آية:
تفسير سورة النازعات
تفسير سورة النازعات
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
آية: 1 - 14 #
{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}.
# {1 ـ 5} هذه الإقسامات بالملائكة الكرام وأفعالهم الدالَّة على كمال انقيادهم لأمر الله وإسراعهم في تنفيذه ؛ يُحتمل أنَّ المقسم عليه الجزاء والبعث؛ بدليل الإتيان بأحوال القيامة بعد ذلك، ويُحتمل أنَّ المقسَم عليه والمقسَم به متَّحِدان، وأنَّه أقسم على الملائكة؛ لأنَّ الإيمان بهم أحدُ أركان الإيمان الستَّة، ولأنَّ في ذكر أفعالهم هنا ما يتضمَّن الجزاء الذي تتولاَّه الملائكة عند الموت وقبله وبعده، فقال: {والنازعاتِ غَرْقاً}: وهم الملائكة التي تنزع الأرواح بقوَّة، وتغرق في نزعها حتى تخرج الرُّوح فتجازى بعملها. {والناشطاتِ نشطاً}: وهي الملائكة أيضاً تجتذبُ الأرواحَ بقوَّة ونشاطٍ، أو أنَّ النشطَ يكون لأرواح المؤمنين والنَّزْع لأرواح الكفَّار. {والسَّابحاتِ}؛ أي: المتردِّدات في الهواء صعوداً ونزولاً، {سبحاً. فالسَّابقاتِ}: لغيرها {سبقاً}: فتبادِرُ لأمر الله وتسبق الشياطين في إيصال الوحي إلى رسل الله؛ لئلاَّ تسترِقه ، {فالمدبِّراتِ أمراً}؛ [أي]: الملائكة الذين جعلهم الله يدبِّرون كثيراً من أمور العالم العلويِّ والسفليِّ من الأمطار والنَّبات [والأشجار] والرِّياح والبحار والأجنَّة والحيوانات والجنَّة والنار وغير ذلك.
# {6 ـ 9} {يومَ ترجُفُ الرَّاجفةُ}: وهي قيام الساعة، {تتبعُها الرادفةُ}؛ أي: الرجفة الأخرى التي تَرْدُفُها وتأتي تلوَها. {قلوبٌ يومئذٍ واجفةٌ}؛ أي: منزعجةٌ من شدَّة ما ترى وتسمع، {أبصارُها خاشعةٌ}؛ أي: ذليلةٌ حقيرةٌ قد ملك قلوبهم الخوف وأذهل أفئدتهم الفزع وغلب عليهم التأسُّف، واستولت عليهم الحسرة.
# {10 ـ 14} {يقولونَ} ؛ أي: الكفار في الدُّنيا على وجه التكذيب: {أإذا كُنَّا عظاماً نخرةً}؛ أي: باليةً فتاتاً، {قالوا تلك إذاً كَرَّةٌ خاسرةٌ}؛ أي: استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم بعدما كانوا عظاماً نخرةً جهلاً منهم بقدرة الله وتجرياً عليه! قال الله في بيان سهولة هذا الأمر عليه: {فإنَّما هي زجرةٌ واحدةٌ}: يُنفخ في الصور؛ فإذا الخلائقُ كلُّهم {بالسَّاهرةِ}؛ أي: على وجه الأرض قيامٌ ينظرونَ، فيجمعهم الله، ويقضي بينهم بحكمه العدل، ويجازيهم.
آية: 15 - 26 #
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)}.
# {15 ـ 25} يقول الله تعالى لنبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: {هل أتاك حديثُ موسى}: وهذا الاستفهام عن أمرٍ عظيمٍ متحقِّق وقوعه؛ أي: هل أتاك حديثه. {إذ ناداه ربُّه بالوادِ المقدَّس طوىً}: وهو المحلُّ الذي كلَّمه الله فيه، وامتنَّ عليه بالرسالة، وابتعثه بالوحي، واجتباه ، فقال له: {اذهبْ إلى فرعونَ إنَّه طغى}؛ أي: فانهه عن طغيانه وشركه وعصيانه بقولٍ ليِّنٍ وخطابٍ لطيفٍ لعله يتذكر أو يخشى، {فَقُل له هل لك إلى أن تَزكَّى}؛ أي: هل لك في خصلةٍ حميدةٍ ومحمدةٍ جميلةٍ يتنافس فيها أولو الألباب؟ وهي أن تزكِّيَ نفسك وتطهِّرَها من دَنَس الكفر والطغيان إلى الإيمان والعمل الصالح. {وأهدِيَك إلى ربِّك}؛ أي: أدلُّك عليه، وأبيِّن لك مواقع رضاه من مواقع سخطه، {فتخشى}: الله إذا علمت الصراط المستقيم. فامتنع فرعون ممَّا دعاه إليه موسى، {فأراه الآيةَ الكبرى}؛ أي: جنس الآية الكبرى؛ فلا ينافي تعدُّدها، {فألقى عصاه فإذا هي ثعبانٌ مبينٌ. ونزعَ يدَه فإذا هي بيضاءُ للنَّاظرين}. {فكذَّب}: بالحقِّ، {وعصى}: الأمر، {ثم أدبر يسعى}؛ أي: يجتهد في مبارزة الحقِّ ومحاربته. {فحشر}: جنودَه؛ أي: جمعهم، {فنادى. فقال}: لهم: {أنا ربُّكم الأعلى}: فأذعنوا له وأقرُّوا بباطله حين استخفَّهم. {فأخذه اللهُ نَكالَ الآخرةِ والأولى}؛ أي: جعل الله عقوبته دليلاً وزاجراً ومبيِّنةً لعقوبة الدُّنيا والآخرة.
# {26} {إنَّ في ذلك لَعبرةً لمَن يَخْشى}: فإنَّ مَنْ يخشى الله هو الذي ينتفع بالآيات والعبر؛ فإذا رأى عقوبة فرعون؛ عرف أنَّ [كلَّ] من تكبَّر وعصى وبارز الملك الأعلى؛ يعاقِبه في الدُّنيا والآخرة، وأمَّا مَن ترحَّلت خشيةُ الله من قلبه؛ فلو جاءته كلُّ آيةٍ؛ لم يؤمنْ بها.
آية: 27 - 33 #
{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)}.
# {27 ـ 33} يقول تعالى مبيناً دليلاً واضحاً لمنكري البعث ومستبعدي إعادة الله للأجساد: {أأنتُم}: أيُّها البشر، {أشدُّ خلقاً أم السماءُ}: ذات الجرم العظيم والخلق القويِّ والارتفاع الباهر، {بناها}: الله، {رفَعَ سَمْكَها}؛ أي: جرمها وصورتها. {فسوَّاها}: بإحكام وإتقانٍ يحيِّر العقول ويذهل الألباب، {وأغطشَ ليلَها}؛ أي: أظلمه، فعمَّت الظُّلمة جميع أرجاء السماء، فأظلم وجه الأرض، {وأخرج ضُحاها}؛ أي: أظهر فيه النُّور العظيم حين أتى بالشمس، فانتشر الناس في مصالح دينهم ودُنْياهم، {والأرضَ بعد ذلك}؛ أي: بعد خلق السماء {دحاها}؛ أي: أودع فيها منافعها، وفسر ذلك بقوله: {أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها}؛ أي: ثبَّتها بالأرض ، فدحى الأرض بعد خَلْق السماواتِ؛ كما هو نصُّ هذه الآيات الكريمة، وأمَّا خلق نفس الأرض؛ فمتقدِّم على خلق السماء؛ كما قال تعالى: {قل أإنَّكم لتكفرونَ بالذي خلق الأرضَ في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك ربُّ العالمين ... } إلى أن قال: {ثمَّ استوى إلى السَّماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرها قالتا أتينا طائعين. فقضاهنَّ سبع سمواتٍ ... }: فالذي خلق السماواتِ العظام وما فيها من الأنوار والأجرام والأرض الغبراء الكثيفة ، وما فيها من ضروريَّات الخلق ومنافعهم لا بدَّ أن يبعث الخلق المكلَّفين فيجازيهم بأعمالهم ؛ فمن أحسن؛ فله الحسنى، وَمن أساء؛ فلا يلومنَّ إلاَّ نفسه.
ولهذا ذكر بعد هذا قيام الساعة ثم الجزاء ، فقال:
آية: 34 - 41 #
{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}.
# {34 ـ 36} أي: إذا جاءت القيامةُ الكبرى والشدَّةُ العظمى، التي يَهون عندها كلُّ شدَّةٍ؛ فحينئذٍ يذهل الوالد عن ولده، والصاحب عن صاحبه، وكلُّ محبٍّ عن حبيبه، و {يتذكَّرُ الإنسانُ ما سعى}: في الدُّنيا من خير وشرٍّ، فيتمنَّى زيادة مثقال ذرَّةٍ في حسناته، ويغمُّه ويحزن لزيادة مثقال ذرَّةٍ في سيئاته، ويعلم إذ ذاك أنَّ مادة ربحه وخسرانه ما سعاه في الدُّنيا، وينقطع كلُّ سبب ووصلةٍ كانت في الدُّنيا سوى الأعمال، {وبُرِّزَت الجحيم لمن يرى}؛ أي: جُعِلَت في البراز ظاهرةً لكلِّ أحدٍ؛ قد هُيِّئت لأهلها، واستعدَّت لأخذهم منتظرةً لأمر ربِّها.
# {37 ـ 39} {فأمَّا مَن طغى}؛ أي: جاوز الحدَّ بأن تجرَّأ على المعاصي الكبار ولم يقتصرْ على ما حدَّه الله، {وآثرَ الحياة الدُّنيا}: على الآخرة، فصار سعيه لها ووقته مستغرقاً في حظوظها وشهواتها، ونسي الآخرة والعمل لها؛ {فإنَّ الجحيم هي المأوى}: له؛ أي: المقرُّ والمسكن لمن هذه حاله.
# {40 ـ 41} {وأمَّا مَنْ خافَ مقامَ ربِّه}؛ أي: خاف القيام عليه ومجازاته بالعدل؛ فأثَّر هذا الخوف في قلبه، فنهى {النفس عن}: هواها الذي يصدُّها عن طاعة الله، وصار هواه تبعاً لما جاء به الرسول، وجاهد الهوى والشهوة الصادَّيْن عن الخير؛ {فإنَّ الجنَّة}: المشتملة على كلِّ خيرٍ وسرورٍ ونعيم، {هي المأوى}: لمن هذا وصفُه.
آية: 42 - 46 #
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}.
# {42 ـ 44} أي: يسألك المتعنِّتون المكذِّبون بالبعث {عن الساعة}: متى وقوعُها؟ و {أيَّان مُرْساها}؟! فأجابهم الله بقوله: {فيم أنت من ذكراها}؛ أي: ما الفائدة لك ولهم في ذكرها ومعرفة وقت مجيئها؛ فليس تحت ذلك نتيجةٌ، ولهذا لمَّا كان علم العباد للساعة ليس لهم فيه مصلحةٌ دينيةٌ ولا دنيويةٌ، بل المصلحة في إخفائه عليهم، طوى علم ذلك عن جميع الخلق واستأثر بعلمه فقال: {إلى ربك منتهاها}؛ أي: إليه ينتهي علمها؛ كما قال في الآية الأخرى: {يسألونَكَ عن الساعة أيَّانَ مُرْساها قل إنَّما علمُها عند ربِّي لا يُجَلِّيها لوقتها إلاَّ هو}.
# {45 ـ 46} {إنَّما أنت منذرُ مَنْ يَخْشاها}؛ أي: إنَّما نذارتك نفعها لمن يخشى مجيء الساعة ويخاف الوقوف بين يدي الله ؛ فهم الذين لا يُهِمُّهم إلاَّ الاستعداد لها والعمل لأجلها، وأما مَنْ لم يؤمن بها؛ فلا يُبَالى به ولا بتعنُّته؛ لأنَّه تعنتٌ مبنيٌّ على التَّكذيب والعناد ، وإذا وصل إلى هذه الحال؛ كان الإجابة عنه عبثاً، ينزَّه أحكم الحاكمين عنه.
تمت. والحمد لله رب العالمين.
* * *