدَتِه ما دامت مالكةً له كلَّه؛ فإذا زال الملكُ أو بعضُه؛ لم يجزِ النظر، {أو التابعينَ غيرِ أولي الإرْبَةِ من الرجال}؛ أي: [أو] الذين يَتْبَعونَكم ويتعلَّقون بكم من الرجال الذين لا إربةَ لهم في هذه الشهوة؛ كالمعتوه الذي لا يدري ما هنالك، وكَالْعِنِّين الذي لم يبقَ له شهوةٌ لا في فرجه ولا في قلبه؛ فإنَّ هذا لا محذورَ من نظرِهِ. {أو الطفل الذين لم يَظْهَروا على عوراتِ النساءِ}؛ أي: الأطفال الذين دونَ التمييزِ؛ فإنَّه يجوز نَظَرُهم للنساء الأجانب، وعلَّل تعالى ذلك بأنَّهم {لم يظهروا على عورات النساءِ}؛ أي: ليس لهم علمٌ بذلك، ولا وجدتْ فيهم الشهوةُ بعدُ، ودلَّ هذا أنَّ المميِّز تستترُ منه المرأةُ؛ لأنَّه يظهرُ على عوراتِ النساء. {ولا يَضْرِبنَ بأرجلهنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخفينَ من زينتهنَّ}؛ أي: لا يَضْرِبْنَ الأرض بأرجُلِهِنَّ ليصوِّتَ ما عليهنَّ من حلي كخلاخل وغيرها، فَتُعْلَمَ زينتُها بسببه، فيكونَ وسيلةً إلى الفتنة. ويؤخَذُ من هذا ونحوه قاعدةُ سدِّ الوسائل، وأن الأمر إذا كان مباحاً ولكنَّه يفضي إلى محرم أو يُخاف من وقوعه؛ فإنَّه يمنع منه. فالضَّرْبُ بالرجل في الأرض الأصلُ أنَّه مباحٌ، ولكن لما كان وسيلةً لعلم الزينة؛ منع منه. ولما أمر تعالى بهذه الأوامر الحسنة، ووصَّى بالوصايا المستحسنة، وكان لا بدَّ من وقوع تقصيرٍ من المؤمن بذلك؛ أمر الله تعالى بالتوبة، فقال: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيُّها المؤمنون}، [لأن المؤمنَ يدعوه إيمانه إلى التوبة]. ثم علَّق على ذلك الفلاح، فقال: {لعلَّكم تفلحونَ}: فلا سبيلَ إلى الفلاح إلاَّ بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهُهُ الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبُّه ظاهراً وباطناً. ودلَّ هذا أنَّ كلَّ مؤمن محتاجٌ إلى التوبة؛ لأنَّ الله خاطب المؤمنين جميعاً. وفيه الحثُّ على الإخلاص بالتوبة في قوله: {وتوبوا إلى الله}؛ أي: لا لمقصد غير وجهه من سلامةٍ من آفات الدُّنيا أو رياءٍ وسمعة، أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة.
آية: 32 - 33 #
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)}.
# {32} يأمر تعالى الأولياء والأسيادَ بإنكاح مَنْ تحتَ ولايَتِهِم من الأيامى، وهم مَنْ لا أزواجَ لهم من رجالٍ ونساءٍ ثِيْبٍ وأبكارٍ، فيجب على القريب وولي اليتيم أن يزوِّجَ مَنْ يحتاجُ للزواج ممَّن تجبُ نفقته عليه، وإذا كانوا مأمورين بإنكاح مَنْ تحتَ أيديهم؛ كان أمرُهم بالنِّكاح بأنفسهم من باب أولى. {والصالحين من عبادِكُم وإمائِكُم}: يُحتمل أنَّ المرادَ بالصالحين صلاحُ الدين، وأنَّ الصالح من العبيد والإماءِ ـ وهو الذي لا يكون فاجراً زانياً ـ مأمورٌ سيِّده بإنكاحه جزاءً له على صلاحِهِ وترغيباً له فيه، ولأنَّ الفاسد بالزِّنا منهيٌّ عن تزوُّجه، فيكون مؤيِّداً للمذكور في أول السورة أنَّ نِكاح الزاني والزانية محرمٌ حتى يتوبَ، ويكون التخصيصُ بالصلاح في العبيد والإماء دونَ الأحرارِ؛ لكثرة وجود ذلك في العبيد عادة. ويُحتمل أنَّ المرادَ بالصَّالحين الصَّالحين للتزوُّج المحتاجين إليه من العبيد والإماء، يؤيِّدُ هذا المعنى أنَّ السيِّد غير مأمورٍ بتزويج مملوكِهِ قبل حاجتِهِ إلى الزواج، ولا يبعُدُ إرادةُ المعنييْنِ كليهما. والله أعلم. وقوله: {إن يكونوا فقراءَ}؛ أي: الأزواج والمتزوِّجين، {يُغْنِهِمُ الله من فضلِهِ}: فلا يمنعكم ما تتوهَّمون من أنَّه إذا تزوَّج افتقر بسبب كَثْرَةِ العائلة ونحوه. وفيه حثٌّ على التزوُّج ووعدٌ للمتزوِّج بالغنى بعد الفقر. {والله واسعٌ}: كثير الخير عظيمُ الفضل. {عليمٌ}: بمن يستحقُّ فضلَه الدينيَّ والدنيويَّ أو أحدَهما ممَّن لا يستحقُّ، فيعطي كلًّا ما علمه، واقتضاه حكمه.
# {33} {وليستعفِفِ الذين لا يَجِدون نكاحاً حتى يُغنيهم الله من فضلِهِ}: هذا حكم العاجز عن النِّكاح، أمره الله أن يستعففَ؛ أنْ يكفَّ عن المحرَّم ويفعلَ الأسبابَ التي تكفُّه عنه، من صرف دواعي قلبه بالأفكارِ التي تخطُرُ بإيقاعِهِ فيه، ويفعل أيضاً كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب! من استطاعَ منكم الباءةَ؛ فليتزوَّجْ، ومنْ لم يستَطِعْ؛ فعليه بالصَّوم، فإنَّه له وجاء». وقوله: {الذين لا يَجِدون نكاحاً}؛ أي: لا يقدرون نكاحاً: إما لفقرهم، أو فقر أوليائهم وأسيادهم، أو امتناعهم من تزويجهم، وليس لهم قدرةٌ على إجبارهم على ذلك. وهذا التقدير أحسنُ من تقدير مَنْ قَدَّر لا يجدونَ مهر نكاح، وجعلوا المضاف إليه نائباً منابَ المضاف؛ فإنَّ في ذلك محذورين: أحدهما: الحذفُ في الكلام، والأصل عدم الحذف. والثاني: كون المعنى قاصراً على مَنْ له حالان: حالةُ غنى بمالِهِ، وحالةُ عُدْم، فيخرُجُ العبيد والإماءُ ومَنْ إنكاحُهُ على وليِّهِ كما ذكرنا، {حتى يُغْنِيَهُمُ اللهُ من فضلِهِ}: وعدٌ للمستعفف أنَّ الله سَيُغْنِيه وييسِّرُ له أمره، وأمرٌ له بانتظار الفرج؛ لئلا يشقَّ عليه ما هو فيه. وقوله: {والذين يبتغونَ الكتاب مما مَلَكَتْ أيمانكُم فكاتِبوهم إن علمتُم فيهم خيراً}؛ أي: من ابتغى وطلب منكم الكتابةَ وأن يَشْتَرِي نفسَه من عبيدٍ وإماءٍ؛ فأجيبوه إلى ما طلب، وكاتبوه، {إنْ علمتُم فيهم}؛ أي: في الطالبين للكتابة {خيراً}؛ أي: قدرة على التكسُّب وصلاحاً في دينه؛ لأنَّ في الكتابة تحصيلَ المصلحتين: مصلحة العِتْق والحريَّة، ومصلحة العوض الذي يبذُلُه في فداء نفسه، وربما جدَّ واجتهد وأدرك لسيِّده في مدَّة الكتابة من المال ما لا يحصُلُ في رقِّه، فلا يكون ضررٌ على السيِّد في كتابتِهِ، مع حصول عظيم المنفعة للعبد؛ فلذلك أمر الله بالكتابة على هذا الوجه أمرَ إيجابٍ؛ كما هو الظاهر، أو أمر استحبابٍ على القول الآخر، وأمر بمعاوَنَتِهِم على كتابَتِهِم؛ لكونهم محتاجين لذلك؛ بسبب أنَّهم لا مال لهم، فقال: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}؛ يدخل في ذلك أمر سيده الذي كاتبه أن يعطيه من كتابته أو يسقط عنه منها وأمر الناس بمعونتهم، ولهذا جعل الله للمكاتبين قسطاً من الزكاة ورغب في إعطائه بقوله: {من مال الله الذي آتاكم}؛ أي: فكما أن المال مال الله، وإنَّما الذي بأيديكم عطيَّةٌ من الله لكم ومحضُ مِنَّة؛ فأحسنوا لعباد الله كما أحسن الله إليكم. ومفهومُ الآية الكريمة أنَّ العبد إذا لم يطلبِ الكتابة؛ لا يؤمَرُ سيِّدُه أن يبتدئ بكتابته، وأنَّه إذا لم يعلم منه خيراً؛ بأن عَلِمَ منه عكَسَه: إمَّا أنَّه يعلم أنه لا كَسْبَ له، فيكون بسبب ذلك كَلًّا على الناس ضائعاً، وإمَّا أن يخافَ إذا عُتِق وصار في حريَّةِ نفسِهِ أن يتمكَّن من الفسادِ؛ فهذا لا يؤمر بكتابتِهِ، بل ينهى عن ذلك؛ لما فيه من المحذور المذكور. ثم قال تعالى: {ولا تكرِهوا فتياتكم}؛ أي: إماءكم {على البِغاءِ}؛ أي: أن تكون زانيةً؛ {إنْ أردنَ تحصُّناً}: لأنه لا يُتَصَوَّر إكراهُها إلاَّ بهذه الحال، وأما إذا لم تُرِدْ تحصُّناً؛ فإنها تكونُ بغيًّا يجبُ على سيِّدها منعُها من ذلك، وإنما هذا نهيٌ لما كانوا يستعمِلونه في الجاهليَّة من كون السيِّد يُجْبِرُ أمَتَه على البغاءِ؛ ليأخذ منها أجرة ذلك، ولهذا قال: {لِتَبْتَغوا عَرَضَ الحياةِ الدُّنيا}: فلا يَليقُ بكم أن تكونَ إماؤكم خيراً منكم وأعفَّ عن الزِّنا وأنتم تفعلونَ بهنَّ ذلك لأجل عَرَضِ الحياة؛ متاع قليل يَعْرِضُ ثم يزولُ؛ فكسبُكم النزاهةَ والنظافةَ والمروءةَ بقطع النظر عن ثوابِ الآخرة وعقابِها أفضلُ من كسبِكُم العَرَضَ القليل الذي يُكْسِبُكُمُ الرذالةَ والخسَّة. ثم دعا مَنْ جرى منه الإكراه إلى التوبة، فقال: {وَمَن يُكْرِهْهُنَّ فإنَّ الله من بعدِ إكراهِهِنَّ غفورٌ رحيمٌ}: فْليتُبْ إلى الله، ولْيقلعْ عما صدر منه مما يُغْضِبُه؛ فإذا فَعَلَ ذلك؛ غَفَرَ الله ذنوبَه ورَحِمَه؛ كما رَحِمَ نفسه بفكاكها من العذاب، وكما رَحِمَ أمَتَهُ بعدم إكراهِها على ما يضرُّها.
آية: 34 #
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}.
# {34} هذا تعظيمٌ وتفخيمٌ لهذه الآيات التي تلاها على عبادِهِ؛ ليعرفوا قَدْرَها ويقوموا بحقِّها، فقال: {ولقد أنْزَلْنا إليكم آياتٍ مُبَيِّناتٍ}؛ أي: واضحاتِ الدّلالةِ على كلِّ أمر تحتاجون إليه من الأصول والفُروع؛ بحيث لا يبقى فيها إشكالٌ ولا شبهةٌ. {و}: أنزلنا إليكم أيضاً {مَثَلاً من الذين خَلَوْا من قَبْلِكُم}: من أخبار الأوَّلين؛ الصالح منهم والطَّالح، وصفة أعمالهم، وما جرى لهم وجرى عليهم؛ تعتبِرونَه مثالاً ومعتَبَراً لمن فَعَلَ مثل أعمالهم أنْ يُجازى مثل ما جُوزوا. {وموعظةً للمتَّقين}؛ أي: وأنزلنا إليكم موعظةً للمتَّقين؛ من الوعدِ والوعيدِ والترغيبِ والترهيبِ؛ يتَّعِظُ بها المتَّقون، فيكفُّون عما يكره الله إلى ما يحبُّه الله.
آية: 35 #
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}.
# {35} {الله نورُ السمواتِ والأرض}: الحسيُّ والمعنويُّ. وذلك أنَّه تعالى بذاتِهِ نورٌ، وحجابه نورٌ، الذي لو كَشَفَه لأحرقت سُبُحاتُ وجهِهِ ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبه استنار العرشُ والكرسيُّ والشمسُ والقمر والنورُ، وبه استنارت الجنةُ. وكذلك [النُّور] المعنويُّ يرجِعُ إلى الله؛ فكتابه نورٌ، وشرعُه نورٌ، والإيمانُ والمعرفةُ في قلوب رسله وعباده المؤمنين نورٌ؛ فلولا نورُهُ تعالى؛ لتراكمتِ الظُّلمات، ولهذا كلُّ محلٍّ يفقد نورَه؛ فثمَّ الظُّلمة والحصرُ. {مَثَلُ نورِهِ}: الذي يهدي إليه، وهو نورُ الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين {كمشكاةٍ}؛ أي: كوَّة {فيها مصباحٌ}: لأنَّ الكوَّة تجمع نورَ المصباح بحيث لا يتفرَّق. ذلك {المصباح في زُجاجةٍ الزجاجةُ}: من صفائها وبهائها، {كأنَّها كوكبٌ دُرِّيٌّ}؛ أي: مضيء إضاءة الدرِّ، {يوقَدُ}: ذلك المصباح الذي في تلك الزجاجة الدُّرِّيَّةِ {من شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ}؛ أي: يوقَد من زيت الزيتون، الذي نارُه من أنور ما يكون {لا شرقيَّةٍ}: فقط؛ فلا تصيبُها الشمس آخر النهار {ولا غربيَّةٍ}: فقط؛ فلا تصيبها الشمس [آخر] النهار. وإذا انتفى عنها الأمران؛ كانت متوسطةً من الأرض؛ كزيتون الشام؛ تصيبُه الشمس أول النهار وآخره، فَيَحْسُنُ ويَطيبُ ويكونُ أصفى لزيتها، ولهذا قال: {يكادُ زيتُها}: من صفائه {يضيءُ ولو لم تمسَسْهُ نارٌ}: فإذا مسَّتْه النار؛ أضاء إضاءةً بليغةً. {نورٌ على نورٍ}؛ أي: نور النار ونور الزيت. ووجه هذا المثل الذي ضربه الله وتطبيقُه على حالةِ المؤمن ونورِ الله في قلبه أنَّ فطرتَه التي فُطِرَ عليها بمنزلة الزيتِ الصافي؛ ففطرتُه صافيةٌ مستعدَّة للتعاليم الإلهية والعمل المشروع؛ فإذا وصل إليه العلم والإيمان؛ اشتعل ذلك النور في قلبه بمنزلة اشتعال النار في فتيلةِ ذلك المصباح، وهو صافي القلب من سوء القصدِ وسوء الفهم عن الله، إذا وصل إليه الإيمان؛ أضاء إضاءةً عظيمةً لصفائِهِ من الكُدورات، وذلك بمنزلة صفاء الزُّجاجة الدُّرِّيَّةِ، فيجتمع له نورُ الفطرة ونورُ الإيمان ونورُ العلم وصفاء المعرفة نورٌ على نورِهِ. ولما كان هذا من نور الله تعالى، وليس كلُّ أحدٍ يَصْلُحُ له ذلك؛ قال: {يهدي الله لنورِهِ مَن يشاءُ}: ممَّن يعلم زكاءه وطهارته، وأنه يزكي معه وينمو. {ويضرِبُ الله الأمثالَ للناس}: ليعقلوا عنه ويفهموا؛ لطفاً منه بهم، وإحساناً إليهم، وليتَّضِحَ الحقُّ من الباطل؛ فإنَّ الأمثال تقرِّبُ المعاني المعقولة من المحسوسة، فيعلمها العبادُ علماً واضحاً. {والله بكلِّ شيءٍ عليم}: فعلمُهُ محيطٌ بجميع الأشياء، فَلْتَعْلَموا أنَّ ضربهَ الأمثالَ ضَرْبُ مَنْ يعلمُ حقائقَ الأشياء وتفاصيلها وأنَّها مصلحةٌ للعباد؛ فليكن اشتغالُكُم بتدبُّرها وتعقُّلها لا بالاعتراض عليها ولا بمعارضتها؛ فإنَّه يعلم وأنتم لا تعلمونَ.
ولما كان نورُ الإيمان والقرآنِ أكثر وقوع أسبابِهِ في المساجد؛ ذكرها منوِّهاً بها، فقال:
آية: 36 - 38 #
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)}.
# {36} أي: يُتَعَبَّدُ لله {في بيوتٍ}: عظيمةٍ فاضلةٍ هي أحبُّ البقاع إليه، وهي المساجد، {أذِنَ الله}؛ أي: أمر ووصَّى {أن تُرْفَعَ ويُذْكَرَ فيها اسمُه}: هذان مجموع أحكام المساجد، فيدخُلُ في رفعها بناؤها وكنسُها وتنظيفُها من النجاسات والأذى وصونُها عن المجانين والصبيانِ الذين لا يتحرَّزون عن النجاسات وعن الكافرِ وأن تُصان عن اللغوِ فيها ورفع الأصواتِ بغير ذِكْرِ الله. {ويُذْكَرَ فيها اسمُه}: يدخُلُ في ذلك الصلاة كلُّها؛ فرضُها ونفلُها، وقراءةُ القرآن، والتسبيحُ، والتهليلُ، وغيره من أنواع الذِّكر، وتعلُّم العلم وتعليمُه، والمذاكرةُ فيها، والاعتكافُ، وغيرُ ذلك من العباداتِ التي تُفْعَلُ في المساجد، ولهذا كانت عِمارةُ المساجد على قسمين: عمارةُ بنيانٍ وصيانةٍ لها، وعمارةٌ بذكرِ اسم الله من الصلاة وغيرها، وهذا أشرف القسمين، ولهذا شُرِعَتِ الصلواتُ الخمس والجمعةُ في المساجد وجوباً عند أكثر العلماء واستحباباً عند آخرين.
# {37} ثم مدح تعالى عُمَّارها بالعبادة، فقال: {يُسَبِّحُ له}: إخلاصاً {بالغدوِّ}: أول النهار {والآصالِ}: آخره {رجالٌ}: خصَّ هذين الوقتين لِشَرَفِهما ولتيسُّر السير فيهما إلى الله وسهولتِهِ، ويدخل في ذلك التسبيح في الصلاة وغيرها، ولهذا شُرِعَتْ أذكارُ الصباح والمساء وأورادُهما عند الصباح والمساء؛ أي: يسبِّح فيها لله رجالٌ، وأيُّ رجال؟! ليسوا ممَّن يؤثِرُ على ربِّه دنيا ذات لذاتٍ ولا تجارةٍ ومكاسبَ مشغلة عنه. {لا تُلهيهم تجارةٌ}: وهذا يَشْمَلُ كلَّ تكسُّب يُقصد به العِوَضُ، فيكون قوله: {ولا بَيْعٌ}: من باب عطف الخاصِّ على العامِّ؛ لكَثرة الاشتغال بالبيع على غيره؛ فهؤلاء الرجال وإن اتَّجروا وباعوا واشْتَرَوا؛ فإنَّ ذلك لا محذور فيه، لكنَّه لا تلهيهم تلك بأن يقدِّموها ويؤثِروها على {ذِكْر الله وإقام الصَّلاةِ وإيتاءِ الزكاة}: بل جعلوا طاعةَ الله وعبادتَه غايةَ مرادِهم ونهايةَ مقصدِهم؛ فما حال بينَهم وبينَها رفضوه. ولما كان تركُ الدُّنيا شديداً على أكثر النفوس وحبُّ المكاسب بأنواع التجاراتِ محبوباً لها، ويشقُّ عليها تركُه في الغالب وتتكلَّفُ من تقديم حقِّ الله على ذلك؛ ذَكَرَ ما يَدْعوها إلى ذلك ترغيباً وترهيباً، فقال: {يخافون يوماً تتقلَّبُ فيه القلوبُ والأبصارُ}: من شدَّة هولِهِ وإزعاجِهِ للقلوب والأبدان؛ فلذلك خافوا ذلك اليوم، فَسَهُلَ عليهم العملُ وتركُ ما يَشْغَلُ عنه.
# {38} {لِيَجْزِيَهُمُ الله أحسنَ ما عَمِلوا}: والمرادُ بـ {أحسن ما عَمِلوا}: أعمالَهم الحسنة الصالحة؛ لأنَّها أحسنُ ما عملوا؛ لأنهم يعملون المباحاتِ وغيرها؛ فالثواب لا يكون إلاَّ على العمل الحسن؛ كقوله تعالى: {ليكفِّرَ اللهُ عنهم أسوأ الذي عَمِلوا ويَجْزِيَهم أجْرَهم بأحسنِ ما كانوا يعملون}، {ويزيدَهم من فَضْلِهِ}: زيادةً كثيرةً عن الجزاء المقابل لأعمالهم. {والله يَرْزُقُ مَنْ يشاءُ بغير حسابٍ}: بل يُعطيه من الأجر ما لا يبلغُهُ عملُه، بل ولا تبلُغُه أمنيتُه، ويعطيه من الأجر بلا عدٍّ ولا كيلٍ، وهذا كنايةٌ عن كثرتِهِ جدًّا.
آية: 39 - 40 #
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)}.
هذان مثلان ضربهما الله لأعمال الكفار في بطلانِها وذَهابها سدىً وتحسُّر عامليها منها، فقال:
# {39} {والذين كفروا}: بربِّهم وكذَّبوا رسلَه {أعمالُهم كسرابٍ بِقيعةٍ}؛ أي: بقاعٍ لا شَجَرَ فيه ولا نبتَ {يحسبُهُ الظمآنُ ماءً}: شديد العطش، الذي يتوهم ما لا يتوهم غيره، بسبب ما معه من العطش، وهذا حسبانٌ باطلٌ، فيقصده ليزيل ظمأه {حتى إذا جاءه لم يَجِدْه شيئاً}: فندم ندماً شديداً، وازداد ما به من الظمأ بسبب انقطاع رجائه؛ كذلك أعمال الكفار بمنزلة السراب، تُرى ويظنُّها الجاهل الذي لا يدري الأمور أعمالاً نافعة، فيغرُّه صورتها، ويخلُبُه خيالُها، ويحسبُها هو أيضاً أعمالاً نافعة لهواه، وهو أيضاً محتاجٌ إليها، بل مضطرٌّ إليها؛ كاحتياج الظمآن للماء، حتى إذا قدم على أعماله يوم الجزاء؛ وجدها ضائعةً، ولم يجدْها شيئاً، والحال أنَّه لم يذهبْ لا له ولا عليه، بل {وجد الله عنده فوفَّاه حسابَهُ}: لم يَخْفَ عليه من عملِهِ نقيرٌ ولا قِطمير، ولنْ يَعْدَمَ منه قليلاً ولا كثيراً. {والله سريعُ الحساب}: فلا يَسْتَبْطِئ الجاهلون ذلك الوعد؛ فإنَّه لا بدَّ من إتيانه، وَمَثَّلَها الله بالسراب الذي {بقيعةٍ}؛ أي: لا شجر فيه ولا نبات، وهذا مثالٌ لقلوبِهم؛ لا خير فيها ولا بِرَّ فتزكو فيها الأعمال، وذلك للسبب المانع، وهو الكفر.
# {40} والمثل الثاني لبطلان أعمال الكفار: {كظُلُماتٍ في بحرٍ لُجِّيٍّ}: بعيدٍ قعرُهُ طويل مداهُ، {يغشاه موجٌ من فوقِهِ موجٌ من فوقِهِ سحابٌ ظلماتٌ بعضُها فوق بعض}: ظلمةُ البحر اللُّجِّيِّ، ثم فوقه ظلمة الأمواج المتراكمة، ثم فوق ذلك ظلمة السحب المدلهمَّة، ثم فوق ذلك ظلمةُ الليل البهيم، فاشتدَّت الظلمةُ جدًّا؛ بحيث أنَّ الكائن في تلك الحال {إذا أخرجَ يَدَه لم يكدْ يراها}: مع قربِها إليه؛ فكيف بغيرها؟! كذلك الكفار تراكمت على قلوبهم الظلماتُ؛ ظلمةُ الطبيعة التي لا خير فيها، وفوقها ظلمةُ الكفر، وفوقَ ذلك ظلمةُ الجهل، وفوق ذلك ظلمةُ الأعمال الصادرة عمَّا ذُكِرَ، فبقوا في الظُّلمة متحيِّرين، وفي غمرتهم يَعْمَهون، وعن الصراط المستقيم مُدْبِرون، وفي طرق الغيِّ والضلال يتردَّدون، وهذا لأنَّ الله خَذَلَهم فلم يُعْطِهِم من نوره. {وَمَن لم يَجْعَلِ الله له نوراً فما له من نورٍ}: لأنَّ نفسَه ظالمةٌ جاهلةٌ، فليس فيها من الخير والنور إلاَّ ما أعطاها مولاها ومنحها ربُّها. يُحْتَمَل أنَّ هذين المثالين لأعمال جميع الكفار؛ كلٌّ منهما منطبقٌ عليها، وعدَّدهما لتعدُّد الأوصاف، ويُحتمل أنَّ كلَّ مثال لطائفةٍ وفرقةٍ؛ فالأوَّل للمتبوعين، والثاني للتابعين. والله أعلم.
آية: 41 - 42 #
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)}.
# {41} نبَّه تعالى عبادَه على عظمتِهِ وكمال سلطانِهِ وافتقارِ جميع المخلوقاتِ له في ربوبيَّتها وعبادتها، فقال: {ألم تر أنَّ الله يسبِّحُ له مَن في السمواتِ والأرضِ}: من حيوان وجمادٍ، {والطيرُ صافاتٍ}؛ أي: صافات أجنِحَتِها في جوِّ السماء تسبِّحُ ربَّها. {كلٌّ}: من هذه المخلوقات {قد عَلِمَ صلاتَه وتسبيحَه}؛ أي: كلٌّ له صلاةٌ وعبادةٌ بحسب حاله اللائقة به، وقد ألهمه الله تلك الصلاة والتسبيح: إما بواسطة الرسل كالجن والإنس والملائكة، وإما بإلهام منه تعالى كسائر المخلوقات غير ذلك. وهذا الاحتمال أرجح؛ بدليل قوله: {واللهُ عليمٌ بما يفعلونَ}؛ أي: علم جميعَ أفعالها، فلم يخفَ عليه منه شيء، وسيجازيهم بذلك، فيكون على هذا قد جَمَعَ بين علمها بأعمالهم، وذلك بتعليمه، وبين علمه بأعمالهم المتضمِّن للجزاء. ويُحتمل أنَّ الضمير في قوله: {قد علم صلاتَه وتسبيحَه}: يعودُ إلى الله، وأنَّ الله تعالى قد عَلِمَ عباداتِهِم، وإنْ لم تَعْلَموا أيُّها العبادُ منها إلاَّ ما أطلعكم الله عليه. وهذه الآية كقوله تعالى: {تُسَبِّحُ له السمواتُ السبعُ والأرضُ ومَنْ فيهنَّ وإن من شيءٍ إلاَّ يسبِّح بحمدِهِ ولكن لا تَفْقَهونَ تسبيحَهم إنَّه كان حليماً غفوراً}.
# {42} فلما بيَّن عبوديَّتهم وافتقارهم إليه من جهة العبادة والتوحيد؛ بيَّن افتقارَهم من جهة الملك والتربية والتدبير، فقال: {ولله ملكُ السمواتِ والأرض}: خالقهما ورازقهما والمتصرِّفُ فيهما في حكمه الشرعيِّ والقدريِّ في هذه الدار وفي حكمه الجزائيِّ بدار القرار؛ بدليل قوله: {وإلى الله المصيرُ}؛ أي: مرجع الخلق ومآلهم ليجازِيَهم بأعمالهم.
آية: 43 - 44 #
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)}.
# {43} أي: ألم تشاهدْ ببصرِك عظيمَ قدرةِ الله وكيف {يُزْجي}؛ أي: يسوق {سحاباً}: قطعاً متفرقة، {ثم يؤلِّفُ}: بين تلك القطع، فيجعلُه سحاباً متراكماً مثل الجبال {فترى الوَدْقَ}؛ أي: الوابل والمطر يخرجُ من خلال السحابِ نقطاً متفرِّقة؛ ليحصُلَ بها الانتفاع من دون ضررٍ، فتمتلئ بذلك الغُدران، وتتدفَّق الخُلجان، وتسيل الأوديةُ، وتنبتُ الأرض من كلِّ زوج كريم. وتارةً ينزِّلُ الله من ذلك السحاب بَرَداً يُتْلِفُ ما يصيبُه {فيصيبُ به من يشاءُ ويصرِفُه عن مَن يشاءُ}؛ أي: بحسب اقتضاء حكمه القدريِّ وحكمتِهِ التي يُحْمَدُ عليها، {يكاد سَنا بَرْقِهِ}؛ أي: يكادُ ضوءُ برق ذلك السحاب من شدَّته {يذهبُ بالأبصارِ}؛ أليس الذي أنشأها وساقَها لعبادِهِ المفتقرين وأنزلها على وجهٍ يحصُلُ به النفع وينتفي به الضررُ كاملَ القدرة نافذَ المشيئة واسعَ الرحمة؟!
# {44} {يقلِّب الله الليل والنهار}: من حرٍّ إلى برد، ومن بردٍ إلى حرٍّ، ومن ليل إلى نهار، ونهار إلى ليل ويُديلُ الأيام بين عبادِهِ. {إنَّ في ذلك لَعبرةً لأولي الأبصار}؛ أي: لذوي البصائر والعقول النافذة للأمور المطلوبة منها كما تنفذ الأبصار إلى الأمور المشاهَدَة الحسيَّة؛ فالبصير ينظُرُ إلى هذه المخلوقات نَظَرَ اعتبار وتفكُّر وتدبُّر لما أريدَ بها ومنها، والمعرضُ الجاهل نَظَرُهُ إليها نظرُ غفلةٍ بمنزلة نَظَرِ البهائم.
آية: 45 #
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)}.
# {45} ينبِّه عباده على ما يشاهدونَه أنَّه خَلَقَ جميع الدوابِّ التي على وجه الأرض {من ماءٍ}؛ أي: مادَّتُها كلُّها الماء؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلْنا من الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ}؛ فالحيوانات التي تتوالد، مادتها ماءُ النطفةِ حين يلقحُ الذَّكر الأنثى، والحيوانات التي تتولَّد من الأرض لا تتولَّد إلاَّ من الرطوبات المائيَّة؛ كالحشرات، لا يوجد منها شيءٌ يتولَّد من غير ماء أبداً؛ فالمادَّة واحدةٌ، ولكن الخِلْقَةَ مختلفةٌ من وجوه كثيرة. {فمنهم من يمشي على بطنِهِ}؛ كالحيَّة ونحوها، {ومنهم مَنْ يمشي على رجلينِ}؛ كالآدميِّين وكثيرٍ من الطُّيور، {ومنهم من يمشي على أربع}؛ كبهيمة الأنعام ونحوها؛ فاختلافُها مع أنَّ الأصل واحدٌ يدلُّ على نفوذِ مشيئة الله وعموم قدرتِهِ. ولهذا قال: {يَخْلُقُ الله ما يشاءُ}؛ أي: من المخلوقات على ما يشاؤه من الصفات. {إنَّ الله على كلِّ شيء قديرٌ}؛ كما أنزل المطر على الأرض، وهو لقاحٌ واحدٌ، والأمُّ واحدةٌ، وهي الأرضُ، والأولاد مختلفو الأصنافِ والأوصافِ. {وفي الأرض قطعٌ متجاوراتٌ وَجَنَّاتٌ من أعنابٍ وَزَرْع ونَخيلٍ صِنْوانٌ وغَيْرُ صنوانٍ يُسْقى بماءٍ واحدٍ ونُفَضِّلُ بعضَها على بعض في الأُكُلِ إنَّ في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلونَ}.
آية: 46 #
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)}.
# {46} أي: لقد رَحِمْنا عبادنا وأنزلنا إليهم آياتٍ بيِّناتٍ؛ أي: واضحات الدِّلالة على جميع المقاصد الشرعيَّة والآداب المحمودة والمعارف الرشيدة، فاتَّضحتْ بذلك السُّبُل، وتبيَّن الرُّشْدُ من الغَيِّ والهُدى من الضلال؛ فلم يبقَ أدنى شبهةٍ لمبطل يتعلَّقُ بها، ولا أدنى إشكال لمريدِ الصوابِ؛ لأنَّها تنزيلُ مَنْ كَمُلَ علمهُ وكَمُلَتْ رحمتُه وكَمُلَ بيانُه؛ فليس بعد بيانِهِ بيان. لِيَهْلِكَ بعد ذلك مَنْ هَلَكَ عن بَيِّنَةٍ وَيَحْيا مَنْ حَيَّ عن بَيِّنَةٍ. {والله يهدي مَنْ يشاءُ}: ممَّن سبقتْ لهم سابقةُ الحسنى وقَدَمُ الصدق {إلى صراطٍ مستقيم}؛ أي: طريق واضح مختصر موصِل إليه وإلى دار كرامته متضمِّنٍ العلمَ بالحقِّ وإيثارَه والعملَ به. عمَّمَ البيانَ التامَّ لجميع الخَلْق، وخَصَّصَ بالهدايةِ مَنْ يشاءُ؛ فهذا فضلُه وإحسانُه، وما فضلُ الكريم بممنونٍ، وذاك عدلُه، وقَطَعَ الحجَّةَ للمحتجِّ، والله أعلم حيثُ يجعل مع مواقع إحسانه.
آية: 47 - 50 #
{وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)}.
# {47} يخبر تعالى عن حالةِ الظَّالمينَ ممَّن في قلبه مرضٌ وضعفُ إيمانٍ أو نفاقٌ ورَيْبٌ وضعفٌ، علم أنَّهم يقولون بألسنتهم ويلتزمون الإيمان بالله والطاعة، ثم لا يقومون بما قالوا، ويتولَّى فريقٌ منهم عن الطاعة تولياً عظيماً؛ بدليل قوله: {وهُم معرِضونَ}؛ فإنَّ المتولِّي قد يكون له نيَّةُ عَوْدٍ ورُجوع إلى ما تولَّى عنه، وهذا المتولِّي معرضٌ لا التفات له ولا نَظَرَ لما تولَّى عنه. وتجدُ هذه الحالة مطابقةً لحال كثيرٍ ممَّن يَدَّعي الإيمان والطاعة لله، وهو ضعيفُ الإيمان، تجِدُه لا يقومُ بكثيرٍ من العبادات، خصُوصاً العبادات التي تشقُّ على كثيرٍ من النفوس؛ كالزكوات، والنفقات الواجبة والمستحبَّة، والجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك.
# {48} {وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم}؛ أي: إذا صار بينَهم وبينَ أحدٍ حكومةٌ ودُعوا إلى [حكم] الله ورسوله، {إذا فريقٌ منهم معرِضونَ}: يريدونَ أحكامَ الجاهليَّة ويفضِّلون أحكام القوانين غير الشرعيَّة على الأحكام الشرعيَّة؛ لعلمِهِم أنَّ الحقَّ عليهم، وأنَّ الشرع لا يحكُم إلاَّ بما يطابِقُ الواقع.
# {49} {وإن يكن لهم الحقُّ يأتوا إليه}؛ أي: إلى حكم الشرع {مُذْعِنينَ}: وليس ذلك لأجل أنَّه حكم شرعيٌّ، وإنَّما ذلك لأجل موافقة أهوائهم؛ فليسوا ممدوحينَ في هذه الحال، ولو أتوا إليه مذعنين؛ لأنَّ العبدَ حقيقةً مَن يتَّبع الحقَّ فيما يحبُّ ويكره، وفيما يسرُّه ويحزنُه. وأما الذي يتَّبع الشرع عند موافقة هواه وينبِذُهُ عند مخالفتِهِ، ويقدِّم الهوى على الشرع؛ فليس بعبدٍ على الحقيقة.
# {50} قال الله في لومهم على الإعراض عن الحكم الشرعي: {أفي قلوبِهِم مرضٌ}؛ أي: علَّة أخرجت القلبَ عن صحَّتِهِ وأزالت حاسَّته فصار بمنزلة المريض الذي يعرِضُ عمَّا ينفعُه ويُقْبِلُ على ما يضرُّه. {أم ارتابوا}؛ أي: شكُّوا وقلقتْ قلوبُهم من حكم الله ورسوله واتَّهموه أنه لا يحكُمُ بالحقِّ. {أم يخافون أن يحيفَ اللهُ عليهم ورسولُه}؛ أي: يحكم عليهم حكماً ظالماً جائراً، وإنَّما هذا وصفُهم؛ {بل أولئك هم الظالمونَ}، وأما حكُم اللهِ ورسولِهِ؛ ففي غاية العدالةِ والقِسْط وموافقةِ الحكمة، {ومَنْ أحسنُ من الله حُكْماً لقوم يوقِنونَ}. وفي هذه الآيات دليلٌ على أنَّ الإيمان ليس هو مجرد القول حتى يقترِنَ به العملُ، ولهذا نفى الإيمان عمَّنْ تولَّى عن الطاعة ووجوب الانقياد لحكم الله ورسولِهِ في كلِّ حال، وأنَّ مَن لم يَنْقَدْ له دلَّ على مرض في قلبِهِ ورَيْبٍ في إيمانِهِ، وأنَّه يحرم إساءة الظنِّ بأحكام الشريعة، وأنْ يظنَّ بها خلاف العدل والحكمة.
ولمَّا ذكرَ حالةَ المعرِضين عن الحكم الشرعيِّ، ذَكَرَ حالة المؤمنين الممدوحين، فقال:
آية: 51 - 52 #
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)}.
# {51} أي: {إنَّما كان قولَ المؤمنين}: حقيقةً، الذين صَدَّقوا إيمانَهم بأعمالهم حين يدعون {إلى الله ورسولِهِ لِيَحْكُم بينَهم}: سواء وافق أهواءهم أو خالفها، {أنْ يقولوا سَمِعْنا وأطَعْنا}؛ أي: سمعنا حكم الله ورسولِهِ وأجَبْنا مَنْ دعانا إليه وأطعنا طاعةً تامةً سالمةً من الحرج. {وأولئك هم المفلحونَ}: حَصَرَ الفلاح فيهم؛ لأنَّ الفلاحَ الفوزُ بالمطلوب والنجاةُ من المكروه، ولا يُفْلِحُ إلاَّ مَنْ حَكَّمَ اللهَ ورسولَه وأطاع اللهَ ورسولَه.
# {52} ولما ذَكَرَ فضل الطاعة في الحكم خصوصاً؛ ذَكَرَ فضلَها عموماً في جميع الأحوال، فقال: {ومَنْ يُطِع اللهَ ورسولَه}: فيصدِّقُ خَبَرَهُما ويمتثلُ أمْرَهُما {ويَخْشَ الله}؛ أي: يخافُه خوفاً مقروناً بمعرفة، فيترُكُ ما نهى عنه، ويكفُّ نفسَه عمَّا تَهْوى، ولهذا قال: {وَيَتَّقْهِ}: بترك المحظور؛ لأن التَّقْوى عند الإطلاق يدخُلُ فيها فعلُ المأمور وتركُ المنهيِّ عنه، وعند اقترانها بالبرِّ أو الطاعة ـ كما في هذا الموضع ـ تفسَّر بتوقِّي عذاب الله بترك معاصيه. {فأولئك}: الذين جَمَعوا بين طاعةِ الله وطاعةِ رسوله، وخشيةِ الله وتقواه {هم الفائزون}: بنجاتِهِم من العذاب؛ لتركِهم أسبابَه، ووصولِهم إلى الثواب؛ لفعلهم أسبابه؛ فالفوزُ محصورٌ فيهم، وأمَّا مَنْ لم يتَّصِفْ بوصفِهم؛ فإنَّه يفوته من الفوز بحسب ما قصَّر عنه من هذه الأوصافِ الحميدة. واشتملتْ هذه الآيةُ على الحقِّ المشترك بين الله وبين رسوله، وهو الطاعةُ المستلزمةُ للإيمان، والحقِّ المختص بالله، وهو الخشيةُ والتقوى، وبقي الحقُّ الثالث المختصُّ بالرسول، وهو التعزيرُ والتوقيرُ؛ كما جَمَعَ بين الحقوق الثلاثة في سورة الفتح في قوله: {لِتُؤْمِنوا باللهِ ورسولِهِ وتعزِّروهُ وتوقِّروهُ وتسبِّحوهُ بُكْرَةً وأصيلاً}.
آية: 53 - 54 #
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)}.
# {53} يخبِرُ تعالى عن حالة المتخلِّفين عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجهادِ من المنافقين ومَن في قلوبِهِم مرضٌ وضَعْفُ إيمان أنَّهم يقسِمون بالله: {لئن أمَرْتَهم}: فيما يُسْتَقْبَلُ أو لئنْ نصصتَ عليهم حين خرجتَ؛ {لَيَخْرُجُنَّ} والمعنى الأولُ أولى. قال الله رادًّا عليهم: {قُلْ لا تقسِموا}؛ أي: لا نحتاج إلى إقسامكم وإلى أعذاركم؛ فإنَّ الله قد نبَّأنا من أخباركم. وطاعتُكُم معروفةٌ لا تَخْفى علينا، قد كُنَّا نعرِفُ منكم التثاقلَ والكسلَ من غير عذرٍ؛ فلا وجهَ لِعُذْرِكم وقَسَمِكم، إنَّما يحتاجُ إلى ذلك من كان أمرُهُ محتملاً وحاله مُشتبهةً؛ فهذا ربما يفيدُه العذر براءةً، وأمَّا أنتُم؛ فكلاَّ ولمَّا، وإنَّما يُنْتَظَرُ بكم ويُخاف عليكم حلول بأس الله ونقمته، ولهذا توعَّدهم بقوله: {إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون}: فيجازِيكم عليها أتمَّ الجزاء.
# {54} هذه حالُهم في نفس الأمر، وأمَّا الرسولُ عليه الصلاة والسلام؛ فوظيفتُهُ أنْ يأمُرَكم وينهاكُم، ولهذا قال: {قُلْ أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ فإن}: امتثلوا؛ كان حظَّكم وسعادَتَكم، وإنْ {تَوَلَّوْا فإنَّما عليه ما حُمِّلَ}: من الرسالة، وقد أدَّاها، {وعليكُم ما حُمِّلْتُم}: من الطاعة، وقد بانت حالُكم وظهرتْ، فبان ضلالُكم وغيُّكم واستحقاقُكم العذاب. {وإن تُطيعوه تَهْتَدوا}: إلى الصراط المستقيم قولاً وعملاً؛ فلا سبيلَ لكم إلى الهداية إلاَّ بطاعتِهِ، وبدون ذلك لا يمكنُ، بل هو محالٌ. {وما على الرسول إلاَّ البلاغُ المُبينُ}؛ أي: تبليغُكُم البيِّنُ الذي لا يُبقي لأحدٍ شَكًّا ولا شبهةً، وقد فعل - صلى الله عليه وسلم -؛ بَلَّغَ البلاغَ المُبين، وإنَّما الذي يحاسِبُكم ويجازيكم هو الله تعالى؛ فالرسول ليس له من الأمرِ شيءٌ، وقد قام بوظيفتِهِ.
آية: 55 #
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)}.
# {55} هذا من أوعاده الصادقةِ التي شوهِدَ تأويلُها ومَخْبَرُها؛ فإنَّه وعد مَنْ قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة أن يَسْتَخْلِفَهم في الأرض، يكونونَ هم الخلفاءَ فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأنه يمكِّن {لهم دينَهُمُ الذي ارتضى لهم}، وهو دينُ الإسلام الذي فاقَ الأديانَ كلَّها، ارتضاه لهذه الأمة لفضلِها وشرفِها ونعمتِهِ عليها بأن يتمكَّنوا من إقامتِهِ وإقامةِ شرائعِهِ الظاهرةِ والباطنةِ في أنفسهم وفي غيرِهم؛ لكونِ غيرِهم من أهل الأديان وسائرِ الكفَّار مغلوبينَ ذليلينَ، وأنَّه يبدِّلُهم [أمناً] {من بعدِ خوفِهم}؛ الذي كان الواحد منهم لا يتمكَّنُ من إظهار دينِهِ وما هو عليه إلاَّ بأذى كثيرٍ من الكفار، وكون جماعة المسلمين قليلينَ جدًّا بالنسبة إلى غيرهم، وقد رماهُم أهلُ الأرض عن قوسٍ واحدةٍ، وبَغَوْا لهم الغوائلَ، فوعَدَهم الله هذه الأمورَ وقت نزول الآية، وهي لم تشاهد الاستخلافَ في الأرض والتمكينَ فيها والتمكينَ من إقامةِ الدين الإسلاميِّ والأمنَ التامَّ بحيثُ يعبُدون الله ولا يشرِكون به شيئاً ولا يخافون أحداً إلاَّ الله، فقام صدرُ هذه الأمة من الإيمان والعمل الصالح بما يفوقُ على غيرهم، فمكَّنهم من البلاد والعباد، وفُتِحَتْ مشارقُ الأرض ومغاربُها، وحصل الأمنُ التامُّ والتمكين التامُّ؛ فهذا من آيات الله العجيبة الباهرة، ولا يزالُ الأمر إلى قيام الساعة، مهما قاموا بالإيمان والعمل الصالح؛ فلا بدَّ أن يوجَدَ ما وَعَدَهُم الله، وإنَّما يسلِّطُ عليهم الكفار والمنافقين ويُديلُهم في بعض الأحيان بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح. {ومَن كَفَرَ بعد ذلك}: التمكين والسلطنة التامَّة لكم يا معشرَ المسلمينَ، {فأولئك هم الفاسقون}: الذين خرجوا عن طاعة الله وفسدوا، فلم يصلحوا لصالح، ولم يكنْ فيهم أهليَّةٌ للخير؛ لأنَّ الذي يَتْرُكُ الإيمانَ في حال عزِّه وقهرِهِ وعدم وجودِ الأسباب المانعة منه يدلُّ على فساد نيَّته وخُبث طويَّته؛ لأنَّه لا داعي له لترك الدين إلاَّ ذلك. ودلت هذه الآية أنَّ الله قد مكَّن مَنْ قبلَنا واستخلَفَهم في الأرض؛ كما قال موسى لقومه: {ويَسْتَخْلِفكُم في الأرْضِ فَيَنْظُرَ كيف تعملونَ}، وقال تعالى: {ونريدُ أن نَمُنَّ على الذين استُضْعِفوا في الأرض [ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين] ونمكِّنَ لهم في الأرض}.
آية: 56 - 57 #
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)}.
# {56} يأمر تعالى بإقامة الصلاة بأركانها وشروطها وآدابها ظاهراً وباطناً، وبإيتاء الزكاة من الأموال التي استَخْلَفَ الله عليها العباد وأعطاهم إياها؛ بأن يُؤتوها الفقراء وغيرهم ممَّن ذَكَرَهُم الله لمصرِفِ الزكاة؛ فهذان أكبرُ الطاعات وأجلُّهما، جامعتان لحقِّه وحقِّ خلقِهِ، للإخلاص للمعبود وللإحسان إلى العبيد. ثم عَطَفَ عليهما الأمرَ العامَّ، فقال: {وأطيعوا الرَّسولَ}: وذلك بامتثال أوامرِهِ واجتنابِ نواهيه، {ومَن يُطِعِ الرسولَ فَقَدْ أطاع الله}، {لعلَّكم}: حين تقومون بذلك {تُرْحَمون}: فمن أراد الرحمةَ؛ فهذا طريقُها، ومَنْ رجاها من دون إقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة وإطاعة الرسول؛ فهو متمنٍّ كاذبٌ، وقد منَّته نفسُه الأمانيَّ الكاذبة.
# {57} {لا تحسبنَّ الذين كفروا مُعْجِزينَ في الأرض}: فلا يَغْرُرْكَ ما مُتِّعوا به في الحياة الدُّنيا؛ فإنَّ الله وإنْ أمْهَلَهم؛ فإنَّه لا يُهْمِلُهم؛ {نمتِّعُهم قليلاً ثم نضطرُّهم إلى عذابٍ غليظٍ}. ولهذا قال هنا: {ومأواهُمُ النارُ ولبئسَ المصيرُ}؛ أي: بئس المآلُ مآل الكافرين؛ مآل الشرِّ والحسرة والعقوبة الأبديَّة.
آية: 58 - 59 #
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}.
# {58} أمر المؤمنين أن يستأذِنَهم مماليكُهم والذين لم يبلُغوا الحُلُمَ منهم، قد ذَكَرَ الله حكمتَه، وأنَّه ثلاثُ عوارتٍ للمستأذَنِ عليهم؛ وقتَ نومِهم بالليل بعد العشاء، وعند انْتِباههم قبل صلاة الفجر؛ فهذا في الغالب أنَّ النائم يستعمل للنوم في الليل ثوباً غير ثوبِهِ المعتاد، وأمَّا نومُ النهار؛ [فلمّا] كان في الغالب قليلاً قد ينام فيه العبد بثيابِهِ المعتادة؛ قيَّده بقوله: {وحين تَضَعون ثيابَكم من الظهيرةِ}؛ أي: للقائلة وسط النهار؛ ففي ثلاث هذه الأحوال يكون المماليكُ والأولادُ الصغارُ كغيرهم لا يمكَّنون من الدُّخول إلاَّ بإذنٍ، وأمَّا ما عدا هذه الأحوالُ الثلاثة؛ فقال: {ليس عليكُم ولا عليهِم جُناح بعدهنَّ}؛ أي: ليسوا كغيرِهم؛ فإنَّهم يُحتاج إليهم دائماً، فيشقُّ الاستئذان منهم في كلِّ وقتٍ، ولهذا قال: {طَوَّافونَ عليكم بعضُكم على بعضٍ}؛ أي: يتردَّدون عليكم في قضاء أشغالكم وحوائجكم. {كذلك يبيِّنُ الله لكم الآياتِ}: بياناً مقروناً بحكمتِهِ؛ ليتأكَّدَ ويتقوَّى ويعرفَ به رحمةَ شارِعِه وحكمتَه، ولهذا قال: {والله عليمٌ حكيمٌ}: له العلم المحيطُ بالواجبات و [المستحيلات] والممكنات والحكمة التي وَضَعَتْ كلَّ شيءٍ موضِعَه، فأعطى كلَّ مخلوق خَلْقَه اللائق به، وأعطى كلَّ حكم شرعيٍّ حكمه اللائقَ به، ومنه هذه الأحكام التي بَيَّنَها وبيَّنَ مآخِذَها وحُسْنَها.
# {59} {وإذا بَلَغَ الأطفالُ منكم الحُلُمَ}: وهو إنزالُ المنيِّ يقظةً أو مناماً؛ {فَلْيَسْتَأذِنوا كما استأذنَ الذين من قبلِهِم}؛ أي: في سائر الأوقات، والذين مِنْ قبلِهِم هم الذين ذَكَرَهُمُ اللهُ بقوله: {يا أيُّها الذين آمنوا لا تَدْخُلوا بيوتاً غير بيوتِكُم حتى تَسْتَأنِسوا ... } الآية. {كذلك يبيِّنُ الله لكم آياتِهِ}: ويوضِّحُها ويفصِّلُ أحكامها. {والله عليم حكيم}. وفي هاتين الآيتين فوائدُ: منها: أنَّ السيِّد وولي الصغير مخاطبان بتعليم عبيدِهم ومَنْ تحتَ ولايَتِهم من الأولاد العلمَ والآدابَ الشرعيَّة؛ لأنَّ الله وجَّه الخطاب إليهم بقوله: {يا أيُّها الذين آمنوا لِيَسْتَأذِنكُمُ الذين ملكت أيمانكم والذين لم يَبْلُغوا الحُلُم ... } الآية، ولا يمكنُ ذلك إلاَّ بالتعليم والتأديب، ولقوله: {ليس عليكُم ولا عليهِم جُناح بَعْدَهُنَّ}. ومنها: الأمر بحفظِ العورات والاحتياط لذلك من كلِّ وجه، وأنَّ المحلَّ والمكانَ الذي مَظِنَّةٌ لرؤيةِ عورة الإنسان فيه، أنَّه منهيٌّ عن الاغتسال فيه والاستنجاء ونحو ذلك. ومنها: جوازُ كشفِ العورة لحاجةٍ؛ كالحاجة عند النوم وعند البول والغائط ونحو ذلك. ومنها: أنَّ المسلمين كانوا معتادين القَيْلولة وسطَ النهار؛ كما اعتادوا نومَ الليل؛ لأنَّ الله خاطَبَهم ببيانِ حالِهِم الموجودةِ. ومنها: أنَّ الصغير الذي دون البلوغ لا يجوزُ أن يمكَّنَ من رؤية العورة، ولا يجوزُ أن تُرى عورتُهُ؛ لأنَّ الله لم يأمُرْ باستئذانِهِم إلاَّ عن أمرٍ ما يجوز. ومنها: أنَّ المملوك أيضاً لا يجوزُ أن يرى عورةَ سيِّده؛ كما أنَّ سيِّده لا يجوز أن يرى عورتَه؛ كما ذكرنا في الصغير. ومنها: أنَّه ينبغي للواعظ والمعلِّم ونحوهم ممَّن يتكلَّم في مسائل العلم الشرعيِّ أن يقرِنَ بالحكم بيانَ مأخذِهِ ووجهِهِ، ولا يُلقيه مجرَّداً عن الدليل والتَّعليل؛ لأنَّ الله لما بيَّن الحكم المذكور؛ علَّله بقوله: {ثلاثُ عوراتٍ لكم}. ومنها: أنَّ الصَّغيرَ والعبدَ مخاطبان كما أنَّ وليَّهما مخاطبٌ؛ لقوله: {ليس عليكُم ولا عليهم جناحٌ بَعْدَهُنَّ}. ومنها: أنَّ ريق الصبيِّ طاهرٌ، ولو كان بعد نجاسةٍ؛ كالقيء؛ لقوله تعالى: {طوَّافونَ عليكُم}؛ مع قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حين سُئِلَ عن الهرة: «إنها ليست بِنَجَسٍ، إنَّها من الطَّوَّافينَ عليكم والطَّوَّافاتِ». ومنها: جوازُ استخدام الإنسان مَنْ تحت يدِهِ من الأطفال على وجهٍ معتادٍ لا يشقُّ على الطفل؛ لقوله: {طوَّافونَ عليكم}. ومنها: أنَّ الحكم المذكورَ المفصَّل إنَّما هو لما دونَ البلوغ، وأمَّا ما بعدَ البلوغ؛ فليس إلاَّ الاستئذان. ومنها: أنَّ البلوغَ يحصُلُ بالإنزال، فكلُّ حكم شرعيٍّ رُتِّبَ على البلوغ؛ حصل بالإنزال، وهذا مجمعٌ عليه، وإنَّما الخلاف هل يَحْصُلُ البلوغُ بالسنِّ أو الإنباتِ للعانةِ. والله أعلم.
آية: 60 #
{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}.
# {60} {والقواعدُ من النساء}؛ [أي]: اللاتي قَعَدْنَ عن الاستمتاع والشهوةِ، {اللاتي لا يَرْجونَ نِكاحاً}؛ أي: لا يَطْمَعْنَ في النكاح ولا يُطْمَعُ فيهن، وذلك لكونها عجوزاً لا تشتهي أو دميمةَ الخِلْقَةِ لا تُشْتَهى ولا تَشْتَهي. {فليس عليهنَّ جُناحٌ}؛ أي: حرجٌ وإثمٌ، {أن يَضَعْنَ ثيابَهُنَّ}؛ أي: الثياب الظاهرة كالخمار ونحوه، الذي قال الله فيه للنساء: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيوبِهِنَّ}؛ فهؤلاء يجوز لهنَّ أن يَكْشِفْنَ وجوهَهُنَّ لأمن المحذور منها وعليها. ولما كان نفيُ الحرج عنهنَّ في وضع الثياب ربَّما تُوُهِّمَ منه جوازُ استعمالها لكلِّ شيءٍ؛ دَفَعَ هذا الاحتراز بقوله: {غيرَ مُتَبَرِّجات بزينةٍ}؛ أي: غير مظهراتٍ للناس زينةً من تجمُّلٍ بثيابٍ ظاهرةٍ، وتَسْتُرُ وجهها، ومن ضربِ الأرض ليعلم ما تُخفي من زينتها؛ لأنَّ مجرَّد الزينة على الأنثى، ولو مع تستُّرها، ولو كانت لا تُشتهى؛ يفتن فيها ويوقِعُ الناظر إليها في الحرج. {وأن يَسْتَعْفِفْنَ خيرٌ لهنَّ}: والاستعفافُ طلبُ العفَّة بفعل الأسباب المقتضية لذلك من تزوُّج وتركٍ لما يُخْشى منه الفتنة. {والله سميعٌ}: لجميع الأصوات. {عليمٌ}: بالنيَّات والمقاصدِ؛ فليحذَرْن من كلِّ قول وقصدٍ فاسدٍ، ويَعْلَمْنَ أنَّ الله يُجازي على ذلك.
آية: 61 #
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}.
# {61} يخبر تعالى عن منَّته على عبادِهِ، وأنَّه لم يجعلْ عليهم في الدين من حرج، بل يسَّره غاية التيسير، فقال: {ليس على الأعمى حَرَجٌ ولا على الأعرجِ حَرَجٌ ولا على المريضِ حَرَجٌ}؛ أي: ليس على هؤلاء جُناح في ترك الأمور الواجبة التي تتوقَّف على واحدٍ منها، وذلك كالجهاد ونحوه مما يتوقَّف على بصر الأعمى أو سلامة الأعرج أو صحَّة المريض، ولهذا المعنى العامِّ الذي ذَكَرْناه؛ أطلقَ الكلامَ في ذلك، ولم يقيِّدْ؛ كما قيَّدَ قوله: {ولا على أنفسكم}؛ أي: حرج، {أن تأكلوا مِن بيوتكم}؛ أي: بيوت أولادكم. وهذا موافقٌ للحديث الثابت: «أنت ومالُكَ لأبيك» ، والحديث الآخر: «إنَّ أطيبَ ما أكلتُم من كسبِكُم، وإنَّ أولادَكُم من كسبِكُم». وليس المرادُ من قولِهِ: {من بيوتِكُم}: بيت الإنسان نفسه؛ فإنَّ هذا من باب تحصيل الحاصل، الذي يُنَزَّهُ عنه كلامُ الله، ولأنَّه نفي الحرج عمَّا يُظَنُّ أو يتوهَّمُ فيه الإثمُ من هؤلاء المذكورين، وأمَّا بيتُ الإنسان نفسه؛ فليس فيه أدنى توهُّم. {أو بيوتِ آبائِكُم أو بيوت أمَّهاتِكم أو بيوتِ إخوانِكم أو بيوت أخَواتِكُم أو بيوتِ أعمامِكُم أو بيوتِ عَمَّاتِكُم أو بيوتِ أخْوالِكُم أو بيوتِ خالاتكم}: وهؤلاء معروفون. {أو ما مَلَكْتُم مفاتِحَهُ}؛ أي: البيوت التي أنتم متصرِّفون فيها بوكالةٍ أو ولايةٍ ونحو ذلك، وأمَّا تفسيرُها بالمملوك؛ فليس بوجيه؛ لوجهين: أحدِهما: أنَّ المملوكَ لا يُقال فيه: ملكتَ مفاتِحَهُ، بل يقال: ما ملكْتُموه، أو: ما ملكت أيمانُكم؛ لأنَّهم مالكونَ له جملةً، لا لمفاتِحِهِ فقط. والثاني: أنَّ بيوتَ المماليك غيرُ خارجةٍ عن بيت الإنسان نفسه؛ لأنَّ المملوك وما مَلَكَه لسيِّده؛ فلا وجه لنفي الحَرَج عنه. {أو صديقِكُم}: وهذا الحرج المنفيُّ من الأكل من هذه البيوت؛ كلُّ ذلك إذا كان بدون إذنٍ، والحكمةُ فيه معلومةٌ من السياق؛ فإن هؤلاء المسمَّيْن قد جرتِ العادةُ والعرفُ بالمسامحة في الأكل منها؛ لأجل القرابة القريبة أو التصرُّف التامِّ أو الصَّداقة؛ فلو قُدِّرَ في أحدٍ من هؤلاء عدم المسامحة والشحُّ في الأكل المذكور؛ لم يَجُزِ الأكلُ ولم يرتَفِع الحرجُ نظراً للحكمة والمعنى. وقوله: {ليس عليكم جُناحٌ أن تَأكُلوا جميعاً أو أشتاتاً}؛ فكلُّ ذلك جائزٌ؛ أكلُ أهل البيت الواحد جميعاً، أو أكلُ كلِّ واحدٍ منهم وحدَه، وهذا نفيٌ للحرج لا نفيٌ للفضيلة، وإلاَّ؛ فالأفضل الاجتماع على الطعام. {فإذا دَخَلْتُم بيوتاً}: نكرة في سياق الشرط؛ يشمَلُ بيتَ الإنسان وبيتَ غيرِهِ، سواء كان في البيت ساكنٌ أم لا؛ فإذا دَخَلَها الإنسان؛ {فسلِّموا على أنفُسِكُم}؛ أي: فَلْيُسَلِّمْ بعضُكم على بعضٍ؛ لأنَّ المسلمين كأنَّهم شخصٌ واحدٌ من توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم؛ فالسلامُ مشروعٌ لدخول سائر البيوت؛ من غير فرقٍ بين بيتٍ وبيتٍ، والاستئذانُ تقدَّم أن فيه تفصيلاً في أحكامه، ثم مدح هذا السلام، فقال: {تحيَّةً من عند الله مباركةً طيبةً}؛ أي: سلامكم بقولِكم: السلامُ عليكُم ورحمةُ الله وبركاتُه، أو: السلامُ علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ إذْ تدخُلون البيوتَ {تحيةً من عند الله}؛ أي: قد شرعها لكم وجعلها تحيَّتَكُم، {مباركةً}: لاشتمالها على السلامة من النقص وحصول الرحمة والبركة والنَّماء والزيادة، {طيبة}: لأنها من الكَلِم الطيِّب المحبوب عند الله، الذي فيه طيبُ نفس للمحيَّا ومحبَّة وجلب مودَّة. لما بيَّن لنا هذه الأحكام الجليلة؛ قال: {كذلك يبيِّنُ الله لكم الآياتِ}: الدَّالاَّت على أحكامِهِ الشرعيَّة وحِكَمِها {لعلَّكم تعقلونَ}: عنه؛ فتفهَمونها وتعقِلونها بقُلوبكم، ولتكونوا من أهل العقول والألباب الرَّزينةِ؛ فإنَّ معرفة أحكامه الشرعيَّة على وجهها يزيدُ في العقل ويَنْمو به اللُّبُّ؛ لكون معانيها أجلَّ المعاني وآدابها أجلَّ الآداب، ولأنَّ الجزاء من جنس العمل؛ فكما استعمل عقلَه للعقل عن ربِّه وللتفكُّر في آياته التي دعاه إليها؛ زاده من ذلك. وفي هذه الآيات دليلٌ على قاعدةٍ عامَّةٍ كليَّةٍ، وهي: أنَّ العرف والعادة مخصِّص للألفاظ؛ كتخصيص اللفظ للفظ؛ فإنَّ الأصل أن الإنسان ممنوع من تناول طعام غيره مع أنَّ الله أباح الأكل من بيوت هؤلاء للعُرف والعادةِ؛ فكلُّ مسألة تتوقَّف على الإذن من مالك الشيء إذا عُلِمَ إذنُه بالقول أو العُرف؛ جاز الإقدام عليه. وفيها: دليلٌ على أنَّ الأب يجوزُ له أن يأخُذَ ويتملَّك من مال ولدِهِ ما لا يضرُّه؛ لأنَّ الله سمَّى بيتَه بيتاً للإنسان. وفيها: دليلٌ على أن المتصرِّفَ في بيت الإنسان كزوجتِهِ وأختِهِ ونحوِهما يجوزُ لهما الأكل عادةً وإطعامُ السائل المعتاد. وفيها: دليلٌ على جوازِ المشاركة في الطعام، سواء أكلوا مجتمعينَ أو متفرِّقين، ولو أفضى ذلك إلى أن يأكُلَ بعضُهم أكثر من بعض.
آية: 62 - 64 #
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)}.
# {62} هذا إرشادٌ من الله لعبادِهِ المؤمنين أنَّهم إذا كانوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمرٍ جامع؛ أي: من ضرورتِهِ أو مصلحتِهِ أن يكونوا فيه جميعاً؛ كالجهاد والمشاورة ونحو ذلك من الأمور التي يشتركُ فيها المؤمنون؛ فإنَّ المصلحة تقتضي اجتماعُهم عليه وعدمُ تفرُّقهم؛ فالمؤمنُ بالله ورسوله حقًّا لا يذهبُ لأمرٍ من الأمور؛ لا يرجِعُ لأهلِهِ، ولا يذهبُ لبعض الحوائج التي يشذُّ بها عنهم؛ إلاَّ بإذنٍ من الرسول أو نائبِهِ من بعدِهِ، فجعل موجَبَ الإيمان عدمَ الذَّهاب إلاَّ بإذنٍ، ومَدَحَهم على فعلهم هذا وأدَبِهِم مع رسولِهِ وولي الأمر منهم، فقال: {إنَّ الذين يستأذِنونك أولئك الذين يؤمِنون باللهِ ورسولِهِ}: ولكنْ؛ هل يأذنُ لهم أم لا؟ ذكر لإذنِهِ لهم شرطين: أحدَهما: أن يكون لشأنٍ من شؤونهم وشغل من أشغالهم، فأما مَنْ يستأذنُ من غيرِ عذرٍ؛ فلا يُؤْذَنُ له. والثاني: أن يشاءَ الإذنَ، فتقتضيه المصلحةُ من دونِ مضرَّةٍ بالآذنِ؛ قال: {فإذا استأذنوكَ لبعض شأنِهِم فأْذَن لِمَن شئتَ منهُم}: فإذا كان له عذرٌ، واستأذنَ؛ فإنْ كان في قعودِهِ وعدم ذَهابه مصلحةٌ برأيِهِ أو شجاعته ونحو ذلك؛ لم يأذنْ له. ومع هذا؛ إذا استأذنَ وأذِنَ له بشرطيه؛ أمر الله رسولَه أن يَسْتَغْفِرَ له لما عسى أن يكون مقصراً في الاستئذان، ولهذا قال: {فاسْتَغْفِرْ لهم اللهَ إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ}: يغفرُ لهم الذنوبَ، ويرحمُهم؛ بأن جوَّز لهم الاستئذان مع العذر.
# {63} {لا تجعلوا دُعاءَ الرسول بينَكم كدعاءِ بعضِكُم بعضاً}؛ [أي لا تجعلوا دُعاءَ الرَّسولِ إيَّاكُم، ودُعَاءَكم للرَّسولِ كَدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضاً]، فإذا دعاكم؛ فأجيبوه وجوباً، حتى إنه تجبُ إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حال الصلاة، وليس أحدٌ إذا قال قولاً يجبُ على الأمَّة قَبولُ قولِهِ والعملُ به إلاَّ الرسول؛ لعصمتِهِ، وكونِنا مخاطَبينَ باتِّباعه؛ قال تعالى: {يا أيُّها الذين آمنوا اسْتَجيبوا للهِ وللرسولِ إذا دَعاكُم لِما يُحْييكُم}. وكذلك لا تجعلوا دعاءكم للرَّسول كدُعاءِ بعضِكُم بعضاً؛ فلا تقولوا: يا محمدُ عند ندائِكم، أو: يا محمد بن عبد الله! كما يقولُ ذلك بعضُكم لبعض، بل من شرفِهِ وفضلِهِ وتميُّزِهِ - صلى الله عليه وسلم - عن غيرِهِ أنْ يُقال: يا رسولَ الله! يا نبيَّ الله! {قد يعلم الله الذين يتسلَّلونَ منكم لِواذاً}. لما مَدَحَ المؤمنين بالله ورسولِهِ الذين إذا كانوا معه على أمرٍ جامع لم يَذْهبوا حتى يستأذِنوه؛ توعَّدَ مَنْ لم يفعلْ ذلك وذَهَبَ من غير استئذانٍ؛ فهو؛ وإن خفي عليكم بذَهابه على وجهٍ خفيٍّ، وهو المراد بقوله: {يتسلَّلون مِنكم لِواذاً}؛ أي: يلوذون وقتَ تسلُّلهم وانطلاقهم بشيء يحجُبُهم عن العيون؛ فالله يعلمهم، وسيجازيهم على ذلك أتمَّ الجزاء، ولهذا توعَّدهم بقولِهِ: {فليحذرِ الذين يخالفونَ عن أمرِهِ}؛ أي: يذهبون إلى بعض شؤونهم عن أمرِ الله ورسولِهِ؛ فكيف بمَنْ لم يذهبْ إلى شأن من شؤونه، وإنَّما تركَ أمرَ الله من دون شغل له؛ {أن تُصيبَهم فتنةٌ}؛ أي: شركٌ وشرٌّ، {أو يُصيبَهم عذابٌ أليمٌ}.
# {64} {ألا إنَّ لله ما في السمواتِ والأرض}: مُلكاً وعبيداً يتصرَّف فيهم بحكمِهِ القدريِّ وحكمه الشرعيِّ. {قد يعلم ما أنتُم عليه}؛ أي: قد أحاط علمُه بما أنتُم عليه من خيرٍ وشرٍّ، وعلم جميعَ أعمالكم؛ أحصاها علمُه، وجرى بها قلمُه، وكتبتْها عليكم الحفظةُ الكرام الكاتِبون. {ويومَ يُرْجَعون إليه}؛ أي: يوم القيامة {فينَبِّئُهم بما عَمِلوا}: يخبرُهم بجميع أعمالِهِم؛ دقيقِها وجليلها؛ إخباراً مطابقاً لما وَقَعَ منهم، ويستشهدُ عليهم أعضاءَهم؛ فلا يعدَمون منه فَضْلاً أو عدلاً. ولما قيَّد علمَه بأعمالهم؛ ذكر العمومَ بعد الخُصوص، فقال: {واللهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ}.
* * *