آية:
تفسير سورة السجدة
تفسير سورة السجدة
[وهي] مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
آية: 1 - 3 #
{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)}
# {2} يخبر تعالى أنَّ هذا الكتاب الكريم تنزيلٌ نزل من ربِّ العالمين، الذي ربَّاهم بنعمتِهِ، ومن أعظم ما ربَّاهم به هذا الكتاب، الذي فيه كلُّ ما يُصْلِحُ أحوالَهم ويتمِّم أخلاقَهم، وأنَّه لا ريبَ فيه ولا شكَّ ولا امتراءَ.
# {3} ومع ذلك؛ قالَ المكذِّبون للرسول الظالمونَ في ذلك: افتراه محمدٌ واختلَقَه من عند نفسه! وهذا من أكبر الجراءة على إنكارِ كلام اللَّه، ورَمْي محمدٍ بأعظم الكذِبِ، وقدرة الخَلْق على كلام مثل كلام الخالق، وكلُّ واحد من هذه، من الأمور العظائم، قال الله رادًّا على من قال: افتراه: {بل هو الحقُّ}: الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفِهِ تنزيلٌ من حكيم حميدٍ {من ربِّكَ}: أنزله رحمةً للعباد، {لِتُنذِرَ قوماً ما أتاهم من نذيرٍ من قبلِكَ}؛ أي: هم في حال ضرورة وفاقةٍ لإرسال الرسول وإنزال الكتاب لعدم النذير، بل هم في جهلهم يَعْمَهون، وفي ظُلمة ضلالهم يتردَّدون، فأنزلنا الكتاب عليك، {لعلَّهم يهتدونَ}: من ضلالهم، فيعرفون الحقَّ ويؤثِرونَه. وهذه الأشياء التي ذَكَرها الله كلُّها مناقضةٌ لتكذيبهم له، وإنَّها تقتضي منهم الإيمان والتصديق التامَّ به، وهو كونُه من ربِّ العالَمين، وأنَّه حقٌّ، والحق مقبولٌ على كلِّ حال، وأنه لا ريبَ فيه بوجه من الوجوه؛ فليس فيه ما يوجب الريبة؛ لا بخبر غير مطابق للواقع ، ولا بخفاء واشتباه معانيه، وأنهم في ضرورة وحاجة إلى الرسالة، وأن فيه الهداية لكلِّ خير وإحسان.
آية: 4 - 9 #
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)}
# {4} يخبر تعالى عن كمال قدرته بخلقه السماوات والأرض في ستة أيام، أولها يوم الأحد، وآخرها الجمعة، مع قدرته على خلقها بلحظة، ولكنَّه تعالى رفيقٌ حكيمٌ، {ثم استوى على العرش}: الذي هو سقفُ المخلوقات استواءً يليقُ بجلالِهِ، {ما لكم من دونِهِ من وليٍّ}: يتولاَّكم في أمورِكم فينفَعُكم {ولا شفيع}: يشفعُ لكم إنْ توجَّه عليكم العقاب. {أفلا تتذكَّرونَ}: فتعلمون أنَّ خالق الأرض والسماواتِ، المستوي على العرش العظيم، الذي انفرد بتدبيركم وتولِّيكم، وله الشفاعةُ كلُّها، هو المستحقُّ لجميع أنواع العبادة!
# {5} {يدبِّرُ الأمرَ}: القدريَّ والأمر الشرعيَّ، الجميع هو المنفرد بتدبيره، نازلةٌ تلك التدابير من عند الملك القدير، {من السماء إلى الأرض}: فيُسْعِدُ بها ويشقي، ويُغني ويُفقر، ويعزُّ ويذلُّ ويكرِم ويُهين، ويرفع أقواماً ويضع آخرينَ، وينزِّل الأرزاق، {ثم يَعْرُجُ إليه}؛ أي: الأمر ينزِلُ من عنده، ويعرُجُ إليه {في يوم كان مقدارُهُ ألفَ سنةٍ ممَّا تعدُّونَ}: وهو يعرُجُ إليه، ويصِلُه في لحظة.
# {6} {ذلك}: الذي خلق تلك المخلوقات العظيمة، الذي استوى على العرش العظيم، وانفرد بالتدابير في المملكة، {عالمُ الغيب والشهادة العزيزُ الرحيم}: فبسعة علمِهِ وكمال عزَّتِهِ وعموم رحمتِهِ أوجَدَها، وأوْدَعَ فيها من المنافع ما أوْدَعَ، ولم يعسُرْ عليه تدبيرُها.
# {7} {الذي أحسنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه}؛ أي: كلّ مخلوقٍ خلقَهُ الله؛ فإنَّ الله أحسن خلقَه، وخَلَقَهُ خلقاً يليقُ به ويوافِقُه؛ فهذا عامٌّ، ثم خصَّ الآدميَّ لشرفِهِ وفضلِهِ، فقال: {وبدأ خَلْقَ الإنسانِ من طينٍ}: وذلك بخلق آدم عليه السلام أبي البشر.
# {8} {ثم جعل نَسْلَه}؛ أي: ذريَّة آدم ناشئة {من ماء مَهين}: وهو النطفةُ المستقذرةُ الضعيفة.
# {9} {ثم سوَّاه} بلحمِهِ وأعضائِهِ وأعصابه وعروقِهِ، وأحسن خِلْقَتَه، ووضع كلَّ عضو منه بالمحلِّ الذي لا يليقُ به غيره، {ونفخ فيه من روحِهِ}: بأن أرسل إليه المَلَكَ؛ فينفخ فيه الروحَ، فيعود بإذن الله حيواناً بعد أن كان جماداً، {وجَعَلَ لكم السمعَ والأبصارَ}؛ أي: ما زال يعطيكم من المنافع شيئاً فشيئاً حتى أعطاكم السمع والأبصار {والأفئدة قليلاً ما تشكُرون}: الذي خلقكم، وصوَّركم.
آية: 10 - 11 #
{وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}
# {10} أي: قال المكذِّبون بالبعثِ على وجه الاستبعاد: {أإذا ضلَلْنا في الأرض}؛ أي: بَلينا وتمزَّقْنا وتفرَّقْنا في المواضع التي لا تعلم، {أإنَّا لَفي خلقٍ جديدٍ}؛ أي: لمبعوثون بعثاً جديداً؛ بزعمهم أن هذا من أبعد الأشياء! وذلك بقياسهم قدرة الخالق على قُدَرِهِم ، وكلامهم هذا ليس لطلب الحقيقة، وإنَّما هو ظلمٌ وعنادٌ وكفرٌ بلقاء ربهم وجحدٌ، ولهذا قال: {بل هم بلقاءِ ربِّهم كافرونَ}: فكلامُهم عُلِمَ مصدرُهُ وغايتُهُ، وإلاَّ؛ فلو كان قصدُهم بيان الحق لبُيِّنَ لهم من الأدلَّة القاطعة على ذلك ما يجعله مشاهداً للبصيرة بمنزلة الشمس للبصر، ويكفيهم أنهم عندهم علمٌ أنهم قد ابتُدِئوا من العدم؛ فالإعادةُ أسهلُ من الابتداء، وكذلك الأرضُ الميتة ينزِلُ الله عليها المطرَ فتحيا بعد موتها، وينبتُ به متفرِّقُ بذورها.
# {11} {قل يتوفَّاكم مَلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بكم}؛ أي: جعله الله وكيلاً على قبض الأرواح، وله أعوان، {ثمَّ إلى ربِّكُم تُرجعونَ}: فيجازيكم بأعمالكم، وقد أنكرتُم البعث؛ فانظُروا ماذا يفعلُ الله بكم.
آية: 12 - 14 #
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)}
# {12} لما ذكر تعالى رجوعَهم إليه يوم القيامةِ؛ ذكر حالَهم في مقامهم بين يديه، فقال: {ولو ترى إذِ المجرِمونَ}: الذين أصرُّوا على الذنوبِ العظيمة، {ناكِسوا رؤوسِهِم عند ربِّهم}: خاشعين خاضعين، أذلاَّء مقرِّين [بجرمهم] ، سائلين الرجعة قائلين: {ربَّنا أبْصَرْنا وسَمِعْنا}؛ أي: بان لنا الأمرُ ورأيناه عياناً، فصار عينَ يقينٍ، {فارْجِعْنا نعملْ صالحاً إنَّا موقِنونَ}؛ أي: صار عندَنا الآن يقينٌ بما كنا نكذِّب به؛ أي: لرأيت أمراً فظيعاً وحالاً مزعجة وأقواماً خاسرين وسؤالاً غير مجابٍ؛ لأنَّه قد مضى وقتُ الإمهال.
# {13} وكلُّ هذا بقضاءِ الله وقدرِهِ؛ حيث خلَّى بينَهم وبين الكفر والمعاصي؛ فلهذا قال: {ولو شِئْنا لآتَيْنا كلَّ نفس هُداها}؛ أي: لهدينا الناس كلَّهم وجَمَعْناهم على الهدى، فمشيئتُنا صالحةٌ لذلك، ولكنَّ الحكمة تأبى أن يكونوا كلُّهم على الهدى، ولهذا قال: {ولكنْ حقَّ القولُ مني}؛ أي: وجب وثبت ثبوتاً لا تغيُّر فيه، {لأملأنَّ جهنَّم من الجِنَّةِ والناس أجمعينَ}: فهذا الوعدُ لا بدَّ منه ولا محيدَ عنه؛ فلابدَّ من تقرير أسبابه من الكفرِ والمعاصي.
# {14} {فذوقوا بما نَسيتُم لقاء يومِكُم هذا}؛ أي: يقال للمجرمين الذين ملكهم الذلُّ، وسألوا الرجعة إلى الدُّنيا؛ ليستدركوا ما فاتهم: قد فات وقت الرجوع، ولم يبق إلاَّ العذابُ، فذوقوا العذابَ الأليم بما نسيتُم لقاء يومِكُم هذا، وهذا النسيانُ نسيانُ ترك؛ أي: بما أعرضتُم عنه، وتركتُم العمل له، وكأنّكم غير قادمين عليه ولا ملاقيه. {إنَّا نَسيناكُم}؛ أي: تركناكم بالعذاب جزاءً من جنس عملِكُم؛ فكما نَسيتم نُسيتم، {وذوقوا عذابَ الخُلْدِ}؛ أي: العذاب غير المنقطع؛ فإنَّ العذاب إذا كان له أجلٌ وغايةٌ؛ كان فيه بعضُ التنفيس والتخفيف، وأمَّا عذابُ جهنَّم ـ أعاذنا الله منه ـ؛ فليس فيه روحُ راحةٍ ولا انقطاع لعذابهم فيها؛ {بما كنتُم تعملون}: من الكفر والفسوقِ والمعاصي.
آية: 15 - 17 #
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}
# {15} لما ذَكَرَ الكافرين بآياته وما أعدَّ لهم من العذاب؛ ذَكَرَ المؤمنين بها ووَصْفَهم وما أعدَّ لهم من الثواب، فقال: {إنَّما يؤمنُ بآياتنا}؛ أي: إيماناً حقيقيًّا مَنْ يوجد منه شواهدُ الإيمان، وهم {الذين إذا ذُكِّروا} بآياتِ ربِّهم، فتُلِيَتْ عليهم آيات القرآن، وأتتهم النصائحُ على أيدي رسل الله، ودُعوا إلى التذكُّر؛ سمعوها فقبلوها وانقادوا و {خرُّوا سُجَّداً}؛ أي: خاضعين لها خضوعَ ذِكْرٍ لله وفرح بمعرفتِهِ، {وسبَّحوا بحمدِ ربِّهم وهم لا يستكْبِرونَ}: لا بقلوبِهِم ولا بأبدانِهِم فيمتنعون من الانقيادِ لها، بل متواضعون لها، قد تَلَقَّوْها بالقَبول والتسليم وقابَلوها بالانشراح والتسليم، وتوصَّلوا بها إلى مرضاة الربِّ الرحيم، واهتَدَوا بها إلى الصراط المستقيم.
# {16} {تتجافى جُنوبهم عن المضاجِع}؛ أي: ترتفع جنوبُهم وتنزعجُ عن مضاجِعِها اللذيذِة إلى ما هو ألذُّ عندهم منه وأحبُّ إليهم، وهو الصلاة في الليل ومناجاة الله تعالى، ولهذا قال: {يَدْعون ربَّهم}؛ أي: في جلب مصالِحِهم الدينيَّة والدنيويَّة ودفع مضارِّهما {خوفاً وطمعاً}؛ أي: جامعين بين الوصفينِ؛ خوفاً أن تُرَدَّ أعمالُهم، وطمعاً في قبولها؛ خوفاً من عذاب الله، وطمعاً في ثوابه، {وممَّا رزَقْناهم}: من الرزق قليلاً أو كثيراً، {يُنفِقونَ}: ولم يذكُر قيد النفقة، ولا المنفَق عليه؛ ليدلَّ على العموم؛ فإنَّه يدخُلُ فيه النفقة الواجبة؛ كالزكوات والكفارات ونفقة الزوجات والأقارب، والنفقة المستحبَّة في وجوه الخير، والنفقة والإحسان المالي خيرٌ مطلقاً؛ سواء وافق فقيراً أو غنيًّا ، قريباً أو بعيداً، ولكن الأجر يتفاوت بتفاوتِ النفع، فهذا عملهم.
# {17} وأمَّا جزاؤهم؛ فقال: {فلا تعلمُ نفسٌ}: يدخل فيه جميعُ نفوس الخلق؛ لكونه نكرةً في سياق النفي؛ أي: فلا يعلمُ أحدٌ {ما أُخْفِيَ لهم من قُرَّةِ أعينٍ}: من الخير الكثير والنعيم الغزير والفرح والسرور واللَّذَّة والحبور؛ كما قال تعالى على لسان رسوله: «أعددتُ لِعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر »؛ فكما صلُّوا في الليل ودعوا وأخفوا العمل؛ جازاهم من جنس عملهم، فأخفى أجرهم، ولهذا قال: {جزاءً بما كانوا يَعْمَلونَ}.
آية: 18 - 20 #
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}
# {18} ينبِّه تعالى العقول على ما تقرَّرَ فيها من عدم تساوي المتفاوتَيْنِ المتبايِنَيْن، وأن حكمته تقتضي عدم تساويهما، فقال: {أفمن كان مؤمناً}: قد عَمَرَ قلبَه بالإيمان، وانقادتْ جوارِحُه لشرائعه، واقتضى إيمانُه آثاره وموجباتِه من ترك مساخِطِ الله التي يضرُّ وجودها بالإيمان، {كمن كان فاسقاً}: قد خرب قلبُه وتعطَّل من الإيمان، فلم يكن فيه وازعٌ دينيٌّ، فأسرعتْ جوارحُه بموجبات الجهل والظلم في كلِّ إثم ومعصيةٍ، وخرج بفسقِهِ عن طاعة ربِّه، أفيستوي هذان الشخصان؟! {لا يستوونَ}: عقلاً وشرعاً؛ كما لا يستوي الليل والنهار والضياء والظلمة، وكذلك لا يستوي ثوابُهما في الآخرة.
# {19} {أمَّا الذين آمنوا وعَمِلوا الصالحاتِ}: من فروض ونوافلَ، {فلهم جناتُ} {المأوى}؛ أي: الجنات التي هي مأوى اللذَّات، ومعدنُ الخيرات، ومحلُّ الأفراح، ونعيمُ القلوب والنفوس والأرواح، ومحلُّ الخلود، وجوار الملك المعبود، والتمتُّع بقربه والنظر إلى وجهه وسماع خطابه، {نُزُلاً}: لهم؛ أي: ضيافةً وقِرىً؛ {بما كانوا يعملونَ}: فأعمالُهم التي تَفَضَّلَ الله بها عليهم هي التي أوصلَتْهم لتلك المنازل الغالية العالية، التي لا يمكن التوصُّل إليها ببذل الأموال، ولا بالجنود والخدم، ولا بالأولاد، بل ولا بالنفوس والأرواح، ولا يتقرَّب إليها بشيء أصلاً سوى الإيمان والعمل الصالح.
# {20} {وأمَّا الذين فَسَقوا فمأواهُمُ النارُ}؛ أي: مقرُّهم ومحلُّ خلودهم النارُ، التي جمعت كلَّ عذابٍ وشقاءٍ، ولا يُفَتَّرُ عنهم العقابُ ساعة، {كلَّما أرادوا أن يَخْرُجوا منها أُعيدوا فيها}: فكلَّما حدَّثتهم إرادتُهم بالخروج لبلوغ العذابِ منهم كلَّ مبلغ؛ رُدُّوا إليها، فذهب عنهم روح ذلك الفرج، واشتدَّ عليهم الكرب، {وقيل لهم ذوقوا عذابَ النارِ الذي كنتُم به تكذِّبون}.
فهذا عذابُ النار الذي يكونُ فيه مقرُّهم ومأواهم، وأما العذابُ الذي قبل ذلك ومقدمة له، وهو عذاب البرزخ؛ فقد ذُكِرَ بقوله:
آية: 21 #
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)}
# {21} أي: ولنذيقنَّ الفاسقين المكذِّبين نموذجاً من العذاب الأدنى، وهو عذاب البرزخ، فنذيقهم طرفاً منه قبل أن يموتوا: إما بعذابٍ بالقتل ونحوه كما جرى لأهل بدر من المشركين، وإمَّا عند الموت؛ كما في قوله تعالى: {ولو ترى إذِ الظالمونَ في غَمَراتِ الموتِ والملائكةُ باسطوا أيديهم أخرِجوا أنفُسَكُم اليومَ تُجْزَوْنَ عذابَ الهُونِ}، ثم يكمل لهم العذابُ الأدنى في برزَخِهم. وهذه الآيةُ من الأدلة على إثبات عذاب القبر، ودلالتُها ظاهرةٌ؛ فإنَّه قال: {وَلَنُذيقَنَّهم من العذاب الأدنى}؛ أي: بعض وجزء منه، فدلَّ على أن ثَمَّ عذاباً أدنى قبل العذاب الأكبر، وهو عذاب النار، ولما كانت الإذاقة من العذابِ الأدنى في الدنيا قد لا يَتَّصلُ بها الموت، فأخبر تعالى أنَّه يذيقُهم ذلك؛ لعلَّهم يرجِعون إليه، ويتوبون من ذنوبهم؛ كما قال تعالى: {ظَهَرَ الفسادُ في البرِّ والبحرِ بما كَسَبَتْ أيدي الناس لِيُذيقَهم بعضَ الذي عَمِلوا لعلَّهم يرجِعونَ}.
آية: 22 #
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
# {22} أي: لا أحد أظلمُ وأزيدُ تعدِّياً ممَّنْ ذُكِّرَ بآيات ربِّه، التي أوصلها إليه ربُّه، الذي يريد تربيتَه وتكميلَ نعمتِهِ عليه على يدِ رسلِهِ، تأمره وتذكِّره مصالحه الدينيَّة والدنيويَّة، وتنهاه عن مضارِّه الدينيَّة والدنيويَّة، التي تقتضي أنْ يقابِلَها بالإيمان والتسليم والانقياد والشكر، فقابلها هذا الظالمُ بضدِّ ما ينبغي، فلم يؤمنْ بها ولا اتَّبَعها، بل أعرض عنها وتركها وراء ظهرِهِ؛ فهذا من أكبر المجرمين، الذين يستحقُّون شديد النقمة، ولهذا قال: {إنَّا من المجرِمين منتَقِمون}.
آية: 23 - 25 #
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)}
# {23} لما ذكر تعالى آياتِهِ التي ذَكَّرَ بها عباده، وهو القرآن الذي أنزله على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ذكر أنه ليس ببدع من الكتب، ولا من جاء به بغريب من الرسل، فقد آتى اللَّه {موسى الكتابَ}: الذي هو التوراة المصدِّقَةُ للقرآن، التي قد صَدَّقَها القرآنُ، فتطابق حقُّهما، وثبت برهانُهما. {فلا تكن في مريةٍ من لقائِهِ}: لأنَّه قد تواردتْ أدلَّة الحق وبيناتُه، فلم يبق للشكِّ والمريةِ محلٌّ، {وجعلناه}؛ أي: الكتاب الذي آتيناه موسى {هدىً لبني إسرائيلَ}: يهتدونَ به في أصول دينهم، وفروعهم، وشرائعه موافقةٌ لذلك الزمان في بني إسرائيل، وأما هذا القرآن الكريم؛ فجعله الله هدايةً للناس كلِّهم؛ لأنَّه هدايةٌ للخلق في أمر دينهم ودُنياهم إلى يوم القيامة، وذلك لكمالِهِ وعلوِّه، {وإنَّه في أمِّ الكتاب لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حكيمٌ}.
# {24} {وجَعَلْنا منهم}؛ أي: من بني إسرائيل، {أئمة يهدونَ بأمرِنا}؛ أي: علماء بالشرع وطرق الهداية مهتدين في أنفسهم يهدون غيرهم بذلك الهدى؛ فالكتاب الذي أُنْزِل إليهم هدى، والمؤمنون به منهم على قسمين: أئمَّة يهدون بأمرِ الله، وأتباعٌ مهتدون بهم، والقسمُ الأول أرفع الدرجات بعد درجة النبوَّة والرسالة، وهي درجة الصديقين، وإنما نالوا هذه الدرجة العالية، {لما صبروا}: على التعلُّم والتعليم والدَّعوة إلى الله والأذى في سبيله، وكفُّوا نفوسَهم عن جِماحها في المعاصي واسترسالِها في الشهوات. {وكانوا بآياتِنا يوقِنونَ}؛ أي: وصلوا في الإيمان بآيات الله إلى درجة اليقين، وهو العلم التامُّ الموجب للعمل، وإنَّما وصلوا إلى درجة اليقين؛ لأنَّهم تعلَّموا تعلُّما صحيحاً، وأخذوا المسائل عن أدلتها المفيدة لليقين، فما زالوا يتعلَّمون المسائل، ويستدلُّون عليها بكثرة الدَّلائل، حتى وصلوا لذاك؛ فبالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين.
# {25} وثمَّ مسائلُ اختلف فيها بنو إسرائيل، منهم من أصاب فيها الحقَّ، ومنهم من أخطأه خطأ أو عمداً، والله تعالى {يَفْصِلُ بينَهم يوم القيامةِ فيما كانوا فيه يختلفونَ}: وهذا القرآن يقصُّ على بني إسرائيل بعض الذي يختلفون فيه؛ فكلُّ خلاف وقع بينهم، ووُجِدَ في القرآن تصديقٌ لأحد القولين؛ فهو الحقُّ، وما عداه مما خالفه باطلٌ.
آية: 26 - 27 #
{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)}
# {26} يعني: أولم يتبيَّن لهؤلاء المكذِّبين للرسول ويهديهم إلى الصواب كم أهْلَكْنا قبلهم من القرون الذين سَلَكوا مسلَكَهم، {يمشون في مساكنهم}: فيشاهِدونها عياناً؛ كقوم هود وصالح وقوم لوط. {إنَّ في ذلك لآياتٍ}: يستدلُّ بها على صدق الرسل التي جاءتهم، وبطلان ما هم عليه من الشرك والشرِّ، وعلى أنَّ مَنْ فعل مثل فعلهم؛ فُعِلَ بهم كما فُعِلَ بأشياعه من قبل، وعلى أنَّ الله تعالى مجازي العباد وباعثهم للحشر والتناد. {أفلا يسمعونَ}: آيات الله، فيعونَها، فينتفِعون بها؛ فلو كان لهم سمعٌ صحيحٌ وعقلٌ رجيحٌ؛ لم يقيموا على حالةٍ يجزم بها بالهلاك.
# {27} {أولم يَرَوْا}: بأبصارهم نعمتنا وكمال حكمتنا، {أنَّا نسوقُ الماء إلى الأرض الجرز}: التي لا نبات فيها، فيسوق الله المطر الذي لم يكنْ قبلُ موجوداً فيها، فيفرِغُه فيها من السحاب أو من الأنهار؛ {فنخرِجُ به زرعاً}؛ أي: نباتاً مختلف الأنواع، {تأكُلُ منه أنعامُهم}: وهو نباتُ البهائم {وأنفسُهُم}: وهو طعام الآدميين. {أفلا يبصِرونَ}: تلك المنَّة التي أحيا الله بها البلاد والعباد، فيستبصِرون فيهتدون بذلك البصر وتلك البصيرة إلى الصراط المستقيم؟ ولكن غلب عليهم العمى، واستولتْ عليهم الغفلة، فلم يبصِروا في ذلك بصر الرجال، وإنَّما نظروا إلى ذلك نظر الغفلة ومجرَّد العادة، فلم يوفَّقوا للخير.
آية: 28 - 30 #
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}
# {28} أي: يستعجلُ المجرمون بالعذاب الذي وُعِدوا به على التكذيب جهلاً منهم ومعاندةً، {ويقولونَ متى هذا الفتحُ}: الذي يفتحُ بيننا وبينكم بتعذيبنا على زعمكم {إن كنتُم} [أيها الرسلُ] {صادقينَ}: في دعواكم.
# {29} {قُلْ يومَ الفتح}: الذي يحصُلُ به عقابُكم لا تستفيدون به شيئاً؛ فلو كان إذا حَصَلَ؛ حَصَلَ إمهالُكم لتستدركوا ما فاتكم حين صار الأمر عندكم يقيناً؛ لكان لذلك وجه، ولكن إذا جاء يومُ الفتح؛ انقضى الأمرُ، ولم يبق للمحنةِ والابتلاء محلٌّ، فلا {ينفعُ الذين كفروا إيمانُهم}: لأنَّه صار إيمانَ ضرورةٍ، {ولا هم يُنظَرون}؛ أي: يُمْهَلون، فيؤخَّرُ عنهم العذاب، فيستدركون أمرهم.
# {30} {فأعرض عنهم}: لما وصل خطابهم لك وظلمهم إلى حالة الجَهْل واستعجال العذاب. {وانتظر}: الأمر الذي يَحِلُّ بهم؛ فإنَّه لا بدَّ منه، ولكن له أجلٌ إذا جاء لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، {إنَّهم منتظرونَ}: بك رَيْبَ المنون، ومتربِّصون بكم دوائرَ السوء، والعاقبة للتقوى.
تم تفسير سورة السجدة بحول الله ومنِّه. فله تعالى كمال الحمد والثناء والمجد.
* * *