آية:
تفسير سورة التكوير
تفسير سورة التكوير
وهي مكية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
آية: 1 - 14 #
{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)}.
# {1 ـ 14} أي: إذا حصلتْ هذه الأمور الهائلةُ؛ تميَّز الخلقُ، وعلم كلٌّ ما قدَّمه لآخرته وما أحضره فيها من خيرٍ وشرٍّ، وذلك أنَّه إذا كان يومُ القيامةِ؛ تُكَوَّرُ الشمس؛ أي: تُجمع وتلفُّ ويُخسف القمر ويلقيان في النار، {وإذا النُّجوم انكدرتْ}؛ أي: تغيَّرت وتناثرت من أفلاكها، {وإذا الجبال سُيِّرَتْ}؛ أي: صارت كثيباً مهيلاً، ثم صارت كالعهن المنفوش، ثم تغيَّرت وصارت هباءً منبثًّا وأزيلت عن أماكنها، {وإذا العِشارُ عُطِّلَتْ}؛ أي: عَطَّل الناس يومئذٍ نفائسَ أموالهم التي كانوا يهتمُّون لها، ويراعونها في جميع الأوقات، فجاءهم ما يُذْهِلُهم عنها، فنبَّه بالعشار ـ وهي النوق التي تتبعها أولادُها، وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم ـ على ما هو في معناها من كل نفيس. {وإذا الوحوشُ حُشِرَتْ}؛ أي: جُمِعَتْ ليوم القيامةِ؛ ليقتصَّ الله من بعضها لبعض، ويري العبادَ كمالَ عدلِهِ، حتى إنَّه يقتصُّ للشاة الجمَّاء من الشاةِ القرناء ثم يقال لها: كوني تراباً ، {وإذا البحارُ سُجِّرَتْ}؛ أي: أوقدت فصارت على عظمها ناراً تتوقَّد، {وإذا النُّفوس زُوِّجَتْ}؛ أي: قُرِنَ كلُّ صاحب عمل مع نظيره، فجُمِعَ الأبرار مع الأبرار والفجَّار مع الفجَّار، وزوِّج المؤمنون بالحور العين والكافرون بالشياطين، وهذا كقوله تعالى: {وسيقَ الذين كَفَروا إلى جهنَّم زُمَراً}، {وسيق الذين اتَّقَوْا ربَّهم إلى الجنَّةِ زُمَراً}، {احْشُروا الذين ظَلَموا وأزواجَهم}. {وإذا الموؤُدةُ سُئِلَتْ}: وهي التي كانت الجاهليَّة الجهلاء تفعله من دفن البنات وهنَّ أحياء من غير سببٍ إلاَّ خشيةَ الفقر، فتسأل: {بأيِّ ذنبٍ قُتِلَتْ}، ومن المعلوم أنَّها ليس لها ذنبٌ، ولكن هذا فيه توبيخٌ وتقريعٌ لقاتليها، {وإذا الصُّحُفُ}: المشتملة على ما عمله العاملون من خيرٍ وشرٍّ، {نُشِرَتْ}: وفرِّقت على أهلها؛ فآخذٌ كتابه بيمينه وآخذٌ كتابه بشماله أو من وراء ظهره. {وإذا السماءُ كُشِطَتْ}؛ أي: أزيلت؛ كما قال تعالى: {يومَ تَشَقَّقُ السماءُ بالغمام}، {يومَ نَطْوي السماءَ كطَيِّ السِّجِلِّ للكُتُبِ}، {والأرضُ جميعاً قبضَتُه يوم القيامةِ والسموات مطوياتٌ بيمينه}، {وإذا الجحيمُ سُعِّرَتْ}؛ أي: أوقد عليها فاستعرتْ والتهبت التهاباً لم يكنْ لها قبل ذلك، {وإذا الجنَّةُ أزْلِفَتْ}؛ أي: قرِّبت للمتقين، {علمت نفسٌ}؛ أي: كلُّ نفس لإتيانها في سياق الشرط، {ما أحضرتْ}؛ أي: ما حضر لديها من الأعمال التي قدَّمتها؛ كما قال تعالى: {ووجدوا ما عملوا حاضراً}. وهذه الأوصافُ التي وصَفَ [اللَّهُ] بها يوم القيامة من الأوصاف التي تنزعج لها القلوب، وتشتدُّ من أجلها الكروب، وترتعد الفرائصُ، وتعمُّ المخاوف، وتحثُّ أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجُرُهم عن كلِّ ما يوجب اللوم، ولهذا قال بعض السلف: من أراد أن يَنْظُرَ ليوم القيامة كأنه رأي عينٍ؛ فليتدبَّر سورة {إذا الشمسُ كُوِّرَتْ}.
آية: 15 - 29 #
{فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}.
# {15 ـ 16} أقسم تعالى {بالخُنَّسِ}: وهي الكواكب التي تخنس؛ أي: تتأخَّر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة المشرق، وهي النجوم السبعة السيَّارة؛ الشمس والقمر والزُّهرة والمشتري والمريخ وزُحل وعطارد؛ فهذه السبعة لها سيران: سيرٌ إلى جهة المغرب مع سائر الكواكب والفلك. وسير معاكسٌ لهذا من جهة المشرق تختصُّ به هذه السبعة دون غيرها، فأقسم الله بها في حال خنوسها؛ أي: تأخُّرها، وفي حال جريانها، وفي حال كُنوسها؛ أي: استتارها بالنهار. ويُحتمل أنَّ المراد بها جميع الكواكب السيَّارة وغيرها.
# {17 ـ 18} {والليل إذا عسعس}؛ أي: أقبل، وقيل أَدبر ، والنهار {إذا تَنَفَّسَ}؛ أي: بدت علائم الصبح، وانشقَّ النور شيئاً فشيئاً حتى يستكمل وتطلع الشمس.
# {19} وهذه آياتٌ عظامٌ أقسم الله عليها لقوَّة سند القرآن وجلالته وحفظه من كلِّ شيطانٍ رجيم، فقال: {إنَّه لَقولُ رسولٍ كريم}: وهو جبريل عليه السلام، نزل به من الله تعالى؛ كما قال تعالى: {وإنَّه لَتنزيل ربِّ العالمين. نَزَلَ به الرُّوحُ الأمينُ. على قلبكَ لتكونَ من المُنذِرينَ}. ووصفه الله بالكريم لكرم أخلاقِهِ و [كثرة] خصالِهِ الحميدة؛ فإنَّه أفضل الملائكة وأعظمهم رتبةً عند ربِّه.
# {20} {ذي قوَّةٍ}: على ما أمره الله به، ومن قوَّته أنَّه قَلَبَ ديار قوم لوطٍ بهم فأهلكهم، {عند ذي العرش}؛ أي: جبريل مقرَّبٌ عند الله، له منزلةٌ رفيعةٌ وخصيصةٌ من الله اختصَّه بها، {مكينٌ}؛ أي: له مكانةٌ ومنزلةٌ فوق منازل الملائكة كلِّهم.
# {21} {مطاع ثَمَّ}؛ أي: جبريل مطاعٌ في الملأ الأعلى؛ لأنَّه من الملائكة المقرَّبين، نافذ فيهم أمرُه، مطاعٌ رأيه، {أمينٍ}؛ أي: ذو أمانة وقيام بما أُمِرَ به، لا يزيد ولا ينقص ولا يتعدَّى ما حُدَّ له، وهذا كلُّه يدلُّ على شرف القرآن عند الله تعالى: فإنَّه بعث به هذا الملك الكريم الموصوف بتلك الصفات الكاملة، والعادةُ أنَّ الملوك لا ترسل الكريم عليها إلاَّ في أهمِّ المهمَّات وأشرف الرسائل.
# {22} ولما ذكر فضل الرسول الملكيِّ الذي جاء بالقرآن؛ ذكر فضل الرسول البشريِّ الذي نزل عليه القرآنُ، ودعا إليه الناس، فقال: {وما صاحِبُكم}: وهو محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - {بمجنونٍ}؛ كما يقوله أعداؤه المكذِّبون برسالته، المتقوِّلون عليه [من] الأقوال التي يريدون أن يطفِئوا بها ما جاء به ، بل هو أكملُ الناس عقلاً، وأجزلُهم رأياً، وأصدقُهم لهجةً.
# {23} {ولقد رآه بالأفُقِ المُبين}؛ أي: رأى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام بالأفُقِ البيِّن الذي هو أعلى ما يلوح للبصر.
# {24} {وما هو على الغيب بضَنينٍ}؛ أي: وما هو على ما أوحاه الله إليه بِمُتَّهَم يزيد فيه أو ينقص أو يكتم بعضه، بل هو - صلى الله عليه وسلم - أمينُ أهل السماء وأهل الأرض، الذي بلَّغ رسالات ربِّه البلاغَ المبين، فلم يَشُحَّ بشيءٍ منه عن غنيٍّ ولا فقيرٍ ولا رئيسٍ ولا مرؤوسٍ ولا ذكرٍ ولا أنثى ولا حضريٍّ ولا بدويٍّ، ولذلك بعثه الله في أمَّةٍ أميَّةٍ جاهلةٍ جهلاء، فلم يمت - صلى الله عليه وسلم - حتى كانوا علماء ربَّانيِّين وأحباراً متفرِّسين، إليهم الغاية في العلوم، وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والمفهوم ، وهم الأساتذة، وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم.
# {25} {وما هو بقول شيطانٍ رجيمٍ}: لما ذكر جلالة كتابه وفضلَه بذكر الرسولين الكريمين اللذين وَصَلَ إلى الناس على أيديهما، وأثنى الله عليهما بما أثنى؛ دَفَعَ عنه كلَّ آفةٍ ونقصٍ مما يقدحُ في صدقه، فقال: {وما هو بقول شيطانٍ رجيمٍ}؛ أي: في غاية البعد عن الله وعن قربه.
# {26} {فأين تذهبون}؛ أي: كيف يخطر هذا ببالكم؟! وأين عَزَبَتْ عنكم أذهانكم حتى جعلتم الحقَّ الذي هو في أعلى درجات الصدق بمنزلة الكذب الذي هو أنزلُ ما يكون وأرذلُ وأسفلُ الباطل؟! هل هذا إلاَّ من انقلاب الحقائق؟!
# {27} {إنْ هو إلاَّ ذكرٌ للعالمين}: يتذكَّرون به ربَّهم وماله من صفات الكمال وما ينزَّه عنه من النقائص والرذائل والأمثال، ويتذكَّرون به الأوامر والنواهي وحكمها؛ ويتذكَّرون به الأحكام القدريَّة والشرعيَّة والجزائيَّة، وبالجملة يتذكَّرون به مصالح الدارين، وينالون بالعمل به السعادتين.
# {28} {لمن شاء منكم أن يَسْتَقيمَ}: بعد ما تبيَّن الرشد من الغيِّ والهدى من الضَّلال.
# {29} {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله ربُّ العالمين}؛ أي: فمشيئتُه نافذةٌ لا يمكن أن تعارضَ أو تمانع. وفي هذه الآية وأمثالها ردٌّ على فرقتي القدريَّة النُّفاة والقدريَّة المجبرة؛ كما تقدَّم مثالها. والله أعلم والحمد لله.
* * *