آية:
تفسير سورة الرحمن
تفسير سورة الرحمن
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
آية: 1 - 13 #
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)}.
# {1} هذه السورة الكريمة الجليلةُ افتتحها باسمه الرحمن، الدالِّ على سعة رحمته وعموم إحسانه وجزيل برِّه وواسع فضله، ثم ذَكَرَ ما يدلُّ على رحمته وأثرها الذي أوصله الله إلى عباده من النعم الدينيَّة والدنيويَّة والأخرويَّة، وبعد كل جنس ونوع من نعمه ينبِّه الثقلين لشكره ويقول: {فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبان}.
# {2} فذكر أنه: {علم القرآن}؛ أي: علَّم عباده ألفاظه ومعانيه ويسَّرها على عباده، وهذا أعظم منَّة ورحمة رحم بها العباد، حيث أنزل عليهم قرآناً عربياً بأحسن الألفاظ وأوضح المعاني ، مشتملٌ على كلِّ خير، زاجرٌ عن كلِّ شرٍّ.
# {3 ـ 4} {خلق الإنسان}: في أحسن تقويم، كامل الأعضاء، مستوفَى الأجزاء، محكم البناء، قد أتقن البارئ تعالى البديع خلقه أيَّ إتقان، وميَّزه على سائر الحيوانات بأن {علَّمه البيانَ}؛ أي: التبيين عمَّا في ضميره. وهذا شاملٌ للتعليم النُّطقيِّ والتعليم الخطِّيِّ؛ فالبيان الذي ميَّز الله به الآدميَّ على غيره من أجلِّ نعمه وأكبرها عليه.
# {5} {الشمسُ والقمرُ بحُسْبانٍ}؛ أي: خلق الله الشمس والقمر وسخَّرهما يجريان بحساب مقنَّن وتقدير مقدَّر رحمةً بالعباد وعنايةً بهم، وليقوم بذلك من مصالحهم ما يقوم، وليعرفوا عدد السنين والحساب.
# {6} {والنجم والشجر يسجُدان}؛ أي: نجوم السماء وأشجار الأرض تعرِفُ ربَّها وتسجُد له وتطيع وتخضع وتنقاد لما سخَّرها له من مصالح عباده ومنافعهم.
# {7 ـ 8} {والسماء رفعها}: سقفاً للمخلوقات الأرضيَّة، {ووضع} [اللَّه] {الميزان}؛ أي: العدل بين العبادِ في الأقوال والأفعال، وليس المراد به الميزان المعروف وحده، بل هو كما ذكرنا؛ يدخل فيه الميزان المعروف والمكيال الذي تُكال به الأشياء والمقادير والمساحات التي تُضْبَط بها المجهولات والحقائق التي يُفْصَل بها بين المخلوقات ويُقام بها العدل بينهم، ولهذا قال: {ألاَّ تَطْغَوْا في الميزان}؛ أي: أنزل الله الميزان لئلاَّ تتجاوزوا الحدَّ في الميزان؛ فإنَّ الأمر لو كان يرجع إلى عقولكم وآرائكم؛ لحصل من الخلل ما الله به عليم، ولفسدت السماواتُ والأرض ومن فيهنَّ.
# {9} {وأقيموا الوزنَ بالقسطِ}؛ أي: اجعلوه قائماً بالعدل، الذي تصل إليه مقدرتكم وإمكانكم، {ولا تُخْسِروا الميزانَ}؛ أي: لا تنقصوه وتعملوا بضدِّه، وهو الجور والظلم والطغيان.
# {10} {والأرضَ وضعها}: الله على ما كانت عليه من الكثافة والاستقرار واختلاف أوصافها وأحوالها {للأنام}؛ أي: للخلق؛ لكي يستقرُّوا عليها، وتكون لهم مهاداً وفراشاً، يبنون بها ويحرُثون ويغرِسون ويحفرون، ويسلكون سُبُلَها فجاجاً، وينتفعون بمعادنها، وجميع ما فيها مما تدعو إليه حاجتهم بل ضرورتهم.
ثم ذكر ما فيها من الأقوات الضرورية، فقال:
# {11} {فيها فاكهةٌ}: وهي جميع الأشجار التي تثمر الثمراتِ التي يتفكَّه بها العبادُ من العنب والتين والرمان والتُّفاح وغير ذلك، {والنَّخْلُ ذاتُ الأكمام}؛ أي: ذات الوعاء الذي ينفلق عن القِنْوان التي تَخْرُجُ شيئاً فشيئاً حتى تتمَّ فتكون قوتاً يدَّخر ويؤكل ويتزوَّد منه المقيم والمسافر وفاكهةً لذيذةً من أحسن الفواكه.
# {12} {والحبُّ ذو العصفِ}؛ أي: ذو الساق الذي يُداس فينتفع بتبنه للأنعام وغيرها، ويدخل في ذلك حبُّ البُرِّ والشعير والذُّرة والأرز والدخن وغير ذلك، {والريحانُ}: يُحتمل أنَّ المراد به جميع الأرزاق التي يأكلها الآدميُّون، فيكون هذا من باب عطف العامِّ على الخاصِّ، ويكون الله [تعالى] قد امتنَّ على عباده بالقوت والرزق عموماً وخصوصاً. ويُحتمل أنَّ المراد بالريحان الريحان المعروف، وأنَّ الله امتنَّ على عباده بما يسَّره في الأرض من أنواع الروائح الطيبة والمشامِّ الفاخرة التي تسرُّ الأرواح وتنشرح لها النفوس.
# {13} ولما ذَكَرَ جملةً كثيرةً من نعمه التي تشاهد بالأبصار والبصائر، وكان الخطابُ للثَّقلين الجن والإنس؛ قررهم تعالى بنعمه، فقال: {فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تكذِّبانِ}؛ أي: فبأيِّ نعم الله الدينيَّة والدنيويَّة تكذِّبان؟ وما أحسن جواب الجن حين تلا عليهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة؛ فكلَّما مرَّ بقوله: {فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تكذِّبان}؛ قالوا: ولا بشيءٍ من آلائك ربنا نكذِّبُ؛ فلك الحمد. فهكذا ينبغي للعبد إذا تليت عليه نعم الله وآلاؤه أن يُقِرَّ بها ويشكر ويحمد الله عليها.
ثم قال تعالى:
آية: 14 - 16 #
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)}.
# {14} وهذا من نعمه تعالى على عباده؛ حيث أراهم من آثارِ قدرتِهِ وبديع صنعته أنْ {خَلَقَ} أبا {الإنسان}، وهو آدم عليه السلام، {من صلصالٍ كالفخَّارِ}؛ أي: من طينٍ مبلول، قد أحكم بلَّه وأتقن، حتى جفَّ فصار له صلصلةٌ وصوتٌ يشبه صوت الفخَّار، وهو الطين المشويُّ.
# {15} {وخلق الجانَّ}؛ أي: أبا الجنِّ، وهو إبليس لعنه الله {من مارج من نارٍ}؛ أي: من لهب النار الصافي، أو الذي قد خالطه الدخان. وهذا يدلُّ على شرف عنصر الآدميِّ المخلوق من الطين والتراب، الذي هو محل الرزانة والثقل والمنافع؛ بخلاف عنصر الجانِّ، وهو النار، التي هي محلُّ الخفَّة والطيش والشرِّ والفساد.
# {16} ولما بيَّن خَلْقَ الثَّقَلَين ومادة ذلك ، وكان ذلك مِنَّةً منه تعالى عليهم ؛ قال: {فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تكذِّبانِ}؟!
آية: 17 - 18 #
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)}.
# {17 ـ 18} أي: هو تعالى ربُّ كلِّ ما أشرقت عليه الشمس والقمر والكواكب النيِّرة، وكلِّ ما غربت عليه، وكلِّ ما كانا فيه؛ فالجميع تحت تدبيره وربوبيته، وثنَّاهما هنا باعتبار مشارقها شتاءً وصيفاً. والله أعلم.
آية: 19 - 23 #
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)}.
# {19 ـ 23} المراد بالبحرين: البحر العذب والبحر المالح؛ فهما يلتقيان [كلاهما]، فيصبُّ العذب في البحر المالح ويختلطان ويمتزجان، ولكنَّ الله تعالى جعل بينهما برزخاً من الأرض، حتى لا يبغي أحدهما على الآخر، ويحصُلَ النفع بكلٍّ منهما؛ فالعذب منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم وحروثهم، والملح به يطيبُ الهواء ويتولَّد الحوت والسمك واللؤلؤ والمرجان، ويكون مستقرًّا مسخراً للسفن والمراكب، ولهذا قال:
آية: 24 - 25 #
{وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)}.
# {24 ـ 25} أي: وسخَّر تعالى لعباده السفن الجواري التي تمخرُ البحر وتشقُّه بإذن الله، التي ينشئها الآدميون، فتكون من عِظَمِها وكبرها كالأعلام، وهي الجبال العظيمة، فيركبها الناس، ويحملون عليها أمتعتهم وأنواع تجاراتهم وغير ذلك ممّا تدعو إليه حاجتهم وضرورتهم، وقد حفظها حافظُ السماواتِ والأرض، وهذه من نعم الله الجليلة، ولهذا قال: {فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبان}؟!
آية: 26 - 28 #
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)}.
# {26 ـ 28} أي: كلُّ مَن على الأرض من إنسٍ وجنٍّ ودوابٍّ وسائر المخلوقات يفنى [ويموت] ويبيد، ويبقى الحيُّ الذي لا يموت، {ذو الجلال والإكرام}؛ أي: ذو العظمة والكبرياء والمجد، الذي يعظَّم ويبجَّل ويجلُّ لأجله، والإكرام الذي هو سعة الفضل والجود، الذي يكرم أولياءه وخواصَّ خلقه بأنواع الإكرام، الذي يكرِمُه أولياؤه ويجلُّونه ويعظِّمونه ويحبُّونه وينيبون إليه ويعبدونه. {فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبانِ}؟!
آية: 29 - 30 #
{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)}.
# {29 ـ 30} أي: هو الغنيُّ بذاته عن جميع مخلوقاته، وهو واسعُ الجود والكرم، فكلُّ الخلق مفتقرون إليه، يسألونه جميع حوائجهم بحالهم ومقالهم، ولا يستغنون عنه طرفةَ عينٍ ولا أقلَّ من ذلك، وهو تعالى {كلَّ يوم هو في شأنٍ}: يغني فقيراً ويجبرُ كسيراً ويعطي قوماً، ويمنع آخرينَ، ويميتُ، ويُحيي، ويخفض، ويرفع ، لا يشغلُه شأنٌ عن شأنٍ، ولا تغلِّطُه المسائل، ولا يبرِمُه إلحاح الملحين، ولا طول مسألةِ السائلين. فسبحان الكريم الوهَّاب، الذي عمَّت مواهبه أهل الأرض والسماواتِ، وعمَّ لطفه جميع الخلق في كلِّ الآنات واللحظات، وتعالى الذي لا يمنعه من الإعطاء معصيةُ العاصين ولا استغناءُ الفقراء الجاهلين به وبكرمِهِ. وهذه الشؤون التي أخبر أنَّه [تعالى] {كلَّ يوم هو في شأنٍ}: هي تقاديره وتدابيره التي قدَّرها في الأزل وقضاها، لا يزال تعالى يمضيها وينفذها في أوقاتها التي اقتضتها حكمته، وهي أحكامُه الدينيَّة التي هي الأمر والنهي، والقدريَّة التي يُجريها على عباده مدَّة مقامهم في هذه الدار، حتى إذا تمَّتْ هذه الخليقة، وأفناهم الله تعالى، وأراد أن ينفِّذَ فيهم أحكام الجزاء ويريهم من عدله وفضله وكثرة إحسانه ما به يعرِفونه ويوحِّدونه؛ نقل المكلَّفين من دار الابتلاء والامتحان إلى دار الحيوان، وفرغ حينئذٍ لتنفيذ هذه الأحكام التي جاء وقتُها، وهو المراد بقولِهِ:
آية: 31 - 32 #
{سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)}.
# {31 ـ 32} أي: سَنَفْرُغُ لحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم التي عملتموها في دار الدُّنيا.
آية: 33 - 34 #
{يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)}].
# {33 ـ 34} أي: إذا جمعهم الله في موقف القيامة؛ أخبرهم بعجزهم وضَعْفهم وكمال سلطانِهِ ونفوذ مشيئتِهِ وقدرتِهِ، فقال معجِّزاً لهم: {يا معشر الجنِّ والإنسِ إنِ اسْتَطَعْتُم أن تَنفُذوا من أقطارِ السمواتِ والأرضِ}؛ أي: تجدون مسلكاً ومنفذاً تخرجون به عن ملك الله وسلطانه، {فانفُذوا لا تَنفُذونَ إلاَّ بسلطانٍ}؛ أي: لا تخرجون منه إلاَّ بقوَّةٍ وتسلُّطٍ منكم وكمال قدرةٍ، وأنَّى لهم ذلك وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؛ ففي ذلك الموقف لا يتكلَّم أحدٌ إلاَّ بإذنه، ولا تسمعُ إلاَّ همساً، وفي ذلك الموقف يستوي الملوك والمماليك والرؤساء والمرؤوسون والأغنياء والفقراء.
ثم ذكر ما أعدَّ لهم في ذلك اليوم ، فقال:
آية: 35 - 36 #
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)}.
# {35 ـ 36} أي: {يرسَل عليكما} لهبٌ صافٍ من النار {ونحاسٌ} وهو اللهب الذي قد خالَطَه الدخانُ. والمعنى: أنَّ هذين الأمرين الفظيعين يرسلانِ عليكما [يا معشر الجن والإنس] ويحيطانِ بكما فلا تنتصران؛ لا بناصرٍ من أنفسكم، ولا بأحدٍ ينصُرُكم من دون الله. ولما كان تخويفُهُ لعباده نعمةً منه عليهم وسوطاً يسوقهم به إلى أعلى المطالب وأشرف المواهب؛ ذكر منَّته بذلك فقال: {فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تكذِّبانِ}؟!
آية: 37 - 42 #
[{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)}].
# {37 ـ 38} {فإذا انشقَّتِ السماءُ}؛ أي: يوم القيامة من الأهوال وكثرة البلبال وترادُف الأوجال، فانخسفتْ شمسُها وقمرُها، وانتثرتْ نجومُها؛ {فكانت}: من شدَّة الخوفِ والانزعاج {وردةً كالدِّهانِ}؛ أي: كانت كالمهل والرصاص المذابِ ونحوه. {فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبان}؟!
# {39 ـ 40} {فيومئذٍ لا يُسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جانٌّ}؛ أي: سؤال استعلام بما وقع؛ لأنَّه تعالى عالم الغيب والشهادة والماضي والمستقبل، ويريد أن يجازي العباد بما علمه من أحوالهم، وقد جعل لأهل الخيرِ والشرِّ يوم القيامةِ علاماتٍ يُعرفون بها؛ كما قال تعالى: {يومَ تَبْيَضُّ وجوهٌ وتَسْوَدُّ وجوهٌ}.
# {41 ـ 42} وقال هنا: {يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم فيؤخَذُ بالنواصي والأقدام. فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تكذِّبانِ}؛ أي: فيؤخذ بنواصي المجرمين وأقدامهم، فيُلْقَوْنَ في النار ويُسحبون إليها. وإنَّما يسألهم تعالى سؤال توبيخ وتقريرٍ بما وقع منهم، وهو أعلم به منهم، ولكنَّه تعالى يريد أن تَظْهَرَ للخلق حجَّته البالغة وحكمته الجليلة.
آية: 43 - 45 #
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}.
# {43 ـ 45} أي: يقالُ للمكذِّبين بالوعد والوعيد حين تُسَعَّر الجحيم: {هذه جهنَّمُ التي يكذِّبُ بها المجرمون}: فلْيهنهم تكذيبُهم بها، ولْيذوقوا من عذابها ونَكالها وسعيرها وأغلالها ما هو جزاءٌ لهم على تكذيبهم ، يطوفون بين أطباق الجحيم ولهبها، {وبين حميم آنٍ}؛ أي: ماء حارٍّ جدًّا قد انتهى حرُّه، وزمهريرٍ قد اشتدَّ بردُه وقرُّه. {فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تكذِّبانِ}؟!
ولما ذكر ما يُفعل بالمجرمين؛ ذكر جزاء المتَّقين الخائفين، فقال:
آية: 46 - 78 #
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ {(52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)}.
# {46 ـ 47} أي: وللذي خاف ربَّه وقيامه عليه، فترك ما نهى عنه، وفعل ما أمره به؛ له {جنَّتانِ} من ذهبٍ آنيتهما وحليتهما وبنيانهما وما فيهما، إحدى الجنتين جزاءً على ترك المنهيَّات، والأخرى على فعل الطَّاعات.
# {48 ـ 49} ومن أوصاف تلك الجنتين أنَّهما {ذواتا أفنانٍ}؛ أي: فيهما من ألوان النَّعيم المتنوِّعة؛ نعيم الظاهر والباطن؛ ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلب بشرٍ؛ أي: فيهما الأشجار الكثيرة الزاهرة، ذوات الغصون الناعمة، التي فيها الثمار اليانعة الكثيرة اللَّذيذة.
# {50 ـ 51} وفي تلك الجنتين {عينانِ تجريانِ}: يفجِّرونَهما على ما يريدون ويشتَهون.
# {52 ـ 53} {فيهما من كلِّ فاكهةٍ}: من جميع أصناف الفواكه {زوجان}؛ أي: صنفان؛ كلُّ صنف له لَذَّةٌ ولونٌ ليس للنوع الآخر.
# {54 ـ 55} {متكئين على فرشٍ بطائِنُها من إستبرقٍ}: هذه صفة فُرُشِ أهل الجنَّة وجلوسهم عليها، وأنَّهم متَّكئون عليها؛ أي: جلوسَ تمكُّن واستقرار وراحةٍ؛ كجلوس الملوك على الأسرَّة، وتلك الفُرُش لا يعلم وصفَها وحسنَها إلاَّ الله تعالى ، حتى إنَّ بطائنها التي تلي الأرض منها من إستبرقٍ وهو أحسن الحرير وأفخره؛ فكيف بظواهرها التي يباشرون ، {وجنى الجنَّتينِ دانٍ}: الجنى هو الثمر المستوي؛ أي: وثمر هاتين الجنتين قريبُ التناول، ينالُه القائم والقاعدُ والمضطجع.
# {56 ـ 59} {فيهنَّ قاصراتُ الطرفِ}؛ أي: قد قصرنَ طرفهنَّ على أزواجهنَّ من حسنهم وجمالهم وكمال محبتهنَّ لهم، وقصرنَ أيضاً طرفَ أزواجهنَّ عليهنَّ من حسنهنَّ وجمالهنَّ ولَذَّةِ وصالهنَّ وشدَّة محبَّتهنَّ، {لم يطمثهنَّ إنسٌ قبلَهم ولا جانٌّ}؛ أي: لم ينلهنَّ أحدٌ قبلهم من الإنس والجنِّ، بل هنَّ أبكارٌ عربٌ متحبِّباتٌ إلى أزواجهنَّ؛ بحسن التبعُّل والتغنُّج والملاحة والدَّلال، ولهذا قال: {كأنهنَّ الياقوت والمرجان}، وذلك لصفائهنَّ وجمال منظرهنَّ وبهائهنَّ.
# {60 ـ 61} {هل جزاءُ الإحسان إلاَّ الإحسان}؛ أي: هل جزاء مَن أحسن في عبادة الخالق، ونفع عبيدَه إلاَّ أن يُحْسَنَ إليه بالثواب الجزيل والفوز الكبير والنعيم المقيم والعيش السليم؟ فهاتان الجنَّتان العاليتان للمقرَّبين.
# {62 ـ 69} {ومن دونِهما جنَّتانِ}: من فضَّة بنيانهما وحليتهما وآنيتهما وما فيهما لأصحاب اليمين، وتلك الجنتانِ {مدهامَّتان}؛ أي: سوداوان من شدَّة الخضرة والريِّ ، {فيهما عينان نَضَّاختانِ}؛ أي: فوَّارتان، {فيهما فاكهةٌ}: من جميع أصناف الفواكه، وأخصُّها النخل والرمان، اللذان فيهما من المنافع ما فيهما.
# {70 ـ 75} {فيهنَّ}؛ أي: في الجنات كلِّها {خيراتٌ حسانٌ}؛ أي: خيرات الأخلاق حسان الأوجه، فجمعنَ بين جمال الظاهر والباطن وحسن الخَلْق والخُلُق. {حورٌ مقصوراتٌ في الخيام}؛ أي: محبوسات في خيام اللؤلؤ، قد تهيأنَ وأعددنَ أنفسهنَّ لأزواجهنَّ، ولا ينفي ذلك خروجهنَّ في البساتين ورياض الجنة كما جرت العادةُ لبنات الملوك المخدَّرات الخَفِرات ، {لم يطمثهنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ. فبأيِّ آلاء ربِّكما تكذِّبان}؟!
# {76 ـ 77} {متَّكئين على رفرفٍ خضرٍ}؛ أي: أصحاب هاتين الجنتين متَّكأهم على الرفرف الأخضر، وهي الفرش التي تحت المجالس العالية، التي قد زادت على مجالسهم، فصار لها رفرفة من وراء مجالسهم؛ لزيادة البهاء وحسن المنظر، {وعبقريٍّ حسانٍ}: العبقريُّ نسبةً لكلِّ منسوج نسجاً حسناً فاخراً، ولهذا وصفها بالحسن الشامل لحسن الصفة و [حسن] المنظر ونعومة الملمس وهاتان الجنتان دون الجنتين الأولَيَيْن؛ كما نصَّ الله على ذلك بقوله: {ومن دونِهِما جنَّتانِ}، وكما وصف الأوليين بعدَّة أوصاف لم يصِفْ به الأخريين، فقال في الأوليين: {فيهما عينان تجريانِ}، وفي الأخريين: {عينان نضَّاختان}: ومن المعلوم الفرق بين الجارية والنضَّاخة، وقال في الأوليين: {ذواتا أفنانٍ}، ولم يقلْ ذلك في الأخريين، وقال في الأوليين: {فيهما من كلِّ فاكهةٍ زوجانِ}، وفي الأخريين: {فيهما فاكهةٌ ونخلٌ ورمانٌ}، وقد عُلِمَ ما بين الوصفين من التفاوت. وقال في الأوليين: {متَّكئين على فرشٍ بطائنها من إستبرقٍ وجنى الجنَّتين دانٍ}، ولم يقلْ ذلك في الأخريين، بل قال: {متكئينَ على رفرفٍ خضرٍ وعبقريٍّ حسانٍ}، وقال في الأوليين في وصف نسائهم وأزواجهم: {فيهن قاصراتُ الطرفِ [لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان]}، وفي الأخريين: {حور مقصوراتٌ في الخيام}، وقد عُلم التفاوت بين ذلك، وقال في الأوليين: {هل جزاءُ الإحسان إلاَّ الإحسانُ}، فدلَّ ذلك أنَّ الأوليين جزاء المحسنين، ولم يقل ذلك في الأخيرتين، ومجرَّد تقديم الأوليين على الأخريين يدلُّ على فضلهما. فبهذه الأوجه يُعْرَفُ فضلُ الأوليين على الأخريين، وأنهما معدَّتان للمقرَّبين من الأنبياء والصدِّيقين وخواصِّ عباد الله الصالحين، وأنَّ الأخريين معدَّتان لعموم المؤمنين. وفي كلٍّ من الجنات المذكورات ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطر على قلب بشرٍ، وفيهنَّ ما تشتهيه الأنفسُ وتلذُّ الأعين، وأهلهنَّ في غاية الراحة والرضا والطمأنينة وحسن المأوى، حتى إنَّ كلَّ واحدٍ منهم لا يرى أحداً أحسن حالاً منه ولا أعلى من نعيمِهِ الذي هو فيه.
# {78} ولمَّا ذكر سعةَ فضله وإحسانه؛ قال: {تبارك اسمُ ربِّك ذي الجلال والإكرام}؛ أي: تعاظم وكثر خيره الذي له الجلال الباهر والمجدُ الكامل والإكرام لأوليائه.
تم تفسير سورة الرحمن. ولله الحمد والشكر والثناء الحسن
* * *