آية:
تفسير سورة الروم
تفسير سورة الروم
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
آية: 1 - 7 #
{الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}.
# {1 ـ 5} كانت الفرس والروم في ذلك الوقت من أقوى دول الأرض، وكان يكون بينهما من الحروب والقتال ما يكون بين الدول المتوازنة، وكانتِ الفرسُ مشركينَ يعبُدون النار، وكانت الرومُ أهلَ كتابٍ ينتسبون إلى التوراة والإنجيل، وهم أقربُ إلى المسلمين من الفرس، [فكان المؤمنون] يحبُّون غَلَبَتَهم وظهورَهم على الفرس، وكان المشركون لاشتراكِهِم والفرسُ في الشرك يحبُّون ظهورَ الفرس على الروم، فظهر الفرسُ على الروم وغلبوهم غُلباً لم يُحِطْ بِمُلْكِهِم بل بأدنى أرضهم، ففرح بذلك مشركو مكة وحزن المسلمون، فأخبرهم الله، ووعدَهم أنَّ الروم ستغلب الفرس {في بِضْعِ سنينَ}: تسع أو ثمان ونحو ذلك مما لا يزيدُ على العشر ولا ينقُصُ عن الثلاث، وأنَّ غلبةَ الفرس للروم ثم غلبةَ الروم للفرس كلُّ ذلك بمشيئتِهِ وقَدَرِهِ، ولهذا قال: {لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ}: فليس الغلبةُ والنصر لمجرَّد وجود الأسباب، وإنَّما هي لا بدَّ أن يقترن بها القضاء والقدر. {ويومئذٍ}؛ أي: يوم يغلب الرومُ الفرس ويقهرونهم، {يفرحُ المؤمنون. بنصر الله ينصُرُ مَنْ يشاءُ}؛ أي: يفرحون بانتصارهم على الفرس، وإنْ كان الجميع كفاراً، ولكنَّ بعضُ الشرِّ أهونُ من بعض، ويحزنُ يومئذٍ المشركون. {وهو العزيزُ}: الذي له العزَّةُ التي قهر بها الخلائق أجمعين، يؤتي المُلْكَ مَنْ يشاء، وينزِعُ الملك ممَّن يشاء، ويعزُّ من يشاء ويذلُّ من يشاء. {الرحيمُ}: بعباده المؤمنين؛ حيث قيَّضَ لهم من الأسباب التي تسعِدُهم وتنصُرُهم ما لا يدخُل في الحساب.
# {6} {وعدَ اللهِ لا يُخْلِفُ الله وعدَه}: فتيقَّنُوا ذلك، واجْزِمُوا به، واعْلَمُوا أنَّه لا بدَّ من وقوعه. فلمَّا نزلت هذه الآيات التي فيها هذا الوعدُ؛ صدَّق بها المسلمون، وكفر بها المشركون، حتى تراهن بعضُ المسلمين وبعضُ المشركين على مدَّة سنين عيَّنوها، فلما جاء الأجل الذي ضربه الله. انتصر الروم على الفرس، وأجْلَوْهم من بلادهم التي أخذوها منهم، وتحقَّق وعد الله. وهذا من الأمور الغيبيَّة التي أخبر بها الله قبل وقوعها ووجدت في زمان مَنْ أخبرهم الله بها من المسلمين والمشركين. {ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمونَ}: أنَّ ما وَعَدَ اللهُ به حقٌّ؛ فلذلك يوجد فريقٌ منهم يكذِّبون بوعده، ويكذِّبون آياته.
# {7} وهؤلاء الذين لا يعلمون؛ أي: لا يعلمون بواطن الأشياء وعواقِبَها، وإنَّما {يعلمونَ ظاهراً من الحياة الدُّنيا}: فينظرون إلى الأسباب، ويجزمون بوقوع الأمر الذي في رأيهم انعقدتْ أسباب وجودِهِ، ويتيقَّنون عدم الأمر الذي لم يشاهِدوا له من الأسباب المقتضية لوجودِهِ شيئاً؛ فهم واقفون مع الأسباب، غيرُ ناظرين إلى مسبِّبها المتصرف فيها. {وهم عن الآخرةِ هم غافلونَ}: قد توجَّهت قلوبُهم وأهواؤهم وإراداتهم إلى الدنيا وشهواتِها وحطامِها؛ فعملتْ لها وسعتْ وأقبلتْ بها وأدبرتْ، وغفلت عن الآخرة؛ فلا الجنة تشتاقُ إليها، ولا النار تخافها وتخشاها، ولا المقام بين يدي الله ولقائه يروِّعُها ويزعِجُها، وهذا علامة الشقاء، وعنوانه الغفلة عن الآخرة. ومن العجبِ أنَّ هذا القسم من الناس قد بلغتْ بكثيرٍ منهم الفطنةُ والذكاءُ في ظاهر الدُّنيا إلى أمرٍ يحيِّر العقول ويدهش الألباب، وأظهروا من العجائِب الذَّرِّيَّةِ والكهربائيةِ والمراكب البريَّة والبحريَّة والهوائيَّة ما فاقوا به، وبرَّزوا وأعجبوا بعقولهم، ورأوا غيرهم عاجزاً عما أقدرهم اللهُ عليه، فنظروا إليهم بعين الاحتقار والازدراء، وهم مع ذلك أبلد الناس في أمرِ دينهم، وأشدُّهم غفلةً عن آخرتهم، وأقلُّهم معرفة بالعواقب. قد رآهم أهل البصائرِ النافذةِ في جهلهم يتخبَّطون، وفي ضلالهم يَعْمَهون، وفي باطِلِهم يتردَّدون، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون، ثم نظروا إلى ما أعطاهم الله وأقدرهم عليه من الأفكار الدقيقة في الدنيا وظاهرها، وحرموا من العقل العالي، فعرفوا أنَّ الأمر لله والحكم له في عبادِهِ، إنْ هو إلا توفيقُه أو خذلانُه، فخافوا ربهم وسألوه أن يتمَّ لهم ما وهبهم من نور العقول والإيمان حتى يصلوا إليه ويحلُّوا بساحته. وهذه الأمور لو قارنها الإيمان وبُنِيَتْ عليه؛ لأثمرت الرقيَّ العالي والحياة الطيبة، ولكنها لما بُني كثيرٌ منها على الإلحاد؛ لم تثمر إلا هبوط الأخلاق وأسباب الفناء والتدمير.
آية: 8 - 10 #
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)}.
# {8} أي: أفلم يتفكَّر هؤلاء المكذِّبون لرسل الله ولقائه {في أنفسهم}؛ فإنَّ في أنفسهم آيات يَعْرِفُون بها أن الذي أوجدهم من العدم سيعيدُهم بعد ذلك، وأن الذي نقلهم أطواراً من نطفةٍ إلى علقةٍ إلى مضغةٍ إلى آدميٍّ قد نفخ فيه الروح إلى طفل إلى شاب إلى شيخ إلى هرم غيرُ لائقٍ أن يتركَهم سدى مهملين. لا يُنهون، ولا يُؤمرون، ولا يثابون، ولا يعاقبون. {ما خلق اللهُ السمواتِ والأرضَ وما بينهما إلاَّ بالحق}؛ أي: ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، {وأجلٍ مسمًّى}؛ أي: مؤقَّت بقاؤهما إلى أجل تنقضي به الدنيا وتجيء القيامة، وتبدَّل الأرض غير الأرض والسماواتُ. {وإنَّ كثيراً من الناس بلقاءِ ربِّهم لكافرونَ}: فلذلك لم يستعدُّوا للقائه، ولم يصدِّقوا رسلَه التي أخبرت به.
# {9} وهذا الكفر عن غير دليل، بل الأدلَّة القاطعة دلَّت على البعث والجزاء، ولهذا نبَّههم على السير في الأرض والنظر في عاقبة الذين كذَّبوا رسلَهم وخالفوا أمرهم ممَّن هم أشدُّ من هؤلاء قوَّة وأكثر آثاراً في الأرض من بناء قصورٍ ومصانع ومن غرس أشجارٍ ومن زرع وإجراء أنهارٍ، فلم تُغْنِ عنهم قوَّتُهم، ولا نفعتْهم آثارُهم حين كذَّبوا رسلَهم الذين جاؤوهم بالبينات الدالات على الحقِّ وصحة ما جاؤوهم به؛ فإنَّهم حين ينظُرون في آثار أولئك؛ لم يجِدوا إلاَّ أمماً بائدةً، وخلقاً مهلَكين، ومنازل بعدهم موحشة. وذمٌّ من الخلق عليهم متتابعٌ، وهذا جزاءٌ معجَّل نموذج للجزاء الأخروي ومبتدأ له؛ وكلُّ هذه الأمم المهلَكة لم يظلِمْهُمُ الله بذلك الإهلاك، وإنما ظلموا أنفسهم وتسبَّبوا في هلاكها.
# {10} {ثم كان عاقبةُ الذين أساؤوا}؛ أي: المسيئين {السوأى}؛ أي: الحالة السيئة الشنيعة، وصار ذلك داعياً لهم لأن {كذَّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون}: فهذا عقوبةٌ لسوئهم وذنوبهم، ثم ذلك الاستهزاء والتكذيب يكونُ سبباً لأعظم العقوبات وأعضل المثلات.
آية: 11 - 16 #
{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}.
# {11 ـ 13} يخبر تعالى أنَّه المتفرِّدُ بإبداء المخلوقات، ثم يعيدُهم. ثم إليه يُرجعون بعد إعادتهم ليجازيهم بأعمالهم. ولهذا ذكر جزاء أهل الشرِّ ثم جزاء أهل الخير، فقال: {ويوم تقومُ الساعةُ}: ويقوم الناس لربِّ العالمين، [ويرون] القيامة عياناً، يومئذٍ {يُبْلِسُ المجرمون}؛ أي: ييأسون من كلِّ خير، وذلك أنهم ما قَدَّمُوا لذلك اليوم إلاَّ الإجرام، وهي الذنوب من كفرٍ وشركٍ ومعاصٍ، فلما قدَّموا أسباب العقاب، ولم يخلِطوها بشيءٍ من أسباب الثواب؛ أيسوا، وأبلسوا، وأفلسوا، وضلَّ عنهم ما كانوا يفترونه من نفع شركائهم وأنهم يشفعون لهم، ولهذا قال: {ولم يكن لهم من شركائِهِم}: التي عَبَدوها مع الله {شفعاءُ وكانوا بشركائِهِم كافرينَ}: تبرَّأ المشركون ممَّن أشركوهم مع الله، وتبرَّأ المعبودون وقالوا: تبرَّأنا إليك، ما كانوا إيَّانا يعبدونَ، والتعنوا وابتعدوا.
# {14 ـ 16} وفي ذلك اليوم يفترق أهل الخير والشرِّ كما افترقتْ أعمالهم في الدنيا. {فأمَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ}: آمنوا بقلوبِهِم وصدَّقوا ذلك بالأعمال الصالحة {فهم في روضةٍ}: فيها سائرُ أنواع النبات وأصنافِ المشتَهَياتِ {يُحْبَرونَ}؛ أي: يُسَرَّون، وينعَّمون بالمآكل اللذيذة والأشربة والحور الحسان والخدم والوِلْدان والأصوات المطربات والسماع المشجي والمناظر العجيبة والروائح الطيبة والفرح والسرور واللَّذَّة والحبور، مما لا يقدِرُ أحدٌ أن يصفه. {وأما الذين كفروا}: وجَحَدوا نعمه، وقابلوها بالكفر، {وكذَّبوا بآياتنا}: التي جاءتهم بها رسُلُنا {فأولئكَ في العذاب مُحْضَرونَ}: فيه، قد أحاطتْ بهم جهنَّم من جميع جهاتهم، واطَّلع العذابُ الأليمُ على أفئدتهم، وشوى الحميمُ وجوهَهم، وقطَّع أمعاءَهم؛ فأين الفرق بين الفريقين؟! وأين التساوي بين المنعمين والمعذبين؟!
آية: 17 - 19 #
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)}.
# {17 ـ 18} هذا إخبارٌ عن تنزُّهه عن السوء والنقص وتقدُّسه عن أن يماثِلَه أحدٌ من الخلق، وأمرٌ للعباد أن يسبِّحوه حين يُمسون، وحين يُصبحون، ووقت العشي ووقت الظهيرة؛ فهذه الأوقات الخمسةُ أوقاتُ الصلوات الخمس، أمر الله عبادَه بالتسبيح فيها والحمدِ، ويدخُلُ في ذلك الواجب منه؛ كالمشتملة عليه الصلوات الخمس، والمستحبُّ؛ كأذكار الصباح والمساء وأدبار الصلوات وما يقترنُ بها من النوافل؛ لأنَّ هذه الأوقات التي اختارها الله لأوقات المفروضات هي أفضلُ الأوقات؛ فالتسبيحُ والتحميدُ فيها والعبادة فيها أفضلُ من غيرها، بل العبادةُ وإنْ لم تشتملْ على قول: سبحان الله؛ فإنَّ الإخلاص فيها تنزيهٌ لله بالفعل أنْ يكون له شريكٌ في العبادة، أو أن يستحقَّ أحدٌ من الخلق ما يستحقُّه من الإخلاص والإنابة.
# {19} {يُخْرِجُ الحيَّ من الميِّتِ}: كما يُخرج النباتَ من الأرض الميتة، والسنبلة من الحبة، والشجرة من النواة، والفرخ من البيضة، والمؤمن من الكافر ... ونحو ذلك. {ويخرِجُ الميِّتَ من الحيِّ}: بعكس المذكور، {ويُحيي الأرضَ بعدَ موتِها}: فينزل عليها المطر وهي ميتة هامدةٌ؛ فإذا أنزل عليها الماء؛ اهتزَّتْ، ورَبَتْ، وأنبتَتْ من كلِّ زوج بهيج. {وكذلك تُخْرَجونَ}: من قبورِكم. فهذا دليلٌ قاطعٌ وبرهانٌ ساطعٌ أنَّ الذي أحيا الأرض بعد موتها فإنه يحيي الأموات؛ فلا فرقَ في نظر العقل بين الأمرين، ولا موجب لاستبعاد أحدهما مع مشاهدة الآخر.
آية: 20 - 21 #
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)}.
# {20} هذا شروعٌ في تعداد آياتِهِ الدَّالَّة على انفراده بالإلهيَّة وكمال عظمته ونفوذ مشيئتِهِ وقوَّة اقتدارِهِ وجميل صنعِهِ وسعة رحمتِهِ وإحسانه، فقال: {ومن آياتِهِ أنْ خَلَقَكُم من ترابٍ}: وذلك بخلق أصل النسل آدم عليه السلام، {ثم إذا أنتُم بشرٌ تنتَشِرون}؛ [أي: الذي خلقكم من أصلٍ وَاحدٍ وَمَادَّةٍ وَاحدةٍ]، وبثَّكم في أقطار الأرض وأرجائها. ففي ذلك آيات على أنَّ الذي أنشأكم من هذا الأصل، وبثَّكم في أقطار الأرض هو الربُّ المعبود الملكُ المحمود والرحيمُ الودود، الذي سيعيدُكم بالبعث بعد الموت.
# {21} {ومن آياتِهِ}: الدالَّة على رحمتِهِ وعنايتِهِ بعباده وحكمتِهِ العظيمة وعلمِهِ المحيط، {أنْ خَلَقَ لكم من أنفسِكم أزواجاً}: تناسِبُكم، وتناسبونهنَّ، وتشاكِلُكم، وتشاكلونهن؛ {لِتَسْكُنوا إليها وجعل بينكم مودَّةً ورحمةً}: بما رتَّب على الزواج من الأسباب الجالبة للمودَّة والرحمة، فحصل بالزوجة الاستمتاع واللَّذَّة والمنفعةُ بوجود الأولاد وتربيتهم والسكون إليها؛ فلا تجد بين أحد في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودَّة والرحمة. {إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكَّرونَ}: يُعْمِلون أفكارَهم، ويتدبَّرون آياتِ الله، وينتَقِلون من شيء إلى شيء.
آية: 22 #
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)}.
# {22} والعالمون: هم أهلُ العلم الذين يفهمون العِبَرَ ويتدبَّرون الآيات، والآياتُ في ذلك كثيرة: فمن آياتِ خَلْقِ {السمواتِ والأرضِ}: وما فيهما؛ أنَّ ذلك دالٌّ على عظمة سلطان الله وكمال اقتدارِهِ، الذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة، وكمال حكمتِهِ؛ لما فيها من الإتقان، وسعة علمه؛ لأنَّ الخالق لا بدَّ أن يعلم ما خلقه؛ {ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}، وعموم رحمته وفضله؛ لما في ذلك من المنافع الجليلة، وأنه المريد الذي يختارُ ما يشاءُ؛ لما فيها من التخصيصات والمزايا، وأنَّه وحده الذي يستحقُّ أن يُعبد ويوحَّد؛ لأنه المنفرد بالخلق؛ فيجب أن يُفْرَدَ بالعبادة. فكل هذه أدلَّة عقليَّة نبَّه الله العقول إليها، وأمرها بالتفكُّر واستخراج العبرة منها، {و} كذلك في {اختلاف ألسنتكم وألوانكم}: على كَثْرَتِكُم وتبايُنِكُم مع أنَّ الأصل واحدٌ ومخارج الحروف واحدةٌ، ومع ذلك؛ لا تجدُ صوتين متَّفقين من كل وجه، ولا لونين متشابهين من كلِّ وجه؛ إلاَّ وتجد من الفرق بين ذلك ما به يحصُلُ التمييز. وهذا دالٌّ على كمال قدرتِهِ ونفوذِ مشيئتِهِ وعنايته بعبادِهِ ورحمتِهِ بهم، أنْ قدَّرَ ذلك الاختلاف؛ لئلاَّ يقع التشابه، فيحصل الاضطراب، ويفوت كثير من المقاصد والمطالب.
آية: 23 #
{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)}
# {23} أي: سماع تدبُّر وتعقُّل للمعاني والآيات في ذلك؛ إنَّ ذلك دليلٌ على رحمة الله تعالى؛ كما قال: {ومن رحمتِهِ جَعَلَ لكم الليلَ والنهارَ لِتَسْكُنوا فيه ولِتَبْتَغوا من فضلِهِ ولعلَّكم تشكرونَ}، وعلى تمام حكمتِهِ؛ إذْ حكمتُه اقتضتْ سكون الخلق في وقت ليستريحوا [به] ويجموا، وانتشارهم في وقت لمصالحهم الدينيَّة والدنيويَّة، ولا يتمُّ ذلك إلا بتعاقُب الليل والنهار عليهم، والمنفردُ بذلك هو المستحق للعبادة.
آية: 24 #
{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)}.
# {24} أي: ومن آياتِهِ أن يُنَزِّلَ عليكم المطر الذي تحيا به البلادُ والعباد، ويريكم قبلَ نزوله مقدِّماتِهِ من الرعد والبرق الذي يُخاف ويُطمع فيه. {إنَّ في ذلك لآياتٍ}: دالَّة على عموم إحسانِهِ وسَعةِ علمِهِ وكمال إتْقانِهِ وعظيم حكمتِهِ، وأنَّه يُحيي الموتى، كما أحيا الأرض بعد موتها، {لقوم يعقلونَ}؛ أي: لهم عقولٌ تعقِلُ بها ما تسمعُه وتراه وتحفظُه، وتستدلُّ به على ما جعل دليلاً عليه.
آية: 25 - 27 #
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}.
# {25} أي: ومن آياته العظيمة أنْ قامت السماواتُ والأرضُ واستقرَّتا وثبتتا لأمرِهِ، فلم يتزلزلا، ولم تسقطِ السماءُ على الأرض؛ فقدرتُه العظيمةُ التي بها أمسك السماواتِ والأرضَ أن تزولا؛ يقدِرُ بها على أنَّه إذا دعا الخلق دعوةً من الأرض؛ إذا هم يَخْرُجونَ. {لَخَلْقُ السمواتِ والأرض أكبرُ من خَلْق الناس}.
# {26} {وله مَن في السمواتِ والأرض}: الكلُّ خلقُه ومماليكه والمتصرِّف فيهم من غير منازعٍ ولا معاونٍ ولا معارضٍ، وكلُّهم قانتون لجلالِهِ، خاضعون لكماله.
# {27} {وهو الذي يبدأ الخَلْقَ ثم يعيدُه وهو}؛ أي: إعادةُ الخلق بعد موتهم، {أهونُ عليه}: من ابتداء خَلْقِهم، وهذا بالنسبة إلى الأذهان والعقول؛ فإذا كان قادراً على الابتداء الذي تقرُّون به؛ كان قدرتُه على الإعادة التي هي أهون أولى وأولى. ولمَّا ذكر من الآيات العظيمةِ ما به يعتبر المعتبرونَ، ويتذكَّر المؤمنون، ويستبصِرُ المهتدون؛ ذكر الأمر العظيم والمطلب الكبير، فقال: {وله المَثَلُ الأعلى في السمواتِ والأرضِ}: وهو كلُّ صفةِ كمال، والكمال من تلك الصفة، والمحبة والإنابة التامة الكاملة في قلوب عباده المخلصين والذكر الجليل والعبادة منهم؛ فالمَثَلُ الأعلى هو وصفُه الأعلى وما ترتَّب عليه، ولهذا كان أهلُ العلم يستعمِلون في حقِّ الباري قياس الأولى، فيقولون: كلُّ صفة كمال في المخلوقاتِ؛ فخالِقُها أحق بالاتِّصاف بها على وجه لا يشارِكُه فيها أحدٌ، وكلُّ نقص في المخلوق يُنَزَّهُ عنه؛ فتنزيهُ الخالق عنه من باب أولى وأحرى. {وهو العزيزُ الحكيمُ}؛ أي: له العزَّة الكاملة والحكمة الواسعة، فعزَّتُه أوجدَ بها المخلوقاتِ وأظهرَ المأموراتِ، وحكمتُه أتقنَ بها ما صَنَعَه وأحسنَ فيها ما شَرَعَه.
آية: 28 - 29 #
{ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}.
# {28} هذا مثلٌ ضربَه الله لِقُبح الشرك وتهجينه، مثلاً من أنفسكم لا يحتاجُ إلى حلٍّ وترحال وإعمال الجِمال. {هل لكم ممَّا ملكتْ أيمانُكم من شُرَكاء فيما رَزَقْناكم}؛ أي: هل أحدٌ من عبيدكم وإمائِكم الأرقاءِ يشارِكُكم في رزقكم، وتَرَوْنَ أنَّكم وهم فيه على حدٍّ سواء. {تخافونَهم كخيفَتِكم أنفسَكُم}؛ أي: كالأحرار الشركاء في الحقيقة، الذين يُخاف من قسمه واختصاص كل شيء بحاله؟! ليس الأمر كذلك؛ فإنَّه ليس أحدٌ مما ملكت أيمانُكم شريكاً لكم فيما رَزَقَكم الله تعالى، هذا؛ ولستُم الذين خَلَقْتُموهم ورزَقْتُموهم، وهم أيضاً مماليكُ مثلُكم؛ فكيفَ تَرْضَوْنَ أن تجعلوا لله شريكاً من خلقه، وتجعلونَه بمنزلتِهِ وعديلاً له في العبادة، وأنتُم لا تَرْضَوْنَ مساواة مماليككم لكم؟! هذا من أعجب الأشياء، ومن أدلِّ شيءٍ على سَفَهِ من اتَّخذ شريكاً مع الله، وأنَّ ما اتَّخذه باطل مضمحلٌّ، ليس مساوياً لله ولا له من العبادة شيء. {كذلك نفصِّلُ الآيات}: بتوضيحها بأمثلتها {لقوم يَعْقِلونَ}: الحقائقَ ويعرِفون. وأمَّا مَنْ لا يعقِلُ؛ فلو فُصلت له الآياتُ وبينتْ له البيِّناتُ؛ لم يكن له عقلٌ يبصِرُ به ما تبيَّن، ولا لبٌّ يعقِل به ما توضَّح؛ فأهلُ العقول والألباب هم الذين يُساق إليهم الكلام، ويوجَّه الخطاب.
# {29} وإذا عُلِمَ من هذا المثال أنَّ من اتَّخذ من دون الله شريكاً يعبُدُه ويتوكَّل عليه في أموره؛ فإنه ليس معه من الحقِّ شيءٌ؛ فما الذي أوجبَ لهم الإقدامَ على أمرٍ باطل توضَّح بطلانُه وظهر برهانُه؟ أوجب لهم ذلك اتِّباع الهوى، فلهذا قال: {بل اتَّبَعَ الذين ظَلَموا أهواءَهم بغيرِ علم}: هويت أنفسُهم الناقصةُ التي ظهر من نقصها ما تعلَّق به هواها أمراً يجزِمُ العقل بفسادِهِ والفِطَرُ بردِّه بغير علم دلَّهم عليه ولا برهان قادَهُم إليه، {فمن يهدي مَن أضلَّ الله}؛ أي: لا تعجبوا من عدم هدايتهم؛ فإنَّ الله تعالى أضلَّهم بظلمهم، ولا طريقَ لهداية من أضلَّ الله؛ لأنَّه ليس أحدٌ معارضاً لله أو منازعاً له في ملكه، {ومالهم من ناصِرينَ}: ينصُرونَهم حين تحقُّ عليهم كلمةُ العذاب، وتنقطِعُ بهم الوصل والأسباب.
آية: 30 - 32 #
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}.
# {30} يأمرُ تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال وإقامةِ دينِهِ، فقال: {فأقم وجهَكَ}؛ أي: انصبْه ووجِّهْه {للدين}: الذي هو الإسلامُ والإيمانُ والإحسان، بأن تتوجَّه بقلبك وقصدِك وبَدَنِكَ إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها، وشرائعه الباطنة كالمحبَّة والخوف والرجاء والإنابة، والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة؛ بأن تعبدَ الله فيها كأنَّك تراه؛ فإنْ لم تكنْ تراه؛ فإنَّه يراك. وخص الله إقامة الوجه؛ لأنَّ إقبال الوجه تَبَعٌ لإقبال القلب، ويترتَّب على الأمرين سعيُ البدن، ولهذا قال: {حَنيفاً}؛ أي: مقبلاً على الله في ذلك معرضاً عمَّا سواه، وهذا الأمر الذي أمرناك به هو {فطرةَ الله التي فَطَرَ الناس عليها}: ووضع في عقولهم حُسْنَها واستقباحَ غيرها؛ فإنَّ جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة قد وَضَعَ اللهُ في قلوب الخلق كلِّهم الميلَ إليها، فوضع في قلوبهم محبَّة الحقِّ وإيثار الحقِّ، وهذا حقيقة الفطرة. ومَنْ خَرَجَ عن هذا الأصل؛ فلعارض عرض لفطرته أفسدها؛ كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ؛ فأبواه يهوِّدانِهِ أو ينصِّرانِهِ أو يمجِّسانِهِ». {لا تبديلَ لِخَلْقِ اللهِ}؛ أي: لا أحد يبدِّلُ خلق الله فيجعلُ المخلوقَ على غير الوضع الذي وَضَعَهُ الله. {ذلك}: الذي أمَرْناك به {الدِّينُ القيِّمُ}؛ أي: الطريق المستقيم الموصل إلى الله وإلى كرامتِهِ؛ فإنَّ مَن أقام وجهه للدين حنيفًا؛ فإنَّه سالك الصراط المستقيم في جميع شرائعِهِ وطرقِهِ، {ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون}: فلا يتعرَّفون الدِّين القيِّم، وإنْ عرفوه؛ لم يَسْلُكوه.
# {31} {منيبينَ إليه واتَّقوه}: وهذا تفسيرٌ لإقامة الوجه للدين؛ فإنَّ الإنابةَ إنابةُ القلب وانجذابُ دواعيه لمراضي الله تعالى، ويلزم من ذلك عملُ البدن بمقتضى ما في القلب، فشمل ذلك العبادات الظاهرة والباطنة، ولا يتمُّ ذلك إلا بترك المعاصي الظاهرة والباطنة؛ فلذلك قال: {واتَّقوه}؛ فهذا يشملُ فعلَ المأمورات وتركَ المنهيات، وخصَّ من المأمورات الصلاةَ لكونها تدعو إلى الإنابة والتقوى لقوله تعالى: {وأقم الصلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عن الفحشاءِ والمنكرِ}: فهذا إعانتها على التقوى، ثم قال: {وَلَذِكْرُ الله أكبرُ}: فهذا حثُّها على الإنابةِ. وخصَّ من المنهيَّات أصلَها، والذي لا يُقبل معه عملٌ، وهو الشركُ، فقال: {ولا تكونوا من المشركين}: لكونِ الشرك مضادًّا للإنابة التي رُوحها الإخلاصُ من كلِّ وجه.
# {32} ثم ذَكَرَ حالة المشركين مهجِّناً لها ومقبِّحاً، فقال: {من الذين فَرَّقوا دينَهم}: مع أنَّ الدين واحدٌ، وهو إخلاصُ العبادة لله وحدَه، وهؤلاء المشركون فرَّقوه: منهم من يعبدُ الأوثان والأصنام، ومنهم من يعبدُ الشمس والقمر، ومنهم من يعبدُ الأولياء والصالحين، ومنهم يهودٌ، ومنهم نصارى، ولهذا قال: {وكانوا شِيَعاً}؛ أي: كلُّ فرقةٍ من فرق الشرك تاهتْ وتعصَّبتْ على نصرِ ما معها من الباطل ومنابذةِ غيرِهِم ومحاربتِهم. {كلُّ حزبٍ بما لديهم}: من العلوم المخالفة لعلوم الرسل {فرِحونَ}: به يحكُمون لأنفسِهم بأنَّه الحقُّ وأنَّ غيرهم على باطل. وفي هذا تحذيرٌ للمسلمين من تشتُّتهم وتفرُّقهم فرقاً، كلُّ فريق يتعصَّبُ لما معه من حقٍّ وباطلٍ، فيكونون مشابهين بذلك للمشركين في التفرُّق، بل الدين واحدٌ، والرسول واحدٌ، والإله واحدٌ، وأكثر الأمور الدينيَّة وقع فيها الإجماع بين العلماء والأئمَّة، والأخوَّة الإيمانيَّة قد عقدها الله وربَطَها أتمَّ ربط؛ فما بالُ ذلك كلِّه يُلغى ويُبنى التفرُّقُ والشقاقُ بين المسلمين على مسائل خفيَّةٍ أو فروع خلافيَّةٍ يضلِّلُ بها بعضُهم بعضاً ويتميَّز بها بعضُهم عن بعضٍ؟! فهل هذا إلاَّ من أكبر نزغات الشيطانِ وأعظم مقاصدِهِ التي كاد بها المسلمين؟! وهل السعي في جمع كلمتهم وإزالةِ ما بينَهم من الشقاق المبنيِّ على ذلك الأصل الباطل إلاَّ من أفضل الجهادِ في سبيل الله وأفضلِ الأعمال المقرِّبة إلى الله؟! ولما أمر تعالى بالإنابة إليه، وكان المأمور بها هي الإنابة الاختيارية، التي تكون في حالِ العسر واليسر والسَّعة والضيق؛ ذكر الإنابة الاضطراريَّة التي لا تكون مع الإنسان إلاَّ عند ضيقِهِ وكربِهِ؛ فإذا زال عنه الضيق؛ نَبَذَها وراء ظهرِهِ، وهذه غيرُ نافعةٍ، فقال:
آية: 33 - 35 #
{وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)}.
# {33 ـ 34} {وإذا مَسَّ الناسَ ضُرٌّ}: مرضٌ أو خوفٌ من هلاك ونحوه، {دَعَوْا ربَّهم منيبين إليه}: ونسوا ما كانوا به يشرِكون في تلك الحال؛ لعلمِهم أنَّه لا يكشفُ الضُّرَّ إلاَّ الله، فَـ {إذَا أذاقَهُم منه رحمةً}: شفاهم من مرضهم وآمَنَهم من خوفهم، {إذا فريقٌ منهم}: ينقُضون تلك الإنابةَ التي صدرت منهم، ويشرِكون به مَنْ لا دَفَعَ عنهم ولا أغنى ولا أفقر ولا أغنى، وكلُّ هذا كفرٌ بما آتاهم اللَّه ومنَّ به عليهم حيثُ أنجاهم وأنقَذَهم من الشدَّة وأزال عنهم المشقَّة؛ فهلاَّ قابلوا هذه النعمة الجليلة بالشُّكر والدوام على الإخلاص له في جميع الأحوال؟!
# {35} {أم أنزَلْنا عليهم سلطاناً}؛ أي: حجَّة ظاهرةً، {فهو}؛ أي: ذلك السلطان {يتكلَّمُ بما كانوا به يشرِكون}: ويقول لهم: اثْبُتوا على شِرْكِكُم واستمرُّوا على شكِّكُم؛ فإنَّ ما أنتم عليه هو الحقُّ، وما دعتكم الرسلُ إليه باطل؛ فهل ذلك السلطان موجودٌ عندهم حتى يوجِبَ لهم شدَّة التمسُّك بالشرك؟ أم البراهين العقليَّة والسمعيَّة والكتب السماويَّة والرسل الكرام وسادات الأنام قد نَهَوْا أشدَّ النهي عن ذلك، وحذَّروا من سلوك طرقه الموصلة إليه، وحكموا بفساد عقل ودين من ارتكبه؟! فشركُ هؤلاء بغير حجَّة ولا برهانٍ، وإنَّما هو أهواء النُّفوس ونَزَغات الشيطانِ.
آية: 36 - 37 #
{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)}.
# {36 ـ 37} يخبر تعالى عن طبيعة أكثر الناس في حال الرخاء والشدَّة أنَّهم إذا أذاقهم الله منه رحمةً من صحَّةٍ وغنى ونصرٍ ونحو ذلك؛ فرحوا بذلك فرحَ بَطَرٍ لا فرح شُكْرٍ وتبجُّح بنعمة الله. {وإنْ تُصِبْهم سيئةٌ}؛ أي: حالٌ تسوؤهم، وذلك {بما قدَّمت أيديهم}: من المعاصي، {إذا هم يَقْنَطون}: ييأسون من زوال ذلك الفقر والمرض ونحوه، وهذا جهلٌ منهم وعدم معرفة. {أوَلَمْ يرَوْا أنَّ الله يبسطُ الرزقَ لمن يشاء وَيَقْدِرُ}: فالقنوط بعدما علم أن الخير والشرَّ من الله والرزق سعته وضيقه من تقديره ضائعٌ ليس له محلٌّ؛ فلا تنظر أيُّها العاقل لمجرَّد الأسباب، بل اجعلْ نَظَرَكَ لمسبِّبها، ولهذا قال: {إنَّ في ذلك لآياتٍ لقوم يؤمنون}: فهم الذين يعتبِرونَ ببسطِ الله لِمَنْ يشاءُ وقَبْضِهِ، ويعرفون بذلك حكمة الله ورحْمته وجوده وجذب القلوب لسؤالِهِ في جميع مطالب الرزق.
آية: 38 - 39 #
{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)}.
# {38} أي: فأعطِ القريب منك ـ على حسب قربِهِ وحاجتِهِ ـ حقَّه الذي أوجبه الشارع أو حضَّ عليه من النفقةِ الواجبة والصدقةِ والهديَّة والبرِّ والسلام والإكرام والعفوِ عن زلَّته والمسامحة عن هفوتِهِ، وكذلك آتِ المسكين الذي أسْكَنَهُ الفقرُ والحاجةُ ما تُزيل به حاجَتَه وتدفعُ به ضرورتَه من إطعامه وسقيه وكسوتِهِ. {وابنَ السبيل}: الغريب المنقطع به في غير بلدِهِ، الذي في مظنَّة شدَّة الحاجة، وأنَّه لا مال معه ولا كسب قد دَبّر نفسَه به في سفره؛ بخلاف الذي في بلده؛ فإنَّه وإن لم يكن له مالٌ، لكن لا بدَّ في الغالب أن يكونَ في حرفةٍ أو صناعةٍ ونحوها تسدُّ حاجته، ولهذا جعل الله في الزَّكاة حصةً للمسكين وابن السبيل. {ذلك}؛ أي: إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل: {خيرٌ للذين يريدون}: بذلك العمل {وَجْهَ الله}؛ أي: خير غزيرٌ وثوابٌ كثيرٌ؛ لأنَّه من أفضل الأعمال الصالحة، والنفعُ المتعدِّي الذي وافق محلَّه المَقْرونُ به الإخلاص؛ فإن لم يُرَدْ به وجهُ الله؛ لم يكن خيراً للمعطي، وإن كان خيراً ونفعاً للمعطى؛ كما قال تعالى: {لا خيرَ في كثير مِن نَجْواهم إلاَّ مَنْ أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاح بينَ الناس}: مفهومُها أنَّ هذه المستثنيات خيرٌ؛ لنفعها المتعدِّي، ولكن مَنْ يفعلُ ذلك ابتغاء مرضاة الله؛ فسوف نؤتيه أجراً عظيماً، وقوله: {وأولئك}: الذين عملوا هذه الأعمالَ وغيرَها لوجه الله، {هم المفلحون}: الفائزونَ بثواب الله الناجون من عقابه.
# {39} ولمَّا ذكر العمل الذي يُقْصَدُ به وجهُه من النفقات؛ ذكر العمل الذي يُقْصَدُ به مَقْصِدٌ دنيويٌّ، فقال: {وما آتيتُم من ربا لِيَرْبُوا في أموال الناس}؛ أي: ما أعطيتم من أموالكم الزائدة عن حوائجكم، وقصدُكم بذلك أن يَرْبُوَ؛ أي: يزيد في أموالكم؛ بأن تُعطوها لمن تطمعون أن يعاوِضكم عنها بأكثر منها؛ فهذا العمل لا يربو أجرُهُ عند الله؛ لكونه معدومُ الشرط الذي هو الإخلاص. ومثل ذلك العملُ الذي يُراد به الزيادة في الجاه والرياء عند الناس؛ فهذا كلُّه لا يربو عند الله. {وما آتيتُم من زكاةٍ}؛ أي: مال يطهِّرِكم من الأخلاق الرَّذيلة، ويطهِّر أموالكم من البُخل بها، ويزيدُ في دفع حاجة المعطى؛ {تريدونَ}: بذلك {وجهَ الله فأولئك هم المُضْعِفونَ}؛ أي: المضاعَف لهم الأجر، الذين تربو نفقاتُهم عند الله، ويُربيها اللهُ لهم، حتى تكونَ شيئاً كثيراً، ودلَّ قولُه: {وما آتَيْتُم من زكاةٍ}: أنَّ الصدقة مع اضطرارِ من يَتَعَلَّق بالمنفق أو مع دَيْنٍ عليه لم يَقْضِهِ ويقدِّمُ عليه الصدقَة؛ أنَّ ذلك ليس بزكاةٍ يؤجَر عليه العبد، ويُرَدُّ تصرُّفُه شرعاً؛ كما قال تعالى في الذي يُمْدَحُ: {الذي يؤتي ماله يتزكَّى}؛ فليس مجردُ إيتاءِ المال خيراً، حتى يكون بهذه الصفة، وهو أن يكونَ على وجهٍ يَتَزَكَّى به المؤتي.
آية: 40 #
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)}.
# {40} يخبر تعالى أنَّه وحده المنفرد بخلقكم ورزقكم وإماتتكم وإحيائكم، وأنه ليس أحدٌ من الشركاء التي يدعوها المشركون مَنْ يشارِكُ الله في شيءٍ من هذه الأشياء؛ فكيف يشرِكون بِمَنِ انفردَ بهذه الأمور من ليس له تصرُّفٌ فيها بوجهٍ من الوجوه؟ فسبحانَه وتعالى، وتقدَّس، وتنزَّه، وعلا عن شِرْكِهِم؛ فلا يضرُّه ذلك، وإنَّما وبالُه عليهم.
آية: 41 #
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}
# {41} أي: استعلن {الفسادُ في البرِّ والبحرِ}؛ أي: فساد معايشهم ونقصها وحلول الآفات بها وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك، وذلك بسبب ما قدَّمَتْ أيديهم من الأعمال الفاسدةِ المفسدةِ بطبعها. هذه المذكورة، {لِيُذيقَهم بعضَ الذي عملوا}؛ أي: ليعلموا أنَّه المجازي على الأعمال، فعجَّل لهم نموذجاً من جزاء أعمالهم في الدنيا؛ {لعلَّهم يرجِعونَ}: عن أعمالهم التي أثَّرت لهم من الفساد ما أثَّرت، فتَصْلُحُ أحوالُهم، ويستقيمُ أمرُهم؛ فسبحان من أنعم ببلائِهِ، وتفضَّلَ بعقوبتِهِ، وإلاَّ؛ فلو أذاقهم جميعَ ما كسبوا؛ ما ترك على ظهرِها من دابَّةٍ.
آية: 42 #
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)}
# {42} والأمر بالسير في الأرض يدخُلُ فيه السير بالأبدان والسيرُ في القلوب للنظر والتأمُّل بعواقب المتقدِّمين، {كان أكثرُهُم مشركينَ}: تجِدون عاقِبَتَهم شرَّ العواقب، ومآلهم شرَّ مآلٍ: عذابٌ استأصلهم، وذمٌّ، ولعنٌ من خَلْق الله يتبعهم، وخزيٌ متواصلٌ؛ فاحذروا أن تفعلوا أفعالهم؛ يُحذى بكم حَذْوَهم؛ فإنَّ عدل الله وحكمته في كل زمان ومكان.
آية: 43 - 45 #
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)}
# {43} أي: أقبل بقلبك وتوجَّه بوجهِك، واسْعَ ببدنِك لإقامة الدين القيِّم المستقيم، فنفِّذْ أوامره ونواهيه بجدٍّ واجتهاد، وقمْ بوظائفِهِ الظاهرة والباطنة، وبادِرْ زمانك وحياتك وشبابك، {من قبلِ أن يأتيَ يومٌ لا مردَّ له من الله}: وهو يوم القيامةِ، الذي إذا جاء؛ لا يمكنُ ردُّه، ولا يُرجأ العاملون ليستأنفوا العمل، بل فُرِغَ من الأعمال، ولم يبقَ إلاَّ جزاءُ العمال. {يومئذٍ يَصَّدَّعون}؛ أي: يتفرَّقون عن ذلك اليوم، ويصدُرون أشتاتاً متفاوتين؛ لِيُرَوْا أعمالهم.
# {44 ـ 45} فَـ {مَنْ كفر}: منهم، {فعليه كفرُهُ}: ويعاقَب هو بنفسِهِ، لا تزِرُ وازرةٌ وزرَ أخرى، {ومن عَمِلَ صالحاً}: من الحقوق التي لله والتي للعباد الواجبة والمستحبَّة {فلأنفسِهِم}: لا لغيرهم؛ {يَمْهَدونَ}؛ أي: يهيِّئون، ولأنفسهم يعمرون آخرتهم، ويستعدُّون للفوز بمنازلها وغرفاتها، ومع ذلك جزاؤهم ليس مقصوراً على أعمالهم، بل يجزيهم الله من فضلِهِ الممدود وكرمِهِ غير المحدود ما لا تبلغُهُ أعمالُهم، وذلك لأنَّه أحبَّهم، وإذا أحبَّ الله عبداً؛ صبَّ عليه الإحسان صبًّا، وأجزل له العطايا الفاخرةَ، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وهذا بخلاف الكافرين؛ فإنَّ الله لمَّا أبغضَهم ومقَتَهم؛ عاقَبَهم وعذَّبهم، ولم يَزِدْهم كما زاد من قبلهم؛ فلهذا قال: {إنَّه لا يحبُّ الكافرين}.
آية: 46 #
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)}
# {46} أي: ومن الأدلَّة الدالَّة على رحمته وبعثِهِ الموتى وأنَّه الإله المعبود والملك المحمود، أن أرسل {الرياحَ}: أمام المطر {مبشراتٍ}: بإثارتها للسحاب ثم جمعِها، فتبشر بذلك النفوس قبل نزوله، {ولِيذيقَكم من رحمتِهِ}: فَيُنْزِلَ عليكم مطراً تحيا به البلادُ والعبادُ وتذوقون من رحمتِهِ ما تعرِفون أنَّ رحمته هي المنقذة للعباد الجالبة لأرزاقهم، فتشتاقون إلى الإكثار من الأعمال الصالحة الفاتحة لخزائن الرحمة، {ولِتَجْرِيَ الفلكُ}: في البحر {بأمرِهِ}: القدريِّ، {ولِتَبْتَغوا من فضلِهِ}: بالتصرُّفِ في معايشكم ومصالحكم. {ولعلَّكُم تشكُرونَ}: مَنْ سخَّر لكم الأسباب، ويَسَّرَ لكم الأمور؛ فهذا المقصود من النعم أنْ تقابَلَ بشكر الله تعالى؛ ليزيدَكم الله منها، ويبقيَها عليكم، وأمَّا مقابلة النعم بالكفرِ والمعاصي؛ فهذه حالُ من بدَّل نعمة الله كفراً، ونعمته محنةً، وهو معرَّضٌ لها للزوال والانتقال منه إلى غيره.
آية: 47 #
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)}.
# {47} أي: {ولقد أرْسَلْنا من قبلِكَ}: في الأمم السالفين {رسلاً إلى قومهم}: حين جَحَدوا توحيدَ الله وكذَّبوا بالحقِّ، فجاءتهم رسلُهم يدعونَهم إلى التوحيد والإخلاص والتصديق بالحقِّ وبطلان ما هم عليه من الكفر والضَّلال، وجاؤوهم بالبينات والأدلَّة على ذلك، فلم يؤمِنوا ولم يزولوا عن غيهم، {فانتَقَمْنا من الذين أجْرَموا}: ونصرنا المؤمنينَ أتباع الرسل، {وكان حقًّا علينا نصرُ المؤمنين}؛ أي: أوجَبْنا ذلك على أنفسنا، وجعلْناه من جملةِ الحقوقِ المتعيِّنة، ووعدناهم به؛ فلا بدَّ من وقوعِهِ، فأنتُم أيُّها المكذِّبون لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إنْ بقيتُم على تكذيبكم؛ حلَّتْ بكم العقوبةُ، ونصرناه عليكم.
آية: 48 - 50 #
{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)}.
# {48 ـ 49} يخبر تعالى عن كمال قدرته وتمام نعمته أنَّه {يرسلُ الرياح فتثير سحاباً}: من الأرض، {فيَبْسُطُه في السماء}؛ أي: يمدُّه ويوسِّعه {كيف يشاءُ}؛ أي: على أيِّ حالة أرادها من ذلك، {ثم يجعلُه}؛ أي: ذلك السحاب الواسع {كِسَفاً}؛ أي: سحاباً ثخيناً قد طبَّق بعضَه فوق بعض. {فترى الوَدْقَ يخرُجُ من خلالِهِ}؛ أي: السحاب؛ نقطاً صغاراً متفرِّقة، لا تنزل جميعاً فتُفْسِدُ ما أتت عليه، {فإذا أصابَ}؛ أي: بذلك المطر مَنْ {يشاءُ من عبادِهِ إذا هم يستبشرون}: يبشِّر بعضهم بعضاً بنزوله، وذلك لشدَّة حاجتهم وضرورتهم إليه؛ فلهذا قال: {وإن كانوا مِن قبلِ أن يُنَزَّلَ عليهم من قبلِهِ لَمُبْلِسينَ}؛ أي: آيِسين قانطين لتأخُّر وقت مجيئه؛ أي: فلما نزل في تلك الحال؛ صار له موقعٌ عظيم عندهم وفرحٌ واستبشارٌ.
# {50} {فانظر إلى آثارِ رحمةِ الله كيف يُحيي الأرضَ بعد موتها}: فاهتزَّتْ ورَبَتْ وأنبتتْ من كلِّ زوج كريم. {إنَّ ذلك}: الذي أحيا الأرض بعد موتها {لَمُحْيي الموتى وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ}: فقدرتُه تعالى لا يتعاصى عليها شيءٌ، وإن تعاصى على قَدْرِ خَلْقِهِ، ودقَّ عن أفهامهم، وحارت فيه عقولهم.
آية: 51 - 53 #
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)}
# {51} يخبر تعالى عن حالة الخَلْق وأنَّهم مع هذه النعم عليهم بإحياء الأرض بعد موتها ونشرِ رحمةِ الله تعالى: لو أرسَلْنا على هذا النبات الناشئ عن المطرِ وعلى زُروعهم ريحاً مضرَّةً متلفةً أو منقصةً، {فرأوْهُ مُصفرًّا}: قد تداعى إلى التلف، {لَظَلُّوا من بعدِهِ يكفُرون}: فينسَوْن النعم الماضية، ويبادِرون إلى الكفر! وهؤلاء لا ينفع فيهم وعظٌ ولا زجرٌ.
# {52} {فإنَّك لا تُسْمِعُ الموتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاء}: وبالأولى: {إذا وَلَّوْا مُدْبِرينَ}: فإنَّ الموانع قد توفَّرت فيهم عن الانقياد والسماع النافع كتوفُّر هذه الموانع المذكورة عن سماع الصوتِ الحسيِّ.
# {53} {وما أنت بهادِ العُمْيِ عن ضلالَتِهِم}: لأنَّهم لا يقبلون الإبصارَ بسبب عَماهم؛ فليس فيهم قابليَّةٌ له. {إن تُسْمِعُ إلاَّ مَن يؤمنُ بآياتنا فهم مسلمونَ}: فهؤلاء الذين ينفعُ فيهم إسماعُ الهدى، المؤمنون بآياتنا بقلوبهم، المنقادون لأوامرنا، المسلمون لنا؛ لأنَّ معهم الداعي القويَّ لقَبول النصائح والمواعظ، وهو استعدادُهم للإيمان بكلِّ آيةٍ من آيات الله، واستعدادُهم لتنفيذ ما يقدِرون عليه من أوامرِ الله ونواهيه.
آية: 54 #
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)}
# {54} يخبر تعالى عن سعةِ علمِهِ وعظيم اقتدارِهِ وكمال حكمتِهِ؛ أنَّه ابتدأ خَلْقَ الآدميين من ضَعْفٍ، وهو الأطوارُ الأولى من خلقِهِ من نطفةٍ إلى علقةٍ إلى مضغةٍ إلى أنْ صار حيواناً في الأرحام إلى أن وُلِدَ وهو في سنِّ الطُّفولية، وهو إذْ ذاك في غاية الضعفِ وعدم القوَّة والقدرة، ثمَّ ما زال الله يزيدُ في قوَّته شيئاً فشيئاً، حتى بلغ سنَّ الشبابَ، واستوتْ قوَّتُه، وكملتْ قواه الظاهرةُ والباطنةُ، ثم انتقل من هذا الطورِ ورجع إلى الضعف والشيبةِ والهرم. {يَخْلُقُ ما يشاءُ}: بحسب حكمتِهِ، ومن حكمتِهِ أن يُريَ العبدَ ضعفَه، وأنَّ قوَّتَه محفوفةٌ بضعفين، وأنَّه ليس له من نفسه إلا النقصُ، ولولا تقويةُ الله له؛ لما وصل إلى قوَّة وقدرة، ولو استمرَّتْ قوتُه في الزيادة؛ لطغى وبغى وعتا، وليعلم العبادُ كمالَ قدرةِ الله، التي لا تزال مستمرَّةً؛ يخلق بها الأشياء، ويدبِّر بها الأمورَ، ولا يلحقُها إعياءٌ ولا ضعفٌ ولا نقصٌ بوجه من الوجوه.
آية: 55 - 57 #
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}
# {55} يخبر تعالى عن يوم القيامةِ وسرعةِ مجيئه، وأنَّه إذا قامت الساعةُ؛ أقسم {المجرمونَ}: بالله أنهم {ما لَبِثوا}: في الدُّنيا {إلاَّ ساعةً}، وذلك اعتذارٌ منهم؛ لعلَّه ينفعُهم العذر، واستقصارٌ لمدَّة الدنيا. ولمَّا كان قولُهم كذباً لا حقيقةَ له؛ قال تعالى: {كذلك كانوا يُؤْفَكون}؛ أي: ما زالوا وهم في الدنيا يؤفَكون عن الحقائق ويأتَفِكون الكذبَ؛ ففي الدُّنيا كذَّبوا الحقَّ الذي جاءت به المرسلون، وفي الآخرة أنكَروا الأمرَ المحسوس، وهو اللبثُ الطويلُ في الدنيا؛ فهذا خُلُقهم القبيح، والعبدُ يُبْعَثُ على ما مات عليه.
# {56} {وقال الذين أوتوا العلم والإيمانَ}؛ أي: منَّ اللهُ عليهم بهما، وصارا وصفاً لهم، العلم بالحق والإيمان المستلزمُ إيثار الحقِّ، وإذا كانوا عالمينَ بالحقِّ، مؤثرين له؛ لزمَ أن يكونَ قولُهم مطابقاً للواقع مناسباً لأحوالهم؛ فلهذا قالوا الحقَّ: {لقدْ لَبِثْتُم في كتاب الله}؛ أي: في قضائِهِ وقدرِهِ الذي كتبه الله عليكم وفي حكمه {إلى يوم البعثِ}؛ أي: عُمرتم عمراً يتذكَّر فيه المتذكِّر، ويتدبَّر فيه المتدبِّر ويعتبر فيه المعتبر، حتى صار البعثُ، ووصلتُم إلى هذه الحال. {فهذا يوم البعثِ ولكنَّكم كنتُم لا تعلمون}: فلذلك أنكرتُموه في الدُّنيا، وأنكرتُم إقامتكم في الدُّنيا وقتاً تتمكَّنون فيه من الإنابةِ والتوبةِ، فلم يزل الجهلُ شعاركم، وآثاره من التكذيبِ والخسارِ دِثاركم.
# {57} {فيومئذٍ لا ينفعُ الذين ظَلَموا معذِرَتُهم}: فإن كذَّبوا، وزعموا أنَّهم ما قامت عليهم الحجَّة، أو ما تمكَّنوا من الإيمان؛ ظهر كَذِبُهم بشهادة أهل العلم والإيمان وشهادة جلودِهِم وأيديهم وأرجلهم، وإنْ طلبوا الإعذارَ، وأنَّهم يردُّون، ولا يعودون لِما نُهوا عنه؛ لم يمكَّنوا؛ فإنَّه فات وقتُ الإعذار، فلا تُقبل معذرتُهم. {ولا هم يُسْتَعْتَبونَ}؛ أي: يُزَالُ عتبُهم والعتابُ عنهم.
آية: 58 - 60 #
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)}
# {58 ـ 59} أي: {ولقد ضَرَبْنا}: لأجل عنايتنا ورحْمَتِنا ولطفنا وحسنِ تعليمنا {للناس في هذا القرآنِ من كلِّ مثلٍ}: تتَّضِح به الحقائقُ وتُعرف به الأمور وتنقطعُ به الحجَّةُ، وهذا عامٌّ في الأمثال التي يضرِبُها الله في تقريب الأمور المعقولة بالمحسوسة، وفي الإخبار بما سيكون وجلاءِ حقيقتِهِ حتى كأنَّه وَقَعَ، ومنه في هذا الموضع ذكرُ الله تعالى ما يكون يوم القيامةِ، وحالةَ المجرمين فيه، وشدَّةَ أسَفِهم، وأنَّه لا يقبلُ منهم عذرٌ ولا عتابٌ، ولكن أبى الظالمون الكافرون إلاَّ معاندة الحقِّ الواضح، ولهذا قال: {ولئن جِئْتَهم بآيةٍ}؛ أي: أيَّ آية تدلُّ على صحة ما جئتَ به، {لَيقولَنَّ الذين كَفَروا إنْ أنتُم إلاَّ مبطلونَ}؛ أي: قالوا للحقِّ: إنَّه باطل! وهذا من كفرهم وجراءتهم وطَبْعِ الله على قلوبهم وجَهْلهم المفرطِ، ولهذا قال: {كذلك يَطْبَعُ الله على قلوبِ الذين لا يعلمونَ}: فلا يَدْخُلُها خيرٌ، ولا تدركُ الأشياءَ على حقيقتها، بل ترى الحقَّ باطلاً والباطل حقًّا.
# {60} {فاصبرْ}: على ما أمرتَ به وعلى دعوتِهِم إلى اللَّه ولو رأيتَ منهم إعراضاً؛ فلا يصدَّنَّك ذلك. {إنَّ وعدَ الله حقٌّ}؛ أي: لا شكَّ فيه، وهذا مما يُعين على الصبر؛ فإنَّ العبد إذا علم أنَّ عمله غير ضائع، بل سيجدُه كاملاً؛ هانَ عليه ما يلقاه من المكاره، وتيسَّر عليه كلُّ عسيرٍ، واستقلَّ من عملِهِ كلَّ كثير. {ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لا يوقنونَ}؛ أي: قد ضعف إيمانُهم وقلَّ يقينُهم فخفَّت لذلك أحلامُهم، وقلَّ صبرُهم؛ فإيَّاكَ أن يستخِفَّكَ هؤلاء؛ فإنَّك إنْ لم تجعلْهم منكَ على بالٍ، وتحذَرْ منهم، وإلاَّ؛ استخُّفوك وحملوك على عدم الثبات على الأوامر والنواهي، والنفسُ تساعِدُهم على هذا، وتطلُبُ التشبُّه والموافقة ، وهذا مما يدلُّ على أنَّ كلَّ مؤمن موقن رزين العقل؛ يَسْهُلُ عليه الصبر، وكلّ ضعيف اليقين؛ ضعيف العقل خفيفُه؛ فالأول بمنزلة اللُّبِّ، والآخر بمنزلة القشور. فالله المستعان.
* * *