قال الشاعر:
يا ناظراً فيه سل الله مرحمة ... على المصنف واستغفر لكاتبه
واطلب لنفسك من خير تريد لها ... وبعد ذلك غفراناً لصاحبه
المجلد الثامن من تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام الملك المنّان
لجامعه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله المعروف بابن سعدي غفر الله له ولجميع المسلمين
وهي مدنية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)}
هذا متضمنٌ للأدب مع الله تعالى ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتعظيم والاحترام له وإكرامه، فأمر الله عبادَه المؤمنين بما يقتضيه الإيمانُ بالله ورسوله من امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ في جميع أمورهم، وأن لا يتقدَّموا بين يدي الله ورسوله؛ فلا يقولوا حتى يقول، ولا يأمروا حتى يأمرَ، فإنَّ هذا حقيقةُ الأدب الواجب مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته تفوته السعادةُ الأبديَّة والنعيم السرمديُّ. وفي هذا النهيُ الشديدُ عن تقديم قول غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قوله؛ فإنه متى استبانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وجبَ اتِّباعها وتقديمُها على غيرها كائناً من كان.
#
{1} ثم أمر الله بتقواه عموماً،
وهي كما قال طَلْق بن حبيب: أن تعملَ بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله.
وقوله: {إنَّ الله سميعٌ}؛
أي: لجميع الأصوات، في جميع الأوقات، في خفيِّ المواضع والجهات،
{عليمٌ}: بالظواهر والبواطن، والسوابق واللواحق، والواجبات والمستحيلات والجائزات. وفي ذكر الاسمين الكريمين بعد النهيِ عن التقدّم بين يدي الله ورسوله والأمر بتقواه حثٌّ على امتثال تلك الأوامر الحسنة والآداب المستحسنة وترهيبٌ عن ضدِّه.
#
{2} ثم قال تعالى:
{يا أيُّها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتَكُم فوقَ صوتِ النبيِّ ولا تَجْهَروا له بالقولِ}: وهذا أدب مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خطابه؛
أي: لا يرفع المخاطِبُ له صوتَهُ معه فوق صوتِهِ، ولا يجهرْ له بالقول، بل يغضُّ الصوتَ ويخاطبُه بأدبٍ ولينٍ وتعظيم وتكريم وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول كأحدهم، بل يميِّزونه في خطابهم كما تميَّز عن غيرِه في وجوبِ حقِّه على الأمَّة، ووجوب الإيمان به، والحبِّ الذي لا يتمُّ الإيمانُ إلا به؛ فإن في عدم القيام بذلك محذوراً وخشية أن يحبط عملُ العبد وهو لا يشعر؛ كما أن الأدب معه من أسباب حصول الثواب وقبول الأعمال.
#
{3} ثم مدح من غضَّ صوته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنَّ الله امتحن قلوبَهم للتقوى؛
أي: ابتلاها واختبرها، فظهرت نتيجةُ ذلك بأن صَلَحَت قلوبهم للتقوى. ثم وَعَدَهم المغفرةَ لذنوبهم، المتضمِّنة لزوال الشرِّ والمكروه، وحصول الأجر العظيم، الذي لا يعلم وصفه إلاَّ الله تعالى، وفيه حصولُ كل محبوب. وفي هذا دليلٌ على أن الله يمتحنُ القلوبَ بالأمر والنهي والمحن؛ فمَن لازمَ أمر الله واتَّبع رضاه وسارعَ إلى ذلك وقدَّمه على هواه؛ تمحَّض وتمحَّص للتقوى، وصار قلبُه صالحاً لها، ومَن لم يكن كذلك؛ علم أنه لا يصلح للتقوى.
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)}
#
{4} نزلت هذه الآيات الكريمة في ناس من الأعراب، الذين وصفهم الله بالجفاء، وأنهم أجدرُ أن لا يعلموا حدودَ ما أنزل الله على رسوله؛ قدموا وافدين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدوه في بيته وحجرات نسائِهِ، فلم يصبروا ويتأدَّبوا حتى يخرج،
بل نادوه: يا محمد، يا محمد ؛
أي: اخرج إلينا. فذمَّهم الله بعدم العقل؛ حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه؛ كما أن من العقل استعمال الأدب؛ فأدب العبد عنوان عقله، وأنَّ الله مريدٌ به الخير.
#
{5} ولهذا قال:
{ولو أنَّهم صَبَروا حتى تخرُجَ إليهم لكان خيراً لهم والله غفورٌ رحيمٌ}؛
أي: غفورٌ لما صدر عن عباده من الذُّنوب والإخلال بالآداب، رحيمٌ بهم حيث لم يعاجلْهم بذنوبهم بالعقوبات والمَثُلات.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}.
#
{6} وهذا أيضاً من الآداب التي على أولي الألباب التأدُّبُ بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسقٌ بنبأ؛
أي: خبرٍ: أن يتثبَّتوا في خبره، ولا يأخذوه مجرداً؛ فإن في ذلك خطراً كبيراً ووقوعاً في الإثم؛ فإنَّ خبره إذا جُعل بمنزلة خبر الصادق العدل؛ حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال بغير حقٍّ بسبب ذلك الخبر ما يكون سبباً للندامة، بل الواجبُ عند خبر الفاسق التثبُّت والتبيُّن؛ فإن دلَّت الدلائل والقرائن على صدقه؛ عُمِلَ به وصُدِّق، وإن دلت على كذبه؛ كذِّب ولم يعمل به؛ ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقَّف فيه ، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقاً.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)}
#
{7} أي: وليكن لديكم معلومًا أنَّ
{رسول الله} - صلى الله عليه وسلم - بين أظهُرِكم، وهو الرسولُ الكريم البارُّ الراشدُ، الذي يريد بكم الخير، وينصح لكم، وتريدون لأنفسكم من الشرِّ والمضرَّة ما لا يوافقكم الرسولُ عليه، و
{لو يطيعكم في كثيرٍ من الأمر} لشقَّ عليكم وأعنتكم، ولكن الرسول يرشدكُم، والله تعالى يحبِّب إليكم
{الإيمان} ويزيِّنه
{في قلوبكم} بما أودع في قلوبكم من محبة الحقِّ وإيثاره، وبما نصب على الحقِّ من الشواهد والأدلَّة الدالَّة على صحَّته وقبول القلوب والفِطَر له، وبما يفعله تعالى بكم من توفيقه للإنابة إليه، ويكرِّه
{إليكم الكفر والفسوق}؛
أي: الذنوبَ الكبار.
{والعصيان}؛
أي: الذنوبَ الصغار؛ بما أودع في قلوبكم من كراهة الشرِّ وعدم إرادة فعله، وبما نَصَبَه من الأدلَّة والشواهد على فسادِه ومضرَّته وعدم قبول الفطر له، وبما يجعل الله في القلوب من الكراهة له.
{أولئك}؛
أي: الذين زيَّن الله الإيمان في قلوبهم وحبَّبه إليهم، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان
{هم الراشدونَ}؛
أي: الذين صلحت علومُهم وأعمالُهم، واستقاموا على الدين القويم والصراط المستقيم، وضدُّهم الغاوون الذين حُبِّب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وكُرِّه إليهم الإيمان، والذنب ذنبُهم؛ فإنهم لما فسقوا؛ طبعَ اللهُ على قلوبهم، ولما زاغوا؛ أزاغ اللهُ قلوبهم، ولما لم يؤمنوا بالحق لمَّا جاءهم أولَ مرة؛ قلب الله أفئدتهم.
#
{8} وقوله:
{فضلاً من اللهِ ونعمةً}؛
أي: ذلك الخير الذي حصل لهم هو بفضل الله عليهم وإحسانِهِ، لا بحولهم وقوَّتهم.
{واللهُ عليمٌ حكيمٌ}؛
أي: عليمٌ بمن يشكر النعمة فيوفِّقه لها ممَّن لا يشكرها ولا تليقُ به، فيضع فضلَه حيث تقتضيه حكمتُه.
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)}
#
{9} هذا متضمِّنٌ لنهي المؤمنين عن أن يبغيَ بعضُهم على بعض ويقتلَ بعضُهم بعضاً، وأنه إذا اقتتلتْ طائفتان من المؤمنين؛ فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافَوْا هذا الشرَّ الكبير بالإصلاح بينهم والتوسُّط على أكمل وجه يقع به الصلحُ ويسلكوا الطرق الموصلة إلى ذلك؛ فإن صلحتا؛ فبها ونعمت.
{فإن بغتْ إحداهُما على الأخْرى فقاتِلوا التى تبغي حتى تفيءَ إلى أمرِ اللهِ}؛
أي: ترجع إلى ما حدَّ الله ورسولُه من فعل الخير وترك الشرِّ الذي من أعظمه الاقتتال.
وقولُه: {فإن فاءتْ فأصْلِحوا بينَهما بالعَدْلِ}: هذا أمرٌ بالصُّلح وبالعدل في الصلح؛ فإنَّ الصُّلح قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظُّلم والحيف على أحد الخصمين؛ فهذا ليس هو الصُّلح المأمورُ به، فيجب أن لا يراعَى أحدهما لقرابةٍ أو وطنٍ أو غير ذلك من المقاصد والأغراض، التي توجب العدول عن العدل.
{إنَّ اللهَ يحبُّ المُقْسِطينَ}؛
أي: العادلين في حكمهم بين الناس، وفي جميع الولايات التي تولوها، حتى إنه قد يدخل في ذلك عدلُ الرجل في أهله وعيالِه في أداء حقوقهم،
وفي الحديث الصحيح: «المقسِطون عند الله على منابرَ من نورٍ؛ الذين يعدِلون في حكمِهم وأهليهم وما ولوا».
#
{10} {إنَّما المؤمنونَ إخوةٌ}: هذا عقدٌ عقدَه الله بين المؤمنين؛ أنَّه إذا وجد من أيِّ شخصٍ كان في مشرق الأرض ومغربها الإيمانُ بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ فإنَّه أخٌ للمؤمنين أخوَّةً توجبُ أن يحبَّ له المؤمنون ما يحبُّون لأنفسهم، ويكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم، ولهذا قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
آمراً بالأخوَّة الإيمانيَّة: «لا تَحاسدوا ولا تَناجشوا ولا تَباغضوا ولا تَدابروا، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً. المسلمُ أخو المسلم؛ لا يظلمُه ولا يخذُلُه ولا يكذبه». متفقٌ عليه. وفيهما عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
«المؤمنُ للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً، وشبك - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه».
ولقد أمر اللهُ ورسولُه بالقيام بحقوق المؤمنين بعضهم لبعض وبما يحصُلُ به التآلفُ والتوادُدُ والتواصُلُ بينهم، كل هذا تأييدٌ لحقوق بعضهم على بعض؛ فمن ذلك إذا وقع الاقتتال بينهم الموجب لتفرُّق القلوب وتباغُضها وتدابُرها؛ فَلْيُصْلِح المؤمنون بين إخوانهم، ولْيَسْعَوا فيما به يزول شَنَآنهم.
ثم أمر بالتقوى عموماً، ورتب على القيام بالتقوى وبحقوق المؤمنين الرحمةَ،
فقال: {لعلَّكم تُرْحَمونَ}، وإذا حصلت الرحمةُ؛ حصل خيرُ الدنيا والآخرة. ودلَّ ذلك على أنَّ عدم القيام بحقوق المؤمنين من أعظم حواجب الرحمة.
وفي هاتين الآيتين من الفوائد غير ما تقدم: أنَّ الاقتتال بين المؤمنين منافٍ للأخوَّة الإيمانيَّة، ولهذا كان من أكبر الكبائر. وأنَّ الإيمان والأخوَّة الإيمانيَّة لا يزولان مع وجود الاقتتال؛ كغيره من الذنوب الكبائر، التي دون الشرك، وعلى ذلك مذهب أهل السنة والجماعة. وعلى وجوب الإصلاح بين المؤمنين بالعدل. وعلى وجوب قتال البُغاة حتى يرجِعوا إلى أمر الله، وعلى أنهم لو رجعوا لغير أمرِ الله؛ بأن رجعوا على وجهٍ لا يجوز الإقرار عليه والتزامه؛ أنَّه لايجوز ذلك. وأنَّ أموالهم معصومةٌ؛ لأنَّ الله أباح دماءهم وقت استمرارهم على بَغْيِهم خاصةً دون أموالهم.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}
#
{11} وهذا أيضاً من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض؛
أن: {لا يَسْخَرْ قومٌ من قومٍ}: بكلِّ كلامٍ وقولٍ وفعلٍ دالٍّ على تحقير الأخ المسلم؛ فإنَّ ذلك حرامٌ لا يجوز، وهو دالٌّ على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخورُ به خيراً من الساخر، وهو الغالبُ والواقعُ؛ فإنَّ السخرية لا تقع إلاَّ من قلب ممتلئٍ من مساوئ الأخلاق، متحلٍّ بكل خلقٍ ذميمٍ، متخلٍّ من كلِّ خلقٍ كريم، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
«بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلمَ».
ثم قال: {ولا تَلْمِزوا أنفُسَكُم}؛
أي: لا يعب بعضكم على بعض، واللَّمزُ بالقول، والهمز بالفعل، وكلاهما منهيٌّ عنه حرامٌ متوعَّدٌ عليه بالنار؛
كما قال تعالى: {ويلٌ لكلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ... } الآية، وسمَّى الأخ المسلم نفساً لأخيهِ؛ لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هكذا حالُهم؛ كالجسد الواحد، ولأنَّه إذا همزَ غيرَه؛ أوجبَ للغير أن يهمزه، فيكون هو المتسبِّب لذلك،
{ولا تنابَزوا بِالألقابِ}؛
أي: لا يعيِّر أحدُكم أخاه ويلقِّبه بلقبٍ يكره أن يقالَ فيه، وهذا هو التنابز، وأما الألقاب غير المذمومة؛ فلا تدخل في هذا.
{بئسَ الاسمُ الفُسوقُ بعدَ الإيمانِ}؛
أي: بئسما تبدَّلتم عن الإيمان والعمل بشرائعِهِ وما يقتضيه بالإعراضِ عن أوامرِهِ ونواهيه باسم الفسوق والعصيان الذي هو التنابُزُ بالألقاب،
{ومَن لم يَتُبْ فأولئك هم الظَّالمونَ}: وهذا هو الواجب على العبد: أن يتوبَ إلى الله تعالى، ويخرجَ من حقِّ أخيه المسلم باستحلالِهِ والاستغفار والمدح له مقابلةً على ذمِّه.
{ومَن لمْ يَتُبْ فأولئكَ هم الظالمونَ}؛
فالناس قسمان: ظالمٌ لنفسه غيرُ تائبٍ، وتائبٌ مفلحٌ، ولا ثَمَّ غيرهما.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)}.
#
{12} نهى تعالى عن كثيرٍ من الظَّنِّ السيِّئِ بالمؤمنين،
{إنَّ بعضَ الظَّنِّ إثمٌ}: وذلك كالظَّنِّ الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظنِّ السَّوْءِ الذي يقترن به كثيرٌ من الأقوال والأفعال المحرَّمة؛ فإنَّ بقاءَ ظنِّ السَّوْءِ بالقلب لا يقتصر صاحبه على مجرَّد ذلك، بل لا يزال به حتى يقول ما لا ينبغي ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضاً إساءةُ الظنِّ بالمسلم وبغضُهُ وعداوتُهُ المأمور بخلافها منه،
{ولا تَجَسَّسوا}؛
أي: لا تفتِّشوا عن عورات المسلمين، ولا تَتَّبعوها، ودَعُوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافُل عن زلاَّته، التي إذا فُتِّشَتْ؛ ظهرَ منها ما لا ينبغي،
{ولا يَغْتَب بعضُكُم بعضاً}: والغيبة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
«ذِكْرُكَ أخاك بما يكرَهُ، ولو كان فيه». ثم ذَكَرَ مثلاً منفراً عن الغيبة،
فقال: {أيحبُّ أحدُكُم أن يأكُلَ لحمَ أخيه مَيْتاً فكَرِهْتُموه}: شبَّه أكلَ لحمِهِ ميتاً المكروه للنفوس غايةَ الكراهةِ باغتيابه؛ فكما أنَّكم تكرهون أكل لحمه، خصوصاً إذا كان ميتاً فاقد الروح؛ فكذلك فَلْتَكْرهوا غيبته وأكل لحمه حيًّا،
{واتَّقوا اللهَ إنَّ اللهَ توابٌ رحيمٌ}: والتوَّابُ: الذي يأذن بتوبة عبده، فيوفِّقه لها، ثم يتوبُ عليه بقبول توبته، رحيمٌ بعباده؛ حيث دعاهم إلى ما ينفعهم، وقبل منهم التوبة. وفي هذه الآية دليلٌ على التَّحذير الشديد من الغِيبة، وأنَّها من الكبائر؛ لأنَّ الله شبَّهها بأكل لحم الميت، وذلك من الكبائر.
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}
#
{13} يخبرُ تعالى أنَّه خلقَ بني آدم من أصل واحدٍ وجنسٍ واحدٍ، وكلُّهم من ذكر وأنثى، ويرجعون جميعُهم إلى آدم وحواء، ولكنَّ الله تعالى بثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً، وفرَّقهم، وجعلهم
{شعوباً وقبائلَ}؛
أي: قبائل صغاراً وكباراً، وذلك لأجل أن يتعارَفوا؛ فإنَّه لو استقلَّ كلُّ واحد منهم بنفسه؛ لم يحصُلْ بذلك التعارف الذي يترتَّب عليه التَّناصر والتَّعاون والتَّوارث والقيام بحقوق الأقارب، ولكنَّ الله جعلهم شعوباً وقبائل؛ لأجل أن تحصُلَ هذه الأمور وغيرها ممَّا يتوقَّف على التعارف ولحوق الأنساب، ولكن الكرمَ بالتَّقوى؛ فأكرمُهم عند الله أتقاهم، وهو أكثرُهم طاعةً وانكفافاً عن المعاصي، لا أكثرُهم قرابةً وقوماً، ولا أشرفُهم نسباً، ولكن اللهَ تعالى
{عليمٌ خبيرٌ}، يعلمُ منهم مَن يقوم بتقوى الله ظاهراً وباطناً ممَّن لا يقوم بذلك ظاهراً ولا باطناً، فيجازي كلًّا بما يستحقُّ. وفي هذه الآية دليلٌ على أنَّ معرفة الأنساب مطلوبةٌ مشروعةٌ؛ لأنَّ الله جعلهم شعوباً وقبائلَ لأجل ذلك.
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}
#
{14} يخبرُ تعالى عن مقالةِ الأعراب، الذين دخلوا في الإسلام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخولاً من غير بصيرةٍ ولا قيامٍ بما يجبُ ويقتضيه الإيمان؛ أنَّهم مع هذا ادَّعوا وقالوا
{آمنَّا}؛
أي: إيماناً كاملاً مستوفياً لجميع أموره. هذا موجب هذا الكلام، فأمر الله رسوله أن يردَّ عليهم،
فقال: {قل لمْ تؤمِنوا}؛
أي: لا تدَّعوا لأنفسِكُم مقامَ الإيمان ظاهراً وباطناً كاملاً،
{ولكن قولوا أسْلَمْنا}؛
أي: دخلْنا في الإسلام، واقْتَصِروا على ذلك،
{و} السبب في ذلك أنه
{لَمَّا يدخلِ الإيمانُ في قلوبِكُم}: وإنَّما أسلمتم خوفاً أو رجاءً أو نحو ذلك مما هو السبب في إيمانكم؛ فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم.
وفي قوله: {ولمَّا يدخلِ الإيمانُ في قلوبِكُم}؛
أي: وقتَ هذا الكلام الذي صدر منكم، فكان فيه إشارةٌ إلى أحوالهم بعد ذلك؛ فإنَّ كثيراً منهم منَّ الله عليهم بالإيمان الحقيقيِّ والجهاد في سبيل الله،
{وإن تُطيعوا اللهَ ورسولَه}: بفعل خير أو ترك شرٍّ
{لا يَلِتْكُم من أعمالِكُمْ شيئاً}؛
أي: لا يَنْقُصْكم منها مثقال ذرَّةٍ، بل يوفيكم إيَّاها أكمل ما تكون، لا تفقدون منها صغيراً ولا كبيراً.
{إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ}؛
أي: غفورٌ لمَن تابَ إليه وأناب، رحيمٌ به؛ حيث قبل توبته.
#
{15} {إنَّما المؤمنون}؛
أي: على الحقيقة،
{الذين آمنوا بالله ورسولِهِ وجاهدوا في سبيلِ اللهِ}؛
أي: من جمعوا بينَ الإيمان بالله ورسولِهِ والجهادِ في سبيله؛ فإنَّ مَن جاهدَ الكفارَ؛ دلَّ ذلك على الإيمان التامِّ في قلبِهِ؛ لأنَّ من جاهد غيره على الإسلام والإيمان والقيام بشرائعه؛ فجهاده لنفسه على ذلك من باب أولى وأحرى، ولأنَّ من لم يقوَ على الجهاد؛ فإنَّ ذلك دليلٌ على ضعف إيمانه. وشرط تعالى في الإيمان عدم الريب؛
أي: الشكِّ؛ لأنَّ الإيمان النافع هو الجزم اليقينيُّ بما أمر الله بالإيمان به، الذي لا يعتريه شكٌّ بوجه من الوجوه.
وقوله: {أولئك هم الصادقون}؛
أي: الذين صدَّقوا إيمانهم بأعمالهم الجميلة؛ فإنَّ الصدقَ دعوى عظيمةٌ في كل شيء يُدَّعى، يحتاج صاحبه إلى حجة وبرهانٍ، وأعظم ذلك دعوى الإيمان، الذي هو مدار السعادة والفوز الأبديِّ والفلاح السرمديِّ؛ فمن ادَّعاه وقام بواجباته ولوازمه؛ فهو الصادق المؤمن حقًّا، ومن لم يكن كذلك؛ عُلِم أنه ليس بصادق في دعواه، وليس لدعواه فائدة؛ فإنَّ الإيمان في القلب، لا يطلع عليه إلا الله تعالى؛ فإثباتُه ونفيُه من باب تعليم الله بما في القلب وهو سوء أدبٍ وظنٍّ بالله.
#
{16} ولهذا قال:
{قل أتُعَلِّمون اللهَ بِدينِكم واللهُ يعلمُ ما في السمواتِ وما في الأرضِ واللهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ}: وهذا شاملٌ للأشياء كلِّها، التي من جملتِها ما في القلوب من الإيمان والكفران والبرِّ والفجور؛ فإنَّه تعالى يعلمُ ذلك كلَّه، ويجازي عليه، إن خيراً فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
#
{17} هذه حالةٌ من أحوال من ادَّعى لنفسه الإيمان وليس به؛ فإنَّه إمَّا أن يكون ذلك تعليماً لله، وقد علم أنه عالمٌ بكلِّ شيء، وإمَّا أن يكون قصدُهم بهذا الكلام المنة على رسولِه، وأنَّهم قد بذلوا وتبرَّعوا بما ليس من مصالحهم بل هو من حظوظه الدنيويَّة، وهذا تجمُّلٌ بما لا يجمل، وفخرٌ بما لا ينبغي لهم الفخر به على رسوله؛ فإنَّ المنَّة لله تعالى عليهم؛ فكما أنه تعالى هو المانُّ عليهم بالخلق والرزق والنعم الظاهرة والباطنة؛ فمنَّتُه عليهم بهدايتهم إلى الإسلام ومنَّتُه عليهم بالإيمان أفضلُ من كلِّ شيء،
ولهذا قال: {يَمُنُّونَ عليك أنْ أسلَموا قل لا تَمُنُّوا عليَّ إسلامكم بلِ اللهُ يمنُّ عليكم أنْ هداكُم للإيمانِ إن كنتُم صادقينَ}.
#
{18} {إنَّ اللهَ يعلمُ غَيْبَ السَّمواتِ والأرضِ}؛
أي: الأمور الخفية فيهما، التي تخفى على الخلق؛ كالذي في لُجَج البحار، ومَهامِهِ القِفار، وما جنَّهُ الليلُ أو واراهُ النهارُ؛ يعلمُ قطرات الأمطار، وحبات الرمال، ومكنونات الصدور، وخبايا الأمور،
{وما تَسْقُطُ مِن ورقةٍ إلاَّ يَعْلَمُها ولا حبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرضِ ولا رَطْبٍ ولا يابس إلاَّ في كتابٍ مبينٍ}.
{واللهُ بصيرٌ بما تعملون}: يُحصي عليكم أعمالَكم ويُوَفيكُم إيَّاها، ويجازيكم عليها بما تقتضيه رحمته الواسعة وحكمته البالغة.
تم تفسير سورة الحجرات بعون الله ومنه وجوده وكرمه. والحمد لله.
* * *