آية:
تفسير سورة والطور
تفسير سورة والطور
وهي مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
آية: 1 - 16 #
{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)}.
# {1} يقسم تعالى بهذه الأمور العظيمة المشتملة على الحِكَم الجليلة على البعث والجزاء للمتَّقين وللمكذِّبين ، فأقسم بالطور، وهو الجبلُ الذي كلَّم الله عليه موسى بن عمران عليه الصلاة السلام، وأوحى إليه ما أوحى من الأحكام، وفي ذلك من المنَّة عليه وعلى أمَّته ما هو من آيات الله العظيمة ونعمه التي لا يَقْدِرُ العباد لها على عدٍّ ولا ثمن.
# {2} {وكتابٍ مسطورٍ}: يُحتمل أنَّ المراد به اللوحُ المحفوظ، الذي كتب الله به كلَّ شيءٍ، ويُحتمل أنَّ المراد به القرآن الكريم، الذي هو أفضل الكتب ، أنزله الله محتوياً على نبأ الأوَّلين والآخرين وعلوم السَّابقين واللاحقين.
# {3} وقوله: {في رَقٍّ}؛ أي: ورقٍ {منشورٍ}؛ أي: مكتوبٍ، مسطرٍ، ظاهرٍ غير خفيٍّ، لا تخفى حالُه على كلِّ عاقل بصيرٍ.
# {4} {والبيت المعمورِ}: وهو البيتُ الذي فوق السماء السابعة، المعمور مدى الأوقات بالملائكة الكرام، [الذي] يدخُله كلُّ يوم سبعون ألف مَلَك، يتعبَّدون فيه لربِّهم، ثمَّ لا يعودون إليه إلى يوم القيامةِ، وقيل: إنَّ البيت المعمور هو بيت الله الحرام المعمور بالطائفين والمصلِّين والذَّاكرين كلَّ وقت وبالوفود إليه بالحجِّ والعمرة؛ كما أقسم الله به في قوله: {وهذا البلدِ الأمين}، وحقيقٌ ببيت هو أفضل بيوت الأرض، الذي يَقْصِدُه الناس بالحجِّ والعمرة، أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، التي لا يتمُّ إلاَّ بها، وهو الذي بناه إبراهيمُ وإسماعيلُ، وجعله الله مثابةً للناس وأمناً؛ أنْ يُقْسِمَ الله به، ويبيِّن من عظمته ما هو اللائقُ به وبحرمته.
# {5} {والسقفِ المرفوع}؛ أي: السماء التي جعلها الله سقفاً للمخلوقات وبناءً للأرض تستمدُّ منها أنوارها، ويُقتدى بعلاماتها ومنارها، ويُنْزِلُ اللهُ منها المطر والرحمة وأنواع الرزق.
# {6} {والبحر المَسْجورِ}: أي: المملوء ماءً، قد سجره الله ومنعه من أن يَفيضَ على وجه الأرض، مع أنَّ مقتضى الطبيعة أن يغمرَ وجه الأرض، ولكنَّ حكمته اقتضت أن يمنعه عن الجريان والفيضان؛ ليعيش مَنْ على وجه الأرض من أنواع الحيوان. وقيل: إنَّ المراد بالمسجور: الموقَد، الذي يوقَدُ ناراً يوم القيامةِ، فيصير ناراً تَلَظَّى، ممتلئاً على سعته من أصناف العذاب.
# {7} هذه الأشياء التي أقسم الله بها ممَّا يدلُّ على أنَّها من آيات الله وأدلَّة توحيده وبراهين قدرته وبعثه الأموات، ولهذا قال: {إنَّ عذابَ ربِّك لواقعٌ}؛ أي: لابدَّ أن يقع، ولا يخلفُ اللهُ وعده وقيله.
# {8} {ما له من دافع}: يدفعُه، ولا مانع يمنعُه، لأنَّ قدرة الله لا يغالبها مغالبٌ ولا يفوتها هاربٌ.
# {9} ثم ذكر وصفَ ذلك اليوم الذي يقع فيه العذابُ، فقال: {يوم تمورُ السَّماء مَوْراً}؛ أي: تدور السماء وتضطرب وتدوم حركتها بانزعاج وعدم سكونٍ.
# {10} {وتسير الجبالُ سيراً}؛ أي: تزولُ عن أماكنها، وتسير كسير السحاب، وتتلوَّن كالعهن المنفوش، وتبثُّ بعد ذلك حتى تصير مثل الهباء، وذلك كلُّه لعظم هول يوم القيامةِ؛ [وفظاعة ما فيه من الأمور المزعجة والزلازل المقلقة التي أزعجت هذه الأجرام العظيمة] فكيف بالآدميِّ الضعيف؟!
# {11} {فويلٌ يومئذٍ للمكذِّبين}: والويل كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ عقوبةٍ وحزنٍ وعذابٍ وخوفٍ.
# {12} ثم ذَكَرَ وصفَ المكذِّبين، الذين استحقُّوا به الويل، فقال: {الذين هم في خَوْضٍ يلعبون}؛ أي: خوض بالباطل ولعب به؛ فعلومُهم وبحوثهم بالعلوم الضارَّة المتضمِّنة للتكذيب بالحقِّ والتصديق بالباطل، وأعمالُهم أعمال أهل الجهل والسَّفَه واللعب؛ بخلاف ما عليه أهل التصديق والإيمان من العلوم النافعة والأعمال الصالحة.
# {13 ـ 14} {يومَ يُدَعُّونَ إلى نار جهنَّم دعاً}؛ أي: [يوم] يُدفعون إليها دفعاً، ويساقون إليها سوقاً عنيفاً، ويجرون على وجوههم، ويُقال لهم توبيخاً ولوماً: {هذه النارُ التي كنتمُ بها تكذِّبون}: فاليوم ذوقوا عذابَ الخُلد الذي لا يُبْلَغُ قدرهُ ولا يوصَفُ أمره.
# {15} {أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تُبصرونَ}: يُحتمل أنَّ الإشارة إلى النار والعذاب؛ كما تدلُّ عليه سياق الآيات ؛ أي: لما رأوا النار والعذاب؛ قيل لهم من باب التقريع: أهذا سحرٌ لا حقيقة له؛ فقد رأيتموه؟! أم أنتم في الدُّنيا لا تبصرون؛ أي: لا بصيرة لكم ولا علم عندَكم، بل كنتُم جاهلين بهذا الأمر، لم تقمْ عليكم الحجَّة؟! والجواب انتفاء الأمرين: أمَّا كونُه سحراً؛ فقد ظهر لهم أنَّه أحقُّ الحقِّ وأصدق الصدق المنافي للسحر من جميع الوجوه. وأمَّا كونُهم لا يبصرون؛ فإنَّ الأمر بخلاف ذلك، بل حجَّة الله قد قامت عليهم، ودعتهُمُ الرُّسل إلى الإيمان بذلك، وأقامت من الأدلَّة والبراهين على ذلك ما يجعله من أعظم الأمور المبرهَنَة الواضحة الجليَّة. ويُحتمل أنَّ الإشارة بقولِهِ: {أفسحرٌ هذا أم أنتُم لا تبصرونَ}: إلى ما جاء به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من الحقِّ المبين والصراط المستقيم؛ أي: أفيتصوَّر مَن له عقلٌ أن يقولَ عنه: إنَّه سحرٌ، وهو أعظم الحقِّ وأجلُّه، ولكن لعدم بصيرتهم قالوا فيه ما قالوا.
# {16} {اصْلَوْها}؛ أي: ادخلوا النار على وجهٍ تحيطُ بكم وتشملُ أبدانكم وتطَّلع على أفئدتكم، {فاصْبِروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم}؛ أي: لا يفيدكم الصبر على النار شيئاً، ولا يتأسَّى بعضُكم ببعض، ولا يخفَّف عنكم العذاب، وليست من الأمور التي إذا صبر العبدُ عليها هانت مشقَّتها وزالت شدَّتها، وإنَّما فُعِلَ بهم ذلك بسبب أعمالهم الخبيثة وكسبهم، ولهذا قال: {إنَّما تُجْزَوْن ما كنتم تعملونَ}.
آية: 17 - 20 #
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)}.
# {17} لمَّا ذكر تعالى عقوبة المكذِّبين؛ ذكر نعيم المتَّقين؛ ليجمع بين الترغيب والترهيب، فتكون القلوبُ بين الخوف والرجاء، فقال: {إنَّ المتَّقين}: لربِّهم، الذين اتَّقوا سخطه وعذابه بفعل أسبابه من امتثال الأوامر واجتناب النواهي، {في جنَّاتٍ}؛ أي: بساتين، قد اكتست رياضها من الأشجار الملتفَّة والأنهار المتدفِّقة والقصور المُحْدِقة والمنازل المُزَخْرَفة، {ونعِيمٍ}: وهذا شاملٌ لنعيم القلب والروح والبدن.
# {18} {فاكهين بما آتاهم ربُّهم}؛ أي: معجبين به، متمتِّعين على وجه الفرح والسرور بما أعطاهم الله من النعيم الذي لا يمكن وصفُه، و {لا تعلمُ نفسٌ ما أُخْفِيَ لهم من قرَّةِ أعينٍ}، {ووقاهم ربُّهم عذابَ الجحيم}: فرزقهم المحبوب، ونجَّاهم من المرهوب، لمَّا فعلوا ما أحبَّه [اللَّهُ] وجانبوا ما يسخطه.
# {19} {كلوا واشربوا}؛ أي: مما تشتهيه أنفسكم من أصناف المآكل والمشارب اللذيذة {هنيئاً}؛ أي: متهنِّئين بذلك على وجه البهجة والفرح والسرور والحبور، {بما كنتُم تعملون}؛ أي: نلتم ما نلتم بسبب أعمالكم الحسنة وأقوالكم المستحسنة.
# {20} {متَّكِئينَ على سررٍ مصفوفةٍ}: الاتِّكاء هو الجلوس على وجه التمكُّن والراحة والاستقرار، والسرر هي الأرائك المزيَّنة بأنواع الزينة من اللباس الفاخر والفرش الزاهية. ووصف الله السُّرر بأنها مصفوفةٌ؛ ليدلَّ ذلك على كثرتها وحسن تنظيمها واجتماع أهلها وسرورهم بحسن معاشرتهم وملاطفة بعضهم بعضاً. فلمَّا اجتمع لهم من نعيم القلب والرُّوح والبدن ما لا يخطُرُ بالبال ولا يدور في الخيال من المآكل والمشارب اللذيذة والمجالس الحسنة الأنيقة؛ لم يبق إلاَّ التمتُّع بالنساء اللاتي لا يتمُّ سرورٌ إلاَّ بهنَّ، فذكر تعالى أنَّ لهم من الأزواج أكمل النساء أوصافاً وخلقاً وأخلاقاً، ولهذا قال: {وزوَّجْناهم بحورٍ عينٍ}: وهنَّ النساء اللواتي قد جَمَعْنَ جمال الصورة الظاهرة وبهاءها ومن الأخلاق الفاضلة ما يوجب أن يحيِّرْنَ بحسنهنَّ الناظرين، ويسلبنَ عقول العالمين، وتكاد الأفئدة أن تطير شوقاً إليهن ورغبةً في وصالهنَّ، والعِيْن: حسان الأعين مليحاتها، التي صفا بياضها وسوادها.
آية: 21 - 28 #
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)}.
# {21} وهذا من تمام نعيم [أهلِ] الجنَّة: أنْ ألحَقَ الله بهم ذُرِّيَّتهم الذين اتَّبعوهم بإيمان؛ أي: لحقوهم بالإيمان الصادر من آبائهم، فصارت الذُّرِّية تبعاً لهم بالإيمان، ومن باب أولى؛ إذا تبعتهم ذُرِّيَّتهم بإيمانهم الصادر من أنفسهم؛ فهولاء المذكورون يُلْحِقُهُمُ اللهُ بمنازل آبائهم في الجنة، وإن لم يبلغوها؛ جزاءً لآبائهم، وزيادةً في ثوابهم، ومع ذلك؛ لا يَنْقُصُ اللهُ الآباء من أعمالهم شيئاً. ولمَّا كان ربَّما توهَّم متوهِّم أن أهل النار كذلك يُلْحِقُ اللهُ بهم ذرِّيَّتهم ؛ أخبر أنه ليس حكم الدارين حكماً واحداً؛ فإنَّ النار دار العدل، ومن عدله تعالى أن لا يعذِّب أحداً إلاَّ بذنبٍ، ولهذا قال: {كلُّ امرئٍ بما كَسَبَ رهينٌ}؛ أي: مرتهنٌ بعمله؛ فلا تزر وازرةٌ وزرَ أخرى، ولا يُحْمَلُ على أحدٍ ذنبُ أحدٍ، فهذا اعتراضٌ من فوائده إزالة هذا الوهم المذكور.
# {22} وقوله: {وأمددْناهم}؛ أي: أمددنا أهل الجنة من فضلنا الواسع ورزقنا العميم، {بفاكهةٍ}: من العنب والرُّمان والتُّفاح وأصناف الفواكه اللذيذة الزائدة على ما به يتقوَّتون، {ولحمٍ ممَّا يشتهونَ}: من كلِّ ما طلبوه واشتهته أنفسُهم من لحوم الطير وغيرها.
# {23} {يتنازَعون فيها كأساً}؛ أي: تدور كاسات الرحيق والخمر عليهم، ويتعاطَونها فيما بينهم، وتطوف عليهم الولدانُ المخلَّدون بأكواب وأباريق. {لا لغوٌ فيها ولا تأثيمٌ}؛ أي: ليس في الجنَّة كلامُ لغوٍ، وهو الذي لا فائدة فيه، ولا تأثيمٍ، وهو الذي فيه إثمٌ ومعصيةٌ. وإذا انتفى الأمران؛ ثبت الأمر الثالث، وهو أن كلامهم فيها سلامٌ طيبٌ طاهرٌ مسرٌّ للنفوس مفرحٌ للقلوب، يتعاشرون أحسن عشرة، ويتنادمون أطيب المنادمة، ولا يسمعون من ربِّهم إلاَّ ما يُقِرُّ أعينَهم ويدلُّ على رضاه عنهم ومحبَّته لهم.
# {24} {ويطوف عليهم غلمانٌ لهم}؛ أي: خدمٌ شبابٌ، {كأنَّهم لؤلؤٌ [مكنون] } من حسنهم وبهائهم، يدورون عليهم بالخدمة وقضاء أشغالهم ، وهذا يدلُّ على كثرة نعيمهم وسعته وكمال راحتهم.
# {25} {وأقبلَ بعضُهم على بعض يتساءلونَ}: عن أمور الدُّنيا وأحوالها.
# {26} {قالوا}: في ذكر بيان الذي أوصَلَهم إلى ما هم فيه من الحبرة والسرور: {إنَّا كنَّا قبلُ}؛ أي: في دار الدُّنيا {في أهلِنا مشفقينَ}؛ أي: خائفين وجِلين، فتركْنَا من خوفه الذُّنوب، وأصلحنا لذلك العيوب.
# {27} {فمنَّ اللهُ علينا}: بالهداية والتوفيق، {ووَقانا عذابَ السَّموم}؛ أي: العذاب الحار الشديد حرُّه.
# {28} {إنَّا كنَّا من قبلُ ندعوه}: أن يَقِيَنا عذابَ السَّموم، ويوصِلَنا إلى النعيم، وهذا شاملٌ لدعاء العبادة ودعاء المسألة؛ أي: لم نزل نتقرَّب إليه بأنواع العبادات ، وندعوه في سائر الأوقات. {إنَّه هو البرُّ الرحيم}: فمن برِّه [بنا] ورحمته إيَّانا أنالَنا رضاه والجنة، ووقانا سخطه والنار.
آية: 29 - 43 #
{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)}.
# {29} يأمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يُذَكِّرَ الناس مسلمهم وكافرهم؛ لتقوم حجَّة الله على الظَّالمين، ويهتدي بتذكيره الموفَّقون، وأن لا يبالي بقول المشركين المكذِّبين وأذيَّتهم وأقوالهم التي يَصدُّون بها الناس عن اتِّباعه، مع علمهم أنَّه أبعدُ الناس عنها، ولهذا نفى عنه كلَّ نقص رَمَوْه به، فقال: {فما أنتَ بنعمةِ ربِّكَ}؛ أي: منَّه ولطفه {بكاهنٍ}؛ أي: له رِئْيٌ من الجنِّ يأتيه بخبر بعض الغيوب التي يضمُّ إليها مئة كذبةٍ، {ولا مجنونٍ}: فاقد العقل ، بل أنت أكملُ الناس عقلاً، وأبعدهم عن الشياطين، وأعظمهم صدقاً، وأجلُّهم، وأكملهم.
# {30} وتارةً {يقولون} فيه: إنَّه {شاعرٌ}: يقول الشعر، والذي جاء به شعرٌ، والله يقول: {وما علَّمناه الشعرَ وما ينبغي له}، {نتربَّصُ به ريبَ المَنونِ}؛ أي: ننتظر به الموتَ، فيبطُلُ أمرُه ونستريح منه.
# {31} {قل}: لهم جواباً لهذا الكلام السخيف: {تربَّصوا}؛ أي: انتظروا بي الموت، {فإنِّي معكم من المتربِّصين}: نتربَّص بكم أن يصيبكم الله بعذابٍ من عنده، أو بأيدينا.
# {32} {أم تأمُرُهم أحلامُهم بهذا أم هم قومٌ طاغونَ}؛ أي: أهذا التكذيبُ لك والأقوال التي قالوها؛ هل صدرتْ عن عقولِهم وأحلامِهم؛ فبئس العقولُ والأحلامُ التي هذه نتائجها وهذه ثمراتها ؛ فإنَّ عقولاً جعلتْ أكملَ الخلق عقلاً مجنوناً، وجعلت أصدقَ الصِّدق وأحقَّ الحقِّ كذِباً وباطلاً؛ لهي العقول التي ينزَّه المجانين عنها؟ أم الذي حملهم على ذلك ظلمُهم وطغيانُهم؟ وهو الواقع؛ فالطغيانُ ليس له حدٌّ يقف عليه؛ فلا يُستغرب من الطاغي المتجاوزِ الحدَّ ، كلُّ قول وفعل صَدَرَ منه.
# {33} {أم يقولون تَقَوَّلَه}؛ أي: تقوَّل محمدٌ القرآن وقاله من تلقاء نفسه، {بل لا يؤمنونَ}؛ فلو آمنوا؛ لم يقولوا ما قالوا.
# {34} {فَلْيَأتوا بحديثٍ مثلِهِ إنْ كانوا صادقينَ}: إنَّه تقوَّله؛ فإنَّكم العرب الفصحاء والفحول البلغاء، وقد تحدَّاكم أن تأتوا بمثلِهِ؛ فتصدق معارضتكم، أو تقرُّوا بصدقه، وإنكم لو اجتمعتم أنتم والإنس والجنُّ؛ لم تقدروا على معارضته والإتيان بمثله؛ فحينئذٍ أنتم بين أمرين: إمَّا مؤمنون به مقتدون بهديِهِ، وإمَّا معاندون متَّبعون لما علمتُم من الباطل.
# {35} {أم خُلِقوا من غير شيءٍ أم هُمُ الخالقونَ}: وهذا استدلالٌ عليهم بأمرٍ لا يمكنهم فيه إلاَّ التسليمُ للحقِّ، أو الخروج عن موجب العقل والدين. وبيان ذلك أنهم منكرون لتوحيد الله، مكذِّبون لرسوله، وذلك مستلزمٌ لإنكار أنَّ الله خَلَقَهم، وقد تقرَّر في العقل مع الشرع أنَّ ذلك لا يخلو من أحد ثلاثة أمورٍ: إمَّا أنهم {خُلِقوا من غير شيءٍ}؛ أي: لا خالق خلقهم؛ بل وجدوا من غير إيجادٍ ولا موجدٍ؛ وهذا عينُ المحال. {أم هم الخالقونَ}: لأنفسِهم؛ وهذا أيضاً محالٌ؛ فإنَّه لا يتصوَّر أن يوجِدَ أحدٌ نفسَه. فإذا بطل هذان الأمران وبان استحالتُهما؛ تعيَّن القسم الثالثُ، وهو أنَّ الله هو الذي خلقهم. وإذا تعين ذلك؛ عُلِمَ أنَّ الله تعالى هو المعبودُ وحدَه، الذي لا تنبغي العبادة ولا تَصْلُح إلاَّ له تعالى.
# {36} وقوله: {أم خَلَقوا السمواتِ والأرضَ}: وهذا استفهامٌ يدلُّ على تقرير النفي؛ أي: ما خلقوا السماواتِ والأرضَ، فيكونوا شركاء لله، وهذا أمرٌ واضحٌ جدًّا. {بل} المكذبونَ {لا يوقنونَ}؛ أي: ليس عندهم [علم تامٌّ و] يقينٌ يوجب لهم الانتفاع بالأدلَّة الشرعيَّة والعقليَّة.
# {37} {أمْ عندَهم خزائنُ ربِّك أم هم المُصَيْطِرونَ}؛ أي: أعند هؤلاء المكذِّبين خزائنُ رحمة ربِّك، فيعطوا من يشاؤون ويمنعوا من يشاؤون ؛ أي: فلذلك حجروا على الله أن يُعطي النبوَّة عبدَه ورسولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وكأنَّهم الوكلاء المفوَّضون على خزائن رحمة الله، وهم أحقرُ وأذلُّ من ذلك؛ فليس في أيديهم لأنفسهم نفعٌ ولا ضرٌّ ولا موتٌ ولا حياةٌ ولا نشورٌ؛ {أهم يقسِمونَ رحمةَ ربِّك نحنُ قَسَمْنا بينهم معيشَتَهم في الحياة الدُّنيا}؟ {أم هم المُصَيْطِرُونَ}؛ أي: المتسلِّطون على خلق الله وملكه بالقهر والغلبة؟! ليس الأمر كذلك، بل هم العاجزون الفقراء.
# {38} {أمْ لهم سُلَّمٌ يستمعون فيه}؛ أي: ألهم اطِّلاع على الغيب واستماعٌ له بين الملأ الأعلى، فيخبرون عن أمورٍ لا يعلمُها غيرُهم، {فليأتِ مستمِعُهم}: المدَّعي لذلك {بسلطانٍ مبينٍ}: وأنَّى له ذلك والله تعالى عالم الغيب والشهادة؛ فلا يُظْهِرُ على غيبه أحداً؛ إلاَّ من ارتضى من رسولٍ يخبره بما أراد من علمِهِ، وإذا كان محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، أفضل الرسل وأعلمهم وإمامهم، وهو المخبر بما أخبر به من توحيد الله ووعده ووعيده وغير ذلك من أخباره الصادقة، والمكذِّبون هم أهل الجهل والضَّلال والغيِّ والعناد؛ فأيُّ المخبرين أحقُّ بقَبول خبره، خصوصاً والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أقام من الأدلَّة والبراهين على ما أخبر به ما يوجِبُ أن يكون ذلك عين اليقين وأكمل الصدق، وهم لم يُقيموا على ما ادَّعَوْه شبهةً فضلاً عن إقامة حجَّة؟!
# {39} وقوله: {أم له البناتُ}: كما زعمتُم، {ولكم البنونَ}: فتجمعون بين المحذورَيْن: جَعْلُكُم له الولد، واختيارُكُم له أنقص الصنفين؛ فهل بعد هذا التنقُّص لربِّ العالمين غايةٌ أو دونه نهايةٌ؟!
# {40} {أم تسألُهُم}: يا أيُّها الرسولُ، {أجراً}: على تبليغ الرسالة، {فهم من مَغْرَمٍ مُثْقَلونَ}: ليس الأمر كذلك، بل أنت الحريص على تعليمهم تبرُّعاً من غير شيء، بل تبذلُ لهم الأموالَ الجزيلة على قَبول رسالتك والاستجابة لأمرِك ودعوتك ، وتعطي المؤلَّفة قلوبهم؛ ليتمكَّن العلم والإيمان من قلوبهم.
# {41} {أم عندَهم الغيبُ فهم يكتبونَ}: ما كانوا يعلمونَه من الغُيوب، فيكونون قد اطِّلعوا على ما لم يطَّلع عليه رسولُ الله، فعارضوه وعاندوه بما عندَهم من علم الغيب، وقد عُلِمَ أنَّهم الأمَّة الأميَّة الجهَّال الضَّالون، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره، وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يَطَّلِعْ عليه أحدٌ من الخلق، وهذا كلُّه إلزامٌ لهم بالطرق العقليَّة والنقليَّة على فساد قولهم وتصوير بطلانِهِ بأحسن الطُّرق وأوضحها وأسلمها من الاعتراض.
# {42} وقوله: {أم يريدون}: بقدحِهِم فيك وفيما جئتَ به {كيداً}: يُبْطلونَ به دينَك، ويفسدون به أمرَك. {فالذين كفروا هُمُ المَكيدونَ}؛ أي: كيدُهم في نحورهم، ومضرَّته عائدةٌ إليهم، وقد فعل الله ذلك، ولله الحمد، فلم يُبْقِ الكفارُ من مقدورهم من المكر شيئاً إلاَّ فعلوه، فنصر الله نبيَّه عليهم، وأظهر دينَه ، وخَذَلَهُم وانتصر منهم.
# {43} {أم لهم إلهٌ غير اللهِ}؛ أي: ألهم إلهٌ يُدعى ويرجى نفعُه ويُخاف من ضرِّه غير الله تعالى؟ {سبحان اللهِ عمَّا يشرِكون}: فليس له شريكٌ في الملك، ولا شريكٌ في الوحدانيَّة والعبادة، وهذا هو المقصود من الكلام الذي سيق لأجله، وهو بطلانُ عبادة ما سوى الله، وبيانُ فسادها بتلك الأدلَّة القاطعة، وأنَّ ما عليه المشركون هو الباطل، وأنَّ الذي ينبغي أن يُعْبَدَ ويصلَّى له ويُسْجَدَ ويُخْلَصَ له دعاءُ العبادة ودعاءُ المسألة هو الله المألوهُ المعبود، كاملُ الأسماء والصفاتِ، كثيرُ النعوتِ الحسنة والأفعال الجميلة، ذو الجلال والإكرام والعزِّ الذي لا يُرام، الواحد الأحدُ، الفردُ الصمدُ، الكبيرُ الحميدُ المجيدُ.
آية: 44 - 46 #
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)}.
# {44} يقول تعالى في ذكر بيان أنَّ المشركين المكذِّبين بالحقِّ الواضح قد عَتَوا عن الحقِّ وعسوا على الباطل، وأنَّه لو قام على الحقِّ كلُّ دليل؛ لما اتَّبعوه، ولخالفوه وعاندوه: {وإنْ يروا كِسْفَاً من السماء ساقطاً}؛ أي: لو سقط عليهم من السماء من الآيات الباهرة كِسْفٌ ؛ أي: قطعٌ كبارٌ من العذاب، {يقولوا سحابٌ مركومٌ}؛ أي: هذا سحابٌ متراكمٌ على العادة؛ أي: فلا يبالون بما رأوا من الآيات، ولا يعتبرون بها!
# {45} وهؤلاء لا دواء لهم إلاَّ العذاب والنَّكال، ولهذا قال: {فَذَرْهُم حتى يُلاقوا يومَهم الذي فيه يُصْعَقون}: وهو يوم القيامةِ، الذي يصيبهم فيه من العذاب ما لا يقادَرُ قَدْرُه ولا يوصَف أمرُه.
# {46} {يوم لا يُغْني عنهم كيدُهم شيئاً}؛ أي: لا قليلاً ولا كثيراً، وإنْ كان في الدُّنيا قد يوجد منهم كيدٌ يعيشون به زمناً قليلاً؛ فيوم القيامةِ يضمحلُّ كيدُهم، وتبطلُ مساعيهم، ولا ينتصرون من عذاب الله، {ولا هم يُنصَرون}.
آية: 47 - 49 #
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}.
# {47} لما ذَكَرَ اللهُ عذابَ الظالمين في الآخرة؛ أخبر أنَّ لهم عذاباً قبل عذاب يوم القيامةِ، وذلك شاملٌ لعذاب الدُّنيا بالقتل والسبي والإخراج من الديار، ولعذابِ البرزخ والقبر. {ولكنَّ أكثرهم لا يعلمونَ}؛ أي: فلذلك أقاموا على ما يوجب العذاب وشدة العقاب.
# {48 ـ 49} ولمَّا بيَّن تعالى الحجج والبراهين على بطلان أقوال المكذِّبين؛ أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يعبأ بهم شيئاً، وأنْ يصبِرَ لحكم ربِّه القدريِّ والشرعيِّ؛ بلزومه والاستقامة عليه، وَوَعَدَهُ الله الكفاية بقوله: {فإنَّك بأعيننا}؛ أي: بمرأى منَّا وحفظٍ واعتناءٍ بأمرك، وأمره أن يستعين على الصبر بالذكر والعبادة، فقال: {وسبِّح بحمد ربِّك حين تقومُ}؛ [أي]: من الليل؛ ففيه الأمر بقيام الليل، أو حين تقومُ إلى الصلوات الخمس؛ بدليل قوله: {ومن الليل فسبِّحْه وإدْبارَ النُّجومِ}؛ أي: آخر الليل، ويدخل فيه صلاة الفجر. والله أعلم.
تم تفسير سورة الطور. والحمد لله.
* * *